تلاشت الرؤية من أمام عيني، تبدلت معالم المكان لأجدني في بيتي ثانية، أجالس نفسي، نتبادل نظراتنا النارية، شعرت أني أستطيع الوقوف على قدمي من جديد، كانت بقعة الضوء تضيء ما أمامي، قلت بصوتٍ واهن:
– لقد كنت غبيًا حين صدقت أنها ستعانقني وتحتوي ما بي من ضعف، كنت دائمًا الشخص الودود، إذا غابت أسأل وأبحث، إذا بكت أفعل المستحيل لإضحاكها حتى لو تطلب الأمر أن أكون بلياتشو فقط لأخرجها من حزنها.
بضحكة هيستيرية قال:
– ضع سلاحًا في يدي الغبي وانظر للنتيجة، لقد قادنا الغباء أن نثق في حواء، ولكننا لم نكن ضعفاء، انظر ماذا فعلنا بها.. لقد ماتت هنا في هذه الشقة.. أتتذكر حين قيدناها كما فعل أبوك بأمك؟
وضعت يدي على أذني، حاولت ألا أسمع ما تخبرني به نفسي القديمة، أحقًا قتلتها؟!
“إذا ظننتِ بأن هناك رجل يستحق أن تضحي بعمرك من أجله، فاعلمي أنك ما زلت تحت تأثير أكذوبته”.
(تــــلا)
اقتربت وأنا قلبي يرتجف، جسد أبي يستند فوق مقود السيارة، بنيامين كان أسرع مني، فتح باب السيارة وأنا من شدة خوفي وقفت، لم يحملني جسدي ولو خطوة واحدة.. هو ميت، أعرف ذلك، مات قتلًا وبالتأكيد تخلصوا منه بعد أن أصبحت كقطعة العجين في أيديهم.. صوت بنيامين تسلل إلى مسامعي، يأتي من بعيد مبتهجًا:
– إنه بخير.. لم يصبه أي مكروه.
كلماته خرجت من فمه تلقائيًا وهو يعاين جسد أبي، وكأنه يفتش فيه عن أماكن الإصابات.. لم أكن أرى ما يفعله، ولكنه أكمل:
– لم يصب لا تقلقي.. مجرد إغماءة بسيطة يمكننا إفاقته، هل معك زجاجة عطر؟
– لمست جسدي بيدي باحثة عن حقيبتي، ولكنني نسيتها بداخل سيارة بنيامين، انتابني بعض الشك تجاهه، شعرت بالخوف لترك أبي وحده معه وهو لا يحرك ساكنا، ولكنني تدارك ما نحن فيه وقلت وأنا أتحرك:
– حقيبتي في السيارة، دقيقة فقط.. حاول أن تبلل وجهه، هناك زجاجة ماء في (تابلوه) السيارة، هو دائمًا يضع واحدة.
جريت على السيارة، وبعد دقائق معدودة كنت قد عدت، العجيب أني رأيت بنيامين يقف بعيدًا، وأبي يجلس على عجلة القيادة زائغ العين، ركبت بجواره، لم ينظر لي وكأنه يعاتبني على تصديقي لهم، حاولت أن أتجاهل كل شيء، فما رأيته وما شعرت به منذ قليل معناه أني لست مستعدة لهجرانه، لو كان مات الآن لكنت ندمت أشد الندم على تكذيبي إياه وتصديق كل ما قيل.
إن الصمت يعني السكون، وما دام أصبح ساكنًا فالحرب أصبحت وشيكة، أعرف أبي.. أعرفه في سبعة عشر عامًا وألف ومائتان شجار وخمسمائة حرمان من المصروف، مر عقابه بعد لجوئه للصمت.. الصمت المميت