رواية جبر السلسبيل. الجزء ٢٦ و ٢٧ و ٢٨

الفصل ال26..
جبر السلسبيل..
✍️نسمة مالك✍️..

­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­

“بسم الله الرحمن الرحيم.. و لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم “..

قليلاً أو ربما يكون نادرًا إن وجد رجل يقدر غيرة أمرأته عليه، يتقبل تقلبات زوجته النفسية التي تصل في بعض الأحيان إلى حد الجنون من شدة حبها له..

مما أجبر “عبد الجبار” لكظم غيظه من تصرفات “خضرا” زوجته، و صبر على نوبة غضبها العارمة التي جعلتها تفقد السيطرة على أقوالها، و أفعالها و ما تتفوه به أمامه..

فضل الصمت التام و تركها تتحدث صارخة بكل ما تحمله بقلبها من أوجاع و ألالام تنهش روحها، وقف أمامها بقمة الثبات رغم أنه يغلي بداخله خاصةً حين قالت بندفاع..

“أني وافجت على جوازك من سلسبيل بالذات و طلبتها لك بيدي بعد ما الدكتور خبرني أنها لا تقدر على حبل و لا خلفة و لا تقدر تعطيك حقوقك!!!”..

هجمت عليه فجأة و بدأت تلكمه على صدره بقبضة يدها لكمات عنيفة ، و تابعت بصراخ قائلة..

“مكنتش خابرة إنك هتعشجها.. مكنتش خابرة إن عشجك ليها هيخليها تطيب .. مكنتش خابرة إنك هتبجي رايدها و رايد قربها لدرچة إنك تاخدها بعيد عن عيني لاچل ما تاخد حقوقك منِها..

مكنتش خابرة إن نار الغيرة وچعها واعر قوي قوي أكده”..

­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ .

­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ .

كانت “بخيتة” تجلس على إحدي المقاعد خلفهما، مستندة على عكازها الخشبي،تتابع ما يحدث بأعين يتطاير منها الشرر حين رأت هدوء و صبر ابنها على زوجته، و كم تمنت لو أن يفقد السيطرة على أعصابه و ينقض عليها يرد لها لكماتها هذه أضعاف مضاعفة..

أو يتركها لها و تقوم هي بهذه المهمة، يُتيح لها الفرصة فقط حينها لن تترد و لا تفكر مرتين و ستنهال عليها بعكازها لن تتركها إلا و هي جثة هامدة..

لكنها عوضًا عن ذلك بقت صامته، لم تقدر على النطق بحرف واحد بعدما رأت ملامح “عبد الجبار” الهادئه هدوء ما قبل العاصفة و التي لا تبشر بالخير أبدًا ..

لتزيد “خضرا” بالاندفاع بحديثها المتهور الذي كان بمثابة سكب الزيت فوق النيران حين قالت بوعيد..

“مبقاش عندي طاقة أصبر أكتر من أكده.. كل اللي خططت ليه بجي سراب من وجت ما دخلت على حُرمة غيري..

­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ .

­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ .

مهستناش تاني كيف ما اتفجت مع أمك إني أصبر على سلسبيل لحد ما تبجي حبلة منك و تموت وهي بتچبلك الواد و ابجي أنا أمه كيف ما قالتلي”..

“اه يا عفشة يا بت المركوب”..تمتمت بها “بخيتة” التي جحظت عينيها بصدمة من ما قالته زوجة ابنها..

­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ .

­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ .

ساد الصمت حين صدح صوت رنين هواتف”عبدالجبار ” بأنٍ واحد، تبدلت ملامحه الهادئة لأخرى متلهفه و هو يرى إتصال من” عفاف” علم من خلاله بستيقاظ أميرته النائمة، و بنفس اللحظة إتصل” حسان ” الذي تركه لحراسة “سلسبيل ” ..
” خير يا حسان”..

ليصيح “حسان ” ما أن سمع صوته قائلاً بستغاثة..

­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ .

­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ .

“انچدنا يا كبير..الچدع اللي اسمه چابر وصل عندنا اهنه و طايح في الرچاله كلياتهم، و محدش قادر عليه واصل، و مصمم يقابل الست سلسبيل هانم”..

جن جنون “عبد الجبار ” و أسرع بالسير للخارج بخطوات أشبه بالركض و هو يقول بأمر..
” امنعوه يا حسان.. فاهمني زين امنعوه بأي طريقة حتى لو بضرب النار.. و إني چايلكم في الطريق”..

­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ .

­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ .

ركضت” خضرا ” خلفه بأقصى سرعة لديها، وقفت حائل بينه و بين باب المنزل تمنعه من الخروج،

و نظرت لأعين زوجها التي ظهرت حولها الشعيرات الدموية بهيئة مخيفة نظرة يملؤها التحدي و القوة مكملة..
“إني هخيرك لأول و آخر مرة يا عبد الچبار.. بين سلسبيل “..

صمتت لبرهةً،و ابتعلت رمقها بصعوبة بالغة حين رأت عينيه تتسعان بغضب و تبرز عروقه بخطورة، مع ذلك تحدثت بتأنٍ بالغ دون أن يخيفها الوضع أو نظراته المحذرة..
” وبناتك.. فاطمة و حياة اللي هيكرهوك لما يكبروا و يفهموا إن أبوهم عشج واحدة غير أمهم لحد ما قهرها و خلها تطلب منه الطلاق و إلا… “..

“و إلا أيه يا خضرا!!!”..
أردف بها “عبد الجبار” بلهجة لا تخفي غضبه المشحون أبدًا..

“هجتلك نفسي”..
قالتها و هي تهرول تجاه سكين كان موضوع فوق طبق الفاكهة أخذته بلهفة، و وضعة نصله على معصم يدها..

تفاقم شعوره بالحنق مع استمرار حديثها و أفعالها المثيرة للأعصاب، فامتدت يده نحوها و هم بالقبض على السكين الذي بيدها، لكنها تراجعت للخلف مبتعده عنه على الفور، و ضغطت بالنصل الحاد على يدها تسببت بجرح بدأ ينزف ببطء تثبت له به أنها جادة وحديثها هذا لم يكن مجرد تهديد..

تمالك أعصابه معبئًا نفسًا عميقًا إلى رئتيه، و هو يقول بصوتٍ أكثر لينًا..
“اعقلي يا بت الناس و أرمي السلاح اللي في يدك ده”..

حركت رأسها له سلبًا، و انفجرت باكية بنوبة بكاء حادة، و قد بدأت تفقد سيطرتها على غضبها و حتي أعصابها، و تحدثت بتقطع من بين شهقاتها قائلة..
“مش هتهملني و تروح لها يا عبد الچبار.. مش هفرط فيك مرة تانية يا خوي.. إني كنت غلطانة لما طلبتها لك بيدي اللي تستاهل قطعها دي”..

أنهت جملتها و ضغطت أكثر على السكين لينهمر الدماء من جرحها بغزارة أكبر أمام أعين زوجها المذعورة..

” بكفايكِ يا خضرا.. أنتي مراتي و سلسبيل كمان مراتي و إني مهظلمش واحدة منِكم لو على رقبتي..

فستهدي بالله يا غالية و أرمي اللي في يدك ده و همليني أروح أشوف الچدع المجنون اللي عايز يتهچم على الدار و يقابل مراتي في غيابي”..
قالها بصوتٍ جوهري هز أركان المنزل لكن به نبرة متوسلة..

” على جتتي المرادي أسيبك تروحلها يا أخوي”..

نطقت بها بأصرار و نبرة جادة لا تسمح بالجدال، جعلته اصطك على أسنانه بقوة كاد أن يهشمها، و دار حول نفسه ممسكًا جبهته بكف يده و قد بدأت أعصابه تنهار هو الأخر حين تخيل وصول المدعو “جابر” لزوجته..

…………………………. صلِ على محمد…….

“سلسبيل”..

بدي عليها الرعب، الفرحة، الصدمة، الدهشة، الذهول، و الكثير من المشاعر المختلطة حين وصل لسمعها تلك الجملة..
“أنا جابر يا سلسبيل”..

“جابر!!!”..
نطقت بها بداخلها، دون أن تحرك لسانها أو حتى شفتيها..

هذا الإسم الذي أجبرها والدها على عدم ذكره نهائياً، و إلا سينحر عنقها..

دمعة حارقة هبطت من عينيها حين داهمتها ذكري أبشع ليلة بعمرها..

.. فلاش باااااااااااك..

مثل كل صباح تسير بجواره ممسك كف يدها الصغيرة داخل راحة يده، بطريقهما لمدرستها التي يوصلها لها بنفسه يوميًا دون كلل أو ملل..

“ماما هتخف أمتي عشان أشوفها بقي.. واحشتني أوي يا جابر”..
أردفت بها الصغيرة “سلسبيل” صاحبة السبع سنوات..

تنهد “جابر” بحزن يحاول إخفاءه عنها، و اجابها بابتسامة دافئة قائلاً… “قريب.. هتخف قريب يا حبيبتي”..
مال عليها و حملها على يده، غمر و جنتها الممتلئة بقبلة عميقة مدمدمًا..
” اممم.. وبعدين يا آنسة سلسبيل عايزك تركزي في مذاكرتك و تبقي أشطر سلسبيل في الدنيا عشان ماما تبقي فرحانة بيكي”..

“و أنت كمان يا جابر هتفرح بيا و تجبلي عروسة و لعب و حاجات حلوة”.. قالتها بفرحة طفولية و هي تصفق بحماس بكلتا يدها..

ضمها لصدره مقبلاً جبهتها بحب مغمغمًا..
” طبعًا فرحان بيكي يا عيون جابر.. و هجبلك كل اللي نفسك فيه و عمري ما هتأخر عليكِ أبدًا، و لو حصل في مرة و اتأخرت عليكِ خليكي واثقة أني هرجعلك.. هرجعلك و مش هسيبك أبدًا “..

ختم حديثه بقبلة أخرى على خدها الناعم، و انزلها أمام باب مدرستها، ركضت هي للداخل مسرعة و وقفت ثانيةً و استدارت تبحث عنه، كان مازال واقفًا يتابعها بلهفة و ابتسامته تزين محياه الحزينة..

لوحت له بكفها، و ابتسامتها البريئة التي رآها للمرة الأخيرة، و ظل مكانه حتى تأكد من وصولها لفصلها، و انصرف على أمل العودة لها في موعد خروجها..

كان “قناوي” يقف على مسافة كافية يتابعهما بأعين كأعين الصقر مشتعلة بالغضب، انتظر حتى تأكد من ذهاب “جابر” واندفع تجاه المدرسة بسيارة مملوءة بالرجال جميعهم مسلحون..

أخذ جولة ليست كبيرة داخل المدرسة و خرج منها ساحب خلفه ابنته التي تبكي و تصرخ مرددة بذعر..
“أنا عايزة جابر”..

حملها من حقيبتها الصغيرة الموضوعة على ظهرها، و دفعها لداخل السيارة قبل أن يجذب الحقيبة منها بعنف، و ألقاها بمنتصف الطريق أمام أعين ابنته التي تنظر لحقيبتها بحسرة و تبكي بحرقة ..
“شنطتي فيها كتبي.. يا جابر تعالي وديني لماما”..

قبض والدها على عنقها بعدما صعد بجوارها، و انطلقت السيارة بهما نحو الصعيد، جذبها عليه حتى أصبح وجهه ذو الملامح المخفية مقابل وجهها الملائكي و تحدث بصوتٍ كفحيح الأفاعي قائلاً..
“من انهارده مافيش لا مدرسة، و لا جابر و لا حتى أمك”..

اجهشت الصغيرة ببكاء مرير، و بتوسل همست بصوتٍ مرتجف من شدة فزعها..
“ونبي يا عمو وديني عند جابر عشان ياخدني عند ماما”..

“عمو!!!”..صفعها بكف يده على وجهها بقسوة مكملاً..
“بتقولي لابوكي عمو!!!.. و جابر أيه اللي رايداه ياخدك لأمك.. أمك خدها ربنا.. عقبال ما ياخدك انتي كمان و يبقي جبر واحد لم العفش كله”..

ذادت صرخات الصغيرة تُنادي علي والدتها و جابر دون توقف..
” اكتمي يا بت.. اكتمي لخلص عليكِ بيدي”..
قالها و هو يهبط بكفه على وجنتيها بصفعات متتالية، و جذب شعرها بقبضة يده كاد أن يقتلعه من جذوره مكملاً بوعيد..
” لو سمعتك بتنطقي اسم چابر ده مرة تانية هقطع لسانك و بعد أكده هدبحك و أفصل رأسك عن جتتك.. فاهماني زين ولا اقطعلك لسانك دلوجيت “..

قال الأخيرة و هو يخرج سلاح أبيض من جيب جلبابه وفتحه أمام عينيها المذعوة التي تنهمر منها العبرات، بهمس مرتعد قالت..
“ف فاهمة.. مش هنطق اسمه تاني أبدًا”..

بينما” جابر ” قد أتاه إتصال من المدرسة أخبروه بما حدث لملاكه الصغير، أخذ الطريق بأكمله راكضًا، و لكنه قد وصل بعد فوات الأوان، فور وصوله لمح حقيبتها التي ابتاعها لها خصيصًا ملقاه على الطريق أمام مدرستها..

و كأن روحه غادرت جسده، سقط على ركبتيه أرضًا بجوار حقيبتها، و مد يده المرتعشة امسكها و انتصب واقفًا، و بدأ يبحث عنها و يركض هنا و هناك و هو يصرخ بأسمها بقلب ملتاع كُتب عليه الفراق..

.. نهاية الفلاش باااااااك..

فاقت من شرودها على صوت “جابر” الذي يُنادي عليها بصوتٍ متلهف، يملؤه الوجع، مسحت عبراتها التي أغرقت وجهها و دارت بعينيها بأرجاء الغرفة تبحث عن شيئًا ترتديه فوق روبها الحرير..
“أوعى تقولي إنك هتخرجي تقابليه يا بنتي!!!!”..
قالتها “عفاف” و هي تلحق بها نحو غرفة الثياب..

“أيوه هخرجله.. ده يبقى ابن خالتي”..
أردفت بها “سلسبيل” و هي تبحث بتوتر بين أغراضها الكثيرة جدًا..

“لا يا بنتي..اسمحيلي اعتبرك زي بنتي و خليني انصحك لوجه الله.. اللي هتعمليه ده غلط و ميصحش” ..
نطقت بها” عفاف ” بتعقل، و صمتت لثوانٍ و تابعت بهدوء..
“ميصحش تقابلي راجل في بيتك و جوزك مش موجود حتى لو الراجل ده ابن خالتك”..

تنهدت “سلسبيل” بصوتٍ اختنق بالبكاء قائلة..
“أمال اسيبو يضرب في رجاله عبد الجبار و هما يضربوا فيه لحد ما واحد منهم يتعور؟”..

” يا بنتي أفهمي جوزك أكيد عنده علم بوجود ابن خالتك ده، و هو اللي أمرهم يمنعوه يدخل البيت، و بصراحة حقه من لهفة الشاب ده عليكي”..

أطبقت” سلسبيل” جفنيها تكبح عبراتها من الهبوط ثانيةً و بقلة حيلة قالت..
” طيب قوليلي أعمل أيه أنا دلوقتي! ، و فين عبد الجبار”..

أثناء حديثها، صدح صوت رنين هاتف” عفاف”..
” ده عبد الجبار بيه”..
قالتها وهي تضغط زر الفتح ليأتيها صوته في الحال قائلاً بصوت يظهر عليه الخوف و القلق..
“عفاف.. خدي سلسبيل و أخرجي بيها من الباب السري دلوجيت.. في عربية مستنياكم قدام البوابة اركبوا فيها..سمعتي زين اللي قولته!”..

“سمعته و هنفذه دلوقتي حالاً يا عبد الجبار بيه”..

“عبد الجبار” بلهفة..
” اعطي التليفون لسلسبيل”..

مدت يدها لها بالهاتف، فأخذته منها بأصابع مرتجفه، و همست بصوتها الباكي قائلة..
” عبد الجبار.. أنت فين.. سبتني لوحدي ليه”..

” هششش.. أهدي يا بت جلبي.. أني چارك
مهسبكيش واصل.. بس اسمعي كلام عفاف، و اعملي اللي هتقولك عليه، و إني أقل من ساعة هكون وياكِ”..

أنهي جملته، و ألقي الهاتف من يده بعدما سمع صوت “عفاف” التي اعطتها “سلسبيل” الهاتف، تقول بعملية..
” أنا هخرجها من البيت و هفضل معاها اطمن سيادتك”..

” دكتور بسرررررعة”..
صاح بها” عبد الجبار ” الذي وصل للتو إلى إستقبال المستشفى بسيارته، و هو يحمل” خضرا ” الفاقدة للوعي على يده، و دلف بها لداخل غرفة الكشف تاركًا بكل خطوة يخطوها آثار لدمائها النازفة من معصم يدها المقطوع……

الفصل ال27..
جبر السلسبيل..
✍️نسمة مالك✍️..

.. بسم الله الرحمن الرحيم.. لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم..

“جابر”..
ترك عنق “حسان” على مضض بعد عراك دام لوقت ليس بقليل، استطاع خلاله التغلب على رجال “عبد الجبار” بسبب مهاراته العالية في ألعاب القوة، كان كالثور الهائج لم يقدر عليه أي أحد منهم، يود الوصول لها “سلسبيل” مهما كلفه الأمر،

هي هدفه و مقصده، و أمنيه حياته أن تتقابل أعينهما ثانيةً و يلقى حتفه حتي بعدها لا يُمانع أبدًا وقتها..

“يا ولد العم أدخل فتش عنِها چوه الدار بنفسك”..
قالها “حسان” و هو يلهث بعنف كمحاولة منه لألتقاط أنفاسه التي كادت أن تنقطع على يد ذلك الغاضب الذي رمقه بنظرة متعجبه حين رآه يبتعد من أمامه ليفتح له طريق نحو باب المنزل الداخلي..

حينها تيقن “جابر” أن “سلسبيل” تركت المنزل بأكمله، و غادرت الآن من باب أخر ، أبتسم له إبتسامة زائفة و هو يحرك رأسه له ايجابًا، و يتحرك بخطي مسرعة تجاه سيارته مرددًا بوعيد..
“هرجعلك يا حسان.. و بلغ اللي مشغلك إني مش هسيبه و هوصله”..

أنهى جملته، و انفجر هدير محرك سيارته ليتطاير الغبار من حولها عاكسًا غضبه عليها، قاد بأقصى سرعة ممكنة حتى أصبح بالجهة الأخرى للمنزل، دار بعينيه بالطريق يبحث عنها و هو لم يرها منذ أن كانت طفلة بالسابعة من عمرها، كيف أصبح شكلها حاليًا و قد أوشكت على إتمام العشرون العام!!!..

“أنتي فين يا سلسبيل.. كفايا فراق لحد كده يا حبيبتي”..
همس بها محدثًا نفسه بقلب ملتاع أهلكه البعاد، لا يُهم بالنسبة له الآن كيف سيتعرف عليها، يثق أن قلبه سيقوده إليها بالتأكيد..

كانت “سلسبيل” تسير برفقة “عفاف” نحو السيارة التي تنتظرهما على جانب الطريق فور خروجهما من المنزل، هرول السائق بفتح الباب لها، كادت أن ترفع إحدي قدميها لتدلف داخل السيارة و إذا فجأة يوقفها صوتٍ متلهف صرخ بأسمها بصوته الحارق و الرياح تصفر من حوله..
“سلسبيل…”..

تسمرت “سلسبيل” مكانها، و أطبقت عينيها، بينما اشتعلت عيناه خلفها حتى أصبحت جمرتان من اللهب، هل ما يعيشه حقيقي؟؟؟ هي أمامه بالفعل أم أنه يتوهم وجودها؟!!..

فتحت عينيها ببطىء دون أن تستدير، بينما نظراته النارية تلفح ظهرها، فهمست بصوتٍ لا يسمع ..
” جابر….”..
لا تعلم كيف سمع همستها حينها انبعث صوته الخافت المزلزل من خلفها، صوت قد أصبح أجش عن ذي قبل إلا أنه مازال يرفض النسيان، لا يقبله بتاتًا..
“أيوه جابر يا سلسبيل”..
أردف بها، و هو يقترب منها حتى أصبح خلفها مباشرةً..

ابتلعت غصة مؤلمة بحلقها و هي تستدير ببطء بدا له و كأنه أعوام بل دهوراً فوق سنوات بعدها عنه، قبل أن تستقر أمامه مخفضه الوجه، تسارعت نبضات قلبه، و حبس أنفاسه و هو يتطلع لها بعينيه المتلهفه، و صدره ينتفض بعنف..

رفعت وجهها المحمر أخيرًا ثم عينيها فالتقتا بعينيه حينها تزلزل كيانه كله دفعة واحدة، هي صغيرته “سلسبيل” بعينيها الواسعتان الأسرتين، و ملامحها الفاتنة البريئة التي زادت جمال فوق جمالها بعدما أصبحت أنثى مكتملة الأنوثة..

أما هو فلم يعد ذلك المراهق ذات السابعة عشر عامًا كما تركته، لقد إزداد طولاً كثيرًا حتى أصبح ضعف قامتها القصيرة بمرتين أو ربما ثلاثة، مفتول العضلات بهيئة مخيفه بعض الشيء خاصةً بظهور عروقه البارزة من شدة انفعالاته المتضاربه و غضبه العارم..

طال بهما الصمت و كأنه يتذوق تلك النظرة بعد سنوات طويلة، الجمرتين المشتعلتين بعينيه اشتعلتا الآن كحمم بركانية ما أن التقتا عينيها،نظراته لها تغيرت كليًا، أصبحت نظرة عاشق تملك منه الإشتياق حد الجنون،

يتلهف لعناقها كما كانت تفعل معه كلما لمحت طيفه من بعيد، تركض تجاهه مسرعة و ترتمي داخل صدره و تعانقه بفرحة غامرة، ليبادلها هو العناق بكل ما أوتي من قوة،ولكن دوام الحال من المحال..

فنظرتها له الآن قطعت نياط قلبه على حين غرة، عينيها بها حزن دفين، ترمقه بنظرات عاتبة، تخبره بها أنه قتل شيئًا غاليًا بداخلها حين تركها لوالدها يُعذبها كل هذه السنوات!!..

قتل شغفها تجاهه، لهفتها في التحدث إليه، أمنيتها في اللقاء به، رجائها في وصله، قتل كل إحساس صادق كان له وحده، لا تنكر أنه مازال يسكنها، ولكن حضوره أصبح بقلبها باهتًا ولم تعد تنتظره..

“يله يا سلسبيل يا بنتي اركبي وقفتنا دي كده غلط،
عبد الجبار بيه عمال يرن عليا عشان يتأكد أننا ركبنا” ..
كان هذا صوت “عفاف” قطعت الصمت، و أفاقته على واقع مرير قد تنساه لثوانٍ معدودة،
لقد حُرم عليه معانقتها الآن، لم تعد صغيرته، و لا يملك أي سلطة عليها، فهي على ذمة رجل غيره..

تكلفت” سلسبيل ” الإبتسامة و تحدثت بجمود أدهش” جابر ” قائلة..
” أعذرني أنا مش هقدر أقف مع حضرتك أكتر من كده، و لا حتى هقدر أقولك اتفضل لأن جوزي مش موجود”..

تفهم حديثها جيدًا، و قد ظن أنها تخشي من بطش زوجها، فتحدث هو بتنهيدة حزينة قائلاً..
” سلسبيل أنا رجعت عشانك، و دورت عليكي في الصعيد لحد ما وصلت لوالدك و عرفت منه أنه جوزك بالغصب مرتين،

و مش عايزك تخافي من أي حد و لا اي حاجة بعد كده.. أنا معاكي و في ضهرك، و مش أنا بس لا.. ده جدك والد مامتك، و خالتك كمان كلنا قلقانين عليكِ و هيتجننوا و يشفوكي”..

“جدي و خالتي!!! “.. همست بها بداخلها بغصة يملؤها الأسى، و الكثير من الأسئلة تدور بذهنها تمنت لو تحصل على إجابتها منه، لكنها فضلت الصمت في الوقت الحالي منعًا للمشاكل التي ممكن يفعلها زوجها فور علمه بحديثها معه دون علمه و أرادته،

فأمسكت يد ” عفاف ” جذبتها تجاه المنزل مرة أخرى و هي تقول ببعض الحدة تخفي خلفها ضعفها و رغبتها في البكاء..
“اللي عايز يشوفني هاته معاك المرة الجاية أنت عرفت البيت بس يكون عبد الجبار هنا

،و قولهم ميقلقوش عليا خالص أنا عايشة مع جوزي برضايا مش غصب عني زي ما أبويا فهمك.. عن إذنك”..

تركته و عادت لداخل المنزل غالقة الباب خلفها، تركته يحملق في أثرها مذهولًا من معاملتها الجافة معه ،ماذا كان ينتظر من امرأة متزوجة مثلها!!! ،صفعته الحقيقة و فاجئه واقعه المرير رغم علمه أن معاها كل الحق فما مرت به بعد فراقها عنه ليس أبدًا بهين..

بقي مكانه بعض الوقت إلى أن صدح صوت هاتفه برقم أصدقاءه الذين تمكنوا من خطف الطبيب المعالج لمعذبته، ضغط زر الفتح على الفور مغمغمًا..
“أيه الأخبار!!”..

“أنت فين يا جابر إحنا وصلنا الچيم من بدري و الواد الدكتور ده مش عايز ينطق بحرف واحد مع إننا عملنا معاه الصح” ..

عاد “جابر” لسيارته، و أدار المحرك ثانيةً،و عينيه مازالت على الباب الذي دلفت منه “سلسبيل”، و بنبرة هادئة لا تخفي غضبه المشحون تحدث..
” سيبوه.. أنا جي له “..

انطلق بسيارته تاركًا قلبه بحوزاتها كعادته، و قد علم أن طريقه إليها أصبح أكثر تعقيدًا بوجود هذا المدعو ب” عبد الجبار”، و مع كل ما مر به إلا أن هناك إبتسامة انبلجت على محياه الجذابة لأنه أخيرًا رآها و تأملها ولو حتى دقائق معدودة هدأت ضجيج قلبه قليلاً..

……………………… صلِ على محمد………

“عبدالجبار”..

أطلق أنفاسه المحبوسه في رئتيه عندما أخبره الطبيب أنهم أستطاعوا إنقاذ زوجته “خضرا” بعدما تبرع لها بدماءه لإنقاذ حياتها التي كادت أن تخسرها بسبب غضبها، و غيرتها المتهورة التي افقدتها كل ذرة تعقل بها و دفعتها للانتحار..

“مش عايزك تقلق يا عبد الجبار بيه، و أطمن سيادتك المدام كويسة”..
قالها الطبيب و هو يعطي ل “خضرا” علاجها عبر الإبرة الطبية المعلقة بيدها..

“و لما هي زينة مفقتش لحد دلوجيت ليه!!!”..

أردف بها “عبدالجبار” الجالس على مقعد بجوار سريرها، و ممسك يدها الأخرى بين كفيه، يتحسس نبضاتها بقلق بائن بوضوح على ملامحه المجهدة..

أجابه الطبيب بعملية قائلاً..
“العلاج فيه مهدئات، و مسكنات هتنيمها لحد الصبح “..

طبع” عبد الجبار ” قبلة عميقة على رأس زوجته الغارقة في النوم قبل أن ينتصب واقفًا، و يغادر الغرفة برفقة الطبيب غالقًا الباب خلفه، و تحدث بأمر قائلاً و هو يهرول مسرعًا بخطوات شبه راكضة نحو الخارج..

“عاوز اتنين حريم يفضلوا معاها لحد ما أعاود، و لو في أي حاچة چدت اتصل بيا هچيك طوالي”..

كان يتحدث و الهاتف على أذنه يعاود الإتصال ب”عفاف” للمرة الذي لا يعلم عددها، قفز داخل سيارته، أشعل المحرك و هم بقيادتها إلا أنه اطفئ المحرك ثانيةً حين وصل لسمعه صوت زوجته”سلسبيل ” تتحدث بستحياء، و بصوتٍ اختنق بالبكاء قائلة..
” عبد الجبار.. أنا رجعت البيت تاني مركبتش العربية، و أطمن ابن خالتي مشي خلاص”..

“أنتي زينة؟!”..

تأوهت بخفوت و هي ترد بهمس متألم..
“لا.. مش كويسة.. محتاجلك..تعالي أنا مستنياك يا عبد الجبار.. تعالي عشان خاطري “..

اصطك على أسنانه بعنف كاد أن يهشمها، و أطلق زفرة نزقه من صدره و هو يقول بلهفة..
“أنتي خابرة زين إن خاطرك غالي عندى يا بت جلبي، بس عندي شغل مهم لازم يخلص ،

عشان أكده بعتلك السواق بالعربية لاچل ما يچيبك عندي رايدك تبجي چاري يا سلسبيل ” ..

دمدمت” سلسبيل “بخجل قائلة..
” اممم.. يعني الشغل ده مش ممكن يتأجل يوم واحد كمان.. أنا ملحقتش أشبع منك و لا من هوا إسكندرية و لا قعدت قدام البحر معاك، و لا حتى اتفرجت على البيت اللي قولت عليه أنه بيتي!!!”..

صمتت لبرهةً و تابعت بحسرة..
” وبعدين مش أنا طلع عندي خالة و جدي كمان لسه عايش و شكل ابن خالتي راح يجبهم من المنصورة و يجي علشان يشوفوني زي ما قالي”..

” أنتي اتحدتي وياه!!! “.. صاح بها بحدة، لتجيبه هي بضحكة خافتة حين استشعرت غيرته عليها و كم راقتها كثيرًا..

” تعالي و أنا احكيلك اللي حصل، و بصراحة أنا عايزة اقابلهم يا عبد الجبار بالذات جدي عندي أسأله كتير مافيش حد يقدر يجاوب عليها غيره هو، بس عايزاك تكون جنبي و معايا.. مش عايزه اقابلهم لوحدي”..

قالت الأخيرة بصوتٍ تحشرج بالبكاء، بكاءها كان بمثابة قبضة اعتصرت قلبه، و اشتعلت نيران غيرته حين تخيل عودة ابن خالتها هذا برفقة عائلتها، لا لن يتركها بمفردها معاهم..
” چايلك.. چايلك يا سلسبيل”..

…………………… سبحان الله وبحمده……..

” جابر”..
صب جم غضبه، و غيظه، و يائسه على الطبيب المعالج ل “سلسبيل”،الذي يتطلع له بأعين زائغة تدل على شدة فزعه، و أرتعاد قلبه من هيئته المتوحشة، تأكد أنه سيلقي مصرعه الآن على يد ذلك الغاضب لا محالة..

تقطعت أنفاسه، و شهق بقوة حين سكب على رأسه زجاجة كاملة من البنزين و هو يصيح بوعيد..
“هولع فيك لو منطقتش!!!”..

“هنطق..هقول..هتكلم..بس أبوس رجلك أطفي الولاعة دي”..
صرخ بها برعب دب في جميع أوصاله، و صمت لبرهةً و تابع قائلاً بصوتٍ مرتجف..
“أول ما مدام سلسبيل دخلت المستشفى كانت حالتها خطيرة جدًا، نفسيًا و عضويًا و واضح أنها اتعرضت لعنف و ضرب مبرح و حروق في كل جسمها تقريبًا”..

كان يستمع له بقلب يعتصر ألمًا، يبكي دمًا على حال صغيريته و ما حدث لها..

ابتلع الأخر لعابه بصعوبة بالغة مكملاً..
“جتلي مدام خضرا مرات عبد الجبار بيه و قالتلي أنا عايزاك تعرفلي البنت دي هتقدر تحمل و تخلف ولا لاء.. أنا استغربت من سؤالها ده و قولتلها هرد عليكي لما أعملها كل الفحوصات اللازمة..

و بعد ما مشيت بلغت عبد الجبار بيه بكلامها ده بنفسي بدل ما يعرف من برة و يعملي مشكلة خصوصًا أنه عنده عيون كتير في كل حته.. أول ما قولتله كده لقيته بيقولي بلغها أنها و لا تقدر على العلاقة الزوجية كمان”..

عقد حاجبيه بتعجب، و تحدث بتساؤل قائلاً..
” بمعني؟! “..

صمت الأخر للحظة، و من ثم قال بأسف..
” طلب مني أبلغ مراته إن سلسبيل هانم متقدرتش على الحمل و الولاده و لا حتى العلاقة الزوجية!!!”..

الفصل ال28..
جبر السلسبيل..
✍️نسمة مالك✍️..

.. بسم الله الرحمن الرحيم.. لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم..

“عبد الجبار”..

قضى النهار بأكمله داخل المستشفى برفقة “خضرا” لم يذهب إلا بعدما اطمئن أن حالتها الصحية أصبحت مستقرة ، و أخبره الطبيب أنها تحت تأثير العلاج و المسكنات و لن تفيق قبل الصباح،

تركها و ذهب على أمل العودة لها ثانيةً بأسرع وقت ممكن، قاد سيارته بتجاه منزله ليطمئن على ابنتيه و والدته قبل أن يسافر الأسكندرية لزوجته، كان التعب و الإجهاد ظاهر على محياه بوضوح خاصةً أنه لم يرى النوم منذ ليلة أمس..

صف سيارته داخل حديقة منزله، و هبط منها مهرولاً حين وصل لأذنه صوت بكاء الصغيرتان..
” فاطمة.. حياة”..
نطق بأسمهما بلهفة فور دلوفه من باب المنزل..

“أبوي”..
صرخا بها و هما يركضان نحوه، ليستقبلهما هو داخل حضنه بعناق قوي غمرهما بالحماية و الأمان..
“أمه فين.. مچتش وياك ليه.. أمه چرالها ايه يا أبوي”..

“بكفياكم بكى عاد.. أمكم زينه يا بتي”..
قالها و هو يزيل عبراتهم المنهمرة بأنامله، و لثم وجنتيهما بقبلاته الحانية مكملاً..
“و اني هچيبها لكم أصبح”..

“اممم يعني لحقوها يا عبد الچبار!!!”..

دمدمت بها “بخيتة ” التي أقبلت عليه هي الأخرى و وقفت بجواره تطلع له بنظرة متفحصة، و قلب يتمنى أن تكون” خضرا” فارقت الحياة و حلت عن سماء وحيدها..

تنهد “عبدالجبار” براحة و هو يُجيب على سؤالها..
” الحمد لله يا أمه”..

“طيب مچاتش وياك ليه.. هاتها دلوجيت يا أبوي و إني و حياة هنبجي حواليها و هناخد بالنا منِها”.. غمغمت بها” فاطمة” بتقطع من بين شهقاتها، كان الخوف ظاهر على ملامح الصغيرتان،فما فعلته والدتهما خطأ فادح بحق ربها، و نفسها، و بحق أبنتيها..

تنقل” عبدالجبار ” بعينيه بين ابنتيه، يتأمل هما بنظراته التي تبث الطمأنينة بقلوبهما الصغيرة المرتعدة، و تحدث بهدوء قائلاً..
“حاضر.. من عنيا هچبلكم أمكم بس اطمن عليكم لول، و اعشيكم و هروح لها لو لقتها خلصت علاچها هچيبها و اچيلكم طوالي”..

سارت “بخيتة” مستندة على عكازها تجاه غرفة المكتب، و مدت يدها فتحت الباب مردفة قبل أن تخطو للداخل..
“الوكل چاهز على السفرة أني عملته لكم بيدي يا ولدي.. كل و وكل البنته و تعالى رايده اتحدتت وياك هبابه”..

حرك رأسه لها بالايجاب،
و سار برفقة ابنتيه تجاه مائدة الطعام، اجلسهما و جلس بجوارها، و بدأ يطعمهما بيده لم يتركهما حتى أنهو طعامهما ،

و صعد معاهما لغرفتهما و ظل برفقتهما حتى غلبهما النعاس داخل حضنه.. دثرهما جيدًا بالغطاء ، و قبلهما بحب شديد قبل أن ينتصب واقفًا و يغادر الغرفة غالقًا الباب خلفه بحرص..

توجهه لغرفته، و اختفى داخل الحمام لدقائق، و خرج مهرولاً نحو ثيابه أرتدي جلبابه الصعيدي الذي يزيده هيبه و وقار، و يظهر طول قامته المهيب، و ضخامة بنيته الرياضية بهيئة تخطف الأنفاس ،

أخذ متعلقاته الشخصية بعدما أنتهي من تمشيط خصلات شعره الكثيفه، و نثر عطره الخاص بغزارة، و غادر الغرفة بخطي واسعة..

“عبد الچبار!!! قولتلك رايده اتحدتت وياك “.. نطقت بها “بخيتة” أوقفته قبل أن يعبر باب المنزل الداخلي..

“هچيب سلسبيل، ولما أعاود نتحدتت يا أمه”..
قالها و هو يتابع سيره للخارج، لتسرع “بخيتة” خلفه صائحة بغضب..

“خليك مع عروستك و بكفياك أكده يا ولدي.. أنت غلطت لما هملتها و چيت بعد ما دخلت عليها .. الأصول تبجي وياها أقل واچب أسبوع.. مافيش واحد يهمل مراته ليلة دخلتهم و يروح لمراته التانية.. أنت قويت شوكة خضرا بعملتك دي..

عطتها حق فوق حقها خلتها اتفرعنت و عملت عملتها المهببة دي لاچل ما تلوي دراعك و تربطك چارها من غير ولد و لا سند ليك و للبنتة الصغار”..

” بناتي يا أمه ميهمنيش في الكون كله دلوجيت إلا هما.. بكفايا الخوف و الرعب اللي عاشوا فيه انهاردة..و لخاطرهم هچيب سلسبيل و أعاود لاچل ما أكون چارهم “..

صمت لبرهةً و تابع و هو يفتح باب سيارته، و جلس خلف المقود..
” و چار أمهم.. ده حقها عليا في تعبها يا أم عبد الچبار”..

قالت “بخيتة ” بغضب عارم.. “أنت عطيها فوق حقها الطاق عشرة لحد ما طمعت و الطمع عمي عنيها و رايده تاكل حقك و حق سلسبيل مراتك كمان.. إحذر منها يا ولدي”..

أنهت حديثها، و تركته و عادت للداخل، بينما هو هم بقيادة السيارة لكن صوت هاتفه الذي صدح مرات متتالية معلنًا عن وصول أكثر من رسالة بوقتٍ واحد، جعله يسرع بفتحه و قد زحف القلق لقلبه حين رأي اسم الطبيب المعالج لزوجته”سلسبيل “..

ظهر الغضب على قسمات و جهه حين استمع محتوي الرسالة الصوتية المرسلة له برفقة مجموعة من الصور للطبيب يظهر بها الضرب المبرح الذي تعرض له على يد جابر..

“عبد الجبار بيه في واحد اسمه جابر خطفني و بهدلني ضرب هو و أصحابه لدرجة أنه كان هيولع فيا و مسبنيش إلا لما قولتله على الإتفاق اللي بيني و بين سيادتك..

أرجوك تعذرني و تسامحني مكنتش أقصد أخون ثقة سيادتك فيا بس هو مجنون و كان هيقتلني يا باشا”..

صك “عبد الجبار ” على أسنانه، و تمنى لو كان “جابر” أمامه في هذه اللحظة، أقسم بداخله أنه لن يتركه إلا بعدما يلقنه درسًا لن ينساه طيلة عمره..

أيقن الآن أن خصيمه لا يُستهان به، خاصةً بعد علمه باتفاقه اللعين هذا، بالتأكيد سيكون أول شيء سيخبر به”سلسبيل ” فور رؤيتها حتى يؤثر على علاقتها به..

أخذ نفس عميق، و زفره على مهلٍ، و قاد سيارته بأقصى سرعة ممكنه عاكسًا غضبه عليها، محدثًا نفسه بتعقل و هدوء عكس تعابير وجهه الغضوب..
“هصارحك بالحقيقة بنفسي يا سلسبيل”..

أرتجف قلبه بقوة بين ضلوعه و هو يتخيل رد فعلها بعد معرفتها بأنها ليست مريضة، و كل ما حدث لها كان مجرد إتفاق أحمق حتى يجعل زوجته الأولى تطلب يدها له بنفسها، و يتم زواجه منها غرضه و مقصده الذي سعي لتحقيقه دون التفكير في عواقبه..

…………… سبحان الله وبحمده……………..

“سلسبيل”..

جهزت أصناف متعددة من أشهى المؤكولات و الطواجن الصعيدية الشهيرة بكميات كبيرة ، و الكثير من الحلويات الشرقية بمختلف أنواعها، حتى أنها خبزت الخبز بيدها بمهارة طاهية محترفة أمام أعين جميع العاملين بالمنزل

الذين يتطلعون لها بذهول و انبهار في أنٍ واحد لسرعتها الشديدة و خفة يدها ، و قد سأل لعابهم من رائحة الطعام الذكية..

“ما شاء الله عليكِ يا بنتي.. مين علمك الطبيخ الحلو ده يا سلسبيل هانم!!!”..
أردفت بها “عفاف” الواقفة بجوارها تتابع ما تفعله بأعين مندهشة..

أبتسمت لها “سلسبيل” و هي تقول بودٍ..
“سلسبيل بس يا دادة عفاف.. أنتي لسه كنتِ بتقوليلي إني زي بنتك”..

بادلتها” عفاف” الإبتسامة، و ربتت على ظهرها بحنو مرددة..
“ربنا يحميكي لشبابك يا سلسبيل”..

تنهدت “سلسبيل” و قد ظهرت بعينيها لمحة حزن و هي تقول..
“مرات أبويا و حماتي هما اللي علموني الطبيخ.. أصلي كنت شايلة بيت أبويا من كافة شيء قبل ما اتجوز، و لما اتجوزت شلت البيت عند حماتي”..

رأت “عفاف” العبرات التي ترقرقت بعينيها، و ملامحها المتألمة التي تعكس مدى الوجع الموجود بأعماق قلبها حين داهمتها ذكري ما مرت به من ذل و إهانة تذوقتهم على يد كلاً من والدها و زوجته، و من بعدهما زوجها السابق و والدته، حاوطت كتفيها و ضمتها لها بحنان أم فقدته “سلسبيل” منذ نعومة أظافرها..

“طيب يله يا بنتي سيبي اللي في أيدك و كفايا عليكي كده و البنات في المطبخ هيطلعوا الأكل اللي في الفرن لما يستوي و أطلعي أنتي على أوضتك أنا حضرتلك الحمام عشان تجهزي قبل ما جوزك يجي” ..

نظرت لها “سلسبيل” بعدم فهم، تسألها بعينيها كيف تتجهز لزوجها؟!!،
رغم أنها ظلت على ذمة رجل خمسة سنوات كاملة إلا أنه لم يُتيح لها فرصة لتتجمل له ولا مرة واحدة طول فترة زواجها فوجهها كان دومًا به صفعات ولكمات داميه تاركة بقع زرقاء و حمراء و شفتيها لم تشفي جرُحتها إلا بعد موت زوجها و بُعدها عن والدها..

تفهمت “عفاف” نظرتها جيدًا، فسارت معاها تجاه الدرج المؤدي لغرفتها وهي تقول بحنو..
“لو تحبي أساعدك و أجهزك بنفسي أنا تحت أمرك”..

“ياريت يا دادة عفاف أنا مش عارفه المفروض ألبس أيه و لا أعمل شعري و اتزوق إزاي”..
همست بها “سلسبيل” بستحياء لا تخلو من اللهفة،

تريد أن تظهر جمالها لزوجها الذي هو بالأساس يراها أجمل نساء العالم بنظره، حتى في أسوأ حالتها كان يتطلع لها بافتنان يخبرها بنظراته المُتيمة أنها أمراءته الفاتنة التي غزت مشاعره بعشقها و انتصرت في أمتلاك قلبه ..

قضت “عفاف” وقت ليس بقليل في تجهيزها، كانت تعاملها بحنان مفرط و قد أعتصر قلبها عليها بعدما رأت أثار الضرب و الحروق على جسدها الهزيل، لم تستطيع كبح عبراتها التي انهمرت من عينيها رغمًا عنها..

ضمتها لصدرها بعناق دافئ، و يدها تربت على ظهرها برفق وهي تقول..
“يا حبيبتي يا بنتي.. مين عديم الرحمة اللي قدر يعمل فيكِ كده”..

“اللي في جسمي ده من أقرب الناس ليا اللي المفروض يكونوا حمايتي و أماني هما اللي بهدلوني و عذبوني لحد ما كنت هموت في أيديهم أكتر من مرة و ربنا نجاني و كتبلي عمر جديد”..

رفعت يدها و زالت دموع “عفاف ” و تابعت بابتسامة تخفي خلفها ألمها و وجعها..
” متعيطش يا دادة عفاف كل اللي حصل لي ده بقي ماضي بحاول أنساه.

. مش عايزه أفتكر أي حاجة غير أني دلوقتي بقيت مرات عبد الجبار المنياوي اللي بيحاول يعوضني عن كل اللي شوفته في حياتي قبله، و قالي إن محدش يقدر يلمس مني شعره واحدة بعد كده”..

” ربنا يهدي سرك و يفرح قلبك يا سلسبيل يا بنتي “.. غمغمت بها” عفاف ” و هي تجفف لها شعرها بعدما إنتهت من تجهيزها بداية منبت شعرها حتى أصابع قدميها، كما لو كانت عروس بليلة زفافها..

ساعتها على أرتداء فستان رقيق من اللون الأزرق به نقوش هادئة من اللون الكافيه يظهر قوامها الممشوق ،حذاء رقيق ذو كعب عالِ من نفس لون الفستان، مشطت لها شعرها و تركته منسدل على ظهرها بنعومة،

و وضعت لها ميك أب جريء إلى حدٍ ما ظهر جمال عينيها الواسعتين، و شفتيها المزمومة بهيئة مثيرة..

تطلعت “سلسبيل” لانعكاس صورتها بالمرآه بأعين منبهرة و فرحة غامرة تعيشها لأول مرة و هي تري نفسها قد أصبحت أنثى كاملة الأنوثة كما ينبغي أن تكون..

شهقت بسعادة بالغة حين استمعت صوت بوق سيارة زوجها معلنه عن وصوله، ركضت نحو النافذة تطل منها بلهفة، رفرف قلبها بين ضلوعها حين رأته يهبط من السيارة بعدما قام “حسان” بفتح بابها له..

“أنا هروح أقول للبنات في المطبخ يجهزوا العشا.. عايزه مني حاجة تانية يا سلسبيل يا بنتي”..

أردفت بها “عفاف” و هي تسير لخارج الغرفة، لتلحق بها “سلسبيل” راكضة و تعانقها بقوة مغمغمة بامتنان.. “مش عارفة أشكرك إزاي يا دادة.. أنا تعبتك معايا أوي انهاردة”..

بدلتها” عفاف ” العناق قبل أن تغادر الغرفة غالقة الباب خلفها، وقفت” سلسبيل ” بمنتصف الغرفة عينيها مثبته على بابها تنتظر طلته عليها بنفاذ صبر، علقت أنفاسها بصدرها حين اخترقت حواسها رائحة عطره النفاذه..

تسارعت نبضات قلبها بجنون و أصبح صدرها يعلو ويهبط بصورة واضحة حين فُتح الباب، و رأته مقبلًا عليها بلهفة و عينيه تشملها بنظرات متفحصه لا تخلو من الإعجاب حتى توقف أمامها مباشرةً المسافة بينهما لا تُذكر لكنهما لا يتلامسان..

كلاً منهما يتأمل الأخر بصمت، نظراتهما المشتاقة تحكي الكثير و الكثير من المشاعر المختلطة التي يُصعب وصفها بمجرد كلمات ، ألقى ما يحمله بيده،

و دون النطق بحرف واحد مد يده حاوط خصرها، و خطفها داخل صدره بعناق محموم ود به أن يخفيها داخل أعمق نقطه بقلبه..

حاوطها بذراعيه و حملها بمنتهي الخفه حتى أصبحت قدميها مبتعدة عن الأرض بمسافة ليست بقليلة رغم أنها ترتدي حذاء ذو كعب عالِ..

سار بها تجاه أقرب مقعد، جلس و أجلسها على قدميه دون أن يبعدها عن صدره، رفعت “سلسبيل” رأسها و نظرت له بلهفة حين شعرت بتشنج جسده من حولها..

“مالك يا عبد الجبار.. في حاجة حصلت!!!”..
همست بها بخوف ظاهر بنبرة صوتها، و قد بدأ جسدها يرتجف قليلاً بين يديه..

مسد بكف يده على طول ظهرها يهدأها بحركاته هذه، و رفع يده الأخرى يزيح شعرها عن وجهها حتى يتمكن من تأمل ملامحها جيدًا، و تحدث بتوتر فشل في اخفاءه قائلاً..

” سلسبيل رايد اتحدتت وياكِ في حاچة مهمة”..
ابتلع لعابه بصعوبة جعل الدماء تنسحب من وجهها، و شحب لونها حين رأت مدى قلقه الذي تحول لشبه ذعر و هو يقول بنبرة راجية..
“بس رايدك توعديني لول إنك تفهميني زين”..

“أوعدك.. أوعدك يا عبد الجبار.. قولي في ايه قبل ما قلبي يقف من الخوف”..
همست بها بأنفاس متلاحقة و هي تتشبث بجلبابه بأصابع يدها و كأنها تستمد منها القوة على الثبات..

وضع كفه على موضع قلبها يستشعر خفقاته المتسارعة أسفل راحة يده مغمغمًا بهدوء عكس ضجيج قلبه..
“معوزكيش تخافي من حاچة واصل.. و لو على جلبك فهو عال العال و مش محتاچ حتى للمقويات اللي كاتبها لك الدكتور”..

عقدت حاجبيها و تطلعت له بنظرات متعجبة ، لم تفهم مخزي حديثه و قد ظنت أنه يقول حديثه هذا ليخفف عنها عبئ مرضها،

أو ربما تفهمت لكنها تستبعد هذا الظن و بداخلها تتمنى أن يكون قلبها بخير حال لعلها تتمكن من الإنجاب.. حلمها و ما تسعي لأجله، تريد أن تنجب منه طفل و تموت بعدها لا تُمانع أبدًا ..
“مقويات!!!”..

حرك رأسه لها بالايحاب و بقوة زائفه قال..
” أنا كان عندي إستعداد أعمل أي حاچة في الدنيا لاچل ما تبجي مراتي يا سلسبيل “..

“حتي لو هتقول إني مريضة و مش هقدر أكون لك زوجة عشان تخلي أبلة خضرا تجوزني ليك بنفسها مش كده يا عبد الجبار ؟!!!”..
أردفت بها و هي تبكي و تضحك بأنٍ واحد، بهتت ملامحه، و تطلع لها بأعين جاحظة مرددًا بتقطع..
” عرفتي كيف.. مين اللي قالك!!! “..

” قلبي”.. هكذا جاوبته بمنتهي البساطة، و من ثم اجهشت في البكاء مكملة بنحيب..
” قلبي كان حاسس بسبب لهفتك عليا، و استغلالك لكل فرصة نبقي فيها لوحدنا عشان تقرب مني فيها”..
تخضبت وجنتيها بحُمرة قانية و تابعت بخجل..

“لحد ما حصل و بقيت مراتك بجد مش على ورق بس وقتها اتأكدت إني كويسة و مش تعبانه زي ما فهمتوني بالذات لما أنت كلمت الدكتور بالاجنبي عشان مفهمش كلامكم”..

صمتت لبرهةً، و نظرت لعينيه التي تستجديها أن تغفر له فعلته هذه، رفعت يدها و وضعت أصابعها الباردة على ذقنه الكثيفه، و تابعت بثقة..
“لو كنت تعبانه فعلاً كنت هتخاف عليا و مكنتش هتلمسني أبدًا “..

مال بوجهه ولثم باطن يدها بعمق مغمغمًا..
“حقك على جلبي و عيني..أني خابر زين إن اللي عملته ده عاملة عفشة و أنانية مني و يمكن طمع كمان لأني مكنتش رايد أخسر خضرا أم بناتي و لا اتسبب في وچعك و وچعها” ..

استند بجبهته على جبهتها، و تابع بلهجة أكثر خشونة و كأنه يثبت لها مشاعره و ملكيته إياها وحده..
“عشقان أني عشقتك و العاشق معلهوش لوم يا بت جلبي أوعاكِ تزعلي مني يا زينة البنتة

لو رچع بيا الزمن تاني هعمل المستحيل لاچل ما تبجي مراتي و تحت حمايتي يا سلسبيل”..

ختم حديثه و مس شفتيها بشفتيه بقبله متلهفة و يده تضمها له بقوة لصقها به،
تشنجت بين يديه و إرتفع صوت نشيجها أكثر جعلت قلبه يسقط أرضًا من شدة فزعه و خوفه عليها، و تحدثت بتقطع من بين شهقاتها الحادة قائلة..

“مش زعلانة منك يا عبد الجبار.. أنا مكنتش عايزه حاجة من الدنيا غير أني أكون في حمايتك أنت وبس”..

أثلجت قلبه بجملتها هذه، تنهد بارتياح و ضمها لصدره بكل ما قوته.. قربها يطمئن صخب قلبه النابض بعشقها..

“العشا جاهز يا عبد الجبار بيه”..
كان هذا صوت “عفاف” صدح عبر باب الغرفة المغلق، ابتعدت” سلسبيل ” عن زوجها الذي أبي أن يتركها إلا بعدما مسح عبراتها بأنامله، و قبل عينيها بعمق..
“أنا عملتلك الأكل انهارده بأيدي”..

همست بها قبل أن تنتصب واقفة و تسير تجاه الباب فتحته و تحدثت ببشاشة و هي تجذب العربة الموضوع عليها الطعام للداخل أمام نظرات زوجها المفتون بعشقها..
“تسلميلي يا دادة عفاف.. و من فضلك خلي كل اللي في البيت يسيبوا اللي في أيديهم و يقعدوا يتعشوا.. أنا عاملة الأكل بزيادة عشان خاطركم”..

…………………….. صل على محمد….

بمنزل متوسط الحال، تجلس “سعاد” برفقة “صفا” ابنة زوجها صاحبة العشرون عام،شابة جمالها رقيق، و لكن ملامحها يبدو عليها الحزن الشديد، شاردة بعيدًا بذهنها فيما حدث لها، تعرضت لصفعه خذلان دامية على يد خطيبها السابق الذي تركها قبل زفافها بأسبوع واحد بسبب اعتراضه على إحدي أهم البنود في قائمة منقولاتها،

لا يريد كتابة مؤخر صداق لها مما دفع والدها لتمسك بحق وحيدته، ليقرر الأخر فض الزيجة بأكملها..

موقف لا تُحسد عليه إطلاقاً، أصابها نوبة اكتئاب يحاول والدها و زوجته التي تعتبرها بمثابة ابنه لها إخراجها من تلك الحالة بشتى الطرق..
“يابنتي عشان خاطر ربنا كلى لقمة صغيره و أشربي حبة عصير لتقعي من طولك”..

صدح رنين هاتفها فشهقت بخفوت و هي تقول..
“يابنتي ابوكي هيتجنن عليكي و كل شوية يتصل بيا و هو سايق و ماشي على طريق عشان يطمن عليكي ويشوفك كلتي و لا لاء”..

“ردي عليه و قوليله أني كلت يا ماما سعاد”..
همست بها” صفا” ببوادر بكاء، و تعب واضح على ملامحها الشاحبة..

“بقي عايزاني أكدب على فايز يا صفا!!! على أساس أنك مش عارفه أبوكي اللي بيشم ريحة الكدب من على بعد!!!! “..

ربتت على كتفها و تابعت بحنو..
” يا ضنايا والله اللي حصل ده خير ليكي.. و بكرة ربنا يعوضك براجل يشيلك جوه قلبه و عينه”..
بدأت” صفا ” تبكي و تأن بصمت كعادتها، لتسرع”عفاف ” بضمها بلهفة مرددة برجاء..
” كفاية يا قلب أمك والله ما يستاهل دمعة واحدة من عينك”..

قطعت حديثها حين شعرت بثقل رأسها على صدرها، انقبض قلبها هي تعدل وضعها داخل حضنها لتتفاجئ ببرودة بشرتها و ازداد شحوب وجهها..
“مالك يا صفا”..

صرخت بها حين رأتها تنظر لها بأعين زائغة و قد تطورت حالتها للاعياء الشديد و أزرقت شفتيها بلحظة قبل أن تغلق عينيها و تستسلم لدوارها الذي داهمها بعنف..

“صفاااااا!!!!”…
صرخة بها “سعاد” صرخة مدوية شقت بها سكون الليل..

كان “جابر” يصف سيارته على جانب الطريق، و هبط منها واضعًا هاتفه على أذنه مغمغمًا..
“أنا وصلت يا جدي هجيب أمي و أجيلك عشان نسافر لسلسبيل على طول” ..

“يا ابني خلينا نروحلها بكرة يكون أبو صفا رجع من شغله أنت عارف انه سواق نقل تقيل و بيسافر لأماكن بعيده و مبيرجعش قبل أصبح و أمك مش هترضي تسيب بنته لوحدها و تيجي معانا”..

فتح “جابر” فمه ليرد عليه إلا أن صوت صراخات والدته وصل لسمعه جعله يهرول مسرعًا تجاه الصوت..
” أفتحي يا أمه أنا جابر”..

قالها و هو يطرق على الباب بقبضة يده كاد أن يحطمه..

” جابر الحقني يا ابني”.. صرخت بها” سعاد ” و هي تركض نحو الباب و فتحته على عجل مكملة ببكاء و هي تسحبه معاها للداخل..
“صفا وقعت مني قاطعه النفس و مش راضيه تفوق خالص”..

اقترب “جابر” من تلك الممددة على الأريكه غائبة عن الوعي، و حملها على ذراعيه واضعًا يد أسفل ركبتيها و الأخرى خلف ظهرها، و سار بها لخارج الشقة دون أن ينظر لوجهها حتى و هو يقول..
“حصليني يا أم جابر خلينا نوديها المستشفى”..

…………………………. لا إله إلا الله…………

“عجبك أكلي”..
قالتها “سلسبيل” بستحياء و هي تطعمه بيدها، كان يتذوق أصابعها بتلذذ و ليس الطعام..
“أنتي كلك على بعضك و كل حاچة و أي حاچة
منك بتعچبني يا سلسبيل”..

عبست بملامحها و بعتاب قالت..
“طيب ليه مش عايز تكمل أكلك؟!”..

تنهد “عبد الجبار” و تحدث بأسف قائلاً..
“مش عايز اتقل في الوكل لاچل ما أفوق و انا سايق..

چهزي حالك هنعاود على مصر دلوجيت عندي شغل مهينفعش يستني للصبح و اطمني أني هسيب حسان اهنه عشان لو أهل والدتك وصلوا في أي وقت يچبهم لحد عندك”..

حركت رأسها له بالايجاب، و هبت واقفه بصمت و سارت نحو غرفة الملابس لتبدل فستانها بعباءه سوداء و اخفت شعرها داخل حجابها الرقيق، و وقفت أمام المرآه تزيل زينة وجهها..

كان” عبد الجبار ” يتحاشي النظر تجاهها، يجاهد لتلجيم رغبته بها بكافة السُبل، فعقله منشغل بأبنتيه و زوجته المتواجده بالمستشفى بمفردها،أما قلبه يحترق من شدة إشتياق لها، كل ذرة به تريدها الآن أكثر من أي وقتٍ مضي،

و هي أيضًا تشتاقه حد الجنون لكنها لن و لم تتفوه بها له أبدًا ، حيائها يمنعها بالاعتراف له أنها تريده و تريد قربه..

“أنا جاهزة”..
نطقت بها و هي تقترب منه ببطء و عينيها تغتلس النظر إليه، لا تريد مقابلة عينيه حتى لا يري لهفتها عليه..

سار هو نحو باب الغرفة، تابعته هي بخطي هادئة، و ما أن رفع يده و أمسك مقبض الباب و هم بفتحه، وجد يدها وضعت على يده تمنعه، شعرت بشيء آثار الريبة بقلبها، خوف مبهم سيطر عليها لا تعلم سببه جعل جسدها يرتجف بقوة،

رفعت وجهها و من ثم عينيها حتى تقابلت أعينهما بنظرة تملؤها الحب و الشوق دفعتها للإنهيار داخليًا و أطلقت أنفاسها المحبوسة برئتيها..

و تحدثت بهمس بصوتٍ بالكاد يُسمع من فرط خجلها..
“ينفع تاخدني في حضنك شوية قبل ما نمشي!!”..

حطمت كل حصونه بجملتها هذه التي تخبره بها أنها تريده و تتلهف لقربه مثله تمامًا، شهقت بخفوت حين وجدته يميل بوجهه على وجهها، تطلع لعينيها بعينيه التي ظهرت بهما نيران رغبته بها المتأججة قائلاً بأنفاس متهدجة..
“تعالي!!! “..

قالها قبل أن يخطفها من خصرها داخل صدره، أطبق بشفتيه على شفتيها بقبله جائعه، و يده تخلع عنها حجابها، و تمزق جلبابه، و عباءتها معًا ..

الليلة ستعيش حياة زوجية كاملة يملؤها الحب و السكينة لأول مرة بحياتها، ليلة غرام ملحمية لن تنمحي أبدًا من ذاكرتها”..

انتهي الفصل..
هستني رأيكم يا حبايبي..
واستغفرو لعلها ساعة استجابة..
رواية جبر السلسبيل. الجزء ٢٩ و ٣٠ الأخير

­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ .

­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ .

­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­

­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ .

­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ .

­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ .
­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top