كانت ترتيبات عودتي عجيبة، كيف استطاع هؤلاء جعل الأشياء سلسة هكذا، خرجنا من المستشفى وكنا متجهين إلى المزرعة، وبالفعل أصبحت أمام ناظري مما جعلني أتذكر الصلاة وأعرف لماذا يسجد المرء حين يرجع إلى وطنه، فقد انتابني شعور بالحالة للسجود حين رأيت منزلي، كنت ما زلت بتلك السيارة السوداء، قابعة أنا في المقعد الخلفي وحدي، الحارس أو الضابط الذي يجلس بجانب السائق قال في جهازه اللاسلكي:
– تجهزوا لفتح البوابات، فأمامنا خمس دقائق ونصفهن على الوصول..
جاءه الرد سريعًا مصاحب لصوت الخنوع:
– علم وينفذ يا فندم.
مررت بجانب المزرعة ولكنها لم تفتح لنا أبوابها، كأنها ترفض الاستقبال، فلم تعطنا ترحابًا منذ أن وصلنا للمرة الأولى، بل أنه كان نذير شؤم أن نختطف من أمام يوابتها.. نظر لي الحارس ولم أتبين ما قد تلقيه عيناه من كلام، فقد كان يرتدي نظارة سوداء، قال بصوتٍ أجش:
– أعرف أنك تشعرين بالتعجب لعدم دخولك المزرعة، لكنها مجرد ترتيبات، ستكونين في بيتك بعد ثلاث دقائق.
لم تتغير نظرة المتعجبة من عينيّ فقد اتحد حاجبي معها فرفعا أمام ناظريه، ابتسم ثم قال:
– ستدخلين مزرعتك من خلال مزرعة الأحباب.
ماذا أفعل تجاه عيني وهما تطالعانه بنفس الاستغراب، فأكمل دون انقطاع ليقطع عليّ استنكاري:
– سأفهمك كل شيء لا تقلقي، فمنذ حادثة زوجة الطبيب والأجهزة الأمنية تجمع المعلومات حولهم بشكل سري، حين عرفنا بقدومكم بدأنا بترتيب كل شيء حتى تكونوا تحت أعيننا، فقد علمنا أنك ستنزلين مصر، وكنا نشك بأنك معهم خاصة وأن أمك يهودية.. وكل شيء جاء بشكل سريع ولم نكن نعتقد بأنك ستخبرينا كل شيء.. المزرعة التي اشتريتموها نحن من باعها لكم حتى تكونوا بجانب مزرعة تابعة أيضا لنا فنستطيع مراقبتكم، والآن بات الأمر وكأنه تم تأمينكم دون إرادة…
أنهي كلامه بعدما ضحك وهو يقول:
لقد وصلتِ لمزرعة الأحباب، نـتأسف لأننا اضطررنا بأن نغتح معبرا صغيرا يكفي لإيواء كتيبة، انظري..
نظرت وأنا أتطلع للأبواب المتراصة بجانب بعضها من سور المزرعة الداخلي، وكأنها صنعت لتكون أبواب خلفية لبيوت الفلاحين الموجودة بمزرعة أبي.. اقتربنا من أحد الأبواب، فتحه لأجد أمام غرفة ضيقة، حوائها متآكلة وكأنها مهجورة منذ ألف عام، لم يكن بها أحد، وضعت يدي على أنفى لأتلافى رائحة العطن، بضع خطوات مشيناها لنفتح الباب المقابل لنا، ها أنا عدت من جد لبيتي، ربما ملاذي الآمن الذي لم يسعني الحظ أن أستشعر غمرته لي، تركني الحارس وهو يخبرني بأننا سنظل على اتصال.. كنت متلهفة، أشعر بالاشتياق لأبي وأمي، حاربت ألمي جسدي وتحاملت على نفسى وأنا أدخل القصر، كان بابه مفتوح على مصراعيه، ممر قصير يقودني إلى بهو عظيم مليء بالأثاث، كان أبي وأمي يجلسان على صالون مذهب يتطلعان إليّ في حزن، وقفت أمي وجرت عليّ والدموع تتساقط على وجنتيها، من يراها وهي تسرع إليّ يظن أنها ابنة العشرين رغم إتمامها قبل أمس لعقدها السادس، وهذا ما جعل أبي يحجز لنا على رحلة الطيران الأولى لهذا اليوم، أخذتني في حضنها ولسان حالها “ليتنا لم نأتِ” هنا وقف أبي وهو يتطلع في وجههي ويقول:
– أمك لم تفعل شيئًا منذ أن رأتني سوى البكاء، رغم أنهم أن أحدا لم يأخذنا مثلنا للتحقيق، إلا أنها تتألم كما لو أنها هي من الغائبة.
مد يده اليمنى وربت على كتفي دون أن يجبر أمي على تركها إياي، كانت أكثر من يحبني على وجه هذه الأرض، دائمًا كنت أنظر للسماء بعد غروب الشمس وأسأل نفسي ماذا لو أنها رحلت ولم ترجع، ألا يحق للنهار أن يكون باردًا كمثل الليل، وحين كنت أسأل أبي عن هذا يجيبني أن الشمس بالنهار كأمي في حياتنا لو غربت عنها سيتحول فرحنا لحزن، وسيطول الحزن ليجعل يوما مجرد ليل دائم..
استعدت أفكاري وأمي لا تريد أن تتركني، وكأنها خائفة أن أرحل مرة ثانية، أرحل دون رجوع، أفلت نفسي من يديها، فنظر لأبي بلوم، كأنها تلقي إثم ما حدث على عاتقه وحده..
دائمًا ما كانت علاقتهما عجيبة بالنسبة لي، الكثير من الحب المغلف بمشاعر متضاربة بين الحب الكامل، الحزن الدفين، الكره الغاشم والذي قد يغرق حياتنا يوما ما.. ربما بداخلها تحمله أيضا سبب فقدانها للنطق وخسارة عائلتها بأكملها في مناسبتين مختلفتين، فقد أخبرني بأنها سليلة لعائلة يهودية عريقة وحين عرفوا بأنها تحب شاب عربي أقاموا عليهما الحرب حتى أنهم كانوا على وشك طرده من البلاد ولكن تمسكها به كان كإلقاء حجر صغير ببركة ماء، فقط سقوطه قد يحدث تشويشا ويعود كل شيء كما كان، غادرت هي بيت عائلتها ومكثت في بيته أو كما أخبرني بغرفته التي لا لم يكن يوجد بها سوى سرير صغير لن يكفي لاحتضانهما معًا.. بعد ولادتي ببضعة أشهر كان أبي قد حقق بعض النجاحات
واستطاع توفير منزلا به غرفة خاصة لي وغرفة كبيرة غير تلك التي كرهها بسبب فقره، أخبرني أنه كان يخرج لعمله بالصباح في سيارة صغيرة قد اشتراها حينها، وفي يوم الحادثة كانت الشوارع خاوية على غير عادتها، كان متعجبًا من الهدوء الزائد الذي لم يعهده قبلا ولكنه كان الهدوء الذي يسبق انفجار البركان، فقد وجد أمامه حاجزا سيارة تسير ببطء حاول أن يتخطاها ولكنها ملازمة منه، وسيارة كبيرة بالخلف تسير بسرعة كلما حاول المرور ليتلافاها تسرع أكثر، فأدرك أن هذا من تدبير عائلة أمي، نجى أبي لأعجوبة في ذلك اليوم..