الفصل الثاني..
جبر السلسبيل..
✍️نسمة مالك✍️..
أيقنت “سلسبيل” أنها ستلقي حتفها اليوم لا محالة، بعدما شعرت بألم مبرح بسبب قبضة “عبد الجبار” على معصمها
حتي وصل لسمعها صوت تكسير عظامها من قوة ضغطه على يدها الصغيرة جدًا بين قبضته الفولاذية..
استرخت عضلات جسدها المتشنجة أثر غضبها العارم، و انقطعت أنفاسها وهي ترفع رأسها ببطء
كانت مضطرة أن تتطلع لأعلى حتى تصل لوجهه، فقد كان طويل القامة و ضخمًا بصورة مخيفة،
أرتعد بدنها من نظرته التي تصعقها، و صوته الغليظ الجاف جعل الدماء تنسحب من عروقها حتي بهتت ملامحها من شدة خوفها،
الخوف كان دومًا رفيقًا لها طيلة حياتها، أما في تلك اللحظة،
و هي واقفة أمامه مباشرةً شعرت بخوف جديد عليها كليًا، خائفة من هيبته، ضخامة بنيته التي تفوقها أضعاف مضاعفة جعلتها كعصفور مبتل وقع بين أنياب فك مفترس سيلتهمها حية بعظامها،
لكنها استجمعت شتات نفسها، و رسمت قوة زائفة على محياها المرتعدة..
“أنا مش قليلة الرباية.. أنا طول عمري محترمة و شايلة أمك و أخوك رغم معاملتهم ليه اللي مترضيش ربنا”..
همست بها “سلسبيل” بصوت تحشرج بالبكاء، ارتجفت شفتيها بل ارتعش جسدها بأكمله و أطلقت آهة خافتة و هي تحاول جذب يدها من بين كفه الضخم مكملة بضعف..
“أنا شربت المُر في بيتكم و عرفت معنى الذل، و لما قولت أخيراً هترحم من العذاب اللي أنا فيه القي أمك تقولي إنك طلبت أيدي من أبويا علشان أبقى خدامة ليها!!!”..
.
.
ساد صمتٍ آخر، بقى”عبد الجبار” خلاله يرمقها بنظراته الثاقبة.. إلى أن قال مادًا عنقه للأمام قليلًا يحذرها و يرهبها في آنٍ واحد..
“جولك ده ميعطكيش الحج تتهچمي على ست كبيرة في مجام والدتك!!”..
“مش جولتلك على عمايلها السودة.. شوفتها بعينيك بتشندل أمك شنديل.. أضرُبها على خشمها يا “عبد الچبار”
غمغمت بها “بخيتة” ببكاء مصطنع، و هي تهجم على “سلسبيل” فجأة و تصفعها بقوة على وجهها دون سابق إنظار مكملة بقسوة..
“اتفرعنت من قلة ضرب المركوب بنت الفرطوس”..
لم تتفاجئ “سلسبيل” بضرب “بخيتة” لها بل كانت أخذه وضع الأستعداد،رفعت ذراعها الأخر بحركة دفاعية تحمي به وجهها أمام أعين “عبد الجبار” المنذهلة من رد فعلها، و ملامح وجهها الجامدة التي تجاهد بصعوبة حتي لا تبكي،
كانت نظرتها ذائغة و هي تتنقل بعينيها بينه و بين والدته و قد ظنت أنه سيهجم عليها و يلقنها علقة ساخنة كما كان يفعل معاها شقيقة حتي يطفئ غضب والدته،
و بعدما ينتهي من ضربها يحملها على كتفه، و يسير بها نحو غرفتهما و ينهال عليها بنوع أخر من العقاب المميت لروحها، و أنوثتها،
شحبت ملامحها كشحوب الموتي، بدأت ترتجف بشكل ملحوظ، و تصطك على أسنانها بقوة،
.
.
هنا خفف قبضة يده حول معصمها، و جذبها برفق أصبحت واقفة خلفه ظهره،كم كانت ضئيلة للغاية بالنسبة له حتي أنه اخفاها تمامًا عن والدته التي ثارت بجنون و بدأت تدفعه بشراسة حتي تتمكن من الوصول لتلك الصغيرة المختبئة خلف ظهره..
” كفياكِ عاد يا أمه”..قالها و هو يسيطر على حركتها الهستيرية بأحتضانه لها مقبلًا جبهتها قبلة مطولة..
“همليها لحالها خليها تغور من أهنة.. أني معيزهاش بعد اللي حُصل”..
.
.
تراقص قلب “سلسبيل” فرحًا و ظهرت شبه إبتسامة على قسماتها حين استمعت لجملته هذه، و لكن تلاشت ابتسامتها حتي اختفت و حل مكانها الفزع حين تحدثت “بخيتة” وفهمت هي مخزي حديثها هذا..
“صُح حديتك يا والدي..خليها ترجع لأبوها و مرته”..
نطقت بها “بخيتة” بخبث فهي تعلم جيدًا أن والدها سوف يعود إليها بها مكبلة اليدين و القدمين بعدما ينتهي من ضربها كعادته، ابتسمت بصطناع و هي تمد يدها و تدفعها بكتفها دفعة سقطت على أثرها أرضًا..
“غوري من أهنة.. جبر يلم العفش”..
.
.
أسرعت” خضرا” التي كانت تقف بعيدًا عنهم تتابع ما يحدث بنظرات حزينة على ما تفعله حماتها بتلك الصغيرة، هرولت نحوها و مالت عليها تأخذ بيدها لتساعدها على النهوض مرددة بنبرة حانية..
“جومي يا خيتي”..
تحملت “سلسبيل” على نفسها، و وقفت ثانيةً بمساعدة “خضرا”، تنفست الصعداء و هي تسير بخطي غير متوازنة نحو الخارج، و قد حسمت قرارها أنها ستفر هاربة من البلد بأكملها،
.
.
و تبحث عن عائلة والدتها بمحافظة المنصورة، كادت أن تصل لباب المنزل إلا أن صوت بخيتة أوقفها مكانها بأمر ..
“أستنى أهنة”..نظرت لابنها و تابعت..
“سلمها بيدك لأبوها يا عبد الچبار لتُهرب على البندر زي ما عملت جبل سابق و تچبلنا وچع الدماغ”..
تهاوي جسد “سلسبيل”بعدما أغلقت بوجهها كل طرق النجاة، و شعرت أن أقدامها لم تعد تحملها و هي تتخيل ما سيفعله بها والدها و زوجته، ، سقطت أرضًا على ركبتيها و بدأت تبكي بصوت أشبه بالصراخ مرددة..
“حرام عليكي.. أنتي بتعملي فيا كل ده ليه.. أنا عملتلك اييييه.. منك لله.. حسب الله ونعمة الوكيل فيكي أنتي وابنك”..
جن جنون “بخيتة” و همت بالهجوم عليها لولا يد “عبد الجبار” التي تمنعها..
“عملنا فيكي أية علشان تدعي عليا أنا و ابني اللي بجي بين ايدين اللي خلقه يا وكلة ناسك”..
بينما”خضرا” تجلس جوارها، تربت على ظهرها بحنان بالغ، و انفجرت باكية من شدة تأثرها حين رأت” سلسبيل” تنظر لزوجها نظرة متوسلة و تهمس بصعوبة من بين شهقاتها..
“متودنيش لأبويا هيرميني في الزريبة و يقلعني هدومي ويضربني بالكرباك و أمك عارفة كده كويس”..
جحظت أعين “عبد الجبار” على أخرها، و شلته الصدمة عندما زحفت “سلسبيل” راكضة حتي وصلت أسفل قدميه و تمسكت بكلتا يديها بثيابه،
و رفعت رأسها تنظر له بعينيها التي تذرف عبراتها بغزارة مكملة بجملة أعتصرت قلبة على حين غرة..
“أدفني مع أمي حية بس متودنيش لأبويا أبوس رجلك”..
انتهي الفصل..
رواية جبر السلسبيل. الجزء الثالث
.
.
.
.