“الحزن، دموع العين، جرح القلب، مجرد فاتورة مسبقة الدفع لدرس تعملته.. مفاده أني أصبحت لا أثق في أحد”.
العائلة.. مصطلح طالما سمعت عنه ولكني لم أشعر به قبلًا، فأمي دائمًا صامتة، ولا نتحدث إلا عن طريق الإشارات التي تعلمت إياها بعد الحادثة وتعملها أبي من أجلها، وصارت هذه هي وسيلة التواصل بيننا في البيت، حتى أنه إذا وبخني على شيء خاطئ اقترفته فعليه أن يعيد ما قاله لي أمام أمي لتعرف ما فعلت، حتى لو كان هذا يثير بداخلي الغضب أو ربما الجنون، لذلك كنت أقوم بما يطلبه مني حتى لو لم يكن متوافقًا مع قناعتي الشخصية، هذا فقط لعدم إلقاء أي لوم عليّ، حيث الحياة الهادئة التي خلت من ضجيج الأفكار، من الألفة والحب، انغمست في دراستي على أمل أن أستقل بذاتي وأخرج من تحكمات البيت،
فالمجتمع هنا مختلف تمام الاختلاف عما أعيشه ببيتي، أبي غير هؤلاء الآباء الذين أراهم يوميا بصحبة زملائي.. زملائي الذين لقبوني بغريبة الأطوار لأنني مختلفة عنهم، ليس هذا لأن أبي عربي المنشأ، ولكن لأن طباعي لم تتأثر بالتفتح الذي أعاهده وظللت في شرنقتي قابعة.. أخشى ضوء الشمس.. أو ربما وجدوني مختلفة عن باقي الفراشات فصرت منبوذة، وقادني هذا ألا أفكر في ركوب الحافلة مرة أخرى، فأنا دائمًا مدعاة للضحك والسخرية، حتى وإن كنت الأولى على مدرستي وربما على الولاية بأكملها فهذا لن يثنيهم على تنمرهم عليّ مع ازدياد الحقد.. الحقد المصاحب للعنصرية التي لم تنتهِ مثلما يحاولون إظهار ذلك، أقع تحت يدي شباب بهيئة سوداء، مضهدون مثلي، لينقذني ما لم أفكر فيه قبلًا، قبس من نور أضاء لي الطريق نحو الدفء.. دفء العائلة الذي حرمت منه، عقلي انغلق على نفسه بعد أن أخبرني بنيامين بأنه ابن خالتي، ولكن هل لي خالة من الأساس! أبي لم يحدثني عنهم من قبل، الحادثة القديمة حكيت أمامي من كثرة سؤالي ليس إلا.. تأملت الغرفة التي أنا بها، في محاولة من لردع عينيّ من النظر لبنيامين الذي ينظر لي عن كثب ويراقبني ويتأمل شرودي، قال بفرح:
– الآن خرج من قلبي كل ما كنت أخبئه طوال عام كامل، أنا مثلك، كنت لا أعرف أن لي ابنة خالة، ولكن أمي أخبرتيني عنكم الكثير.
جال في خاطري أمر غريب، كلامه معناه أنهم يعرفون مكاننا من أمد بعيد، فكيف لم يحاول أحدهم التخلص مننا كما فعلوا بالماضي، أو على الأقل لماذا أنقذني بنيامين اليوم، ورغم عمق الأفكار إلا أن الظاهر أني هنا بأمان، فبالتأكيد لن يقذوني من الموت بالشارع ليقتلوني على سرير ناعم في شقتهم، وليس هناك من غبي سيفكر في هكذا أمر غيري.. وما أغبى عقول النساء -كما يقول أبي- في النهاية استسلمت للواقع وبدأت في الكلام:
– لماذا لم تبحثوا عنا منذ زمن؟
– رد بتلقائية: لسنا بحاجة عن البحث عنكم، ممكن أن يكون السؤال، لماذا لم نتقابل من قبل.
– ابتسمت وقلت: حسنًا، لماذا لم ننقابل قبل اليوم؟
كان رده محببًا للقلب، يفرش سماءه نورا ليشق طريقه بداخله، من دون تردد قال:
– خلاف بين أبيك والعائلة كلفنا الكثير والكثير، حتى وصلت لمقاطعة بينهم عمرا بأكمله..
بنبرة ممتعضة قلت وأنا أرفع إحدى حاجبي:
– أي خلاف هذا الذي يجعل العائلة تحاول أكثر من مرة قتل ابنتهم، عائلة العنكبوت هذه!
دون أن يهتز جفنه قال بنظرة حانية:
– نعم عائلة العنكبوت هي من تقتل الزوجها زوجها لتأتي ببيضة، وحين تفقس يتغذون عليها هي، لكن عائلتنا أبدًا لا تقتل الأبناء، عائلتنا كريمة جدًا، إذا أخبرك أحدهم أننا أهلنا حاولوا قتلهما فهو كاذب.