الفصل ال19..
.. بسم الله الرحمن الرحيم.. لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم..
“رحمَ الله رجلاً تحمل تقلبات أمرأته النفسية ، فصبرَ و هوّن و قَدر”..
“عبد الجبار”..
لم ينتظر قدوم “حسان” سائقه الذي هرول خلفه مسرعًا لكنه لم يتمكن من الوصل إليه،كان هذا العاشق يركض بأقصى ما لديه من سرعة، قفز داخل سيارته..
انفجر هدير محرك السيارة عاكسًا غضبه عليها، ليطير الغبار من الخلف بقوة لحظة إنطلاقها، كان هاتفه مازال على أذنه، يستمع لصرخات زوجته و بكاءها الذي يقطع نياط القلوب..
“مَراتي مالها يا أمه!!!.. أني مهملها زينه.. عملتوا فيها اييييييه!!!”..
صاح بها بلهجة لا تخفي غضبه المشحون أبدًا..
“أني مليش صالح والله يا ولدي.. مَراتك الخبيثة خضرا هي السبب..سمعتها و هي بتقولها إنك خابر مكان أهل أمها لأجل ما تطفشها.. البنته سمعت منِها حديتها العفش من أهنه و عديك على حُصل”..
كان يستمع لحديثها الذي بمثابة سكب الزيت على النيران، أصبح وجهه كتلة حمراء من شدة غضبه، عروقه برزت بخطورة، يصطك على أسنانه بعنف كاد أن يهشمهم حتى وصل صوتها لسمع” بخيتة ” التي تبتسم بفرحة بعدما إنتهزت الفرصة بإمساك غلطة على” خضرا”..
صرخات زوجته المستمرة كانت كالسهام السامة التي تصيبه في مقتل دون رحمة، يقود سيارته كالمجنون،حتي أنه سار بالطريق المخالف، كأنه داخل سباق مميت، لا يأبى لأي شيء الآن سوي أن يصل إليها..
.
.
……………….. سبحان الله العظيم…..
“سلسبيل”..
لقد أصبحت حقًا بحالة يرثي لها، تصرخ بكل الوجع المكتوم بقلبها، غاب عقلها عنها، و لم يتبقى لها غير الألم الذي ينهش قلبها بلا توقف..
كانت “خضرا” تبكي بنحيب، و جسدها يرتجف بوضوح من شدة فزعها و هي تري حالتها تزداد سوء، لترمقها “سلسبيل” نظرة يملؤها الخذلان مردفة بصراخ مقهور..
“أنا عارفة إنك قولتيلي كده عشان مبقتيش عايزاني أفضل هنا.. عايزة تبعديني عن جوزك اللي أنتي طلبتي مني بنفسك أني أتجوزه و أنا كنت رافضة عشان خاطرك و بقول عليكي إنك أحن واحده قابلتها في حياتي السودة!!!..
.
.
دلوقتي عايزاني أغور في داهية بأي طريقة المهم تخلصي مني يا أبلة خضرا مش كده”..
سقطت على ركبتيها أرضًا بعدما شعرت بتهاوي جسدها، و تابعت بغصة مريرة..
.
.
” أنا معرفش أهل أمي دول هيفتحولي بيتهم، ويقبلوا يعيشوا واحده معاهم رجعالهم بعد السنين دي كلها و عايزه تفضل عندهم بعد ما تطلب الطلاق من جوزها، و أبقى مطلقة و كمان مريضة!!!”..
أطبقت عينيها ببطء لتنهمر عبراتها على وجنتيها بغزارة اختلطت بحبات العرق المتناثرة على وجهها الشاحب، رغم برودة جسدها الشديدة،و أكملت بحسرة تملئ صوتها المبحوح..
.
.
” كنت بصبر نفسي وبقول لو اتخلوا عني تاني فربنا عوضني بيكم يا أبله خضرا.. لكن دلوقتي أنتي مش عايزاني هنا، و أنا برغم لهفتي على أهل أمي إلا أني خايفة و زعلانه منهم و عمري ما هسامحهم على موت أمي و بهدلتي كل السنين دي”..
“أهدي يا خيتي.. حقك على راسي.. بس كفايكِ يا حبيبتي و حياة اللي خلقك.. بكفايكِ بكي”..
.
.
نطقت بها” خضرا ” و هي تقترب منها بحذر فاتحة ذراعيه لها و تابعت بنبرة متوسلة..
” تعالي في حضني يا بتي”..
لم تستمع” سلسبيل “لكلمة مما قالته، كانت تطلع تجاه السكين الموضوع فوق طبق الفاكهة بنظرات بائسة، غمرها شعور اليأس و تمكن منها، و سيطرت فكرة الانتحار على عقلها للمرة الثالثة بعد محاولتين قبل سابق فاشلتين،
ابتسمت ابتسامة مخيفة و قد هُيئ لها أنها لربما تنجح محاولتها هذه المرة و تتخلص من عذبها هذا إلى الأبد..
وجهت “خضرا” نظرها تجاه ما تنظر له، لتجحظ عينيها على أخرها، و تتراجع للخلف بعيدًا عنها بهلع و قد ظنت أنها تفكر بقتلها و التخلص منها..
“اعقلي يا سلسبيل اللي بتفكري فيه ده غلط واعر قوي يوصلك لحبل المشنقة”..
غمغمت بها و هي تبتعد عنها بالقدر الكافي متجهه نحو باب الغرفة المفتوح، آخذة وضع الإستعداد للركض إذا فعلت ما تظنه..
اعتلت ملامحها المرتعدة الدهشة حين صدح صوت ضحكة “سلسبيل” عالية، تضحك بقوة بينما عبراتها تسيل كالمطر على وجنتيها، و بصعوبة قالت من بين ضحكتها المختلطة بشهقاتها..
“أنتي فكراني عايزه أقتلك أنتي!!!”..
نطقت بها و هي تتحامل على نفسها، و اعتدلت واقفه و ركضت نحو السكين بخطي متعثرة، أمسكته و وجهته في الحال نحو موضع قلبها النازف بسبب جراحها الغائرة..
تنهدت براحة ،و من ثم أغلقت عينيها، و أخذت نفس و ضغطت بكل قوتها على السكين الحاد،
هنا صدح صوت صرخات “خضرا” مرددة..
“يا مري.. يا حومتي.. يا مراري عليك يا راچلي”..
صرخاتها صمت أذن “سلسبيل” التي تعجبت من عدم شعورها بأي ألم، لتفتح عينيها بصدمة حين إخترق أذنها صوت زوجها الصارم قائلاً بأمر..
“اخرسي يا حرمة.. كفايكِ عويل عاد، و غوري من أهنه دلوجيت”..
نفذت” خضرا” أوامره دون تردد و فرت مسرعة نحو الخارج، فنظرته لها و عينيه التي يتطاير منها الشرر دبت الزعر بأوصالها..
كانت “سلسبيل” عينيها الممتلئة بالدموع معلقة به كالغريق الذي وجد أخيرًا منقذه، إستدار هو لها بلهفة، و تقابلت أعينهما بنظرة ملتاعة، و بهمس مرتعش قالت..
“أنا تعبت من البهدلة دي عبد الجبار.. والله تعبت مبقتش قادرة استحمل أكتر من كده “..
“ما عاش و لا كان اللي يمس شعره من شعرك يا بنت جلبي”..
قالها “عبدالجبار” وهو يرنو منها، و كفه القابض على نصل السكين يبعده عنها بحرص حتى لا يمسها و لو بخدش صغير..
أنتبهت “سلسبيل ” للتو على الدماء التي تسيل من يده أثر جرح نافذ براحة يده، فشهقت بقوة، و هي تمسك يده بين كفيها الصغيرتان مردفة بأنفاس منقطعة من شدة خوفها عليه..
” إيدك.. إيدك اتعورت بسببي يا عبد الجبار”..
قالتها و هي تدور بعينيها عن شيء توقف به نزيف الدماء، فأسرعت برفع طرف منامتها، و وضعتها على جرحه، و قد بدأت تنتفضت بشكل ملحوظ، و قدميها لم تعد تحملها، فألقت بثقل جسدها عليه،
استقبلها هو بترحاب شديد محاوطها بذراعيه الأخر من خصرها حتى أصبحت قدميها بعيدة عن الأرض بمسافة ليست بقليلة بسبب فرق الطول بينهما ،
مقربها من صدره بعناق محموم دافنًا وجهه بعنقها أخذً نفس عميق يملئ رئتيه بأكبر قدر كافي من عبقها مدمدمًا..
“عبد الچبار كله فداكي يا حبة الجلب”..
بستحياء تمسكت به بإحدى ذراعيها بكل قوتها، و يدها الأخرى مازالت ضاغطة على جرح يده، و تركت لدموعها العنان تبكي و تأن على صدره تشكي له بدموعها وجعها و ألمها،
و هو يزيد من ضمها له يحتوي جسدها الصغير بجسده الضخم حتى اختفت بين ضلوعه، يهمس لها بكلماته الحانية التي تثلج قلبها و تبث الطمأنينة بأعماقها..
………………..لا إله إلا الله وحده لا شريك له…..
“جابر”..
يدور حول نفسه كالأسد الحبيس، يجذب خصلات شعره الناعمة بعصبية مفرطة، و يتحدث بغضب عارم قائلاً..
“عيله مكملتش العشرين سنة تتجبر تتجوز مرتين بالغصب!!!”..
“يا ابني أهدي و فهمني اللى حصل”..
نطق بها “فؤاد”، و ابتلع رمقه بتوتر مكملاً..
“و عرفت منين بس أنها اتجوزت غصب.. مش يمكن برضاها يا جابر”..
لكم “جابر” الحائط بقبضة يده، و تابع بغيظ..
“أبوها إبن ال*** هو اللى قالي بكل بجاحة معنديش حريم ليهم رأي يا جدي”..
“طيب فهمني انت ناوي تعمل أيه دلوقتي بعد ما عرفت أنها على ذمة راجل”..
“مش هسيبها”.. هكذا أجابة دون تفكير، حاسم قراره ولن يترجع فيه،لمعت عينيه ببريق مخيف مكملاً..
“هوصلها.. و ساعتها هقرا عينيها و أعرف هي عايزة تكمل مع جوزها ده و لا لاء، و لو حسيت للحظة أنها مجبورة على العيشة معاه هخلصها منه بأي طريقة”..
صمت لبرهةً و تابع بجمله أسقطت قلب جده حين قال بوعيد..
“حتى لو وصلت للقتل”..
…………………….سبحان الله وبحمده……
مر أكثر من أسبوع على ما حدث، عبرت خلاله”خضرا ” لزوجها عن ندمها فيما فعلته،
و هو سيطر على أعصابه معاها عندما رأي مدي خوفها منه الذي جعلها تفقد الوعي أكثر من مرة أمام “بخيتة” التي ترمقها بنظرات حاقدة بعدما فشلت فرصتها في التوقيع بينهما ،
بينما “سلسبيل” استقرت حالتها بعدما أطمئنت على يد زوجها، لمرتها الأولى لم تستطيع إخفاء خوفها عليه و هذا جعل قلبه يرفرف بين ضلوعه فرحًا، و استدعى الطبيب المعالج لها ليقوم بالكشف عليها حتى يطمئن هو الأخر عليها،
و حينما اطمئن على زوجته تعامل مع الموقف بتراوي و تعقل، و احتوي جميع الأطراف، و قد ظن أن غيرة أم ابنتيه ستهدأ بعد تقديره لها، و تغاضيه عن أفعالها،
لكن العكس كان هو الصحيح، فكلما أراد أن يقضي ليلة برفقة “سلسبيل” يجد الصغيرتان نائمتان بجوارها على الفراش بأمر من “خضرا”، فيحملهما على ذراعيه، و يسير بهما نحو غرفتهما، و حين يعود يجد الباب قد أغلق من الداخل بالمفتاح..
“افتحي يا سلسبيل!!”..
قالها بنبرة محذرة تدل على نفاذ صبره،
“أنت عارف إني مش هفتح يا عبد الجبار “..
قالتها “سلسبيل” بصوتها الرقيق الذي يذيب قلبه، فستند بجبهته على الباب مغمغمًا بصوته الأجش الذي يزلزل كيانها كله دفعة واحدة..
“أفتحي يا بت جلبي بدل ما أهد الجدار كله مش الباب بس”..
استندت هي الأخرى بجبهتها على الباب من الداخل، و همست بصوت خفيض وصل لقلبه قبل سمعه قائلة.. “هخاف منك لو عملت كده، و انا مش عايزه أخاف منك”..
عض شفتيه بقوة حتى أدمها، و تحدث من بين أسنانه بغيظ شديد قائلاً..
” لو يدي وقعت على اللي بيعطيكي مفتاح الباب كل ما أخفيه منِك مهخلهوش ينفع حاله تاني واصل”..
ضحكت “سلسبيل” بنعومة مدمدمة بخجل..
“اممم.. طيب تصبح على خير”..
ابتسم بسعادة لسماع ضحكتها، و رد عليها بلهفة قائلاً..
“وأنتي من أهلي”..
قالها و سار من أمام غرفتها على مضض، دلف لداخل غرفة” خضرا ” التي تصطنع النوم غالقًا الباب خلفه بعنف..
تطلع لها بصمت قليلاً قبل أن يقترب منها ويجلس بجوارها على الفراش، و يتحدث بهدوء عكس مظهره الغاضب قائلاً..
“خابر إنك صاحية يا خضرا”..
بعدت الغطاء المختبئة أسفله عن وجهها ببطء، و نظرت له ببراءة مرددة..
“أيه اللي رچعك تاني يا خوي”..
نظر لها بحاجب مرفوع فكان شكله بغاية اللطافة و الوسامة أيضًا..
“و أخرتها وياكِ يا بت الناس .. من مِتي و أنتي أكده يا خضرا.. بتعطي المفتاح لسلسبيل من ورايا لأجل ما تقفل على نفسها”..
صمت للحظة و رمقها بنظرة عاتبة مكملاً..
“أني مقصر معاكِ في حاچة يا خضرا !!”..
حركت رأسها بالنفي، ليكمل هو بحدة..
“أنتي أكده ظالمه، و إني لحد دلوجيت مطول بالي عليكِ”..
” غصب عني يا عبد الچبار”..
قالتها بصوت تحشرج بالبكاء و هي تعتدل جالسة، و نظرت له بأعين ترقرقت بها العبرات..
“غيرانه عليك و جلبي مولع نار يا خوي.. مقدراش أشوفك وياها.. عقلي بيچن مني”..
ضربت على صدرها بحركة استعطافية، و تابعت بتوسل..
” طلقها و وديها لأهل أمها أحب على يدك… “..
“أطلقها!!!”.. صرخ مقاطعًا بعنف شديد، ليطبق الصمت من طرفها على الفور، بينما يستطرد بغلظةٍ..
” أنتي اتخبلتي في عقلك إياك.. تتحايلِ عليا ياما
اتچوزها، و دلوجيت عايزاني أطلقها!!!..
خضرا اعقلي و فكري في حديتك زين قبل ما تنطقيه، و أفهمي إن سلسبيل مَراتي كيفك بالتمام و هتفضل مَراتي، و أهل أمها دول أني هوديها بيدي تزورهم لما تطيب و تبقي زينة، و هترچع في يدي، و لو معوزهاش ترچع على أهنه هچبلها بيت چديد من بابه”..
” لع..لع يا خوي أني هعقل.. بس ترچعها على أهنه”..
أردفت بها بجمود، و نظرات متأججة..
………………………. صلِ على الحبيب…..
مر يومان لم يتوقف خلالهما” جابر” عن محاولة الوصول ل” عبد الجبار ” الذي أصبح بمثابة عدوه اللدود، كل أفعاله هذه تحت مراقبة” حسان” و رجاله..
بعد يوم عمل شاق عاد لمنزله بموعد غير موعده المعتاد لعله يلمح زوجته التي تحبس روحها بغرفتها فور شعورها بوصوله..
فتح باب غرفته و دلف للداخل، هم بغلق الباب خلفه، لكنه توقف حين استمع لصوت باب غرفتها يُفتح، طل برأسه قليلاً يسترق النظر تجاهها.
كانت تسير لأول مرة بمفردها دون مساندة أحد، خطواتها متثاقلة، مرتجفة سيرها كمن يتعلم المشي حديثًا، حاملة على يدها بعض الثياب و منشفة قطنية، تتجه بهم نحو الحمام المقابل لغرفتها فعلى ما يبدو أنها تستعد لأخذ حمامها اليومي..
كان يتابعها بلهفة، و إشتياق فاق الحدود، هي معه أسفل سقف واحد بينه و بينها خطوتين و لم يستطيع ضمها لصدره،
تعثرت أنفاسه اللاهثة و قد غلبه شوقه لها جعله يفقد كل ذرة عقل به، و اندفع نحوها كالقذيفة المتوهجة بالنيران الحارقة،و قعد عقد عزمه على كسر ألواح خجلها منه..
“عبدالجبار أنت بتعمل أيه !!!”..
همست بها بعدما كتمت صرخة مرتعدة حين قبض هو بذراعيه على خصرها خطفها داخل صدره فجأة، و تحرك بها بلمح البصر حتى وجدت نفسها برفقته داخل حوض الاستحمام..
“هششش.. اتوحشتك قوي”..
همس بها بأنفاسه المهتاجة الملتهبة تصفع وجهها
قبل أن يطبق على شفاها بشفتيه..
كانت هناك أعين تراقبهما، و ركضت مسرعة للأسفل لتجد “خضرا” بانتظارها..
“ابوكِ دخل أوضته يا فاطمة”..
حركت الصغيرة رأسها بالنفي، و اجابتها ببراءة..
“لع يا أمه دخل الحمام مع خالة سلسبيل و هو شايلها”..
ضحكت “بخيتة” التي كانت تتجسس عليها كالعادة، ضحكة مستفزة تظهر جميع أسنانها و هي تقول..
“وه أمال عايزاه يشيل أمك العچل البغالي دهي.. يشيل مراته سلسبيل الكتكوته.. الصغيرة.. الصبية”..
جملتها هذه جعلت النيران تلتهم قلب” خضرا ” أكثر و أكثر..
الفصل ال20..
.. بسم الله الرحمن الرحيم.. و لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم..
أخبروني ماذا تفعل امرأة حُرمت من كل شيء في سنوات حياتها التي لم تُكمل العشرون عامًا حين تجد أخيرًا رجل يضمها بين ذراعيه لا يضربها بهما؟!..
تلك ال “سلسبيل” التي لم تري من والدها إلا الذل، و الإهانة، و من بعده وقعت في يد زوجها و والدته و عانت بما يكفي، تحملت عذاب لن يقدر عليه أحد،
و الآن بعدما وجدت سند، شعرت بالأمان معه، حقق حلمها البسيط و حصلت على عناق من زوجها لطالما كان محور الكون بالنسبة لها، تشتهي عناقًا يعالج جروحات قلبها الغائرة،
أغمضت عينيها لأول مرة براحة لم تذق طعمها من قبل، و استسلمت لعناقه الذي يحتويها بحماية و يفصلها عن العالم أجمع،
يعاملها كما لو كانت قطعة من البلور نادرة الوجود يخشى عليها من الخدش..
بصعوبة بالغة توقف عن إلتهام شفتيها بقبلاته الجائعة حين شعر أنه سيفقد التحكم بمشاعره معاها، خشي عليها من نفسه..
تخشبت بين يديه حين شعرت بأنفاسه اللاهثه تلفح بشرتها الناعمة، نظر لعينيها بعمق نظرة يملؤها العشق و الرغبة معًا، و يده تجول على جسدها بجرائة، و أصابعه تعبث بأزرار منامتها واحد تلو الأخر و هم بخلعها عنها إلا إنها شهقت بصوتٍ خفيض مرددة بستحياء..
“عشان خاطري كفايا يا عبد الجبار و أخرج قبل ما أبلة خضرا تطلع و تشوفك هنا معايا”..
“أنتي مَراتي زيك زيها يا سلسبيل و لا ناسية”..
أردف بها و هو يدفعها برفق للخلف، اجلسها على حافة حوض الاستحمام، و أخذ منها ثيابها وضعهم على المشجب المعلق خلف باب الحمام الذي أغلقه عليهما بالمفتاح من الداخل..
ابتلعت ” سلسبيل ” لعابها بصعوبة حين رأته يخلع جلبابه الصعيدي أمام عينيها المتسعتين بصدمة..
“أنت بتعمل أيه!!!”..
“هسبحك بيدي”.. هكذا أجابها بمنتهي الهدوء و هو يغمز لها بعينيه السوداء شديدة الجاذبية قبل أن يتخلص من كنزته أيضًا و بقي بسرواله الداخلي عاري الصدر لتظهر ضخامة عضلاته البارزة أمام عينيها الجاحظة بهيئة خطفت أنفاسها، و جعلت نبضات قلبها تتسارع..
هبت واقفه و سارت نحوه بخطي مرتجفة، و أمسكت جلبابه و كنزته مدت يدها بهما له، و همست بنبرة متوسلة..
“ألبس هدومك تاني من فضلك و أخرج أرجوك عشان اللي بتقوله ده مستحيل يحصل”..
جذبها فجأة من خصرها عليه، ارتطمت
بصدره ذو العضلات السداسية مصدرة آهة متألمة
،مال عليها واضعًا جبهته على جبهتها و همس مداعبًا إيها.. “هحققلك المستحيل حالاً يا مليحة”..
……………. لا إله إلا الله وحده لا شريك له…..
“خضرا”..
تصعد الدرج راكضة بأقصى سرعة لديها، كما لو كانت شياطين الأرض تلحقها، وجهها أصبح كتلة حمراء من شدة غضبها، و غيظها، مندفعة تجاه الحمام المقابل لغرفة “سلسبيل” و قفت أمامه تلهث بأنفاس متقطعه،
و بكل ما تمتلك من قوة بدأت تطرق على الباب بكلتا يديها معًا بعدما حاولت فتحه و وجدته مغلقًا،بل وصل بها الأمر أن تدفع الباب بكتفها و قدميها مرددة بهياج..
“أفتحي يا خسيسة يا قليلة الأصل”..
كتمت “سلسبيل” صرخة حادة و قفزت مكانها داخل حضن زوجها تعلقت بعنقه تختبئ فيه بخوف حين سمعت طرقاتها العنيفة المتتالية على الباب كادت أن تحطمه، و صراختها الحادة كمن فقدت عقلها..
“أفتح الباب يا عبد الچبار”..
انتفضت” سلسبيل ” بذعر بين يديه، و أسرعت برفع يدها المرتعشة بكنزته و ألبسته إياها و من بعدها جلبابه،بينما هو ظل محاوط خصرها بكلتا و ضغط عليه بعنف محبب،
وفتح فمه حتى يتحدث إلا أنها رفعت كف يدها وضعتها على فمه، و همست له بشفتيها دون إصدار صوتٍ..
“لو غالية عندك أسكت يا عبد الجبار و أوعى تزعل أبلة خضرا.. هي بتعمل كده من غيرتها عليك و معاها كل الحق”..
لثم باطن يدها بقبلة مطولة رغم ملامحه العابسة من تصرفات زوجته الجديدة عليها كليًا،
لتعتلي ملامحه الصدمة و الذهول معًا حين وجد معشوقه الصغيرة تلتصق بجسده أسفل كتفه الأيمن كالعلقة، و جذبت جلبابه فوقها فاختفت داخله تمامًا..
لم يستطيع كبح ضحكاته حين طلت برأسها من ياقته و نظرت له بعينيها الجميلتين رغم الحزن الظاهر بهما، و خوفها الحقيقي البادي علي ملامحها، و همست بشقاوة اذهلته و أعجبته بأنٍ واحد..
“أنا هستخبي منها”..
قالتها و أختفت داخل جلبابه الواسعة للغاية من حسن حظها..
أختفت ابتسامته و رسم مكانها الغضب، و مد يده فتح باب الحمام على مصرعه فجأة،
و إذا ب “خضرا” تدلف للداخل مندفعة كقذيفة اللهب المشتعلة فقدت السيطرة على توازنها، و التحكم بقدمها التي كانت تركض دون إرادة منها حتى اصتدمت بالجدار
و سقطت على حين غرة داخل حوض الاستحمام المملوء بالمياه و سائل الاستحمام..
“يا مُري يا بوي”..
كان “عبد الجبار” يقف بطوله المهيب يتابعها ببرود مصطنع عكس نيران قلبه بفضل زوجته التي أجبرها ذعرها على لف كلتا قدميها حول إحدي قدميه كما لو كانت تتسلق شجرة،
و سارت بيدها على بطنه و ظهره ببطء و حرص شديد حاوطت خصره بحميمية دون قصد منها..
“هي فين”.. قالتها “خضرا” بصراخ و هي تدور بعينيها بالارجاء تبحث عنها، حاولت النهوض لكنها فشلت فشل ذريع، فنظرت لزوجها الذي يرمقها بنظرات حارقة و تابعت ..
“سلسبيل فين يا عبد الچبار”..
“في عبي”.. نطق بها ببرود لا يخفى نبرته الحاده، بينما تلك المختبئة بداخله انكمشت على نفسها أكثر دافنه وجهها بجانبه الأيمن..
بالطبع ظنت “خضرا” أنه يمزح بجملته هذه، فهدأت وتيرة غضبها على الفور حين تأكدت أن غريمتها غير موجودة برفقة زوجها، والتقط أنفاسها المسلوبة..
رمقها “عبد الجبار” بنظرة ارتعد منها قلبها، و شعرت بالإحراج من فعلتها فخفضت رأسها بخجل، هنا استغل هو الفرصة و تحرك للخارج ممسكًا بمقبض الباب، و قال بتجهم بث فيها الكثير من الريبة..
“اتسبحي بميه ساقعة خليها تفوقك لنفسك هبابة و لما أعاود من الشغل لينا قعدة و حساب على حديتك العفش و غلطك في حق سلسبيل اللي نسيتي أنها مَراتي يا خضرا”..
أنهى جملته و أغلق الباب عليها، تنفست “سلسبيل” الصعداء و فكت حصرها حوله و كم ضايقه بعدها عنه، ود لو تظل مختبئه داخل ضلوعه هكذا للأبد..
طلت برأسها من ياقته ثانيةً تتأكد من عدم وجود أحد حولهما، ليستغل هو الفرصة و يحاوطها بذراعيه رفعها بضعة انشات و مال عليها بوجهه طابعًا قبلة شغوفة فوق شفتيها أمام أعين “بخيتة” التي تتجسس عليهم كعادتها،
أخذت “سلسبيل” تكافح بضراوة للإفلات منه حتى تركها على مضض فهرولت بخطوات شبه راكضه نحو غرفتها فتحت الباب، و دلف للداخل، ليلقي هو لها قبلة في الهواء قبل أن تغلق الباب بحذر حتى لا يصل صوته ل “خضرا” التي تستشيط غيظًا حين رأت ثيابها معلقة خلف الباب،
إذن زوجها لم يكن يمزح حين قال لها أنها داخل جلبابه..
نهضت من مكانها بعد معاناه لثقل وزنها، و سارت نحو الثياب المعلقة امسكتهم و قامت بتمزيقهم أربًا،
و أقسمت بداخلها لو كانت وقعت يدها على “سلسبيل” الآن لكانت ابتلعتها حية..
“غلطت و غلطي واعر لما وافجت على چوازك منِها.. أنت كنت رافض و إني اللي طلبتهالك بيدي”..
أسودت عينيها بنظرة تحمل الشرر لأول مرة بحياتها، و تابعت بوعيد..
“و طلاقها منِك هيبقي على يدي”..
……………. سبحان الله العظيم……..
“جابر”..
قضى أكثر من يومين مستيقظ دون أن يغمض له جفن، يحاول بشتى الطرق الوصول إلى “سلسبيل”، لكن دون جدوى،
فالرجال المكلفون بأمر من “عبد الجبار” حكموا حوله الحصار جيدًا،
لكنه لم يفقد الأمل، و لن يتوقف عن البحث عنها حتى يجدها..
أرتمي بتعب على فراشه،يستعد لنومٍ مجهد، إلا أنه استمع لصوت جرس الباب، فهرول مسرعًا تجاهه يظن إنهم أصدقاءه أتو بمعلومة له تساعده بالوصول إليها..
فتح الباب بلهفة ليتفاجئ بأخر شخص يود رؤيته بهذا التوقيت..
“جابر!!.. يا حبيبي يا ابني”..
صرخت بها “سعاد” والدته و هي تقطع المسافة بينهما، و تعانقه بقوة، تقبل كتفيه و وجهه، و تعاود ضمه من جديد و هي تقول ببكاء..
“بركة إنك رجعتلي بالسلامة يا غالي.. الحمد لله على سلامتك يا حبيبي.. واحشتني يا قلب أمك”..
احتضنت وجهه الخالي من أي تعبير بين كفيها و همست مستفسرة..
“رجعت أمتي يا ضنايا”..
“من عشر أيام”.. غمغم بها ببرود يغلفه الجمود، و هو يبعد يدها عن وجهه ببطء، و عينيه ترمقها بنظرة عاتبه توترت بسببها..
نظرت له بملامح منذهلة مرددة..
” من 10 أيام و متجليش ولا تسأل عني يا جابر!!”..
أبتسم لها إبتسامة مصطنعة مدمدمًا..
“اممم.. أجيلك!!.. أجيلك فين!!.. بيت جوزك يا أم جابر!!!”..
” أنتي هنا يا سعاد”..
نطق بها” فؤاد” والدها الذي خرج للتو من غرفته، أنقذها من سؤال إبنها التي تشعرها بالذنب، و يذكرها بالماضي الأليم..
” أيوه يابا أنا هنا”..
أردفت بها و هي تسير نحوه و أخذت بيده نحو أقرب مقعد..
“أيه الغيبة دي كلها يا سعاد.. أول مرة تغيبي عني بالاسبوعين يا بنتي.. هونت عليكِ”..
مالت عليه قبلت رأسه و يده و بتنهيدة حزينة قالت..
“حقك عليا يابا.. أنت عارف ميمنعنيش عنك إلا الشديد القوي”..
” و جوزك بقي هو الشديد القوي اللي منعك عن أبوكي “..صاح بها بلهجة غاضبة و هو يعقد ذراعيه أمام صدره و يتطلع لها بترقب..
” لا مش جوزي يا إبن بطني”..
نطقت بها بحدة، و صمتت لدقيقة كاملة، و من ثم تابعت بصوتٍ تحشرج بالبكاء..
“صفا بنتي جوازتها باظت قبل الفرح بكام يوم بسبب القايمة.. و البت يا حبة عيني نفسيتها كانت تعبانة أوي و حابسة نفسها في أوضتها مبتخرجش منها خالص، و مكنتش قادرة اسيبها في حالتها دي لتعمل في نفسها حاجة الشر برة وبعيد عننا و عن الجميع يارب”..
عقد “جابر” حاجيبه و هو يقول بتعجب..
” بنتك إزاي يعني مش فاهم !!”..
نفخت بضيق و إجابته بنفاذ صبر..
” واد أنت ما تعدل طريقة كلامك الناشفة دي معايا، و لا هي الغربة و عيشة الأجانب علمتك قلة الأدب و نستك إني أمك و لا أيه!!”..
صمتت فجأة، و اعتلت ملامحها إبتسامة واسعة، و تابعت ببلاهه..
“صفا تبقي بنت جوزي اللي أنا مربيها على أيدي.. مش بنتي.. يعني تجوزلك يا واد يا جابر”..
” جابر راجع عشان يدور على سلسبيل بنت أختك يا سعاد”..
نطق بها” فؤاد ” حين وصل لسمعه صوت أنفاس حفيده المتلاحقة التي تدل أن غضبه وصل لذروته، و من الممكن أن يتحدث مع والدته بطريقة غير لائقة..
تهللت أسارير” سعاد ” و بلهفة قالت..
“عرفت طريقها و لا عرفت عنها أي حاجة يا جابر؟ “..
” أيوه عرفت طريقها و هتبقي معايا هنا في أقرب وقت ممكن “.. قالها “جابر” بثقة و إصرار..
أطلق “فؤاد” زفرة نزقة من صدره و هو يقول..
“تبقي معاك إزاي بس يا ابني.. مش يمكن تكون عايشه مع جوزها برضاها و مش عايزة تطلق منه”..
اندهشت “سعاد” حين تفهمت ما يدور بخاطر ابنها و تحدثت بهدوء ما يسبق العاصفة قائلة..
“هو أنت لسه بتفكر فيها بعد السنين دي كلها!!.. لدرجة إنك عايز تطلقها من جوزها يا جابر!!”..
……………………….. صلِ على الحبيب……..
” خضرا “..
فور خروجها من الحمام دلفت داخل غرفتها، و ظلت داخلها لم تخرج منها بأمر من زوجها الذي غادر المنزل و ذهب لعمله مرة أخرى،
أخذت تبحث عن فكرة تستطيع أبعاد زوجها عن غريمتها بأي طريقة إلى أن الهمها عقلها بالإتصال على الطبيب المعالج ل “سلسبيل” لكنهم أخبروها أنه داخل غرفة العمليات، فطلبت من مساعدته أن تبلغه باتصالها، و تجعله يهاتفها فور إنهاء عمله..
تجلس على أحر من الجمر تنتظر إتصال الطبيب بها، حتى أخيرًا صدح صوت رنين هاتفها، ضغطت زر الفتح بلهفة ليأتيها صوت الطبيب مغمغمًا..
“خير يا مدام خضرا بلغوني إن حضرتك عايزاني ضروري”..
إجابته بلهجة حادة قائلة..
“أيوه.. أني هچبلك سلسبيل المستشفى دلوجيت و لو عبد الچبار سألك قوله أنت اللي طلبتها تيچي لاچل ما تعملها شوية فحوصات ضرورية، و تخليها تبات حداكم ليلتين تلاته، و إني هعطيك المبلغ اللي تطلبه”..
“أمرك يا خضرا هانم.. هاتيها و تعالى أنا في إنتظارك”..
أغلقت الهاتف” خضرا ” الهاتف و هرولت مسرعة ترتدي عباءتها السوداء و حجابها، و غادرت غرفتها على عجل متوجهه لغرفة”سلسبيل” وقفت أمام الباب المغلق، و رسمت ابتسامتها الحانية قبل أن تطرق عليه و تدلف للداخل دون إنتظار إذن..
ارتعد قلب” سلسبيل ” حين رأت تعابير وجهها المصطنعة لأول مرة، و نظرتها الحاقدة عليها فشلت في إخفاءها، لكنها تغاضت عن كل ما تراه و تحدثت بقلق ملحوظ..
“أنتي خارجة و لا أيه يا أبلة خضرا!!”..
لم ترد عليها، و سارت تجاه خزينة ثيابها أخرجت لها عباءه و حجاب ألقتهما بجوارها على الفراش مدمدمة..
“اممم.. عبد الچبار قالي اچهزك و اوديكي المستشفى.. معاد متابعتك مع الدكتور انهارده.. ألبسي يله قوام”..
حركت “سلسبيل” رأسها لها بالايجاب، و تناولت عباءتها و حجابها ارتدتهما بصمت..
تابعتها “خضرا” بهدوء ظاهر على وجهها عكس ضجيج قلبها و هلعه، فهي ستخطو لخارج المنزل دون إذن من زوجها..
………………يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث……
” عبد الجبار”..
كان يجلس على مكتبه بأريحية يتابع المكالمة الهاتفية الدائرة بين طبيب “سلسبيل” و زوجته، أنتظر حتى أغلق الطبيب الهاتف و تحدث قائلاً..
“كتر خيرك يا دكتور.. تقدر تتفضل أنت دلوجيت، و فوت علي الحسابات في طريقك”..
أردف بها و هو ينتصب واقفًا و قام بجمع أغراضة، و تابع حديثه مكملاً بأمر..
“حسان خد الدكتور و اسبقني على بيت الست سلسبيل هانم “..
أعتلت ملامحه ابتسامة عاشقة و تابع بتنهيدة مشتاقة..
“على ما أچيبها و أچي وراكم”..
انتهي الفصل..
هستني رأيكم يا حبايبي..
واستغفرو لعلها ساعة استجابة..
رواية جبر السلسبيل. الجزء ٢١ و ٢٢
.
.
.
.