أدار الطبيب لي ظهره متوجهًا تجاه أبي، أمسكت رأسي كي لا أصاب بالجنون لتراودني بعض الأفكار.. كيف يكون لتَلا صديقة مصرية وهي لم تأتِ لمصر إلا قبل الحادث بأشهر بسيطة.. ما الذي قد يجعل الطبيب يغمرنا بأكاذيبه؟!
لم أتحدث معه بشأن أي شيء، تركتهما يتحدثان ولم يعد لي أي قرار، فقط أنتظر أن تفيق تلا، فهي بالتأكيد تعرف ما أريده..
تحولت عقارب الساعة لسلاحف برية، تتحرك ببطء، عجيب أمرها في وقت الفرح تسابق الخيول العربية في السرعة وحين نريد أن يمر الوقت تمر الخيول وتصاب ببتر الأقدام لتجعلنا نحملها فوق رأسها وكأننا سندفعها للأمام ونحن نقبل أقدامها المبتورة فقط لكي تمر دقائقها بسلام ..
استقرت حالة تلا نسبيا، مما جعلني أستعيد رباطة جأشي وأدخل إليها لأحدثها، كانت ممدة على سرير أبيض اللون، رغم وجهها الشاحب ونظراتها الباردة إلا أنها ما زالت جميلة جمالًا يوسفيًا، اقتربت من سريرها وجلست قبالتها وقلت بصوت هادئ:
– أحمد الله أنك بخير، أعتذر إن بدر مني أي كلمة قد تسببت في إزعاجك..
لم تجب على كلماتي ولم تعرني أي اهتمام، فأكملت بتوتر:
– أبوكِ أنقذ أبي من موت محقق وأصيب بألم لازمه طول العمر، فلولاه ما كنت ولدت ورأيت هذه الدنيا، ربما لا تعرفيني حق المعرفة فأنا بالنسبة إليك مجرد غريب، ولكني ولدت في منطقة شعبية، تعودنا أننا كيان واحد فالفقير يجد قوت يومه سواء رزق بها من عمله أو اقترضها لحين ميسرة
ترقرقت الدموع بعينيها، قالت بصوتٍ واهن:
– لقد وعدكم أبي بأن يعوضكم عن فقركم هذا، لقد كان لكم نصيب في إرثه سواء تزوجنا أو لا، أنا لا أريد أحد في حياتي، أريد فقط الرجوع لبلدي التي ولدت بها.
شعرت بالأسى على حالها، فرغم كل شيء هي ابنة عمي نحمل نفس الدم، هي زوجتي التي لا أعرف عنها أي شيء، قلت بعد صمت طويل:
– لا تقلقي فأنا لن أجبرك على شيء، إذا كنتِ تريدين الطلاق فسأفعل هذا ولكن بعد أن أرد إليك حقك.. كل ما حدث لك من وقت دخولك هذه البلد كان مدبرًا، بالتأكيد لم يحدث لأحد مثل هذه الكوارث بمحض صدفة، لا تقلقي ستكوني حرة ولكن حتى وإن أعطيتك حق الانفصال ذاتيا، ولكني لن أترك من أذاكِ ينعم ما دمت حيًا.
بكت بصوتٍ عال، حاولت الاقتراب منها ولكني خشيت ردة فعلها
(تلا)
أنا تلا، الفتاة التي رزقت بلعنة.. فالجمال لعنة إذا أصاب البشر يتعرضون على إثرها للدغات قاتلة، كنت وحيدة أبوي ولم أعش في مصر سوى بضع شهور وقد كانت الأسوأ على الإطلاق..
البعض هنا بمصر لا يحب أن يرزق بالإناث.. فالثري لا يريد لعائلته الكبيرة أن تتقاسم إرثه بعد مماته، ولكن أبي كان تفكيره مختلفًا، فحين وصل لسن العشرين سافر للخارج، مر بحياة صعبة خاصة وأن ولد بحيٍ فقير هو وأخوه اللذان مرا بطفولة بائسة فاتفقا فيما بينهما أن أحدهما سيسافر ليحقق المستقبل المنشود خارج هذا المرض المؤلف من الفقر والجوع والعوز.. فحقق أبي ما كان يتمناه، ثروة طائلة ليس لها بداية أو نهاية.. وعاد بنا إلى مصر مسقط رأسه..