الفصل ال10..
جبر السلسبيل..
✍️نسمة مالك✍️..
مر الوقت بثقل و بطء شديد،كان استعاد “عبد الجبار” رباطة جأشه سريعًا، عاد وجهه لصرامته، و قسماته
الهادئة بعدما تحكم في إخفاء مشاعره ببراعه يُحسد عليها،
رغم أنه يحيا ليلة من أصعب الليالي التي مرت عليه في حياته بأكملها، يتمزق قلبه وجعًا على تلك الصغيرة التي تصارع الموت داخل غرفة العناية المركزة ، منذ أول مرة رأها بها و التقت عينيه بعينيها حينها طار اللُب من عقله،
انتفض قلبه انتفاضة جديدة عليه كليًا لأول مره يشعر بها،
كأنها ألقت تعويذة سحرية عليه فخشي من تأثيرها الشديد الذي غمره أن يجعله يظلم “خضرا” صديقة دربه، رفيقة أيامه، صاحبة عمره، فقرر عدم الزواج منها، فما يربطه بزوجته أقوى من الحب،و لن يجازف بخسارتها حتي لو كلفه الأمر أن يفقد قلبه الذي عشق رغمًا عنه تلك ال “سلسبيل” ..
“الحمد لله حالتها بقت مستقرة يا عبد الجبار بيه”..
قالها الطبيب الذي خرج للتو من غرفة العناية، تنفس “عبد الجبار” الصعداء، بينما تهللت أسارير “خضرا” مرددة بفرحة حقيقة..
“ونبي صُح يا دكتور.. يعني أقدر أفوت عنِدها”..
“لا للأسف الزيارة دلوقتي ممنوعة،و كمان هي لسه مفاقتش”..
عقد” عبد الجبار ” ما بين حاجبيه، و تحدث بتساؤل قائلاً..
“لساتها غميانة لحد دلوجت!!”..
“لا هي تحت تأثير العلاج اللي خدته.. أنا هكون صريح مع حضرتك.. مدام سلسبيل هتحتاج جراحة عاجلة في قلب”..
.
.
” يا جلبي عليكي يا خيتي “.. قالتها” خضرا” و هي تنفجر في نوبة بكاء أخرى..
ساد الصمت للحظات، قطعه الطبيب ثانيةً بعدما حثه “عبد الجبار “بنظرته على استكمال حديثه..
” تضخُّم قلبها نتيجة مشكلة في أحد صمامات القلب،و كده هتحتاج لجراحة ترميم الصمام المعيب أو استبداله”..
حاولت “خضرا” السيطرة على شهقاتها و هي تقول..
“خطرة العملية دي يا دكتور؟”..
أجابها الطبيب قائلاً .. “هي هتبقي في نسبة خطورة طبعًا.. بالذات لو الصمام مستجبش للترميم أو قلبها مقبلش صمام بديل و عجزَت الأدوية عن التحكُّم في أعراض تعبها.. كده هتبقي محتاجة زراعة قلب.. ادعولها أن قلبها يستجيب للعلاج، و أول ما نهيئها نفسيًا و جسديًا للعملية هنعملها على طول بإذن الله.. بس هتبقي مكلفة شوية يا عبد الجبار بيه”..
رمقه” عبد الجبار ” بنظره غاضبه مغمغمًا.. “الفلوس حاضرة بعون الله يا دكتور ..الصالح ليها أعمله المهم هي تبقي زينة”..
.
.
تنحنح الطبيب، و سار من أمامهما و هو يقول بحرج..
” طيب عن أذنكم، و لو في أي جديد هبلغ حضرتك بيه”..
بينما”خضرا” الحنون التي لم تكف عن البكاء، و الدعاء ل “سلسبيل” من صميم قلبها، جلست بجواره على المقاعد المخصصة للانتظار، أمسك هو بيدها بين كفيه، يربت عليها برفق
.
.
و يتحدث بنبرة راجية قائلاً..
“كفايكِ بكي عاد يا خضرا.. صلِ على الحبيب في جلبك، و ادعيلها تقوم بالسلامة “..
اجهشت “خضرا” ببكاء مرير، و تمسكت بيده بقوة مرددة..
“البنتة صعبانة عليا قوي يا عبد الچبار..
.
.
جلبي بيقطع يا خوي كل ما أفتكر حديتها وياي قبل ما نيچي على المستشفى”..
أطلقت آهه حارقة، و تابعت بنواح كان كالقلم المسنون يطعنه في عمق قلبه..
” ساعة تكلمني وساعة تميل، و ساعة تقولي قلبي عليا تقيل.. ساعة تكلمني وساعة تقع،و ساعة تقولي أني اتمليت وچع”..
.
.
يا الله !!!!
كادت دموعه أن تخونه و تتجمع بعينيه شديدة الأحمرار،لكنه كعادته دفن شعورة بين طيات قلبه الملتاع،
رفع ذراعه و ضمها لصدره بعناق قوي، كان هو أحوج منها لهذا العناق..
ظل محتضنها لوقت طويل حتي توقفت عن البكاء، ثقلت رأسها على صدره،
و أنتظمت أنفاسها فعلم أنها قد غلبها النعاس، مال بوجهه قليلاً، و لثم جبهتها بعمق و هو يقول..
“خضرا.. جومي يا غالية خليني أرچعك الدار”..
“و نهملها لحالها!!!”..همست بها “خضرا” و هي تبتعد عنه، وتعتدل بجلستها مكملة..
“دي ملهاش حد واصل دلوجيت غيرنا.. لا عنِدها أب زي بقيت الخلق يراعيها و لا قريب يسأل عنِها”..
“قعدتنا أهنة ملهاش عازاه يا أم فاطمة”..أردف بها بتعقل، و هو ينتصب واققًا أمامها مكملاً..
“الدكتور قال الزيارة ممنوعة عنِها دلوجيت، و لو چد چديد هيحددني على المحمول،
و كمان البنتة الصغار لحالهم في الدار.. طلِ عليهم و أني هشوف مصالح الشركة و أعاود أخدك ونيچلها طوالي”..
قال الأخيرة و هو يجذبها من معصها برفق حتي واقفت بجواره، وضع ذراعه على كتفيها، و سار بها بخطوات متثاقلة، عينيه معلقة على باب الغرفة المتواجدة بها معشوقة روحه، ذهب من المستشفى تاركًا قلبه بحوزتها..
………………………….. لا حول ولا قوة الا بالله ?…….
كانت “بخيتة” تجلس بأريحية تشاهد التلفاز، بيدها طبق مملوء بأنواع مختلفة من الطعام تتناول منه بشهية، و تضحك بملئ فمها غير عابئة لأي شيء، ضحكاتها وصلت لسمع “خضرا” التي وصلت للتو بأعين منتفخة من شدة البكاء،
حركت رأسها بيأس من قساوة قلبها، و سارت ببطء من أمامها متجهه نحو غرفة صغارها و هي تقول بصوت حزين..
“سالنور عليكِ يا أمه”..
رمقتها “بخيتة” بنظره ساخرة، و تابعت تناول طعامها بتلذذ مدمدمة..
“امممم.. مالك حزينة أكده ليه.. هي المحروقة لساتها عايشة و لا أيه ؟”..
“خضرا” بعتاب.. “وه.. ليه بس أكده يا أمه.. الشر برة و بعيد عنِها.. ربنا يقومها بالسلامة.. دي لساتها شابة صغيرة”..
” ووالدي كان زينة الشباب.. و مات في غمضة عين من دعي بنت المركوب عليه.. طب ساكت محطش منطق”..
نطقت بها” بخيتة ” بغضب عارم، و صمتت لبرهةً و تابعت بحقد دفين..
“أني مستنية اليوم اللي يچيني خبرها فيه.. وقتها هعمل ليلة كبيرة كلها مغني ووكل ياما”..
تطلعت لها “خضرا ” بنظرات منذهلة، و أردفت بتساؤل قائلة..
” و لما أنتي بتكرهيها أكده، و بتتمني لها الموت رايده تچوزيها لوالدك ليه!!!!”..
ابتسمت لها “بخيتة” ابتسامة مصطنعة و هي تضع طبق الطعام على الطاولة أمامها، لعقت أصابعها بصوت مقزز، نظرت لها مدمدمة بجحود..
“جولت أضرب جنزورتين بحچر واحد.. اكسر شوكتك اللي قوية لحد ما فكرتي حالك ست الدار، و تبقي سلسبيل معون تچيب الواد ل” عبد الچبار”، و قصاد عيني أخلص منِها حق ولدي”..
هبت واقفه و اقتربت من “خضرا” التي تستمع لها بملامح جامدة بدت جديدة عليها، أثارت الريبة في نفس “بخيتة” التي تابعت حديثها المثير للاعصاب قائلة..
“متكيدش الحُرمة إلا حُرمة زيها.. و سلسبيل صغيرة و نغشة خطفت جلب عبد الچبار منكِ من وقت ما و قعت عينه عليها.. و أنتي جلبك هتقيد في النار يا بت نفسية”..
ضحكت ضحكة شريرة مكملة..
” رايده أشوفكم أنتو لاتنين بتقطعوا بعض من الغيرة على رچلكم..
لحد ما ولدي يزهق منِكم و يجلعكم من أهنه بلا راچعة”..
حديثها كان صادم ل” خضرا” التي ذُهلت من كم السواد الذي يغلف قلبها، تطلعت لها قليلاً بأعين جاحظة تحاول استيعاب كلماتها السامة التي ألقتها على سمعها،
و من ثم أخذت نفس عميق زفرته على مهلٍ و هي تقول بأسف..
” أنتي جلبك ده حچر.. رايده تخربي دار ولدك بيدك..
واحدة غيرك شافت بعينها دعوة سلسبيل اللي ظلمتيها أنتي وولدك ربنا استچابها، و انقصف عمر ولدك قصاد عينك.. ده مش كافي لاچل ما يكون عظة ليكي!!!.. جلبك منشقش بعد موت ولدك!!!!.. ظهرك منكسرش من بعده!!! ” ..
“أني مرّه صعدية شديدة يا بت .. مافيش حاچة تقدر تكسرني واصل”.. أردف بها” بخيتة ” بجبروت أشعل غضب”خضرا” و ايقظت الأنثى الشرسة بداخلها جعلت ملامحها تبدو مخيفة خاصةً حين نظرت لعين” بخيتة” بتحدي و هي تقول..
” لتكوني فاكرة إن طيبة جلبي دي ضعف مني.. لع إني كُمان مّرة صعدية شديدة.. بس شديدة في الحق.. و اللي أنتي ريداه مهيحصُلش يا بخيتة”..
حملقت بها” بخيتة ” بصدمة من طريقتها الجديدة معاها، لتتابع” خضرا” بابتسامة هادئة..
“أني خابرة زين أن عبد الچبار جلبه مال للبنتة، و مانع نفسه عنِها لاچل خاطري.. و عشان أكده أيه جولك أني هچوز عبد الچبار ل سلسبيل بنفسي..
و هبجي أني و هي سند و عزوة لولدك.. و إن شاء المولى و خلفت منه الواد هيبجي ابني قبل منِها.. ابني اللي مخلفتهوش.. كفاية عندي أنه ولد عبد الچبار”..
أشارت على المنزل من حولها بيدها مكملة بصوت عالِ دب الذعر بأوصال “بخيتة”..
” و ربنا يقدرني و اچعل الدار ده عمران بحس راچلي و ضحكته و فرحة جلبه طول ما في نفس”..
صمتت لوهلة و تابعت بأنف مرفوعة بشموخ..
” چهزي حالك يا أم العريس.. كتب كتاب ولدك هيتم بكرة أول ما يوصل قناوي”..
………………………………سبحان الله العظيم ?……
انقضت ساعات النهار، و خيم الليل بستائره..
أنهى” عبد الجبار ” عمله على أكمل وجه رغم قلقه و أرتعاد قلبه الشديد، كان يحدث الطبيب المشرف على حالة “سلسبيل ” طيلة الوقت، يتابع تطور حالتها أول بأول..
و أخيرًا أخبره الطبيب أنها بدأت تستعيد وعيها، ترك كل شيء، و هرول نحو منزله لكنه لم يدلف للداخل، لا يريد رؤية والدته و سماع حديثها الذي يثير غضبه حد الجنون الآن، يكفيه ما هو فيه، ظل جالس بسيارته ينتظر زوجته “خضرا” لتذهب معه..
لتخرج “خضرا” حاملة بيدها حقيبة جهزتها بنفسها بها ثياب و طعام و كل شيء يمكن أن تحتاج إليه هي و “سلسبيل”، فقد أصرت على المبيت معاها ، فقام زوجها بدفع مبلغ ليس بقليل حتي يتمكن من حجز غرفة خاصة لها بالمستشفى ..
أسرع “عبد الجبار” بمغادرة السيارة، و هرول نحوها يحمل عنها الحقيبة و يضعها داخل السيارة مغمغمًا..
“أيه الشيلة التقيلة دي كليتها يا بت الناس!!!.. قولتلك لو احتاچوا حاچة أني هچبهلكم لحد عندِكم”..
“متشليش هم يا خوي.. الحمد لله ربنا قدرني و چهزت كل حاچة.. هم قوام خلينا نطمن على البنتة”
قالتها و هي تجلس على المقعد المجاور له، لينطلق “عبد الجبار” بسيارته أمام أنظار” بخيتة ” التي تتابعهم من شرفة المنزل بملامح تستشيط غضبًا و غيظًا..
دقائق معدودة، و كانت” خضرا” تسير برفقة زوجها بخطوات شبه راكضه داخل الممر المؤدي لغرفة”سلسبيل”..
” طمنا يا دكتور الله لا يسيئك.. كيفها خيتي دلوجيت”..
قالتها “خضرا” فور رؤيتها للطبيب..
أجابها الطبيب بابتسامة قائلاً..
“اطمنو الحمد لله هي بدأه تفوق و عماله تنادي على اسم حضرتك أنتي و عبد الجبار بيه”..
تزلزل كيان ذلك العاشق و قد وصل ندائها لقلبه المُتيم، رغم جمود ملامح وجهه إلا أن أنفاسه كانت مهتاجة تعبر عن النيران التى تتأجج بأعماقه..
“خليهم يهملوني أشوفها يا عبد الچبار أحب على يدك”..
قالتها” خضرا ” بنبرة متوسلة و هي تضرب على صدرها بكف يدها بحركة استعطافية..
نظر “عبد الجبار” للطبيب مغمغمًا..
“هطل عليها و تخرج طوالي يا دكتور”..
اومأ له الطبيب و هو يشير على غرفة بجوار العناية..
“مافيش مشكلة بس خلي الممرضة تعقمها الأول، و بلاش تخليها تتكلم كتير علشان متتعبش”..
هرولت “خضرا” نحو غرفة التعقيم، ارتدت الثياب الخاصة لدخول غرفة العناية، و سارت بخطي مرتجفه لداخل غرفة”سلسبيل ” حتي وقعت عينيها عليها ممددة على الفراش لا حول لها و لا قوة، و الكثير من الأسلاك الطبية موصله بجسدها الصغير..
كبحت عبراتها بصعوبة، و قد اعتصر قلبها من هيئتها حين خُيل لها أنها تري إحدي ابنتيها مكانها، رسمت ابتسامة حانية على ملامحها البشوشة، و اقتربت منها وقفت بجوارها مباشرةً، مدت يدها تمسح على وجهها مسحة حنان مدمدمة..
“سلسبيل.. كيفك دلوجيت يا خيتي”..
رمشت “سلسبيل” بأهدابها الكثيفة، تجاهد لفتح عينيها، و بهمس متقطع مُتعب قالت..
“أبلة خضرا”..
“يا نن عيني يا بتي.. سلامة جلبك يا ضناي”..
قالتها و هي تميل على جبهتها و تطبع قبله عميقة بشفتيها المرتعشة..
تطلعت لها “سلسبيل” بامتنان، و همست بخفوت..
“عايزه أطلب منك طلب”..
” اؤمريني أمر يا ست البنتة”..قالتها “خضرا” بلهفة و هي تنظر لها باهتمام.. ابتلعت “سلسبيل ” لعابها بصعوبة، و همست بغصة مريرة..
“لو مت أدفنوني جنب أمي في المنصورة”..
لم تستطيع “خضرا” السيطرة على عبراتها التي انهمرت بغزارة على وجنتيها، و تحدثت بغضب مصطنع قائلة..
” متقوليش أكده مرة تانية.. أزعل منِك و أني زعلي واعر.. أنتي هطيبي يا خيتي و هتبقي زينة العرايس”..
صمتت لبرهةً و نظرت لها نظرة راجية مكملة..
” جومي يا خيتي.. أني محتچالك چاري.. متهملنيش لحالي ويه بخيتة.. جومي حطي يدك بيدي و نقف في وشها ندافع عن رچلنا”..
“رچلنا!!! “..همست بها” سلسبيل ” بتعجب، لتحرك”خضرا”
رأسها لها بالايجاب مرددة بابتسامة و عبراتها تهبط على وجنتيها ببطء..
“أيوه يا سلسبيل.. عبد الچبار هيتچوزك و أني موافقة”..
يَا مَنْ حُبُّك سَكَن الرَّوْحَ وَ الْفُؤَاد
أُحِبُّك ذَلِك الْخَائِنُ فِي غَفْلَةٍ مِنِّي
فتغلغل هواكي بَيْن ثَنَايَا قَلْبِي
حاربته فهزمني و اجبرني عَلَى الِاسْتِسْلَامِ
فَجِئْتُك مُجْبَرًا رَافِعًا الرَّايَةَ البَيْضاءَ
فَهَل سَيَكُون لِقَلْبِي الملتاع مُرْسًى عَلَى شاطىء هواكي .
خاطرة إهداء من الجميلة سلوي بنهلال..
انتهي الفصل..
هستني رأيكم يا حبايبي..
واستغفرو لعلها ساعة استجابة
رواية جبر السلسبيل. الجزء الحادي عشر
.
.
.
.