الفصل الثالث..
جبر السلسبيل..
✍️نسمة مالك✍️..
انقضي النهار سريعًا، و أسدل الليل ستائرة السوداء ، كانت “سلسبيل” عادت مجددًا لغرفتها التي تبغضها، و تشعر بالاختناق فور دخولها..
عادت لها بعدما توسلت ل “عبد الجبار” حتي لا تعود لوالدها، و الآن هي في إنتظار قراره الذي تأخر لساعات طويلة و هي حبيسة دون طعام أو شراب ، أنتهزت “بخيتة” انشغال إبنها بالحديث مع الغفر، و دفعتها بعنف و أغلقت عليها الباب بالمفتاح مثل العادة،
تركتها وحيدة تدور حول نفسها كالمهرة الحبيسة، كم تتمني لو تُتيح لها الفرصة و تستطيع الهروب من هذا المنزل بل من البلد بأكملها، حينها لن تعود مطلقًا مهما حدث..
“يارب ساعدني أنا مليش غيرك”.. ترددها بقلب ملتاع بلا توقف، كان التعب ظاهر على ملامحها المجهدة،خاصةً معصم يدها التي كانت بين قبضته،
بدأ الألم يزداد و يتدافع بها جعل العبرات تغزو عينيها، لكنها كعادتها تكبح دموعها، تعلمت تتأقلم مع ألامها..
و بالرغم كل ما تمر به إلا أن الإبتسامة وجدت طريق نحو شفتيها حين تذكرت أن ذلك العملاق أبي أن يمد يده عليها، بل ادهشها دفاعه عنها عندما أخفها خلف ظهره،
وقتها تمنت لو تظل هكذا طيلة عمرها، تحتمي برجل يكن لها بعد الأهل أهل..
أطلقت زفرة نزقة من صدرها، حتمًا سيزول كل هذا الألم يومًا، تثق في قدرة الله، و تنتظر العوض الجميل بعد الصبر الطويل،
لم تجد أمامها سوي النوم،
.
.
السبيل الوحيد الذي يفصلها عن واقعها المرير و لو قليل، جذبت إحدي الأغطية و قامت بوضعها على الأرض و ارتمت عليه رغم وجود سرير، إلا أنه يذكرها بما عانته مع زوجها السابق، منذ رحيله و هي لا تقربه،
احتضنت جسدها بيدها بوضع الجنين، و أغلقت عينيها غارقة في نومٍ متعب لا يخلو من كوابيسها المفزعة..
…………………………… لا إله إلا الله ?………..
“عبد الجبار”..
بعدما تناول الغداء التي أعدته “سلسبيل” بيدها قبل حضوره، دلف برفقة زوجته داخل غرفتهما التي قامت “سلسبيل” أيضًا بتنظيفها لهما بنفسها بأمر من “بخيتة”..
.
.
“البنته وچعت جلبي جوي يا أخوي.. أُقف چنبها يا عبد الچبار دي وليه و أحنا حدانا ولاية”..
أردفت بها” خضرا” بصوتها الحنون، و هي تساعده على أرتداء جلبابه..
مد “عبد الجبار” يده و أخذ عبايته من على كتفها، وضعها حول كتفيه مغمغمًا..
“إني شيعت لأبوها مع الغفير يچيني أهنة هتحدد معاه لول و أنهى موال الچواز، و بعد أكده ياخد بته في يده”..
.
.
شهقت “خضرا” و ضربت على صدرها بكف يدها و هي تقول..
“يا مري يا عبد الچبار.. هترچعها لأبوها اللي بيُضربها بالكرباچ؟!” ..
نفخ بضيق، و رمقها بنظرة غاضبة مردفًا..
” خضرا و بعدهلك عاد ..قعدتها أهنة ملهاش عازة.. أني مهتجوزش عليكي.. تبجي ترچع بيت أهلها مع أبوها اللي عمره ما هيضر بته”..
لمح لمعة عينيها تدل على فرحتها التي غمرت قلبها، و إضاءة وجهها ذو الملامح الرقيقة، و اللون الخمري..
“بس أمه بخيتة هتزعل منِك يا أخوي.. هي ريدَك تتچوازها”..
.
.
“ملكيش صالح بأم عبد الچبار أني هتحدد معاها هي كَمان”..
غمغم بها و هو يقترب منها و يتوق خصرها بذراعيه، و مال عليها قاصدًا و جنتيها لثمها بقبلة عميقة مكملاً..
“مافيش حُرمة تملي عيني غيرك يا خضرا”..
.
.
“إلهي يخليك ليا و لا يحرمنيش منِك واصل “..
همست بها بستحياء و هي تندس بين حنايا صدره غالقة عينيها تنعم بالراحة لبرهةٍ، و لكن قلبها يملؤه الخوف، و القلق من رد فعل حماتها بعد معرفتها بقرار زوجها..
كل هذا الحديث أستمعت له “بخيتة” الواقفة أمام غرفتهم، واضعة أذنها على الباب تستمع بتركيز لكل حرف يُقال..
” سحراله.. ساحرة لوالدي يا خضرا يا بت نفيسة، و إني هچوزه عليكي و أفك سحرك يا وش الشوم”..
“يارب يا ساتر.. يا أهل الله يلي أهنة”..
كان هذا صوت “محمد القناوي” والد “سلسبيل” الذي وصل للتو و دلف لداخل المنزل برفقة إحدي الغفر عبر الباب الذي يكن دومًا مفتوح..
هرولت” بخيتة ” بخطوات مسرعة تجاه مصدر الصوت، و قد التمعت برأسها إحدي أفكارها خبيثه، و عزمت على تنفيذها..
” يا مُرحب يا قناوي”..
قالتها “بخيتة” بصوتها الصارم، بعدما دلفت بهيبتها مستندة على عصاها الخشبية، فهي تمتلك قامة طويلة و جسد ممتلئ بعض الشيء، لتستطرد دون أن تمنحه فرصة للرد..
“والدي چابك انهارده علشان تاخد بتك في يدك من أهنة.. خلاص چوازة بتك من أبني الكبير مبقاش ليها عازة عندينا”..
نظر لها بصدمة و هو يقول مستفسرًا..
” ايه اللي حُصل بس يا حاچة.. عملت أيه بنت المركوب زعلك مننا أكده.. قوليلي و أنا اقطعلك من لحمها، و أخليها تحب على يدك و يد عبد الچبار بيه كُمان”..
شعرت” بخيتة ” بانتصار و قد نالت مرادها، فازادت من إشعال نيران غضبه تجاه ابنته حين قالت..
” بتك ناقصة رباية، و غلطت في حجي غلط كبير تستاهل عليه قطع رقبتها يا قناوي”..
برزت عروق” قناوي” بخطورة، و قد وصل غضبه لزروته، و تحدث بهدوء ما قبل العاصفة..
” هعيد ربيتها من أول و چديد و أرچعلك بيها تحب على رچلك قبل أيديكي يا ست الناس”..
“لو أكده ممكن أرضى عنِها، و رضا والدي من رضايا.. وقتها أني هقنعه يتتم چوازه من بتك”.. أردفت بها و هي تشير له تجاه غرفة أبنته، و تابعت بأمر..
“هم جوام خدها و مشي قبل ما والدي ينزل.. لو اتحدد معاك دلوجيت يبجي مافيش رچعة في حديته.. حجي يرچع لول بعدها تتحدد وياه”..
“اللي تؤمري بيه يا حاچة”.. قالها” قناوي” و هو يسير نحو غرفة أبنته و قام بفتح الباب عبر المفتاح الموضوع به، دلف للداخل بخطوات غاضبة،
و دون سابق إنذار كان مال على تلك النائمة تصارع إحدي كوابيسها التي لم تخلي من تعذيبه لها، و قبض على عنقها، و بدأ يكيل لها لكمات متتالية دون رحمة..
هكذا أيقظها جاحظة العينين و قد تحقق أبشع كوابيسها برؤيتها له الآن ..
“الرحمة يا أبوي.. هموت في يدك”..همست بها و هي تلتقط أنفاسها بصعوبة بسبب ضغط يده على عنقها..
“اكتمي يا واكلة ناسك”..
نطق بها و هو ينتصب وقفًا ساحبها معه، وسار بها للخارج و هي تبكي بحرقة و تدور بعينيها تبحث عن هذا الظهر الذي أخفاها خلفه من قبل، حتي أستمعت لصوت حمحمته تقترب، كادت أن تصرخ بأسمه إلا أن كف والدها كمم فمها بعنف، و همس بأذنها بتهديد جاد..
“أكتمي لشق جلبك دلوجيت يا هاملة”..
رمقته بنظره تخبره بها أن قلبها مملوء بطعناته القاتلة، توقفت عن مقاومته و قد استسلمت لقدرها، و سارت معه بخطوات مهرولة حافية القدمين و كم تمنت أن تلقي حتفها على يده هذه المرة..
“هو قناوي كان أهنة يا أمه؟”..
قالها “عبد الجبار” بتساؤل.. لتجيبه” بخيتة” بأمأه من رأسها و هي تقول ..
“خد بته و توك ماشي”..
اعتلت الدهشة ملامحه و تحدث بغضب قائلاً..
“وه كيف ياخدها، و يمشي لحاله أكده؟!”..
“بخيتة”.. “أباي عليك يا عبد الچبار مش أبوها يا والدي.. هو راچل غريب، و أنت قولت ماريدهاش يبجي تغور من أهنة”..
رسمت الحزن على ملامحها الماكرة مكملة..
“فرقها صعبان عليا ولا أكنها بهيمة من بهايمي بعد كل عمايلها المقندلة معايا”..
ارتفع حاجبين” عبد الجبار” بتعجب مرددًا..
” بهيمة أيه بس يا أمه!!! “..
” بخيته” بعبوس..
” أيوه قولت هتبجي مننا و أني عرفتها و هي كمان عرفت طبعي و عوايد الدوار حدانا بدل ما تتچوز واحده منعرفهاش و تبجي غريبة عليا.. قصروا منعلمش النصيب مخبي أيه يا والدي..و لو على العرايس في ياما تنجي اللي تعچبك”..
“أني مش هتچوز على خضرا يا أمه و ده أخر القول”..قالها”عبد الجبار ” بنفاذ صبر جعلها تصطك على أسنانها بغيظ شديد، و كادت أن تُصاب بشلل حين تابع بصوته الصارم..
” و أرملة أخوي ليها حق عندينا في ورث چوزها أني هقدروا و أشيعه لحد عنديها”..
أنهي جملته و سار من أمامها مغادرًا المنزل بأكمله، لا يعلم لما يشعر أنه خذل تلك ال” السلسبيل”، يتسأل بداخله لو كان حديثها صحيح عن عذاب والدها لها فلما سارت معه دون أن تستغيث به؟..
………………………………………..لا حول ولا قوة الا بالله ?….
كان الوقت فجرًا، لحظات ظلام الليل الأخيرة، الجميع نيام، و الهدوء سيد الموقف..
أستيقظت “خضرا” على صوت أنين زوجها، مدت يدها لمفتاح الإضاءة الخافتة بجوارها ضغطت عليه، و اعتدلت جالسة تنظر تجاهه مردفة بلهفة..
“عبد الچبار أصحى يا أخوي”..
“لااااااااا بعد عنِها”.. صرخ بها فجأة و هو يهب من مرقده مذعورًا..
“بسم الله الحفيظ.. ده باينه كابوس واعر جوي”..
أردفت بها “خضرا” وهي تسكب له كاسة مياه، و تساعده على تناولها، و يدها تربت على ظهره مرددة بسرها بعض الآيات القرآنية..
كان” عبد الجبار ” ملامحه جامدة، ينظر للفراغ بشرود، فاق من شروده حين همست “خضرا” قائلة بابتسامة باهته..
“شوفت سلسبيل مش أكده”..
تطلع لها مدهوشًا و هم بالرد عليها إلا أنه استمع لصوت طرقات عنيفه متتالية على باب المنزل جعلته يغادر الفراش مهرولاً..
“مين هيچينا دلوجيت”.. قالتها” بخيتة ” التي قابلته فور خروجه من غرفته رغم معرفتها الإجابة..
“مخبيرش يا أمه”..
قالها” عبد الجبار ” و هو يتخطاها و يندفع تجاه الباب، و فتحه مسرعًا ليصعق من هول ما رأي..
كان يقف “قناوي” أمامه بفخر و كأنه حقق أكبر إنجازاته ..
“أني مرضيتش استني لشروق الشمس و قولت اچيب
بتي تحب على رچل الحاچة الكبيرة “..
، بينما “سلسبيل” ملقاه أرضًا بحالة يرثي لها تنزف الدماء من جميع جسدها، مكبله يديها بقدميها بسوط غليظ هيئتها كانت كما رأها في حلمه تمامًا..
رواية جبر السلسبيل. الجزء الرابع
.
.
.
.