انتهت الصلاة في ذلك اليوم وكنت أفكر بداخلي عن الكعك الذي سهرت أمي على مدار أكثر من يوم لتجهزه، والذي لم ينل إعجاب أبي أبدًا حتى أنني رأيته ينهرها ويوبخها لأنه كل عام يخبرها بأن يشتريه جاهزا بدلًا من هذا والذي كان يسميه “العك” بحذف الحرف الأول من الكلمة، مما يجعلني أتعجب، هل أنقص الحرف لأنه ينقصه بعض السكر؟! فقد أقول في نفسي بالتأكيد نست أمي، ولكن في الغالب لم أذق في جمال ما كانت تطهيه أبدًا، جاء وقت الظهيرة وأيقظته أمي فانهال عليها ضربًا وانتهى اليوم بي وبأمي لنخرج ولكن لزيارة المستشفى بعد كسر زراعها الأيسر، هذه الأيام قصينا نصفها بالمشفى والنصف الآخر في بيت جدي، ولم تشأ وقتها أمي أن تبلغ عنه ويا ليتها فعلت..
أفقت من شرودي على صوته الذي جاء جهوريًا ليرغمني على التذكر بأني ما زلت رهن اعتقاله:
– هل سؤال جاءك على الجرح، أستشعر انكماش جسدك وانتفاض عضلاتك.. سأنهي هذا اللقاء وللأسف لن ترجع بيتك اليوم، أنت تقول أن لا هناك أي جريمة أستطيع اتهامك بها، ولكن جريمة قتل العجوز ما زالت مفتوحة، ستكون رهن الاعتقال حتى تخبرنا بما تخبئه، وما يجعلك تصمت هكذا..
صوت خطواته جعلني أنتفض أكثر، شعرت بأنفاسه وهي تلمس وجهي فازداد في الرعب، أوقفني رغمًا عني فلم أجد حلا سوى أن أقول:
ماتت محروقة في بيتنا القديم، لقد قتلها أبي.
“حين أمر من هنا أتذكر أن لي قطعة من الجنة أُخذت من قلبي عنوة.. فهلا حافظتِ لي عليها من عبث أهل الأرض؟”
– ماتت أمي في حادث حريق، لقد قتلها أبي.
وكأنه لم يستمع لي، ظل يدفعني بيده لكي يخرجني من غرفة التحقيق، أصوات العويل، صرخات المعذبين بالخارج روادت عقلي وجعلتني أنهار وأقع أرضًا، فقد عشت أوقات غامقة معها كالتي استشعرتها وأنا منقاد إلى هذه الغرفة، ولكن الفرق بينهما أنني حينها كنت في بيتي وعُذبت أمام عيني أبي، والذي أغمضهما لكي يقول أنه يرَ أو هكذا أقنع نفسه.. أما هنا فالموضوع يخص سلسلة جرائم، وقعت لفتاة ثرية، فمن سيتهم فيها غير زوجها الفقير؟ نشأت ضعيفًا يلا ظهر، وكبرت فقيرًا بلا مأوى والأمران سيان.
كنت ما زلت أفترش البلاط، صوت أنفاسي صار عاليا، الخوف يقيد تفكيري ويشل حركتي، لا أعرف هل كانت الأرضية مبتلة أسفلي أم أني تبولت في سروالي الأمر الذي ربما جعل الضابط يرأف بي ويساعدني على الوقوف، ربت على كتفي وأرجعني ثانية على المقعد الذي كنت أجلس عليه منذ قليل، قال بصوتٍ هادئ بعد أن أعطاني في يدي كأس به ماء بارد:
– اشرب، ثم قص عليَّ كيف قتلها أبوك؟
اكتشفت بأني كنت أشعر بظمأ شديد دون أن أنتبه، لا أعلم.. هل القلق والخوق قد يقتلا باقي الحواس حين يتغلغلا بداخنا، أم لأنه في مكان كهذا التفكير في الخروج منه أغلى من قطرة الماء؟ قلت بصوت مرتعش:
– لا مناص لي سوى أن أخبركم بكل شيء، فلو فتح التحقيق في هذه القضية مرة أخرى ستعرف لا محالة…
قاطعني وهو يقول:
– لم يكن الحادث بدافع السرقة مثلما قال في التحقيقات، أليس كذلك؟
استغرقت في الأفكار التي طالما صاحبتني أكثر من صحوي، تساءلت داخلي بسخرية، كيف أخبره بأني أعتبرها أخطر جريمة سرقة في التاريخ، سرق الحلم من قلب امرأة كل همها أنها أحبت رجلا لا سواه، خطف البراءة من طفل لم تحفر ملامح وجه أمه في قلبه بعد، لقد سرقوها مني قبل أن يتخلصوا من حياتها حرقا على قيد الحياة، ولكنه أخرجني من نسيج ذكرياتي وهو يقول: