قلت بصوت هادئ:
– لا شيء، تعارك معهم واستطاع أحدهم أن يضربني وهو منشغل مع الباقين، ولكنه أنقذني منهم، لا يستحق هؤلاء الناس أن يلقى عليهم اللوم في حادثة لولاهم لا كنت ميتة الآن، أو على أقل تقدير سأكون مخطوفة.
اقترب أبي مني أكثر وأمسك معصمي بشدة وهو يقول بغضب:
– ولماذا لم تأخذي الحافلة للمدرسة، ومنذ متى وأنتِ تواعدين ابن خالتك الفتى اليهودي.
ما قاله أبي جعلني أتذكر أن عقائدنا مختلفة، وأنه لا يجوز لي الاقتراب منه أو مواعدته باسم الحب، وهذا كان مربط الفرس، نظرت لأبي وهو ما زال يشد كف يده على معصمي ويؤلمه:
– من وقت طويل وأنا لا أركب الحافلة، وأنت لا تعرف أي شيء يخصني، ولم تحاول يومًا أن تسألني عن أي شيء.
ترك يدي وهو يتنقل ببصره لكل الموجودين بالغرفة، والذى بدى على وجوهم إمارات الشماتة، يقال أن جناح بعوضة في الولايات المتحدة، قد يحدث حريقًا هائلًا في الصين.. هذه نظرية طرحت فعلا، وهكذا تدار الأمور، المجتمع هو النموذج الأكبر للأسرة، فإذا صلحت الأسرة صلح المجتمع، وإذا فسدت فأهلا بالفوضى، أن يكون كل ما من حولك محل شك، الغريب يقدم لك باقة من الزهور، والأقرب إلى قلبك ترمي له بذور الحب دون حساب، فتجني باقة سوداء ملمسها الشوك. وحافتها طريق آخر ملغم بالشكوك، أنهيت كلماتي فخرج رجال الشرطة بعد أخذهم لأقوال بنيامين عن مواصفات الجناة، فأخبرونا أنهم بالتأكيد سيقوموا بالتحقيق في الحادث وأنهم لن يتركوهم دون حساب، وقف أبي وأخبرني يأنه سيتصل بالإسعاف لينقلوني للمشفى، أكملت بثقة وأنا أنظر له ببرود:
– لا داعي يا أبي، فأنا هنا بخير، ما حدث بالماضي اتضح أمره، أيًا كان لا يفرق معي، دعني أبيت هنا اليوم..
صمت قليلا، وأكملت مستدركة للأمر:
– هذا إن كانت خالتي والخال شمعون مرحبان بذلك.
بدى الفرح جليا على وجوههم، بنيامين ينظر لي بتلك النظرة التي تلقتها عيناي حين فتحتهما لأول مرة في هذا البيت، ليقول مفاجئًا الجميع:
– إن لم تسعك غرفتي سأجعل لكِ في قلبي مجلسًا تدخله الشمس خصيصًا لتفرش لك دفئًا ليس له وجود إلا بداخله.
استشاط أبي غضبًا، لم ينظر لهم، لا أعرف أكان خائفًا من وجودنا في بيتهم، أم ولأن عقيدتنا تتعارض مع عقيدة الخالة فلا يصح أن أكون بينهم.. استطاع بغضبه أن يشتعل فتيل الشك بداخلي، غبت عن العقل والمنطق، نظراتهم بين الحب والإشفاق أربكت حساباتي، قال أبي:
– ابنتي، صدقيني هذه العائلة كانت السبب في تحطيم حياتي، حاولوا طردي حين أحببت أمك، حاولوا قتلها أثناء حملها فيك، حرمونا الاستماع لصوتها، حرموكِ من سماعك كلمة ابنتي، كلمات وأحاسيس تم سرقتها منك…
وابل من الدموع تتساقط على وجنتي بلا هوادة، وضعت يدي على أذني، لا أريد أن أعرف ما حدث، حتى لو قتلت في هذا اليوم لن يفرق معي، فما قيمة حياتي إذا لمس بنيانها الإفك العظيم، لم ينتهِ أبي من الكلام، بل قاطعته خالتي بنبرة قاسية:
– لماذا لا تصدق أن حادثة زوجتك كانت مجرد صدفة، لو كنا نريد قتلكما لكنا فعلناها منذ زمن.. غرورك وعنادك وكبرك هم السبب في كل ما حدث…
صمتت قليلًا ولكن الخال شمعون قال بصوتٍ هادئ:
– سيد عزام، الأمور قد تحل، في الربيع تنبت الزهور، فلننسى ما قد أهلك ف الخريف ونحاول حصاد ما زرعناه بحب، لقد أنقذنا تلا لأنها ابنتنا، لو كانت النية غير ذلك لتركها بنيامين لكلاب الشوارع.. هذه ابنتنا ولن نتركها تخرج من هنا إلا بعد شفائها.
كاد أبي أن يقول شيئًا ولكن بنيامين قطع عليه سبل الحوار وهو يقول بنبرة واثقة:
– لا تنسَ يا سيد عزام أنها قد أكملت السابعة عشر، وهذا معناه أنها تستطيع الرحيل عن بيتك دون أخذ إذنك، هي قررت المبيت هنا واختارت غرفتي، أنت أيضًا مرحب بك في أي وقت..
حالة من السكون احتلت خبايا الغضب فأسكتته قبل أن تعم فوضاه، فجأة أطفأت خالتي ضوء الغرفة إشارة منها بأنه قد حان وقت نومي، قالت محاولة استفزاز أبي:
– معذرة سيد عزام، لكن حان موعد نومنا، سننتظرك غدا ولا تنسَ أن تبلغ أختي بأني اشتقت لها كثيرًا.
هذه الليلة كانت بداية معرفتي بالعائلة الكبرى لأمي، خرج أبي مؤكدًا بأنه سيعود مرة ثانية ولكن بصحبة أمي، شعرت لأول مرة بروائح الدفء، وعلى مائدة الطعام وجدت كل سبل التعاون بينهم، فزوج خالتي يحضر الطاولة بنفسه ويضع الأطباق، خالتس تحضر العشاء، وبنيامين يساعدها في التحضير، نموذج حي لم أره من قبل، كنت أستند على بنيامين حتى أجلسني على مقعد في مقابلته، انغمس الجميع في تناول وجبتهم أو كما كمت أظن، لأني وجدته يسترق النظر لي بين الحينة والأخرى مما جعلني أتذكر موهبتي في قوة الملاحظة، حيث اكتشفت أن غرفة الطعام بالكامل كانت مصنوعة من الخشب وأن الأرضية كانت من السيراميك وقد وضع العامل مائة بلاطة من بين اللون الرصاصي والأسود فجعلتنا جالسين فوق رقعة كبيرة للشطرنج مع اختلاف زيادة عدد الرقعات.. صوت شمعون العالي أخرجني من شرودي: