الفصل السابع..
جبر السلسبيل..
✍️نسمة مالك✍️..
في تمام الساعة السابعة صدح صوت رنين الهاتف أزعج “عبد الجبار” الذي لم يُنعم بالنوم و لو للحظات قليلة، طيلة الليل يجلس على فراشة بجوار زوجته التي تغص بنومٍ عميق، شارد الذهن لم يتوقف عقله عن التفكير بتلك ال “سلسبيل” ..
هو رجل تزوج زواج تقليدي منذ ما يقرب الأثني عشر عام، كان وقتها شاب صغير ببداية العشرينات، منهمك بالعمل مع والده، و لا يشغله شيئًا أخر سواه، حتي تزوج “خضرا” التي كانت فتاة بعمر الزهور، صاحبة الخامسة عشر عام، لكنها كانت و مازالت نعمة الزوجة الصالحة رغم صغر سنها،
يعترف لها و لنفسه أن قلبه يكن لها كل حُب، تقدير، إحترام، و لكن للأسف الشديد هو مثل باقي جنسه يمكن أن يتسع قلبه لأكثر من أثني في وقتٍ واحد، أما المرأه لا و لن يمتلك قلبها إلا رجل وحيد، يكن هو الحياة بالنسبة لها..
ولهذا يمكن أن نقول صُرح للرجال بتعدد الزوجات، و بعدما استطاعت تلك الصغيرة بنظرتها الحزينة التسلل لداخله حتي لمست أوتار شديدة الحساسية بأعماق قلبه،
كل نظرة ترمقه بها كان يرها جيدًا برغم عدم اللامبالاة التي تحتل قمساته الصارمة،فهو بارع في إخفاء مشاعره إلى حدٍ كبير..
شروده بها و بأدق تفاصيلها جعله غير منتبه لتلك الضوضاء التي فعلتها “بخيتة” منذ بكرة الصباح، فاق من شروده على صوت هاتفه الذي صدح صوته مرارًا و تكرارًا..
تأفف بضيق عندما لمح اسم المتصل، و ضغط زر الفتح مغمغمًا..
“رايد أيه يا قناوي على الصبح!!! “..
ضحك الأخر بسماجة و هو يجيبه قائلاً بفرحة ملئت صوته..
“كل خير يا كبير.. أني بستأذنك اچي بكرة أخد بتي و أعاود على الصعيد”..
.
.
ارتجف هذا الخفاق بين ضلوعه فور سماعه جملته، و قد توقع السبب وراء فرحته هذه، لكنه تحدث بهدوء رغم الضجيج الذي بداخله..
” في حاچة حُصلت و لا أيه!”..
“أيوه.. سلسبيل متقدم ليها أبو شاهين بيه، و أني وافجت، و هاچي أخدها لأجل ما تچهز لكتب كتابها”..
هكذا أجابه بمنتهي البساطة غير عابئ لذلك الغاضب الذي أوشك على الانفجار فيه و سبه بأفظع الألفاظ..
كور قبضة يده بقوة، و كم تمني لو يكون أمامه الآن لكان لقنه درسًا قاسيًا لن ينساه بحياته، و لكن عوضًا عن ذلك رسم ابتسامة زائفة على محياه الغاضبة مدمدمًا..
” اممم.. أبو شاهين اللي أكبر منِك رايد يتچوز
بتك، و أنت اللي وافقت عليه!!!! .. وماله يا قناوي.. أني مستنيك بكرة إن شاء المولى”..
قالها و أغلق الهاتف بوجهه دون انتظار رد منه، اصطك على أسنانه بغيظ محدثًا نفسه بصوت خفيض..
“شكل موتك هيكون على يدي يا قناوي يا وش الخراب أنت”..
“أني سمعت صُح.. أبو شاهين تاچر السلاح اللي في بلدنا طلب يد سلسبيل يا عبد الچبار!!!! “..
أردفت بها” خضرا” بذهول و هي ترمش بأهدابها، و تعتدل جالسة بجواره..
“أيوه يا خضرا.. سمعتي صُح”.. قالها ببرود يُحسد عليه، و غادر الفراش متجه نحو الخزانة جلب منها ثياب له، و تابع بهدوء أدهش زوجته..
” أكده مبقاش ليها قعاد اهنه”..
.
.
شهقت ” خضرا ” بخفوت و ضربت على صدرها بكف يدها متمتمة.. “هتكرشها من بيتك بعد ما قولت أنها بقت في حمايتك ؟! “..
” چري أيه يا خضرا.. لساكِ غريبة عن رچلك و لا أيه.. من مِتي و عبد الچبار المنياوي يدير ظهره لمخلوق طلب حمايته”.. هدر بها بصوت هادئ لكنه لم يخفي غضبه المشحون..
.
.
هرولت “خضرا” تجاهه حتي اقتربت منه ووقفت أمامه مباشرةً، و مالت على صدره قبلته بحب متمتمة بنبرة راجية..
” حقك عليا يا خوي.. مقصدش أظن فيك ظن عفش والله.. أني قصدي استفهم منِك”..
أخذ” عبد الجبار ” نفس عميق زفره على مهلٍ و هو يقول..
“هفهمك قصدي يا أم فاطمة..مش قولتلك أني وصلت لعنوان أهل أمها؟ “..
.
.
“صُح يا خوي قولتلي.. بس أني مچبتش سيرة لسلسبيل واصل لتظن أني بقولها أكده لأجل ما تمشي من عنِدنا.. قولت اسيبها لما تسألني لحالها مرة تانية”..
أردفت بها بطيبة تشع من عينيها، تطلع “عبد الجبار” لها مدهوشًا، امرأة غيرها كانت لم تسمح لمكوث غريمتها ليلة واحدة بمنزلها، لكن حبها له و الذي يفوق حبه لأضعاف جعلها تفضله هو على نفسها..
لتبهره هي بطيبتها أكثر حين تابعت بصوت تحشرج بالبكاء قائلة..
” البنتة وچعة جلبي عليها قوي.. لساتها عود أخضر على الغُلب ده كله”..
صمتت لبرهةٍ و أكملت بنبرة مرتجفة..
“أني خابرة زين أن ربنا مريدش ليِ الخلفة مرة تانية.. و بقولك بنفس راضية اعقد على سلسبيل يا عبد الچبار و ربنا يرزقك منِها بالولد اللي بيتمناه جلبك يا خوي”..
.
.
حاوطها” عبد الجبار ” بذراعه مقربه له، و مال على جبهتها لثمها بقبلة مطوله و هو يقول..
” قولتها كلمة و مش هعيدها يا خضرا.. أني مش هتچوز عليكي.. أنتي متستهليش مني أكده أبدًا يا غالية “..
” خضرا” بابتسامة دافئة رغم عينيها التي ترقرقت بها العبرات.. ” يچبر خاطرك ربنا، و لا يحرمنيش منِك يا سيد الرچاله كلياتهم”..
“هتسبح أني على ما تچهزي الفطور”.. قالها، و هو يدلف لداخل حمام الغرفة، و تابع قبل أن يغلق الباب..
” خبريها أن أبوها چاي بكرة من البلد.. لو سألتك عن سبب مچيته قوليلها مخبراش.. أني هخبرها و لو لقيتها رافضة الروحة معاه وقتها هعطيها حقها في ورث أخوي و هوصلها لأهل أمها تفضل عنديهم “..
” خضرا” بأسف.. ” ولو أنها هتقطع بيا.. بس أكده أفضل ليها من أبوها القاسي اللي رايد يچوزها لتاجر سلاح أكبر من چدها”..
أغلق” عبد الجبار ” الباب، و بدأ يدور حول نفسه كالأسد الحبيس، يشعر بنيران تلتهم قلبه و روحه كلما تخيل أنها من الممكن أن تكون زوجه لرجل غيره،هذا هو العشق تخشى عليه عندما تشعر أنه سيذهب بعدما عثرت عليه أخيرًا .. تتمني أن يظل نوره مشرق وأنت برضا تغرب …
فما العشق إلا سرًا متى اعترفنا به يُعذب…
خلع ملابسه بعنف كاد أن يمزقها، و همس بأسمها بصوته الحارق ذات الحنين المتأوه..
“سلسبيل!!”..
……………….صلِ على الحبيب ?………
“بخيتة” تلك القاسية، عديمة الرحمة و الإنسانية تجلس على مقعد بمنتصف المنزل مستندة بكلتا يديها على عصاها الخشبية تتابع “سلسبيل” التي تلتقط أنفاسها المتهدجة بصعوبة بالغة أثر المجهود الشاق التي تقوم به،
تناثرت حبيبات العرق على وجهها الشاحب، و قد أغرقت المياه ثيابها بأكملها، بدأ التعب يتمكن من جسدها الهزيل، حتي أصبحت تترنجح بوضوح رغم أنها لم تكن واقفة بل جاثية أرضًا فوق السجاد المبتل..
“يا مُري عليكي يا خيتي”.. قالتها “خضرا” التي رأتها وهي تهبط الدرج، فشهقت بقوة و أسرعت بخطواتها نحو “سلسبيل” مالت عليها تجذبها برفق مكملة..
“ليه يابتي تتعبي حالك أكده”…
قطعتها “بخيتة” بخفوت قاسٍ..
“همليها.. ملكيش صالح بيها يا خضرا”..
رمقة “سلسبيل” نظرة محذرة و تابعت بأمر..
“خفي يدك شوي و كفياكِ مرقعة.. لساتك هتچهزي الوكل”..
قالتها “بخيتة” بحدة و هي تضربها بالعصا بعنف على أخر ظهرها، ضربة قوية تحملتها” سلسبيل ” كعادتها، و لم تبدأي رد فعل، بل ظلت جاثية تتابع ما تفعله بصمت و هدوء مريب..
“أيه اللي بيُحصل ده!!!”..
كان هذا صوت “عبد الجبار ” الذي صُدم من هول المنظر، و قطع المسافة بينه و بينهم في عدة خطوات حتي توقف بهيبته، و طوله الفارهه أمام تلك الجاثية التي رفعت رأسها و نظرت له بلهفة فشلت في اخفاءها تستجديه كعادتها أن يجبر تلك الكسور التي هشمت ضلوعها..
” أرمي المحروق اللي في يدك ده و جومي يا سلسبيل”..
قالها بنبرة صارمة لا تحمل الجدال،و من ثم نظر ل”بخيتة” و تابع بصوت أجش..
“من مِتي و إحنا بنبهدل بنات الناس عنِدنا أكده يا أمه!!!”..
ضحكت “بخيتة” ضحكة ساخرة و تحدثت بجحود قائلة..
“بنات ناس!!!!”..
رفعت عكازها، و همت ضربها به للمرة التي لا تعلم عددها، لكن يد “عبد الجبار” كانت أسرع، و بعده عن “سلسبيل” التي تستمع لحديثها بملامح جامدة..
” و هي دي بت ناس.. اللي أبوها چابها لحدِنا متربطة يد في رچل زي الكلب الچرب تبقي بت ناس!!!!”..
كلماتها كانت مؤلمة اكثر من ضربات العصا، نحرت قلبها كالخنجر المسموم على حين غرة، فلم تعد تتحمل أكثر من هذا، صرخت بألم حاد و هي تلقي الفرشاة من يدها بغضب، و تطلعت لها و قد فاض بها الكيل، فتوهجت الجمرتين بعينيها و دون وعي منها انفجرت بنوبة صراخ مقهور مرددة..
” بتعملي فيا كده ليييه.. عملت فيكي اييييه.. أنتي اييييييييييييه مبتخفيش ربنا..حرام عليكي… حرررررررررام عليكي.. يارب أموت و أرتاح منك.. ربنا ياخدني و يريحني منك”..
صرخاتها كانت مفزعه ، تقطع نياط القلوب، فأسرعت “خضرا” بضمها لصدرها لكنها لم تستطيع السيطرة على حركاتها الهستيرية،
خاصةً حين بدأت رتجف بشكل ظاهر، تحول إلى انتفاضات أشبه بالذعر سريعًا ما أرتمت أرضًا و أصبحت تتشنج و تنهش جسدها بأظافرها تاركة عليه جروحات ليست بهينة..
هنا هرول عليها”عبد الجبار”، و بلمح البصر كان حملها بمنتهي الخفة من خصرها أجلسها ثانيةً و جثي خلفها على ركبتيه، وحاصرها بين ذراعيه، ظهرها مقابل صدره، يد تمسك يديها بأحكام، و يده الأخرى ضاغطة على قدميها ببعض القوة حتي شل حركاتها تمامًا، ارتخي جسدها بين يديه، و سقطت رأسها علي صدره تبكي و تأن بضعف أدمي قلبه عليها جعله دون أرادته يزيد من ضمها و لصقها به بشدة حتي أختفت بين ضلوعه، و ها قد دق ناقوس الخطر..
انتهي الفصل..
هستني رأيكم يا حبايبي..
ولو حابين الحلقة اكبر من كده يبقي هنزل يوم ويوم مش كل يوم…
واستغفرو لعلها ساعة استجابة..
رواية جبر السلسبيل. الجزءالثامن
.
.
.
.