– إلى متى ستظل تدفن رأسك هكذا في التراب، حري بك أن تدفن في الثرى إذا ملامسته تثنيك عن إرجاع حقك.
حاولت أن أتحرك، زحفت تجاه الصوت، كلما اقتربت يبتعد ويأتي من خلفي:
– لا تبحث عني أمامك، أنا دائمًا خلفك، فقط أرجع حقها.
خرج صوتي مختنقًا:
– من أنت؟ أظهر نفسك.
ضحك، صوت ضحكته مألوفًا لي، بقعة الضوء ظهرت من جديد، كان يقف في النافذة من الخارج، يجلس على مقعدٍ متحركٍ ذو عجلات، عينه مصوبة عليَّ، ولكني استطعت تمييز ملامحه، وكأنني أراه من خلال مرآة، مجرد صبي وجهه رفيع يبدو عليه إمارات المرض، عيناه شاحبتان، قال بصوت لعوب:
– ألم تستطع حتى الآن أن تعرفني؟ من هنا يا شعيب رأيناه وهو يقتلها، سمعنا كل شيء، من هنا بدأ كل شيء.. رأيناها تحترق فخفنا أن نتحدث و…
بت أميزه جيدًا، إنه أنا! لطالما كنت مكروهًا في أي مكان دخلته، ربما كرهني الجميع دون أسباب، ولكني لم أرَ في حياتي شخص كرهني أكثر من نفسي، ذلك الصغير يأتيني يوميًا ليريني ما حدث، يحاسبني على الصمت، يظهر لي على مقعده المتحرك ليذكرني كم كنت عاجزًا عن حماية أمي، يقيدني فأتمرمغ علَّه يتركني، ولكنه دائمًا ما يحاول قتلي، يشعرني بألمها وكأنني هي.. حاولت تجاهل أمر وجوده، ولكن صفعة قوية جاءت فوق وجهي أخبرتني بوجود الوجه الآخر للصبي، العدو الأكثر شراسة، وجهي الذي جعلت منه أضحوكة..
لتنتقل بقعة الضوء فتصبح جواري، تنير وجهًا أعرفه، يرتدي قميصًا أسود اللون، يضع يده اليمنى في يسراه، يمناه لا تُرى.. وكأنها مبتورة
حاولت أن أبتعد عنه ولكنه دعسني بقدمه اليمنى، صرخت وهو يحتجز كلتا يدي الموضوعتان فوق صدري.. تعالت الآهات أكثر ولا أعلم أأبكي دمعًا أم حزنًا، زاغ نظره تجاه الباب فانفتح على مصراعيه ودخلت أبي وزوجته، أمعنت النظر قليلًا.. لم يكن أبي، سُحبت روحي من جسدي وتلبست جسدي القديم ثانية، سحبت من جسدٍ أهلكته ذكرياته وطفقت أخسف فوق رأسي هول ما أرى.. عجزت أن أخبر أبي بفعلتها.. حتى يدي لم تسعفني وكأنها مبتورة!
“الحب.. هو الكوب الذي تستطيع أن تشرب فيه الخمر أو الماء، وقد كان حظي فيه جيدًا للدرجة التي جعلتني أتجرع منه السموم وأنا منتشي”.
ما زلت منبطحًا على وجهي، تأخذني نفسي القديمة عبر دهاليز عقلي، تراودني مراهقتني عن طور المنطق فتجتز مني ذكرياتي لتعرضها أمام عيني، أعيشها مرارًا، يتبدل مكاني وأتيه عن جسدي لأرجع لمَ كنت عليه حين وصلت للعشرين من عمري.
أجلس فوق طاولة في المطعم الذي احتضن لقائي الأول معها، أجلس وأتامل تفاصيل المكان الذي حفظته عن ظهر قلب، الإضاءة الخافتة التي تجعلهم يوفرون من استخدامهم للطاقة خوفًا من الفواتير، فنظن بأنهم يخلقون لنا لقاءً رومانسيًا ولا يكلفهم هذا سوى بعض الشموع الغير مكلفة بالمرة، رأيتني أنتظر وأنتظر وأنا أترقب باب المطعم، هي آتية لا محالة، فعادةً ما تتأخر الفتيات عن المواعيد الغرامية، فتخسر أموالها في تشطيب دهانات وجهها، وينبهر الرجل بوجهها المصطنع.. أما عن الرابح فبالتأكيد سيكون بائع مستحضرات التجميل!
حينها لم أكن أفكر هكذا، فرؤيتها كانت كافية أن تنسيني نفسي وحزني، رغم معرفتي أني لو قمت بإزالة ما وضعت فوق وجهها لظهر لي صديقي (عبد اللطيف) ولكن الصوت له العامل الأساسي في جذب قدمي وتقييدهما أمامها..
دخلت أمامي بخطوات هادئة، ترسم ابتسامة رقيقة بشفتيها المطلاة بأحمر شفاة ثابت لا يرحل، فستانها الأزرق مع وجهها الوضاء جعل منها قطعة مجتزة من السماء، وقفت أمامي فوقفت أتأملها وابتسامة بلهاء مني مع سلام لا يليق بها، فحروفي هربت من فمي حين رأيتها، جلست وهي تنظر إلى إليَّ بخجل، كانت هادئة.. نور وجهها جعلني لا أشعر بضي الشموع الموضوعة أمام عينيَّ، قلت بتوتر: