الفصل ال23..
جبر السلسبيل..
✍️نسمة مالك✍️..
.. بسم الله الرحمن الرحيم.. لا حول ولا قوة إلا بالله..
في كثير من الأوقات نتعرض لضغوطات الحياة المختلفة التي تلعب دورًا هام في تكوين شخصياتنا على مراحل سنوات عمرنا، إلى أن يأتي وقتٍ تنفذ فيه طاقتنا بسبب ضغط شديد يفوق تحملنا، حينها نكون أول من يُصدم من رد فعلنا،نتفاجئ بوجود شخصية أخرى بداخلنا لم يُخيل لنا وجودها،
شخصية شرسة بأمكانها أرتكاب أفظع الجرائم دون لحظة تردد، و هذا ما حدث ل “خضرا” بعدما تمكنت منها الغيرة التي أشعلت النيران بقلبها حتى غلفته
القسوة،تلك النيران سيكون للجميع نصيب منها، ستحرق كل من يعترض طريقها، لن ترحم أحدًا حتى نفسها..
صدح آذان العشاء، و صدح معه رنين جرس باب المنزل الخارجي يعلن عن وصول الهدايا التي أوصى بها “عبد الجبار” خصيصًا لزوجته بإحدى دور الأزياء الشهيرة حتى تُناسب مقاساتها ، أتت قبل موعدها لينالوا رضا أهم عميل لديهم..
تقف “خضرا” بوجهه عابس بشدة، ممسكة هاتفها بيدها تعاود الإتصال بهاتف زوجها مرارًا و تكرارًا دون توقف، لا تكترث للهدايا على الإطلاق، كل ما يشغل بالها هي غريمتها، فقد تأكدت من مصادرها داخل المستشفى أن “سلسبيل” لم تصل إلى هناك ..
إذن أين ذهب بها ، و ماذا يفعل معاها الآن !!..
ستجن لا محالة كلما تتخيل أنهما بمفردهما و من الممكن أن تتطور العلاقة بينهما، تدور حول نفسها ذهابًا و أيابًا و هي تلطم خديها بكل قوتها حتى أدمتها، تشعر بألم يمزق قلبها يفوق قدرتها على التحمل،
كل هذا أمام نظرات “بخيتة” التي تتابعها بابتسامة واسعة تظهر جميع أسنانها بهيئة مخيفة، و مستفزة للغاية..
.
.
” كل عمايلك دي مبقاش ليها عازة خلاص يا خضرا، سلسبيل بقت مَرات عبد الچبار المنياوي اللي هتچبلوا الواد عن قريب قوي قوي”..
غمغمت بها “بخيتة” وهي تستند على عكازها، و تنتصب واقفة سارت تجاهها بخطوات هادئة حتى توقفت أمامها مباشرةً، و نظرت لها بملامحها القاسية، و تابعت بضحكة ساخرة..
“كنتِ فاكرة حالك هتقدري تتحكمي في البنتة الصغيرة و تبعديها عن راچلها إياك!!!.. القلوب ملهاش حاكم يا أم البنتة، و سلسبيل عشجت عبد الچبار كيف ما هو عشجها، و مهتقدرش تمنع روحها عنِه أكتر من أكده”..
كانت “خضرا” تستمع لها بصمت، ملامحها جامدة، دموعها متحجرة بعينيها، تصطك على أسنانها بعنف كادت أن تهشمهم، هُيئ لها أن”سلسبيل ” تقف أمامها و كم تتمني هذا الآن حتى تنقض عليها و تمزقها أربًا دون لحظة تردد..
تنهدت” بخيتة “براحة و قد وصلت لمبتغاها، و هي تري الغل، و الحقد ظاهر بوضوح على وجهه “خضرا” تجاه “سلسبيل”، فدمدمت لبرهةً قبل أن تقول..
“اممم.. لو فكرتي زين هتلاقي إن إتفاقك عليا مع سلسبيل اللي قولتيلي عليه ده هتطلعي منه خسرانة.. إنما لو اتفقتي معايا أني هتبقي أنتي لوحدك مَرات عبد الچبار يا خضرا و أم الواد اللي هتچيبوا ضُرتك كمان”..
جحظت أعين “خضرا” على وسعهما، و نظرت لها بلهفة، كالغريق الذي كان على وشك الموت و أخيرًا وجد منقذه..
“قوليلي كيف يا أمه أحب على يدك”..
.
.
نطقت بها بنبرة ملتاعة، و هي تميل على يدها تحاول أمساكها لتقبلها بتوسل..
دفعتها” بخيتة ” بعيدًا عنها بعنف مردفة بغضب..
“أمه.. دلوجيت بتقوليلي يا أمه يا بت المركوب بعد ما كنتِ بتفقعي مرارتي بعاميلك العفشة و حديتك الماسخ”..
.
.
ضربت” خضرا ” على صدرها بكف يدها بحركة استعطافية مرددة..
“حقك علي راسي يا أمه.. مهعملش أكده مرة تانية واصل.. بس قوليلي كيف أكون مَرات عبد الچبار ، و أم إبنه لحالي من غير ضُرة.. إلا الضُرة مُرة و مرارها واعر قوي”..
.
.
انبلجت ابتسامة شريرة على ملامح” بخيتة” حتي ظهرت تجاعيد وجهها وهي تقول..
“تهمليها مع راچلها لحد ما يحصل المراد، و تبجي حبلة منه، وقتها تحطيها چوه حباب عينك و تشيلها من الأرض على كفوف الراحة لغاية ما تچبلنا الواد اللي هيخلص عليها و هي بتولده كيف ما قال الحكيم إن جلبها مش قد الحبل و الولادة،
و أول ما تموت تاخدي أنتي الواد و تبجي أمه.. الأم اللي بتربي يا خضرا مش اللى بتخلف”..
.
.
فكرة راقت” خضرا”.. لن تنكر أن حديثها قد راق لها كثيرًا، و تهللت اساريرها بسعادة، و دون ذرة تفكير منها حسمت قرارها بتنفيذ تلك الفكرة على الفور،
و لكن ستظل تلك النيران التي تتآجج بقلبها مشتعلة لن يخمدها سوي شيئًا واحد فقط موت السلسبيل، الموت الذي لم تكن تظن بيومٍ أن تفكر فيه أو تتمناه حتى لعدوها..
بينما “بخيتة” ترمقها بنظرات مستهزءة لغباءها الذي صور لها بأن زوجها سيعود لها كما كان حين يُحرم من المراءة الوحيدة التي عشقها من صميم قلبه..
………………….. سبحان الله العظيم…….
“عبد الجبار..
كان يظن أن بأمكانه التحكم بفيض مشاعره التي أغرق بها معشوقة قلبه و روحه، و أن الأمر لن يكون إلا مجرد قبلة شغوفة و يبتعد عنها في الحال، و لكن قد حدث ما كان يتمناه قلبه الملتاع منذ أن أصبحت زوجته..
انجرف بقاع بحر غرامها دون أدنى إراده منه، لأول مرة فشل في السيطرة على رغبته الجامحه بها، انفصل معاها عن العالم أجمع مكتفي بوجودها بين ذراعيه، لا يعلم كيف و متى و كم من الوقت بقي ينهال بجنون من شهدها لعله يشبع ظمأه منها،
لم ينتبه على كل ما يدور حوله، رنين هاتفه المستمر حتى نفذت طاقته و أنطفئ تمامًا ، طرقات العاملين من حين لأخر، كان معاها و بها و لها فقط..
“عشجان.. أني عشجانك يا سلسبيل”..
غرد بها داخل أذنها بصوتٍ هامس من بين أنفاسه اللاهثه المهتاجة، و هو يسير بوجهه المتناثر عليه حُبيبات العرق، على وجهها المتوهج بحمرة الخجل..
“عبد الجبار”.. همست بها بأنفاس متهدجة من بين شفتيه التي تغمرها بوابل من القبلات المتلهفة، يستعد بها لأخذها بجولة أخرى من جولاتهم شديدة الخصوصية،
لكن!!! همسها هذا أفاقه من نوبة جنون عشقه بها، تخشب جسده لوهله و قد أدرك ما فعله للتو، و من ثم انتفض من فوقها فجأة كمن لدغه عقرب سام، أو بالأصح كأنه تحول هو لهذا العقرب و قام بلدغ أغلى و أحب الخلق لقلبه..
“سلسبيل!!!!”.. صاح بها صارخًا بقلب مرتعد، و هو يخطفها داخل صدره، اجلسها على قدميه، و بدأ يتفحص كل أنش بها، و هو يصيح بصوتٍ جوهري دون أن يتركها من يده..
“عفاااااف.. شيعي لحسان يچيب الدكتور”..
“عبد الجبار أهدي.. أنا كويسة”..
أردفت بها و هي تحتضن وجهه بين كفيها الصغيرين، لكنه أسرع بضم يدها بين قبضة يده الضخمة يتحسس برودة بشرتها، و يجذب الغطاء عليها بخوف يخفي به جسدها العاري، و عينيه تشملها بنظرة يملؤها العشق، و الندم معًا مغمغمًا..
“حاسة بأيه.. في حاچة بتوچعك.. قوليلي يا بت جلبي”..
أنهى جملته، و أسرع بوضع راحة يده على موضع قلبها يستشعر نبضاته، دست نفسها هي بين ضلوعه،
و لفت كلتا يديها حول خصره، و ضمته لها بكل ما أُتيت من قوة، و أطلقت تنهيدة طويلة و هي تقول بستحياء بصوتٍ بالكاد وصل لسمعه..
“مبسوطة.. أول مرة أبقى مبسوطة كده”..
رفعت وجهها، و نظرت داخل عينيه بعمق مكملة..
“مبسوطة عشان بقيت مراتك أنت.. أنت بالذات يا عبد الجبار”..
هدأت وتيرة أنفاسه قليلاً حين رأي ملامحها التي توردت و كأنها تفتحت كالوردة بعدما تشبعت من حبه و أهتمامه بها..
في هذه اللحظة ضمها له بيديه و حتى قدميه لعله يطمئن قلبه الذي أوشك أن يغادر صدره من عنف دقاته،
مرت لحظات و هو محتويها بجسده كما لو كانت ضلع من أضلاعه، حتى استمع لطرقات على باب الغرفة يليه صوت “عفاف” تتحدث بقلق قائلة..
“الدكتور وصل يا عبد الجبار بيه”..
على مضض ابتعد “عبد الجبار” عن زوجته، و هرول بلملمة ثيابه المبعثرة على الفراش، و الملقاه أرضًا و ارتداها علي عجل، و عينيه لم تتزحزح عن “سلسبيل” المختبئة بخجل أسفل الغطاء، شهقت بخفوت حين شعرت بيديه ترفعها بمنتهي الخفة، و قام بمساعدتها على أرتداء روب من الحرير الناعم أبيض اللون، احضره لها بلمح البصر من الغرفة الخاصة بثيابها،و حجاب كبير قام بوضعه على رأسها أخفي به شعرها و روبها بأكمله..
أغلقه جيدًا حولها قبل أن يسير تجاه باب الغرفة بخطي واسعة، و قام بفتحه و هو يتحدث موجهه حديثه للطبيب بنبرة لا تحمل الجدال..
“أسرع بالكشف على زوجتي، و تحدث معي باللغة الإنجليزية عن حالتها الصحية “..
“تحت أمرك عبد الجبار بيه”..
نطق بها الطبيب الذي اندفع مسرعًا تجاه “سلسبيل” الجالسة على الفراش بأريحية،و إبتسامة دافئة تزين ثغرها المزموم..
بمنتهي الدقة أنتهي الطبيب من فحص شامل لها أمام ” عبدالجبار ” الجالس بجوار زوجته، محاوط كتفيها بلهفة..
” اطمئن زوجتك بخير حال و لا يوجود أي خطر عليها”..
تتنقل “سلسبيل” بينهما بنظرات منذهلة، و هي تري زوجها يتحدث اللغة الانجليزية بطلاقة، ليتابع الطبيب بتعجب قائلاً..
“هل نسيت إتفاقك معي حول ما أقوله عن حالتها!!! “..
تنهد “عبد الجبار” بأسف، و قد ارتجف قلبه بخوف و هو يتخيل رد فعل زوجته إذا علمت باتفاقه هذا..
“لا لم أنسى اتفاقنا ، و لكني لم أنسى أيضًا أن قلبها كان على وشك أن يُصاب بجلطة، و لا أريد أن يتكرر الأمر ثانيةً”..
“في أيه يا عبد الجبار.. فهمني”..
همست بها “سلسبيل” لزوجها بصوتها الذي يُذيب عظامه، فضمها له بقوة أكبر مقبلًا جبهتها، و هو يقول..
“اطمني.. أنتي زينة يا ست الهوانم”..
نظر لطبيب وتابع بصرامة..
” مش أكده يا دكتور”..
الطبيب بعملية و بعض الخوف من قسمات “عبد الجبار “الجادة” احححم.. أيوه حضرتك كويسة جدًا يا مدام اطمني”..
أردفت “سلسبيل” بلهفة و فرحة غامرة قائلة..
“أيوه أنا الحمد لله حاسة أني احسن بكتير.. يعني أقدر أحمل و أكون أم مش كده يا عبد الجبار “..
كان قد غادر الطبيب برفقة “عفاف” التي أغلقت الباب خلفها، و بقي بمفرده ثانيةً مع زوجته، انبلجت إبتسامة لعوب على محياه قبل أن يميل عليها يحاصرها بجسده لصقها به، و يده تتسلل ببطء نحن حجابها و روبها الحريري نزعهما عنها مغمغمًا..
” رايده تبجي حبله مني يا سلسبيل!! “..
لم تنطق بحرف واحد، اكتفت بالنظر له عينيها تتحدث لعينيه بكلمات نابعة من قلبها جعلته يغيب بها عن العالم حوله من جديد..
الليلة استقبلنى بكل جنوني،سأنزل بضيافة عينيك كحورية..
راقصنى فخلخالى لن يوقف رنينه ثانية،
وعانقنى أعزف على أوتاري موسيقى اللهفة،فشعوري شعور طفلة عارية دثرتها بمعطفك الدافئ، قطة صغيرة تقف بمنتصف الطريق مذعورة من الحافلات الضخمة،
وجدت ركنًا احتضنها بظلاله، وجدت بين ضلوعك يقطينة تدلل بؤسها، و تزرع بحدائقي يقينً بعدما كاد أن يبتلعني حوت الشك، و عتمة الخذلان..
الفصل ال24..
جبر السلسبيل..
✍️نسمة مالك✍️..
“جابر”..
بعد وصلة بحث مكثفة يحاول خلالها الوصول ل “سلسبيل” أو لزوجها بشتى الطرق، غلبه إجهاده و تمكن منه التعب جعله يستسلم للنوم رغمًا عنه، قضى ساعات قليله غارقًا بأحلامه التي دومًا تكن هي بطلتها..
بينما أصدقاءه المقربين له لم يتوقفوا عن مواصلة البحث عن أي شئ يُساعد صديقهم في العثور على محبوبته،
حتى صدح صوت رنين هاتفه أعاده لواقعه الخالي من وجودها مجددًا،فأسرع بالرد عليه قائلاً بلهفة..
“ها وصلتوا لحاجة!! “..
أتاه صوت صديقه “أيمن” مردفًا.. “حاجاااات مش حاجة واحدة يا فخامة”..
غادر “جابر” الفراش بهرولة نحو ثيابه قفز داخلهم، و قد غمرته الفرحة و هو يستمع لحديث صديقه يُتابع بجملة تسارعت بسببها دقات قلبه..
“أخيرًا عرفنا مكان بنت خالتك”..
“أنا جيلكم حالاً”..
قالها، و هو يجمع أغراضه على عجل، ليوقفه صوت”أيمن ” قائلاً..
” لا خليك و أنزل بعد ساعة كده لأننا لسه داخلين على المنصورة، و هنروح على الچيم.. تعالي لنا هناك عشان معانا ضيف عايزين نكرمه على الأخر “..
عقد “جابر” و هو يقول بتعجب..
“أنتو خرجتوا برة المنصورة رحتوا فين!!!”..
استمع لصوت أنين مكتوم عبر الهاتف، فزمجر بعصبية مفرطة مغمغمًا..
“و مين الضيف اللي معاكم ده يا أيمن!!! “..
“أنا و الرجالة فضلنا ورا عبد الجبار المنياوي لحد ما لقينا نفسنا في إسكندرية و أدينا راجعين في الطريق أهو يا جابر”.. نطق بها” أيمن”، و صمت لبرهةً و أكمل بأسف ..
” وبالنسبة للضيف فهو مش ضيف خالص الصراحة.. إحنا خطفناه ، و هو بيقول أنه الدكتور المسؤول عن حالة بنت خالتك”..
” جابر” بنبرة لا تحمل الجدال و هو يغادر غرفته بل المنزل بأكمله بخطوات راكضة..
” أنا هتحرك بالعربية و أطلع على إسكندرية .. ابعتلي عنوان سلسبيل ده أهم حاجة عندي دلوقتي، و اللى معاك ده خدوا يا أيمن أنت على الچيم، و أتصرف معاه بمعرفتك و أبقى بلغني بالجديد أول بأول “..
………… لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم….
” عبد الجبار “..
أبتعد عن زوجته بشق الأنفس، معشوقته التي أحيت بقلبه مشاعر لم يتخيل بيومٍ أنه يكنها بداخله،تأكد الآن أن كل تلك السنوات التي مرت عليه كان فيها زوج يقوم بأداء واجباته الزوجيه كما لو كان آله مجردة من المشاعر ..
أستطاعت “سلسبيل” التسلل لأعمق نقطة داخل قلبه لم يتمكن أحدًا قبلها من الوصول إليها، أما هو قد نجح في نزع خوفها و رهبتها من قربه منها، لم يتركها إلا بعدما عالج جروحات قلبها الغائرة، نعمها بفيض غرامه الذي أهاله عليها بكرمٍ و شغف فلم يسعها سوي الاستسلام الكامل له..
بقت متكومة بأحضان زوجها دون حراك،بينما هو يمسد على شعرها المشعث بفوضوية مثيرة، و يلثم كل مكان تقع عليه شفتيه بقبلات عميقة تدل على مدى لهفته، و عشقه لها..
“أنت عندك كام سنة يا عبد الجبار؟!”..
همست بها “سلسبيل” و هي تعتدل بتكاسل مستنده على صدره العاري، و تطلعت له بابتسامتها التي تزيد من جنونه بها..
استغرق بعض الوقت ليعاود إتصاله بالعالم مرةً أخرى، رمقها بنظراته المُتيمة يراقب قسماتها المحمرة التي جعلتها مثالاً للإغواء و الفتنة،
شعرت بأنامله تجد طريقها إلى خطوط عنقها الملساء..
كانت الدهشة واضحة على ملامحه الجذابة التي تخطف أنفاسها، لتجده حملها فجأة بمنتهي الخفه حتى أصبح جسدها الصغير بأكمله فوق جسده العريض ،
و كم شعرت بتلك اللحظة بضئلتها بين يديه، داعب أرنبة انفها بأنفه كأنها طفلته المدلله مردفًا بتعجب..
“بجي في ست في الدنيا معرفاش راچلها عمره قد أيه!!!”..
“راجلي!!!.. الله حلوة أوي الكلمة دي”..تفوهت بها بسعادة واضحة على تعابير وجهها الخجول، و بتنهيدة تابعت..
“أنا عارفه إنك كبير يا عبد الجبار”..
رفعت كف يدها ببطء، و وضعته على ذقنه مكملة بفخر..
“كبير في المقام و الهيبة رغم إن شكلك مكملش ال33 سنة.. صح؟! “..
كان يستمع لحديثها الذي يشبه رذاذ بارد يتساقط على لهيب قلبه الخافق بعشقها، صوتها وحده يدغدغه، عينيه تتفرس ملامحها التي أزدهرت و تفتحت كالوردة بفضل أهتمامه بها..
حرك رأسه لها بالايجاب قبل أن يقبل جانب شفتيها قبلة رقيقة بعثرت كيانها،احتضن وجهها بين كفيه، و همس لها بنبرته المدوخة قائلاً..
“كانك مولودة في جلبي.. قولتها لك قبل سابق و هقولهالك تاني و تالت و مليون ، و عمري ما هبطل اقولهالك يا سلسبيل”..
امتلئت عينيها بالدموع، و اعتلت ملامحها الذعر و هي تقول بصوتٍ مرتجف..
“خايفة يا عبد الجبار.. خايفة أوي”..
“وه.. كيف تخافي و أنتي مراتي.. مرات عبد الچبار المنياوي!!!”..
ابتلعت غصة مريرة بحلقها، و ببوادر بكاء قالت..
” قلبي عمره ما كدب عليا، و لا احساسي عمره خاني،و أنا حاسة أني مش هفضل مراتك يا عبد الجبار “..
شهقت صارخة بخفوت حين نهض بها فجأة دون سابق إنظار، و عكس وضعهما فأصبح هو فوقها، و تحدث بغضب عارم و قد توحشت نظرته حتى سارت عدوانية لأقصى حد..
“أنتي الليلة برضاكي بجيتي مراتي، و هتفضلي مراتي مهيفرقنيش عنك غير موتى يا سلسبيل “..
مدت يديها و حاوطت عنقه بذراعيها جذبته عليها، تضمه بكل قوتها لعل قربه يمحي من قلبها هذا الخوف المبهم الذي يجتاحه بين حين و أخر متمتمة بتمني شديد…
“ربنا ميكتبش علينا الفراق أبدًا يارب”..
طبعت قبلة ناعمة على كتفه مكملة..
” و لا يحرمني من حضنك أبدًا يا عبد الجبار “..
ضمها له بتملك مجنون، دافنًا رأسه بعنقها يغمره بقبلاته الحاره، و من ثم احتواها بين ضلوعه بحماية حين شعر بثقل رأسها على كتفه، فعلم أنها ذهبت في ثباتٍ عميق..
ظل بجوارها لبعض الوقت قبل أن يدثرها جيدًا بالغطاء و يغادر الفراش، أختفي لدقائق داخل حمام الغرفة، و خرج منه بكامل أناقته، جمع أغراضه و اقترب منها طبع وابل من القبلات المتفرقة على وجهها و شفتيها، تراقص قلبه بفرحة غامرة حين وصل لسمعه همسهما المتأوه بأسمه أثناء نومها..
أثلجت قلبه المُتيم بها عشقًا بفعلتها هذه، لجم نفسه و ابتعد عنها بصعوبة بالغة، سار لخارج الغرفة غالقًا الباب خلفه..
“عفاف”.. نطق بها و هو يدلف داخل المطبخ، تأهب جميع العاملين لوجوده المفاجئ، وقف بينهم بطوله المهيب، و تحدث بصرامته و هو ينظر بساعة يده..
“الهانم نايمة محدش يقلقها واصل لغاية ما أروح مشوار و أعاود طوالي.. مفهوم”..
“مفهوم يا عبد الجبار بيه”..
قالتها “عفاف ” و هي تسير خلفه نحو الخارج، ليكمل “عبد الجبار” حديثه قائلاً بحزم..
“لو فاقت هي لحالها اتصلي عليا على طول.. لكن ممنوع حد يصحيها، و إن شاء الله أني هعاود قبل ما تصحي”..
ذهب و ترك قلبه بحوزتها، على أمل أن يعود قبل أن تستيقظ،لكنه قاد سيارته بالطريق المعاكس لطريق “جابر”…….
“قبل أن ألتقيكِ كانت مشاعرى ينفث الموت فيها، فقير العشق بقلب مشقوق، لملمتِ بقايا الروح، جزلتِ لي المشاعر و سهرتِ معي لأتنعم بترف الحُب،
أغفو على سكر من عناقيد العنب المفرطة على شفتيكِ، و أصحو على فنجان عشق، أرتحلتي بمدائني وحدك مشعلة بها حريقي مبتسمة، فاض نهرك لي أنا فقط حتى أرتوي قلبي الأجعف، عشت معك مساءات من الجنون أتمنى لو تدوم، ويدوم لي نبض قلبك”..
الفصل ال25..
جبر السلسبيل..
✍️نسمة مالك✍️..
“بسم الله الرحمن الرحيم.. لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم “..
ليست كُلّ القلوب بالقلوب تليقُ فاختر لنفسك شخصًا إذا قَست عليك الأيام يكن لكَ فيه عشمٌ لا يخيب، أختر خليلَ قلبك بحكمةٍ و أعلم أن كل شيءٍ يتغير ويذهب ، الأصدقاء والأحباب والبلاد والأماكن ، الشيء الوحيد الذي يبقى هو الوفاء و الذكريات ..
” خضرا “..
تنتظر عودة زوجها بنفاذ الصبر، لم يغمض لها جفن طيلة الليل، تدور حول نفسها في المنزل بأكمله دون هوادة، حتى توقفت أمام المرآة تطلع لانعكاس صورتها، عينيها تذرف العبرات ببطء،
نادمة على قرارها الخاطئ كليًا بموافقتها على زواج زوجها من سلسبيل ، تقر و تعترف بأنها صُدمت من كم الألم و الوجع الذي اقتحم قلبها و روحها كلما رأتهما معًا،
رفعت كلتا يديها وضعتهما على أذنها حين صدح في ذهنها حديث والداتها و نصحيتها لها التي لن ولم تنساها يومًا..
….. فلاش باااااااااااك…
كانت الابنه المدلله، الوحيدة على أربعة رجال، قرة عين أبيها كل طلباتها مُجابة، لا يرفض لها طلب أبدًا،خاصةً أنها تشبهه في الشكل إلى حدٍ كبير أكثر حتي من أشقائها الذكور، ملامحها الرجولية كانت عائق في زواجها، و إقبال العرسان عليها..
حتى أتمت عامها السابعة عشر، بدأت والدتها تفقد صوابها من شدة خوفها على ابنتها، فجميع الفتيات بعمر ابنتها قد تزوجوا و انجبوا طفل و اثنان، و ربما ثلاثة، وابنتها لم يأتي أي مخلوق لخطبتها حتى الآن..
“كل البنتة اتچوزت ، و بتي اللي قاعدة قعدة الحزانة يا راضي.. يا خوفي لتعنس و يفوتها قطر الچواز يا خوي”..
تنهد “راضي” بحزن و هو يقول..
“كل شيء بأونه.. ادعيلها يا عديلة ربنا يرزقها بالزوج الصالح”..
“الزوج الصالح موچود”.. نطقت بها “خضرا” بفرحة غامرة فشلت في اخفائها، تأهبت جميع حواس والديها، و تطلعوا لها بلهفة يحسوها على استكمال حديثها، فتابعت بخجل قائلة..
“المثل بيقول اخطب لبتك و لا تخطبش لابنك، و أني رايدك تخطب لي يا أبوي “..
رمقها والدها بنظرات منذهلة حين وجدها تُكمل بنبرة متوسلة..
“ولد صاحب عمرك عبد الچبار المنياوي”..
أبتسم والدها ببلاهة، و قد راقته فكرتها و عقد عزمه على تنفيذها في الحال لثقته العمياء بحب صديقه له، وأنه لن يمانع هذه الزيجة حتى لو رفض العريس ذات نفسه..
“براوة عليكي يا بت يا خضرا.. كيف كانت تايهه من عقلي الفكرة دي”.. أردف بها و هو يهب واقفًا و سار تجاه باب المنزله بخطي مهرولة و هو يقول..
“أني هروحله دلوجيت و اتحدتت وياه، و هو هيرحب بچوازة ابنه منك يا خضرا و هيأمر ابنه يكتب عليكِ الليلة كمان”..
“بلاش يا راضي”.. نطقت بها “عديلة” بتحذير و تابعت بتعقل قائلة..
” الچواز معينفعش نچامل فيه.. لو ولد صاحبك
اتچوز بتي غصب لاچل ما يرضى أبوه يبجي جلبه عمره ما هيميل لها، هيبجي عايش واياها چته من غير جلب و لا روح، و أول ما جلبه يلاقي اللي يعشجها بتك هتتحرق بنار الغيرة الواعرة اللي مهتقدرتش تتحملها”..
“وه يا أمه لساتك كنتِ بتبكي و تقولي أني هعنس”..
غمغمت بها” خضرا ” وهي تضرب الأرض بقدميها،نظرت لها” عديلة” بأعين دامعه و قالت بصوتٍ اختنق بالبكاء..
” أني خايفة عليكي يا بتي.. أيوه رايده اطمن عليكي في دارك مع راچل يعقد عليكِ برضاه لاچل ما يشيلك چوه حباب عنيه و يقفل عليكي برموشه”..
ربتت على كتفها برفق مكملة..
“اسمعي حديت أمك يا خضرا.. و بلاش يا بتي منها الچوارة اللي هيبجي العريس مچبور عليكي فيها.. هيچي عليه اليوم اللي جلبه هيعشج غيرك وقتها هتتمني الموت.. هيبجي ارحملك من الوچع اللي هيشج جلبك شج”..
…… نهاية الفلاش باااااك……..
” يا ريتني سمعت حديتك يا أمه “..
همست بها محدثة نفسها بصعوبة بالغة من بين شهقاتها الحادة، ظلت تبكي لوقت ليس بقليل إلى أن وصل لسمعها صوت بوق سيارة زوجها تعلن عن وصوله..
مسحت عبراتها المنهمرة على وجنتيها سريعًا، و رسمت ابتسامة باهته على ملامحها الباكية، و سارت نحو باب المنزل بخطي شبه راكضة..
مرت دقائق معدودة كالدهر عليها و هي تقف تنتظر طالته عليها، جسدها ينتفض، و قلبها تسارعت دقاته بجنون من شدة ذعرها من أن يكون حدث بينه و بين ضُرتها ما تخشاه..
“أيه اللي موقفك أهنه!!”..
كان هذا صوت “عبد الجبار” الذي تفاجئ بوجودها تقف خلف باب المنزل، لم تنطق بحرف واحد، فقط تنظر له بملامح بدت جامدة، لكنها في الحقيقة تلقت صفعة ادمت قلبها على حين غرة حين لمحت ذلك البريق المتلألئ بعينيه رغم إتقانه الشديد في إخفاء مشاعره..
” دخلت على سلسبيل يا عبد الچبار؟؟!”..
قالتها بهدوء آثار الريبة بقلبه، هيئتها و الألم الظاهر على محياها جعل الخوف يزحف لقلبه حين وضع نفسه بمكانها، و تخيل ما الذي تشعر به في هذه اللحظة الأكثر ألمًا في حياتها علي الإطلاق..
اقترب منها و هم بضمها لصدره، و هو يقول بهدوء كمحاوله منه لإحتوائها..
“خضرا و بعدهالك عاد”..
“داخلت عليهااااا؟!!!!”.. صرخت بها بصوت يملؤه القهر، و الحسرة و هي تتراجع للخلف مبتعده عنه..
مسح “عبد الجبار” بيده على شعره بقوة كاد أن يقتلعه من جذورة، و ببوادر غضب قال..
“سلسبيل تبجي مراتي ولا ناسية!!!!”..
“دخلت عليهاااا يا عبد الچبااار”..
انفجرت بها بصراخ صم أذنيه، و أخرجه عن شعوره فأجابها على الفور بلهجة حادة..
“أيوه دخلت عليها يا خضرا”..
“يا ألف بركة يا والدي”..
كان هذا صوت “بخيتة” قالتها و هي تهبط الدرج و تطلق سيل من الزغاريد بسعادة و خبث في آنٍ واحد..
” مبروك يا أبو فاطمة”..
أردفت بها “خضرا” و هي تسير من أمامه بخطوات ثابته كما لو كانت تحولت لآله تحت نظراته المشتعلة بالغضب، و الشفقة على حالها..
لتجحظ عينيه على آخرها حين وجدها تنظر له بقوة ذائفه، و ألقت على سمعه كلمة لم تخطر على باله أن تنطق بها بيومٍ من الأيام..
“طلقني… “…
…………… صلِ على محمد………….
“جابر”..
صف سيارته أمام منزل “سلسبيل” حب طفولته، و شبابه، كان قلبه متلهف للقاءها، و فرحته وصلت عنان السماء و هو يري أنه على بُعد بضعة خطوات صغيرة منها، و يصل لها..
لكن كل أحلامه تبخرت، ذهبت مع الرياح حين وجد نفسه مُحاوط بمجموعة راجل جميعهم موجهين سلاحهم عليه،و على رأسهم يقف حسان، ذراع” عبد الجبار” اليمين، و الذي يعرفه “جابر” جيدًا، فهو دومًا يقف عائق في طريقه..
رمقه “حسان” بنظرة متعجبة و هو يقول..
“جاي أهنه عاوز مين يا بيه!!”..
“أنت بالذات أبعد عن طريقي الساعة دي يا حسان.. أنا الليلادي يا قاتل يا مقتول”..
قالها “جابر” بصوتٍ جوهري يدل على شدة غضبه، و هم بفتح باب سيارته إلا أن “حسان” اغلقها ثانيةً، و تحدث بأسف مصطنع قائلاً..
“هتبجي مقتول يا بيه”..
…………….. سبحان الله العظيم………
” سلسبيل “..
لأول مرة تنعم بالراحة، و السكينة جعلتها تغرق بنومٍ عميق، تملمت على الفراش بتكاسل، لفحتها بعض البرودة جراء الهواء المتسلل عبر الأغطية ففتحت عينيها على وسعها حين أدركت نهوض زوجها من جوارها و مفارقته إياها..
تلاحقت أنفاسها و لوهله ظنت أنها كانت تتوهم وجوده، و أنه كان بطل إحدي أحلامها كعادته، و أن ما عشته معه مجرد حلم و ستفيق منه تجد نفسها بمفردها..
أخذ منها الأمر لحظات حتى استوعبت أن ما تعيشه ليس حلم بل حقيقة، و أنها أصبحت زوجة “عبدالجبار” و تحققت أهم أمانيها، تلفتت حولها تبحث عنه بلهفة..
مدت يدها،و تناولت روبها الحريري و ارتدته قبل أن تغادر الفراش، و سارت نحو باب الغرفة فتحته لتتفاجئ بجلوس “عفاف” على مقعد أمامه مباشرةً،
“صباح الخير يا مدام عفاف”..
أردفت بها “سلسبيل” و هي تدور بعينيها في الارجاء بحثًا عن من يمثل الأمان بالنسبة لها..
أما “عفاف” فور رؤيتها قامت بأظهار هاتفها و طلبت رقم رب عملها على الفور و هي تقول..
“صباح الخير يا هانم.. عبد الجبار بيه جاي في الطريق حالاً “..
اتقبض قلب” سلسبيل ” حين وصل لسمعها صوت شجار بالخارج، ابتلعت لعابها بصعوبة، و تحدثت بصوتٍ مرتجف قائلة..
“أيه الصوت اللي بره ده”..
قالتها و هي تسير بخطوات واسعة تجاه نافذة الغرفة، و قفت خلف الواجهة الزجاجة ذات الميزة اللامرئية التي تتيح للرائي من الداخل فقط تبيّن ما بالخارج، تتابع ما يحدث بأعين مرتعدة، و قلب مذعور حين لمحت شاب ييتعارك بمفرده مع أكثر من رجل بجراءة و مهارة شديدة ، غير عابئ للأسلحة الموجهه له، و يصيح بجملة واحدة فقط دون توقف..
“سلسبيل أنا جابر….. “..
انتهي الفصل..
هستني رأيكم يا حبايبي..
واستغفرو لعلها ساعة استجابة..
رواية جبر السلسبيل. الجزء ٢٦ و ٢٧ و ٢٨
.
.
.
.