كنا قد اقتربنا من المدرسة، لمحت من بعيد سيارة أبي متوقفة، قلت لبنيامين بقلق:
أنزلني هنا، فأبي بالتأكيد في سيارته ولا أحب أن يراك فيحدل لنا أية مشكلة، خاصة وأننا نعلم أنه غير راضٍ عن بقاؤي في بيتكم.
أنزلني بعد قليل من المجادلة انتصرت فيها، كنت أقترب من أبي القابع في سيارته المتوقفة أمام مدرستي، تتخبط قدميّ بين القلق والخوف وتلافي المجادلات الصباحية أمام زملائي، اقتربت أكثر فنظر لي، كان مبتسمًا على غير عادته، مد يده تجاه باب السيارة وكأنه يطمئنني بأن لا شيء سيعكر صفوي لهذا اليوم.. ما إن اقتربت حتى صدع صوت طلقات نارية، أغمضت عيني وفتحتهما، لأجد أبي يضع رأسه على مقود السيارة مغشيًا عليه…
“مظاهر الحزن التي يظهرها الأقربون وقت موتك، قد تخفي بين طياتها إحساس دفين من الشماتة”.
(شعيب)
ممر طويل أسير فيه وحدي، مظلم، مقفر التهوئة، لو يكن هذا دربي، بل كان صميمي وما يخرج عن كياني، أشعر أني أقف في جزيرة بعيدة، بحرها ميت، سماؤها مطلية بلون حجر مقدس أنهكوه من كثر الآثام فتوشح بالسواد، وكأنه قد نسى النور
لم يأتني هذا الشعور عن فائض ما لاقيته من خوف في التحقيقات، فقد عشت دائمًا أبحث عن طريق قد يجعلني أفهم.. بت لا أعرف من أنا، من صغري وأنا مشتاق لمغامرة أكون بطلها، فدائمًا ما كنت الكومبارس في كل شيء، يحترق قلبي فيهنأ أبي في رغد من المتعة والمرح هو وزوجته الكذوب، أجوع وأذل فأضرب.. تهان كرامتي أسفل الأقدام، فتعاد كرَّة الضرب، لمَ لا أسترد ولو قليل مما أهدر من كرامتي..
كنت قد وصلت للبيت الذي ماتت فيه أمي، حديقته لحقتها فصارت درب من الخيال، من الماضي السحيق، نظرت حولي.. أرجوحتي مغلفة بالتراب، متهالكة مثلما أُهلك، أرى الكذوب وهي تحطمها أمام عينيّ فرجل في الحادية عشر من عمره لا يجب عليه اللعب! قد وجدت في عينيّ صبر الرجال فسرحتنى من طابور الطفولة لبؤرة الهوان، باب البيت لا يزال مفتوحًا على مصراعيه، كما هو، لم يصبه شيئًا من حريق اللص.. فكيف له من دخول!
ظهر ضوء كشاف طفيف أمام عيني، ينير لي خطواتي خطوة خطوة، صوت رياح شديدة جعلتني أتحرك للأمام، فأغلق الباب، قيدني أحد ما وأجلسني عنوة فوق مقعدٍ متهالك ببهو البيت، سمعت صوت مزلاج الباب هو يفتح، وجدت أمي تدخل أمام عيني، ما زلت جالسا مكاني، حاولت النهوض ولكني مقيد، تحركت خطوات للداخل وهي تبتسم لي، جاء الشبح من خلفها وضرب رأسها بمطرقة من حديد فوقعت، نظراتها الزائغة تستغيث بي، كلما حاولت الوقوف أشعر أن هناك نار ستفتك بي، تلاشت أمي من أمامي.. تلبستني، لأجد نفسي جالسا مكانها، أبي يقف أمامها وبجانبه اسطوانة غاز، نظراته لا تبشر، ينوي شرًا، شعرت بما تشعر من خوف وما يحويه قلبها من كبرياء، نظراتها كانت جامدة، قدر ما تغلغل الرعب بأوردتها أظهر الثبات، نظر لها وهو يقول بسخرية:
– لا أحد يعترض طريقي، كل ما أريده سأفعله، هل سمعتِ عن ذلك البطل الذي حاول إنقاذ زوجته من الحريق؟ معذرة ولكن يبدو أني أنسى كثيرًا.. فسوف يحترق جسدك هذا قبل أن تسمعي.
ألقى بقداحته أرضًا فاشتعل كل شيء حولي، صراخها أصم أذني، كل خلية من جسدي شعرت بما شعرت به أمي من ألم، فكت قيودي، وقعت أرضًا أتمرمغ في حبات التراب التي كست بهونا، علَّه يطفئ الحريق عن قلبي، فتستشعره أمي، ربما رجعت للحياة، تسلل إلى مسمعيَّ صوت طفل صغير يقول: