رواية الغزال الباكي كاملة جميع الفصول

رواية الغزال الباكي

­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­

– آلاء جت اخيرًا، تعالي سلمي عليها ونشرب أي حاجة.
– هسلم عليها بس اعفيني مش هقدر أقعد معاكوا عشان اتأخرت على شادي وزمانه عايز ياكل.
صافحتها “آلاء” بكل حب، وجلست معهما تحت إلحاحها لبعض من الوقت، اطمئنت على احوالها، ثم نهضت وسارت في خطاها متوجهه لابنها كل ما تبقى لها من دنياها، عانقته وضمته بحب؛ ثم قبلته واخرجت طعامه من الحقيبه، واطعمته بذهن شارد وتائه.
عيونه كانت تنظر مكان خط سيرها تترجاها بالا تستعجل الرحيل، بـ الا تتركه وتأخذ روحه المشتاقه للمكوث بجوارها، ظل صامتًا وتبدل فرحته لحزن؛ لاحظت

close

 

اخته ما يدور بداخله، فقد كان سماع صراخ قلبه وسرعة نبضاته يصل لها، فنظراته تفضح ما يحاول يخفيه عن الجميع، فمن السهل عليها ترجمة ما تراه، وكيف لا وهي عاشقة حد النخاع وتعلم وجع القلب كيف يكون؟
ربتت على يده بحنان قائلة:
– بلاش تعذب روحگ يا أمان، غزال لسه مجروحه، لسه مفقتش من الضربه اللي الدنيا ادتهلها بكل عنف، انا متأكده انها لما تفوق مش هتلاقي احسن منگ راجل يعوضها عن كل اللي مرت بيه، بس انت اصبر واوعى تبين ليها مشاعرگ دلوقتي، خليها تحس معاگ بالامان اللي هي مفتقداه، خليگ انت امانها يا أمان.
اخرج من جوفه اآآه حزن وتنهد قائلا بوجع واشتياق:
– مش قادر يا آلاء أصبر اكتر من كده، بحبها اوي، ومش بس بحبها انا بتنفسها، ومستغرب ازاي حبتها بالسرعة دي، نفسي اخدها في حضني واعوضها على اي

 

وجع حست بيه في يوم، نفسي انسيها كل الماضي بكل اللي فيه، نفسي ابدل حزنها اللي مالي عيونها لفرحه كبيره.
صمت لتذكره للحظة لمعان عيونها، فتبسم، تعجبت الجالسه أمامه واندهشت، فاكمل حديثة مسترسلا:
– آآآه لو تعرفي يا آلاء أنا بحبها اد ايه؛ مكنتيش ابدا تقوليلي اصبر.
– بس متنساش يا دكتور انت تخطيت قوانين المهنه، وحبيت مريضتگ وده ممنوع ولا ناسي؟
– مش ناسي بس اللي حضرتگ نسياه أنا دكتور تغذية مش نفساني ولا بمارس مهنة الطب البشري، في فرق كبير، وكمان يا آلاء أنا حبتها من قبل حتى ما

 

اشوفها.. قلبي تعاطف مع حكايتها.. دق مع كل حرف سردته بدموع عينها.. كل آهه خرجت منها كأنها كانت سهم اصاب قلبي من غير ما تحس، انتي اكتر واحده عارفة اني عمر ما في ست بعد وفاة زوجتي ما حركت شعره ولا هزت قاع قلبي؛ إلا هي هتسأليني إزاي، هقسم ليكِ اني لحد اللحظة دي مش عارف، ولا عايز اعرف غير أن القدر زي ما عرف يوجعها بجوازة فشله؛ حب يراضيها ويجبر بخاطرها وخاطري، ويعوضنا ببعض.
تأثرت لقوله، وغرغرت سحابة من الدموع داخل مقلتيها، واشفقت على حالته لكنها لا تجد له حل بين يداها؛ إلا انها تتخطى معها هذا الحاجز الذي يمنعها في أن تفتح باب جدران فؤادها من جديد، قطع هذا الصمت ركوض “فادي” نحوهم معانق عمته بحب، طالبًا منها أن تطلب لهما الطعام، نهض “أمان” ليجلب ما طلبوه،

 

ثم سار نحوها يخطف منها نظره تصبر قلبه الملتاع بحبها، لمحها تلاعب صغيرها بحب، تمنى ان يكون هذا الصغير طفلهما، وينعم هو واسرته من كتله منبع الحب هذا، ظل يراقبها عن بعد، فقد كانت مثل النجمه البعيده كبعد السماء عن الأرض.
ظل يرمقها بحب دون أن تلمح طيفه، ثم انصرف متوجهًا نحو ابنه واخته، ومعه الطعام الذي تناوله بدون أن يشعر بأي مذاق له.
ومرت الأسابيع وحالة “غزال” في تحسن ملحوظ لمن يراها، فقد فقدت الكثير من وزنها، ومع كل جرام تنقصه تشعر بثقة في نفسها، والسعاده تملئ محراب عيناها وتسكنه، وفي ذات يوم سألت والدتها عن فستان تريد ارتداءه ولكنها بحثت عنه كثيرًا ولم تعثر عليه، ابلغتها والدتها بأنه موجود في خزينة ملابسها، زفرت أنفاسها بتعب، لكنها عندما كانت تبحث عنه، وقع عيناها على شيء جعلها في لحظة عقلها يسترجع في دفاتره القديمه على ذكرى وجع تذكرتها دون وعي…
كانت “غزال” خارجه من مرحاض غرفة نومها مرتدية قميصًا شفافًا يظهر جسدها بالكامل، جلست أمام مرآتها تضع بعض اللمسات الرقيقة على وجهها، وعندما لمحت ولوج “فؤاد” من باب الغرفه، نهضت مسرعة نحوه محتضناه، رافعه يدها لتعانقه بكل شوق داخلها، لكنها وجدت منه الجفا، الصد، ونظرة

 

اشمئزاز جعلتها تخفض يداها في خزي، طأطأة رأسها ونظرت لأسفل، فقد كانت نظرته ما هي إلا رصاصة واستقرت في قلبها جعلتها تنازع في خروج روحها لكنها ابت أن تخرج إلا بعد أن القى على مسمعها اقذر العبرات، ونهرها على سوء اختيارها لهذا الرداء الشفاف الذي يظهر منحدراتها وتضاريسها المرتفعه، اغمضت عيناها وتركت الهطول لادمعها في صمت، لم تجد رد تقوله، فماذا تقول وهي من وجهة نظرها المحدوده هو محق فيما قذفها به من كلام جارح، كرهت نفسها، وسَبت هذا الجسم الممتلئ الذي يضعها في مواقف تجعلها كالخرساء لا تستطيع أن تنطق او تتفوه بحرف، بكت ولم يشعر بها اقرب ما لديها بما فعله لها، وكل الذي فعله بأنه بخ سمه وتركها تعاني سريانه في جسدها وأغلق بابها وذهب للغرفه الثانيه التي يبيت بها منذ بداية زواجهما، بينما هي بدلته وقذفت به داخل خزانتها واقسمت بالا ترتدية مره ثانية.

 

فاقت من شرودها وهي ممسكة بهذا الرداء الشفاف بكل غل وغضب وقامت بتمزيقه، ثم رمتة تحت قدميها، ودهسته بكل ما أوتت من قوه، كمن يريد أن يدهس تلگ الذكرى الأليمه من ذاكرتها، ثم انحنت وامسكته وقالت هامسه وعيناها تحدقه بتحدي وقوة:
– زي ما اتوجعت بسببگ في يوم ومقدرتش البسگ عشان شكلي؛ دلوقتي قدرت اغيره ولسه هيتغير كمان وكمان، وعمري ما هيأس ابدا، هيكون زي ما اتمنى واحسن، وعمري ما هسجن نفسي جوه القوقعه تاني، خلاص العصفور طار واتحرر من قيوده، وذاق طعم الحرية، ومستحيل هيتخلى عنها تحت أي ظرف مهما كان.

 

سمعت صوت والدتها تسألها عما كانت تريده، فأجابت قائلة:
– خلاص يا ماما مش مهم، أنا لقيت اللي اهم منه، متشغليش بالگ.
انهت كلامها وقذفت به ووضعته في الخزينه محتفظه به حتى يكون ذكرى لموقف حزين تتذكره كلما زاد وزنها، فيكون هو القوه الخفيه التي تجعلها تتراجع من جديد وتعمل على نقصانه مره ثانية.
سمعت رنين هاتفها وكان “محمود” والد طليقها، رد عليه بترحاب فطلب منها مشاهدة حفيده الوحيد، وافقت على مطلبه وقالت بأنها كانت تنوي الذهاب إليه غدا لتقضي معه طوال اليوم، سعد الجد لحنانها وطيبة قلبها، شكرها واغلق معها وهو يلعن ويسب ابنه لضياعها من يده، وظل يفكر كثيرا في حاله، حتى شعر بضجيج وغليان داخل رأسه، والصداع يفجر رأسه، نهض يأخذ علاج الضغط، ثم عاود واستسلم لتلگ الأصوات والطبول التي يعلو صديحها ولا يستطيع اسكاتها؛ كأنها اعلنت عليه حاله التأهب للحرب، ولا فرار من وقوفها، اغمض عيناه، ووضع كفيه على اذنيه حتى يصمت هذا الصوت الذي ينهر ابنه، لكنه كان أعلى واشد

 

وآبى ان يصمت.
خرجت “غزال” تجلس مع والدتها وتتابع صغيرها، فلاحظت اخاها يحمل حقيبته بيده ومن خلفه زوجته واولادها، فتعجبت وسألته:
– على فين كده يا سند؟ انت مسافر ولا اية؟
اقترب منها و وضع الحقيبه بجانبه وقال بهدوء:
– لا يا حبيبتي أنا هروح بيتي كفاية لحد كده، أنا خلاص اطمنت عليكِ، بقيتي احسن و وقفتي على رجلگ وثقتگ بنفسگ بتزيد، دوري انتهى.
– ازاي تقول كده؟ انت هتفضل طول عمرگ سندي وعمري ما اقدر استغنى عنگ ابدا، ليه عايز تسبني، خليگ معايا وكلنا مع بعض بتقوى ببعض.
– يا حبيبتي، غصب عني الدراسة على الأبواب ومدارس الأولاد قريبه من البيت، والدروس انتي عارفة، أن المدرسة ليها نظامها، وأنا بأذن الله كل يوم هعدي عليكم اطمن لو محتاجين اي حاجة عيوني مش هتأخر في اي حاجة.

 

ربتت والدتها عليها بحب، ونظرت لابنها وقالت:
– ربنا يعينگ يا بني، شوف حالگ ومصلحة عيالگ أولى، وانتي يا غزال أنا قاعده معاكِ اية مش كفاية.
ابتسمت بحزن وقالت:
– ربنا يبارك في صحتگ ويخليكِ ليا يا ماما، ولا يحرمني منكوا يارب.
– يارب ياحبيبتي، وليكِ عليا نقضي معاكِ اخر العطله من كل أسبوع، بس انتِ اتحملينا في خناقنا في حل الواجب، ولما الإجازة تيجي هنرجع تاني لقواعدنا

 

ومش هنسيبگ، مبسوطة يا غزال؟
قالت “سمية” حديثها وهي تقترب منها وتعانقها بحب، بادلتها اياه “غزال” التي قالت بحب:
– أكيد مبسوطة طول ما انتوا جنبي وحواليا، انتوا فعلا نعم السند، ربنا ميحرمني منكوا يارب.
وصل “سند” لمنزله، و ولج داخل غرفة نومه يضع الحقائب بداخلها، اتاه صوت زوجتة قائلا بنبره حنين:
– يااااه بيتي كان وحشني اوي، وسريري كمان، حاسه أني غايبه عنه سنين.

 

تحركت وارتمت بجسدها عليه واغمضت عيناها براحه، كان “سند” يتابع تصرفها هذا وبداخله لا يجد اعتذار لها على تحملها الأيام السابقة وظروف تعب اخته، وهي لم تمانع او تعترض، أقترب منه ومال بجسده ليقبلها على وجنتيها، فتحت مقلتيها، فوجدت إبتسامه ساحره على ثغره، بادلته بابتسامه وعيناها تسأل فأجاب:
– آسف يا حبيبتي أني كنت السبب أني حرمتگ من راحتگ دي.
اعتدلت في مجلسها، وعبس وجهها وضيقت عيناها قائلة بتعجب:
– ليه بتتأسف يا سند، هو في بينا اي آسف؟ واية حكاية السبب دي، كل ده عشان قولت بتلقائية أن سريري وحشني.
– لا طبعا يا سمية، أنا بس اللي ضغطت عليكِ الفترة اللي فاتت، وخليتگ تقعدي في شقة غزال وكده.
– اخس عليگ ازاي تقول كده، غزال زي ما هي اختگ فهي اختي كمان، واللي عملناه ده عين العقل هي كانت محتاجة للعون عشان تتخطى ازمتها، ولو مكناش احنا العون ده، هتلاقيه فين؟ وأنا مشتكتش، وبلاش حساسية لو سمحت.

 

ابتلعت ماء لعابها، و وضعت يداها على وجنته بحب قائلة:
– والله يا قلبي لولا بس الدراسة مكنتش قولتلگ نرجع بيتنا، بس انت عارف الدراسة ليها طقوس خاصة ومش هعرف اسيطر عليهم هناگ.
– عارف ومقدر يا روحي، وربنا ميحرمنيش منگ ولا من وقوفگ جنبي وجنب اهلي.
– أنا وانت واحد يا سند، واهلگ هما اهلي، وفكر معايا بقى هنتعشى اية لحسن انا جوعت، واكيد مفيش حاجة في البيت.
ضحگ على تحولها المفاجئ، ثم قال:
– ولا يهمگ شوفي تحبي اطلب اية ويجي دليفري، عقبال ما تشوفي الناقص ونشترية بكره.
اومأت له بالموافقه، ثم اخذت الحقيبه وقامت بفتحها لترص الملابس في خزانة الملابس، بينما هو هاتف محل المعجنات يطلب بيتزا، أنهى المكالمه، وتوجه

 

نحو اطفاله يساعدهما في تبديل ملابسهما، ويرتب لهم ملابسهما في الخزينة، مشاركة ليخفف العبء على زوجته قدر المستطاع، وحين انتهى مما يفعل سمع صوت “سمية” قائلة:
– سند بتعمل اية يا حبيبي، وطلبت اكل ولا هتسوحنا وهنام من غير عشا؟
خرج لها وهو حاملا اطفاله، والكبير فوق ظهر، بينما الصغير على ذراعه، وصوت قهقتهما يعلو صداها في المنزل الذي كانت جدرانه تترقص فرحًا لسعادتهما، اقترب من تلگ الاريكة الجالسه عليها، وقذف عمر عليها، فلتقطته وضمته لحضنها في سعاده، وقال:
– كنت بعمل اية، بخفف عنگ ورصيت هدوم الأولاد.

 

اما الأكل فمنستش ياروح قلبي، طلبت بيتزا من المحل اللي بتحبي تاكلي منه، وكلها نص ساعة ويجي.
نهضت ومسكت يده وقالت بحب وعرفان:
– تسلمي حبيبي، ربنا ميحرمنيش من حنيتگ علينا يا اجمل سند ربنا رزقني ببه، بس ليه تعبت نفسگ انا كنت هخلص هدومنا، وكنت هرص هدومهم.
– مفيش تعب ولا حاجة، اللي بقدر اعمله عشان اخفف عنگ، مش هتأخر ابدا، انتي بتتعبي عشانا لازم اساعدگ مفيهاش حاجة.
قطع حديثهم الودود صوت ابنهما “مؤمن” قائل:
– أنا جوعت اوي يا مامي، هو الأكل هيتأخر؟
– لسه اصبر يا حبيبي اعتبر نفسگ في رمضان وصايم، كلها نص ساعة زي بابا ما قال.

 

كاد ان يعترض لولا سمع صوت اخاه هاتفا:
– انا مش جعان خالص يا مامي، خليه يتأخر براحته.
تذمر “مؤمن” من رد اخاه الصغير، فقال معترض:
– اه ما انت لازم متكنش جعان، عشان انت مفجوع واكلت الجاتو اللي في التلاجة قبل ما ننزل، أنا شوفتگ وانت بتاكله في المطبخ.
ظهر التوتر على وجهه، فرمقته “سمية” بغضب، وامسكت بيدها وقبضت على أذنه بقوة فصرخ متأوها:
– مش كده عيب يا عمر، ازاي تاخد حاجة من غير ما تستأذني او تطلب من تيتا تجبهالگ، هي دي تربيتي ليگ، أنا زعلانة منگ ومخصماگ.
طاطأ رأسه وقال بنبره طفولية معتذرا:

 

– انا آسف يا مامي، مش هعمل كده تاني خالص، اصل انا ضعفت قدام الجاتو، اصلي بحبه اوي، وتيتا كانت نايمة، وعمتو بتنيم شادي، فعادي اخدهم من التلاجة واكلت من نفسي.
– خلاص متعملش كده تاني يا عمر، وانا بكره هجبلگ جاتو.
قالها بعفوية “سند” فتعجبت “سمية” لرده، وزفرت بضيق قائلة بحده:
– لو سمحت يا سند عايزاگ جوه في كلمتين.
تعجب لحدتها، وسار معها للداخل، وحين دخل اغلقت الباب بقوة وغضب..
وإلى هنا انتهت احداثها عند هذا الحد لنتعرف غدا لماذا سمية منفعله كل هذا الانفعال ؟ وهل يستحق؟
وياترى الأيام مخبيه اية لغزال وأمان ؟

يتبع…

 

 

تعجب لحدتها المبالغ فيها، وسار معها للداخل، وحين دخل اغلقت الباب بقوة وغضب، الفتت له وقالت بلوم وعتاب:

– انت ازاي يا سند تقول لعمر انگ هتشتري له جاتو بكره، ده بدل ما تعاقبه على تصرفه بتكافئه عليه.

– انتي مكبره الموضوع اوي ليه كده؟

– لانه فعلا كبير، ولازم يكون في وقفه له، لازم يتعلم أنه لما يعوز حاجة في حاجة اسمها يستأذن، وياخدها في النور مش في الضلمه كأنه سارقها.

– لا كده كتير يا سمية عمر لسه صغير اوي على أنه يفهم كل الكلام ده.

 

لا مش صغير، ولو مفهمش من صغره هيطبع بنفس الطباع دي، وياخد اللي عايزة في الخفى من غير ما حد يحس، من فضلگ أنا عايزة اربي ابني صح، واعرفه الصح من الغلط، ويعرف اني مخصماه، ويتأكد ان تصرفه غلط، ولما يفهم ده تبقى تجبله الجاتو اللي بيحبه، غير كده مع احترامي الشديد ليك، مش هقبل.

ادار حديثها سريعًا وقلبه بعقلانية داخل رأسه، وايقن أن حديثها على حق، وأنه بدافع حبه له اغفل على تعليمه ولفت نظره، وتذكر حسن تصرفها بأنها نبهته بينها وبين وليس امامهم، واعجب لتصرفها هذا، فقال لها بنبره هادئة:

– انتي عندگ حق ووجهة نظرگ احترمها، بس اتمنى انگ تقبلي آسفه ومطوليش في عقابه، هو مهما كان أتصرف بعفوية ولسه مش مدرگ أنه غلط.

– وعشان هو مش مدرگ، واجبنا أننا توعيه ونفهمه الصح من الغلط.

 

 

 

– تمام يا حبيبتي، ممكن بقى نخرج احنا طولنا في الحوار ده.

في الخارج كان “عمر” جالسًا حزينًا، اقترب منه أخاه يربت على ساقه، فنظر له بحده وازاح يده بعنف:

– ابعد عني، متلمسنيش، استريحت

دلوقتي لما فتنت عليا وقولتهم أني اكلت الجاتو، انت متعرفش أن الفتنه حرام.

– أنا مقصدش والله، أنا بس اضايقت انگ اتريقت عليا لما قولت أني جعان، خلاص متزعلش مني مش هقول لمامي حاجة تانية.

– لا ياسيدي لا هتقول ولا انا هعمل، هيفيد بأية اسفگ دلوقتي ومامي زعلانة مني، بص يا مؤمن ابعد عني لأني مش طايقگ بجد.

 

 

جلس “مؤمن” يبصره عن بعد وعلى وجهه الضيق، شاهدهما والدهما، شعر بالحزن، عاتب بعيناه زوجتة التي كادت أن تتحدث لولا رنين صوت الباب، تحرگ “سند” وجده عامل الدليفري ناوله الطعام، ودفع المبلغ المطلوب ووضعها على المنضده، وقال لهم:

– يالا اتفضلوا الأكل جه، البيتزا هتبرد ومش هتبقى حلوه.

لم يتحرگ أحد منهما، فقترب من أولاده وضمهم داخل احضانه، وشرح ببساطه الخطأ الذي وقع فيه “عمر” ووجهه للصح، بأنه لا بد عليه أن يفعل اي عمل في النور، لأن ذلگ يعتبر سرقة، تآسف للمره الثانيه و وعده بالا يكررها مره اخرى، وذهب إلى والدته وعانقها في ود معتذرا لما بدر منه، ثم توجهوا جميعًا لتناول الطعام في جو ملئ بالحب والتفاهم بين الجميع.

 

 

 

ومرت الساعات واستيقظت “غزال” من نومها مقبله صغيرها الذي استيقظ وظل في مهده ممسكًا بلعبته الفرو التي كانت بجانبه، احتضنته وحملته لتغير حفاضته وتطعمه قبل أن تتوجهه لمنزل جده، خرجت وجدت والدتها اعدت طعام الإفطار باقي فقد تضع فناجين الشاي على المائدة، قالت لها في عتاب:

– ليه تتعبي نفسگ كده يا ماما، أنا اللي مفروض احضرلگ الأكل مش حضرتگ، ممكن بعد اذنگ أنا اللي هحضره بعد كده، وسيادتگ تقعدي كده مرتاحه زي الملكه اللي بتأمر تطاع.

– يا بنتي انا مش بعرف اقعد ابدا، اتعودت على الحركة، وطول ما فيا نفس اشتغل هشتغل ومش هفضل قاعده، وهو انا عملت اية يعني، حطيت شوية جبن في الاطباق وسلقت البيض، مش حكاية يعني، غيري انتي لشادي عشان الشاي ميبردش.

قبلت يداها في احترام، ثم نفذت ما كانت تريده، وجلست بجوارها تأكل في هدوء وتطعم ابنها الصغير.

 

 

وحينما انتهت من طعامها، توجهت لغرفتها لتبدل ملابسها هي وابنها، ثم خرجت وهي رمقتها والدتها نظرت بأعين متسائلة ومتعجبة:

– على فين بدري كده على الصبح يا غزال ؟

اقتربت منها واعدلت حمل ابنها على يديها اليمنى، وحقيبته في يدها اليسرى قائلة:

– هنروح عند جد شادي، طلب مني يشوفه، ومتقدرش ارفض، حضرتك عارفه اني بعتبره زي والدي رحمه الله عليه.

– وماله يا بنتي، واجب برضو، بس مش عايزاكِ تحتكي بالمخفي طلقيگ

– لا اطمني عرفت أنه سافر.

برقت حدقية عيناها حين سمعت قولها، وسألتها:

 

 

 

– وانتي عرفتي منين؟

اوعي يكون اتواصل معاكِ؟

– لا خالص ابدا، والده هو اللي قالي أنه سافر بعد طلقنا بكام يوم.

– اممم قولتيلي، طب هتتأخري عنده؟

– مش عارفه والله يا ماما، بس هنقضي اليوم كله عنده، يالا اشوفگ على خير سلام ياحببتي.

تركتها وانصرف متوجهه نحو منزل حماها، استقلت سيارة أجره وبعد مدة ليس بكثير، وصلت وصعد إليه، وطرقت الباب عدة طرقات، فلم تجد رد، تسرب القلق والتوتر في قلبها، امسكت هاتفها وقامت بالاتصال به، وبعد عدة محاولات استيقظ من نومه

 

 

ورد عليها وعلم بوقوفها امام باب الشقة، فتحه وحين شاهدهما، التقط من يدها الصغير مقبله وضمه بحنان، فهتفت هي رادفة:

– قلقتني عليگ يا بابا، اول مرة يكون نومگ تقيل كده؟!

ابتسم بتعب وصافحها، ثم أغلق الباب وجلسوا على الاريكه، و وضع حفيده على قدمه وقال:

– معلش راحت عليا نومه، اصلي منمتش كويس أمبارح من الصداع، ما صدقت عيني غفلت الصبح ومحستش بنفسي غير لما رنيني كتير، المهم سيبك مني انتوا فطرتوا، ولا هفطر لوحدي.

 

ظهر القلق والخوف على ملامحها، فردت عليه قائلة وهي تنظر بعيناها على منظر الشقة من فوضى عامره:

– ازاي بس تقول كده، اسبني منگ ده اسمه كلام، حضرتگ شكل الضغط عالي، أنا هقوم اجيب جهاز الضغط اقيسه عشان اطمن عليك، وبعدين احضر لك الفطار.

– يا غزال متتعبيش نفسك يا بنتي، أنا بقيت أحسن لما شوفتكوا قصاد عيني.

لم تبالي لحديثة وتوجهت للمكان الذي يضع فيه جهاز الضغط، وجلبته ثم وضعته في المقبس وقامت بوضعه في يده وانتظرت قراءة الجهاز، دقائق مرت واتضح انه مرتفع جدا، عبس وجهها وقالت بخوف:

 

– ليه تهمل في صحتگ لحد ما الضغط يعلى عليگ بالشكل ده يا بابا، وكمان فين ام فتحي هي بطلت تجيلگ وتهتم بالبيت وتطبخلگ.

– اهدي بس يا بنتي، الست بنتها عيانه واتصلت تعتذر انها مش هتقدر تسبها، وانا لا اهملت ولا حاجة، الفكره بس ان دماغي مدوشه شويتين.

– صحتگ بالدنيا يا جدو، ومفيش حاجة تستاهل انگ تشغل بالگ، أنا هقوم ابل ليگ شوية كركديه، عقبال ما احضرلگ تاكل حاجة خفيفة، وبعدين اعمل كام صنف كده خفاف في التلاجة يكونوا جاهزين يادوب على التسخين بس.

كاد أن يعترض، لولا أن أشارت بيدها بالا يعترض، ونهضت لتبدل ملابسها، وتركت معه صغيرها الذي كان يلاعبه ويضحگ معه، ربما يكون هو طوق النجاة له ليلهيه من التفكير الذي لا يصمت ضجيجه من أمس.

بدلت ملابسها بملابس مريحه لتباشر ما ستفعله من تنظيف وترتيب الشقة، واعداد طعام له، فتحت المبرد واخرجت منه اللحم والدجاج، لتختار اصناف سهل تحضيرها في وقت قياسي، ولم تنسى ان تعد له بعض الشطائر مع كوب من الشاي بحليب حتى تجهز الغذاء.

 

 

 

فقد كانت تعمل بهمه ونشاط لتنجز اعمالها في وقت قصير، ترمقه بنظرات حانية من وقت لاخر، وكلما تفعل ذلگ يزداد من لومه لابنه وحزنه يعتصر فؤاده، فيضم حفيده داخل احضانه وقلبه يدعو لهما أن يلم شملهما على خير، ناولته “غزال” علاج الضغط مع كوب من الماء، ابتلعه وقدمه لها قائلا:

– الف شكر يا حبيبتي، يعني انتي جاية تقعدي معايا ولا تهري نفسگ شغل.

– مفيش تعب ولا حاجة يا جدو، خلي بالگ انت بس من شادي وأنا هخلص واقعد معاگ لحد ما تزهق مني.

– ربنا يبارگ ليكِ في صحتگ وعافيتگ يارب، ويحفظلگ شادي وتفرحي بيه.

 

ابتسمت له، ثم توجهت تباشر ما تريد فعله بهدوء تام كطبعها، دائما تنجز اعمالها في صمت.

* * * * * * * * * * * * * * * * * *

 

 

فتحت “آلاء” باب الشقة وحين ولجت للداخل، لفت انتباها اضاءة غرفة المعيشة، تحركت نحوها لتكتشف ماذا يجرى بالداخل، سمعت صوت والدها ومعه الطبيب “رامي” والحاحه في طلبه مره ثانية بل عاشرة وهي ترفضة بشدة، لم يخطر في ذهنها أنه يتجرأ ويجلس مع والدها، ظلت شارده لا تنتبه لما يقوله، لكن الذي استوقفها وعوده بالحياة السعيدة، وموافقه والدها مبدئيا، وعند هذه اللحظة لم تمتلگ نفسها، وفتحت الباب على مصرعه بقوة ادهشتهما، فـ وقف والدها في إحراج من تصرفها، بينما هي لم تبالي لاي شيء فقد كانت كالنمره الشرسة، التي تهاجم دون وعي لضعف فريستها، فقد كان “رامي” يبصرها بحب وعشق لم تهتز لها اوصالها، بل صرخت في وجهه بموجه من الغضب ليس له مثيل رادفة:

 

 

 

– اعتقد يا دكتور رامي أنا سبق واعتذرت لطلب حضرتگ بدل المرة عشرة، ممكن اعرف ليه بتعرض نفس الطلب ده تاني؟

الجواز عمره ما كان بالعافية.

كان “رامي” يستمع لهجومها الشديد عليه، وهو صامتًا ناظرًا يحدقها بنظرات لوم وعتاب، بينما هي تبادله بنظرات غاضبه والشرار يتطاير منهما، تريد احراقه مثلها فهي حقًا تحترق كلما جاء احدًا يطلب ودها، تريد ان تقفل هذا الباب للأبد، كم تتمنى ان تستطيع تبتعد عن كل العالم وتذهب لحبيبها، ياليتهم يتركونها مع احزانها واوجاعها، ولا أحد يقترب من نيران قلبها.

قطع الأب بصوته الجهور معاتبًا ابنته قائلا:

– آلاء عيب كده، من أمتى بنكلم ضيف في بيتنا بالطريقة دي؟

– بابا انا..

قاطعها بحزم شديد مكملا:

 

– بلا بابا بلا زفت، اظاهر أني اتساهلت معاكِ اوي، ولازم تقفي عند حدگ.

 

– عمي انا آسف، مش عايز اتسبب لسوء تفاهم بينكوا، تسمح ليا أني استأذن.

قالها “رامي” بإحراج والعرق يتصبب فوق جبينه، فأخرج منديلا من جيبه ليجففه، فهز والدها رأسه بنفي قائل:

– اتفضل يا بني اقعد كمل قهوتگ، إحنا لسه مخلصناش كلامنا، وانتي يا آلاء اتفضلي روحي هاتي حاجة حلوة من التلاجة.

 

 

 

رمقته بنظرة غيظ ورفض، فبادلها بتحدي وحده كرر حديثه، فتحركت وخرجت وهي تركل الأرض بقديمها بعنف، وحين اختفت عن انظارهما امسكت هاتفها وهاتفت “أمان” وانتظرت رده، وحينما سمعت صوته قالت بحده:

– انت عارف يا أمان أن رامي هيجي يقابل بابا؟

اندهش لحديثها تعجب من رد فعل صديقة الذي حذره قبل سابق بالتقرب منها، وعندما لم تجد رد منه صرخت تحثه على اجابتها فقال:

– لا والله ما اعرف يا آلاء، انا من اخر مره قولتله انگ رفضتي، ونهيت معاه الموضوع وقولتله كل شيء قسمة ونصيب، وربنا يعوضگ باحسن منها.

– والبيه مقتنعش بكلامگ وجه عشان يحاول تاني.

– ممكن تهدي شوية، الراجل ماجرمش يعني ده شاريكِ ليه انتي بيعاه كده؟

 

– يا أمان افهم، ياناس افهموني، انا لا بيعاه ولا شرياه؛ أنا عمري ما هفكر فيه هو او في غيره، أنا قلبي اتقفل ومستحيل هيفتح تاني، اوعى تفتكر أني عايشة يا أمان؛ انا موت وادفنت يوم ما حبيبي سكن التراب وسابني، سبوني ارجوكوا في حالي.

قالت اخر حديثها بين شهقاتها، فحزن عليها اخاها وقلبه وجعه عليها وعلى حالها، حاول بأقصى جهده ان يهدأها، لكن كل محاولاته باءت بالفشل، اغلقت معه، وجلست تنهار وصوت نحيبها وصل لمسمعهما، فنهضا بخوف ورعب عليها وتوجهوا لها في غرفتها، فوجودها واقعه على الأرض محتضنه البوم صورها مع زوجها الراحل وصوت بكاءها اهتز له جدران قلبهما، حن والدها ورق وجثى على الأرض وقام باحتضانها، واشتد في ضمته وربت على ظهرها بحنان، فنفجرت القنبله الموقوته بداخلها، فقد كانت لمسه يداه هي الفتيل الذي جعلها تنفجر، فزاد انهيارها، وفشل في اسكاتها، ظلت تبكي لعدم إحساسها بأن اقرب ما لديها لم يشعروا بما تعانيه من حرقة تحترقها بسبب حرمانها منه امام عيناها، انتبه “رامي” لطرق الباب انسحب لفتحه؛ فوجده “أمان” الذي نظر له بعتاب ولوم شديد لمجيئة بدون علمه، دفعه بعنف وركض نحو غرفتها، وحينما رآها هكذا، صاح موجهًا حديثة لصديقه قائل بحده :

 

– اتفضل يا رامي روح دلوقتي، انت شايف حالتها عامله ازاي، واقفل على الموضوع ومتفتحوش مره تانية، أنا معنديش استعداد اخسر أختي لأي سبب.

زفر أنفاسها بحرقة، جعلت “أمان” يكرر قوله لكن بطريقة أعنف، ودفعه بقوة واخرجة وأغلق باب الشقة بعنف، وعندما رجع عاتبه عمه قائلا:

– مش اصول ميصحش يا أمان تطرده كده؟

– هو اية يا عمي اللي يصح وميصحش، احنا في موقف منفكرش غير في بنتنا وبس، وملعون ابو الأصول اللي تخلي اختي تنهار بالشكل ده، من فضلگ يا عمي، سبني معها أنا هعرف اهديها.

– اللي تشوفه يابني، بس يارب تعرف، والله ما عارف اتصرف معاها ازاي بس، ولحد امتى هتفضل على حالتها كده والعمر بيجري.

– مفيش داعي للكلام ده دلوقتي ارجوك، وياريت تعملها كوباية ليمون من ايدگ الحلوة دي عشان تروق.

 

اومأ بعيناه وخرج بكل هدوء، بينما هو اقترب منها، واوقفها لتتقابل اعينها الحمراء، بعيناه العسلية، فضمها برفق وحنان، ثم اجلسها على فراشها، وجفف ادمعها المنسابه بغزارة نوه شتاء قارسة، فكلما يجفف دمعه، تنهمر الاف من العبرات تحرق وجنتيها، والصمت سائد بينهما.

ممكن تهدي بقى وتبطلي دموعگ دي، حرام عليكِ نفسك يا آلاء، رامي مشي ومش هيرجع تاني، صدقيني لولا اني واثق في حبه مكنتش ابدا سمحتله يقرب منگ.

لم تتحمل “آلاء” كل هذه الضغوط عليها، فصاحت بكل ألم و وجع ساكن قلبها المجروح صارخه في وجهه، كالفيضان الذي يغرق كل من يقف امامه قائلة:

 

– انتوا عايزين مني اية؟ متسبوني في حالي مع وجعي وحزني والآمي، اوعوا تفتكروا أني ممكن في يوم اقدر اخونه او انساه؛ تبقوا متوهمين، أنا عمر قلبي ما هيحب حد غيره، ده مكنش جوزي وبس.. ده كان حبيبي، صاحبي، اخويا، وكل ما ليا، اوعي تفتكر اني عايشة يا أمان انا جسد بيتحرك بدون روح، لان روحي مع أحمد، وعمري ما هقدر انساه، وانساه ازاي وهو عايش جوه قلبي، كل نبضه بتنطق اسمه، وبتحي كل ذكرى حلوة كانت بينا.

التقطت البوم الصور وفتحته وهي تشاور على كل صوره قائلة بأنهيار و دموعها تتسابق حروفها:

احمد أول من دق القلب له كان هو.. أول لمسه كانت من ايده وهو بيطوقني بخاتم خطوبتنا.. أول ضمة حبيب يوم كتب كتابنا… أول من انتفض واتوجع قلبي لفراقه كان هو..

ازاي عايزني ارمي كل مشاعري دي واتخطاها، وابدا مع حد تاني غريب عني ومعرفوش ولا عايزة اعرفه، مستحيل يا أمان مستحيل.

 

كان قلبه يتمزق من أجلها، فهو يشعر بما تعانيه، فقد جرب نفس إحساسها من قبل، لكنه برغم حبه لعشرة زوجته، فهو لم يكن يعرفها ولا قضى معها قصة حب مثلها، لكنة تألم لسنوات ولم يدق جدار قلبه امرأة إلا غزالته هي فقط من جعلته ينظر للحياة من جديد، ويرى إشراقة الشمس التي أضاءت عتمة قلبه، لذلگ قال لها بترجي:

– حبيبتي الدنيا مش بتقف على حد، ولازم تدور وتمشي.

وإلى هنا انتهت احداثنا لنتعرف غدا اجابه هذا السؤال، هل حقا الدنيا بتقف عند حد معين؟

وهل ستغير آلاء رأيها؟ ام ستبقى على عهدها وذكرياتها؟

كل هذا واكثر سنعرفه من خلال متابعتنا لروايتي المتواضعة

يتبع…

 

– حبيبتي الدنيا مش بتقف على حد، ولازم تدور وتمشي.
قاطعته بحده وهي محتضنه اخر صوره التقطها مع زوجها رادفة:
– لا بتقف يا أمان، واكبر دليل انها وقفت عندي.. انا حياتي وقفت بموته، عقارب الساعة وقفت عند لحظة ما الموت خطفه من حضني في ثانيه، كل حاجة وقفت حواليها، وبقيت مش شايفة ولا بحس بحد ولا عايزه اشوف غير صورته، وكل يوم بدعي ربنا يقرب البعيد واروحله واعيش معاه في حياة الخلد.
– بعد الشر عنك متقوليش كده.
رمقته بوجع وتمني في نفس ذات الوقت، وقالت:
– شر الموت عمره ما كان شر، الموت في حالتي دي نعمه وأنا مع كل آسف مش طيلاها، هتفيد ايه حياتي وانا عايشة فيها جسد بيتحرك، زي الدمية من غير روح، يا أمان انا حاسة اني ميته، ومفيش حد حاسس بيا.
– ازاي تقولي كده وانتي دكتورة نفسية مفروض بتعالجي مرضى وتنصحيهم يكملوا حياتهم من تاني؟
ردت عليه بحزن ويأس:
– سهل يا أمان جدا تدي النصيحه لغيرك، لكن من الصعب انك تنفذها على نفسك، صدقني انا راضية بحياتي كده، هيفيد بأية اني اسمع كلامكم واظلم نفسي واظلم كمان اللي هتجوزه، لمجرد انكوا ترتاحوا، وانا اللي هعيش في النار، والنهاية هتكون محسومه بأني مش هقدر اكمل معاه.
لأ انا معنديش استعداد اني اقرب من أي راجل، او اديله الحق انه يقرب مني، مستحيل يا أمان، صدقني، قلبي مش ملك ايدي، وتقفل على حب أحمد وعمر ما حد هيشاركه ابدا.
– طب واخرتها اية؟
قالها والدها الذي جاء للتو بعد سماع اخر كلامها، وضع الكوب امامها ونظر بحسره على حالتها وقال:
– ليه عايزة تحرقي قلبي عليكِ يا بنتي؟ ليه مش عايزة تريحيني واطمن عليكِ قبل ما اقابل وجه كريم، انا مش هعيش العمر له معاكِ.
ردت عليه بصوت اشد حزن منه مسائلة:
– وانت ليه مش عايز تحس بالنار اللي جوه في قلبي؟
ليه كل شوية بتحط بنزين عليه عشان تزيد وتزيد لحد ما انا مش قادرة اتحمل أكتر من كده؟ ارجوك يا بابا اقفل موضوع جوازي ده نهائي لأني مش هقدر انفذه، مش هقدر انساه انا وعدته اني عمري ما هنساه، ومستحيل اخون وعدي.
– محدش قالك انسيه يا آلاء، خليكِ فاكراه، من أمتى الانسان بينسى عزيز عليه مات، بيفضل فاكره طول حياته وبيتحول لذكرى يفتكرها، بس بيكمل برضو حياته وبتستمر.
نهضت بفزع كمن اصابها لدغة عقرب سام، وقالت منهيه حديثها، ولاول مره تكون بهذه الحده هاتفه:
– اللي بتتكلم عنهم دول مش انا يا أمان، انا قولتها بدل المره الف، هعيش على ذكرى جوزي ومفيش راجل اتخلق على وجه الأرض هسمحله مجرد السماح انه يقرب مني، وقسمًا بربي لو اي حد، اي حد صمم وفتح الموضوع ده تاني، لهبعد عنكوا ومحدش هيعرف ليا مكان، اعيش انا وذكرياتي وبس.
– اخس عليكِ يا آلاء هي دي اخرة تربيتي فيكِ، مكنش العشم يا بنتي، عايزة تسيبي ابوكِ في اخر أيامه، وكل ده ليه؟ عشان نفسه يفرح بيكِ ويشوفك فرحانه ومستقره في بيتگ.
مسحت بيدها على وجهها، حتى تهدأ من ثورة غضبها، واخذت نفسًا عميقًا، واخرجته بهدوء، واقتربت من والدها وحبت على يداه، فـ بللت يده بدموعها قائلة له بترجي:
– حقگ عليا يا بابا، سامحني، وارجوگ بلاش نتكلم تاني في موضوع الجواز ده، لاننا كل ما بنتكلم فيه بتحصل مشكلة، انا مرتاحة كده، مش عايزة حد في حياتي، اكتفيت بجوزي لاخر يوم في عمري، ومش هتزف لعريس غيره، واكيد في يوم هروحله واكون عروسته في الجنة، وهيفرح بيا لما يلاقيني حافظت على عهده.
قالت حديثها وخيالها يصور لها لحظة اللقاء، فلانت ملامحها وتبسمت لمجرد انها ستلقاه في يوم، بينما تنهد الأب بوجع لها وعليها، ثم قال بقلة حيله:
– على راحتگ يا آلاء، بس خليكِ عارفة اني مش راضي عن تصرفاتگ دي، ولو موت هكون زعلان منگ.
– يا بابا ارحمني، وبلاش تضغط على اعصابي اكتر من كده.
– خلاص يا عمي مفيش داعي لكلام حضرتك ده، قوم معايا وروح اتوضى وصلي العصر وادعلها ربنا يفعل الصالح ويهديها.
حاضر يابني، ربنا يهديكِ يابنتي ويصلح حالگ يارب.
نهض وتركهما وكل منهما شارد فيما يحب، والصمت ساد، وحين طال، قام “أمان” ودعاها للاسترخاء لترتاح بعد معاناتها وتجديد الامها من جديد، وخرج صافح عمه واوصاه بالا يفتح معها الموضوع مجددا، خوفًا من فقدانها، وافقه على طلبه، ثم أنصرف لاسفل عند والدته بذهن شارد حزين.
* * * * * * * * * * * * * * * * * *
انتهت غزال ترتيب منزله واعداد طعام وضعته في المبرد، ثم صاحت منادية عليه ليجلس على مائدة الطعام ليأكل، تقدم نحوها وهو حامل حفيده واجلسه على ساقه حتى يطعمه فقالت معترضة:
– هاته يا بابا عشان تعرف تاكل، انا هأكله.
– لا يا غزال سيبه معايا، عايز اشبع منه، ومتخافيش هعرف اكله، ده انا ياما كنت بأكل ابوه وهو في سنه كده وكان بيطلع عيني.
ادرگ ما قاله عن ابنه، حين تغيرت ملامح وجهها، فـ أراد تغيير الموضوع قال:
– مش انتي برضو بتأكليه بانية، وحتة مكرونه؟
– اه بحاول معاه بس حاجات بسيطة كده من نفسه، بس بشيل البقسماط.
– خلاص انا هتعامل لا تقلقي.
بدأ “محمود” في اطعامه بكل حنان وصبر، حتى شعر بامتلاء معدته، اخذته منه “غزال” لتغسل له وجهه وتبدل ملابسه التي اتسخت، بعدها أتت بكوب من مشروب الكركديه قدمته له بابتسامة حب، ثم جلست بجواره تطعمه بيدها مثلما كان يفعل مع ابنها، حتى انتهى وحملت الاوعيه لتقوم بتنظيفها وغسلها، وهو اخذ منها الصغير يهدهده بحنان لينام ويسترخي.
* * * * * * * * * * * * * * * * * *
اوهمته “آلاء” بأنها ستنام، وحين سمعت غلق بابها، اعتدلت من جلستها، وامسكت بيد مرتعشه البوم ذكريتها، ظلت على حالها تبكي بتشنج، ودموعها تهطل بلا توقف محتضنه صورها مع زوجها الراحل، واناملها تمر على وجهه كأنها تلتمسه وتشعر بأنه امامه، ونسيج خيالها يغزل لها اجمل لحظات لم تحيا بالقرب منه، لكنها تسجت فقط في خيالها المريض بعشق حكم عليه بالاعدام من قبل ان يولد.
ظلت ترمقه بحب وهمست كأنما تريد انه فقط من يسمع قولها ولا احد غيره هاتفه:
– عمري ما هخون عهدي معاگ ابدا.. اطمئن يا حبيبي وارتاح في نومتگ، حبيبتگ هتفضل وهبالگ قلبها وروحها، وجسمها، اللي اتحرم على كل الرجالة من بعدگ، هيجي يوم والقاگ ياحبيب العمر كله، ونعيش مع بعض ونعوض ألم الفراق؛ ولحد اليوم ده ما يجي ثق اني مستحيل اكون لغيرگ لو فيها موتى، اطمن ومتخافش هقف قدام الكل ياحبيبي، تعالالي انت بس في نومي وعوض شوقي ليگ، هي ده الحاجة الوحيدة اللي بتصبرني على بعادگ متحرمنيش منها ارجوگ.
استمرت هكذا تناجيه بهمس، مقبلها بكل عشق، حتى تعبت من كثرة النواح على أجمل قصة حب لم تكتمل نهايتها بشكل سعيد؛ بل كانت نهاية مأساوية تحيا هي بداخلها ولا تستطيع أن تخرج من متاهتها، اغمضت عيناها بتعب واستلقت محتضنة صورتهما يوم كتب كتابها معه، وغفت لتهرب من هذا الواقع المرير؛ إلى عالمها الخيالي الذي تلتقي به دومًا في أحلامها.
لفت انتباه والدته شروده، فمنذ ان دلف وهو سارح وكأنه يحمل فوق اكتافه حمل ثقيل، جلست بجواره تحاول ان تستفهم عن سبب هذا الحزن والشرود، لم تجد منه إجابه الا انه حزين من أجل اخته، وقص باختصار ما دار منذ قليل، تأثرت لحالتها ودعت لها بأن الله يصلح لها الحال، امن على دعاها، ثم هرب منها لغرفته، ليختلي بنفسه او ربما هو يريد أن يقعد محاكمه سريعه على روحه بأنها خانت ذكرى زوجته واحب غيرها وتمناها من صميم فؤاده، فلماذا لم يصمت قلبه مثل أخته، ويعلن الحداد الباقي من عمره؟
ماذا حدث ليخونه بمجرد ان قرأ حروفها التي كانت بمثابة طلاسيم وتعويذة سحرته دون ان يشعر ؟!
فقد كان قلبه مغلق ومفتاحه فقدت في زحام الحياة، فمتى وجدته حبيبته وعبرت من خلال اسطرها وفتحت له باب العشق من جديد، ويا له العجب فعلت به كل ذلگ وهي لم تدري بما فعلته به ؟!
فـ أنها تملكت كل حواسه، واصبح محاصر بحبها ولا يستطيع أن يتحرر، فما هو الحل؟ لا يعلمه، بل كل الذي يريده أن يبقى عاشقًا متيمًا لها حتى لو لم تشعر به في يوم.
* * * * * * * * * * * * * * * * * *
اعدت “غزال” لها وله كأسان من عصير الليمون، وتوجهت له وكان جالسًا في مكانه المفضل في شرفة الريسبشن على كرسيه الهزار، مغمض العينين في حالة استرخاء، وبجواره جهاز الراديو يستمع لبرامجه المفضلة ومسلسلاته التي كم يعشقها، وضعت الكأسان على المنضدة التي أمامه، وتنحنحت لتنبه بوجودها قائلة:
– اتفضل يا جدو العصير.
فتح عيونه وتبسم لها قائل:
– تسلم ايديگ يا بنتي، اقعدي معايا شوية واقفة ليه؟
جلست امامه ممسكه في يدها العصير الغير محلي، ترتشفه ببطئ، تستمع لتلگ المسلسل الاذاعي، متذكره ما مضى من عمرها وهي صغيرة حين كانت من هواه الاستماع للراديو، فاقت على سؤاله الذي يقوله لها بنبره فخر وسعاده لها:
– بس انا من وقت ما دخلتي وشوفتگ وانا نفسي اسألگ، عملتي اية خسسگ بالشكل ده ياغزال؟ انتي بسم الله ماشاء الله عليكِ وزنگ نزل اوي.
بادلته الابتسامه وقالت وهي تضع الكأس على المنضدة، وقالت بثقة شعر بأنها تسري بين احرفها بكل طلاقة، عكس ما مضى رادفة:
– الحكاية بتتلخص أني اتعرفت على السبب وعالجته، ولما اتعالجت بقيت بحرق كويس، مع النظام الغذائي اللي بحاول اتبعه صح، وجلسات بعملها لجهزة بتساعد على تفتين الدهون، كل ده ساعد على انقاص وزني بشكل ملحوظ، وطبعا غيرت عادات كتير غلط كنت لعملها.
– واية العادات دي اللي غيرتگ اوي كده؟
– اهمها النوم بدري، ومنع الاكل بعد الساعة ٧ او ٨ بالكتير، واصحى بدري عشان اتناول وجبه الفطار، انا كنت لغياها خالص من حياتي، والدكتور قالي اهم وجبة هي الفطار، مع طبعا شوية مشروبات بشربها بتساعد على الحرق.
– والله برافو عليكِ، بالارادة القوية هتحققي كل اللي عايزاه.
– فعلا يا بابا، انا عندي ارادة تخليني اهد جبال، مش ههد دهون بس، بس كل ده ملهوش أي قيمه بدون ما يكون جانبگ يا جدو السند اللي بيساعدگ ويقويگ، وربنا يخلي ليا ماما وسند، كانوا نعم السند اللي بيشجعني اني استمر.
ضحگ الجد وحدث نفسه وهو يرمقها بنظرات اعجاب شديدة، فظهرت معالمها التي كانت مدفونه داخل جسد ممتلئ، وكم تمنى انها كانت تفعل ذلگ وبجوارها ابنه الذي اشتاق له، وانه يكون لها هذا السند الذي تتمناه وبتشكر فيهما بدلا منه.
لاحظت شروده، فنهضت قائلة:
– هقوم أشوف شادي صحي ولا لسه، عشان نستعد اننا نروح قبل الليل ما يدخل.
– ما لسه بدري يا غزال، انتوا مونسني اوي.
– معلش هنبقى نيجي تاني، عشان بس بكره معاد تطعيمه ولازم يتطعم.
– ماشي حبيبتي، اللي تشوفيه، بس متقطعيش بيا بالله عليكِ.
– انا مقدرش ابدا اقطع بحضرتگ، خصوصا انگ عارف غلاوتگ عندي.
قبلته في جبهته، وتوجهت لابنها تحضر ملابسه وحفاضته، حتى تغير له، دخلت عليه وجدته مستيقظًا، داعبته بحب وقامت بدغدغته فضحگ بصوته، ثم جهزته وتركته مع جده، حتى ترتدي ملابسها.
صافحته واخذت طفله، فعانقه الجد بشده، وازاد في ضمته لدرجة انه بكا الصغير، فلا يعلم لماذا هذا الاحساس والقبضة التي نغزت قلبه، قبضة لا يعرف سبب لها، لكنه رسم على وجهه إبتسامه، وقالت له “غزال” موصيه اياه:
– انا شلت الاكل اللي مجهزاه ياجدو في الديب والتلاجه، يادوب لما تحب تاكل سخنه في الميكرويف وكل بألف هنا شفا، عقبال ما تيجي ام فتحي.
– والله يابنتي ما كان له لزوم تعبگ.
– مفيش تعب ولا حاجة يا جدو، ولو احتجت اي حاجة كلمني اجيلگ على طول، واهتم بصحتگ لو سمحت.
اومأ لها بعيناه، ثم تركته لتتوجه نحو منزلها، اشارت بيدها لسيارة أجره، وحين وقف، دلفت بالداخل وجلست برفقته ابنها، وتحركت بهم على العنوان الذي القته على السائق.
حين انصرفت “غزال” جلس “محمود” مره ثانية في شرفته، رمق الجدران بحسره، فقد عاود من جديد لوحدته، فالساعات التي مرت شعر بسعادة وروح تدب في المنزل بوجودهما معه، والآن كل شيء ساكن بلا روح، لعن غربة ولده وايضا غباءه، تنهد بحزن، وكاد أن ينهض ليدخل لغرفته؛ جاءه اتصال منه، فرد بلهفه قائلا:
– ازيگ يا فؤاد، وحشتني اوي يا بني، غيبتگ طالت اوي، مش هترجع بقى.
– انا كويس يا بابا، انت عامل اية؟
– تعبان من غيرگ، الضغط عالي عليا، ده حتى لسه غزال وشادي ماشيين من دقايق.
– غزال وشادي؟! اية اللي جابهم عندگ؟
– ايه مستغرب ليه كده، جت عشان بنت اصول وبتفهم في الواجب طلبت منها اشوف شادي، جبته، ومش كده وبس.
– وبعدين في اية تاني؟
قص له ما فعلته مع من اهتمام وحب ومراعيه، لكنه لم يذكر له كم اصبح شكلها، كان يسمع صمته وهو على يقين بما يدور في جوفه من ندم، وحين انتهى رد عليه بصوت مخنوق:
– غزال طول عمرها صاحبة واجب، وبتحبگ فعلا، كتر خيرها.
– طب ومادام هي صاحبة واجب وبتحبني؛ متستهلش منگ انگ تحاول معاها يا بني وترجعها؟
– صعب يا بابا، بل مستحيل، غزال مهما كانت طيبة عمرها ما هتقدر تلين او تسامحني، في حاجة انكسرت جوانا، واللي بيتكسر عمره ما بيتصلح، عارف أني صعب الاقي واحده زيها تاني، لكن أنا اللي مقدرتش النعمه اللي كانت معايا.
قال حديثة بانهزامية شديدة، اغضبت والده، فقال وهو ينهره بقوة:
– بلاش انهزامية واستسلام، انت غلطت غلط كبير، ومحتاج انگ عشان تصلح الجرم ده تحاول مره واتنين والف، عشان هي تستاهل، لكن تستسلم وتقول مستحيل من غير ما تحاول؛ هو ده الغلط بعينه، ده انت حتى سافرت من غير ما تحاول ولا تسلم على ابنگ، كأن ملكش ابن تعطف عليه، فضلت الهروب كعادتگ دايما من وانت صغير، تهرب بدل ما تحل المشكلة.
– خلاص يا بابا فات الوقت لكلامگ ده، انا سافرت وبعدت، واللي حصل حصل، واللي ليه نصيب هيشوفه، اشوفگ على خير عشان عندي شغل، سلام.
اغلق معه دون أن يعطي له الفرصة لسماع رده، نظر “محمود” لهاتفه في تعجب، وضرب كفيه ببعضهما وقال بوجع:
– عمرگ ما هتتغير يا فؤاد، هتفضل طول عمرگ دماغگ ناشفه وعنجهي، ربنا يهديگ ويصلحلگ حالگ يارب.
بينما حديث والده فتح جروح ظن “فؤاد” أنها التأمت واغلقت، شرد في غزاله التي اوقعها في شباكة، وظل ينظر لها وهي حبيسه مقيدة، راضخه لترويضه لها؛ لاغيًا لارادتها بأن تكون حره، طليقه تعمل وتجتهد، فمن بعدها كل النساء اصبحت سوساء بالنسبه له، صرف نظره عن التقرب لاياهم، ركز في عمله غير مبالي لنظرات تلگ العمليه التي تتحجج كل فترة لرؤيته والتقرب منه بحجج غير منطقية َعندما يعتذر يجد اللوم والغضب من قبل مديره، فلا أحد يعلم ما جانه قلبه من الهلث وراء عواطفه، فقد ابغض فؤاده الذي اوقعه في مأزق مرتان، ولا يوجد مقدره للغوض في حكاية جديدة، تنتهي بألم أكبر مما كان.
* * * * * * * * * * * * * * * * * *
وصلت “غزال” لمنزلها واستقبلتها والدتها بشوق لها ولحفيدها الذي ارتمى بثقل جسده عليها، فحملته وقبلته بلهفه كأنه غائب عنها لايام وليس ساعات قليله، ابتسمت لحنان والدتها الشديد، فقبلتها ودلفت لغرفتها تأخذ حماما لتسلقي وتنام من بعد تعب هذا اليوم الطويل، تركت صغيرها معها تلاعبه واعتذرت لها واستلقت ونامت من التعب، لم تشعر بما مضى من وقت طويل، فقد كانت مستغرقة في النوم ولم تشعر بدلوف والدتها، وانسحابها حينما رأتها بهذا الشكل، من ينظر لها يظن ان لها شهور لم تذق عيناها النوم، اغلقت الباب في هدوء، وتوجهت لغرفة اخرى لتنام بداخلها هي وحفيدها الذي اطعمته، وحاولت ان تهدهده لينام، وبعد طول عذاب نام على يداها.
استيقظت “غزال” من نومها، تنظر حولها، فلم تجد ابنها بجوارها او في مهده الصغير، نهضت وقامت تبحث عن والدتها بالخارج، فلم تجدها، دلفت لغرفة الاطفال وجدتها نائمه وابنها نائم على يداها، ابتسمت براحه وتوجهت نحوه مقبلاه بحب، والتقطته لتحمله، فستيقظت والدتها منتفضه، فتبسمت لها قائلا:
– اهدي يا ماما، متتخضيش، انتوا نمتوا ليه هنا إمبارح؟
اعتدالت الأم في مجلسها وتثاوبت ثم قالت:
– مفيش لاقيتگ يا قلب امگ مستغرقة اوي في النوم محبتش اقلقگ، قفلت الباب بهدوء وجينا نمنا هنا.
– ليه بس ما تقلقيني اية المشكلة، اكيد شادي منيمكيش امبارح عشان الرضاعة؟
– هو غلبني اه، بس كل ما يقلق كنت مجهزه له رضعه لما بيصحي بياخد بوقين وينام تاني.
– بس انتي صاحية بدري ليه كده؟
– النهارده معاد الجرعة بتاعت شادي، وعايزة الحق افوقه كده عشان افطرة وننزل.
– ااه أنا نسيت، طب هقوم اسلق بيض عشان تفضروا.
– متتعبيش نفسگ أنا حطيته على النار أول ما صحيت، قومي اغسلي وشك وأنا هفوق الأستاذ عشان منتأخرش.
حاولت استفاقت النائم عن طريق عمل تمارين رياضية له لتفيقه، فتح عيناه السوداء مثل كحيلتها مبتسمًا لها، فحملته وضمته بكل عاطفه الأمومة داخل صدرها، ثم خرجت تغسل له وجهه وبدلت حفاضته، وجهزت له طعامه، وتناولت فطورها على عجل، ثم اخذت حماما سريعًا وبدلت ملابسها واسرعت متجهه نحو الصحه ليتناول الطفل جرعته، فنتظرت حتى جاء دورها بعد طول انتظار، فقد جاء حظها مع تلگ الحكيمه التي تتسم بالعصبيه وسرعة الغضب، دق قلبها بتردد، لكنها انتفضت على صوتها صائحه بصوت عالي:
– ما تتحركِ يامدام، خلينا نخلص، دا يوم ما يعلم بيه الا ربنا.
سارت ببطئ نحوها، لا تعلم لماذا قلبها منقبض بهذا الشكل، ناولتها ابنها، فأخذته بعنف، فضيقت “غزال” عيناها بغيظ قائلة:
– ما براحه شوية، انتي بتخطفيه مني كده ليه؟
رمقتها بغضب وعبوس:
– شيفاني هموته يعني، ولا عايزاني احسس عليه، خلينا نخلص، ورايا عشرات الأطفال لسه عايزين يطعموا.

يتبع…

– بعد الشر عليه، الملافظ سعد، اية ياشيخة دي مش طريقة تعامل.

رمقتها بضيق، ثم غرزت بداخل ساق الطفل سن الحقنه بقوة، فصرخ على اثرها “شادي” شعرت حينما أنها غرزتها داخل قلبها هي وليس ساقه، فصاحت بصوت مرتفع:

– ما براحه شوية، اية العنف ده، ده طفل صغير حرام عليكِ، هو مفيش رحمه؟

مصمصت شفتاها بسخرية واردفت:

– اتفضلي خديه، وسبنالگ انتي الرحمه والحنية، اللي بعده.

اولتها ظهرها “غزال” وهي تزفر أنفاسها بغضب، واثناء سيرها خطوات سمعت الحكيمه تقول لتلگ السيدة التي كانت تطعم صغيرها بعدها تقول لها:

– لو سخن او ورمت اعملي له كمدات مية بنشا، واديله خافض للسخونية.

تذكرت أنها لابد عليها أن تذهب للصيدلية تجلب دواء خافض للسخونية احتياطي، وطوال سيرها والطفل على صرخه واحده، تحاول تهدئته وضمه لكنه لا يصمت، عيناها ادمعت من أجله، لمحت صيدلية دلفت بالداخل وقامت بشراء العلاج، ودفعت الحساب، وتوجهت لمنزلها وصوت صراخ “شادي” انتفض قلب جدته،قامت وفتحت الباب تأخذه في حضنها والفزع يتجلى على صفحة وجهها متسائلة عن سبب هذا البكاء، فأجابتها “غزال” وقصت لها ما حدث مع تلگ الحكيمه هناگ، غضبت وقالت بحده:

– وازاي تسكتي ومدخلتيش تشتكيها لمدير الصحه، عشان يجازيها ويخليها تتعامل بحنيه مع الاطفال الصغيرين.
– ما انا مسكتش، بس هي اللي خُلقها ضيق، المهم سيبك منها، أنا بعد كده مش هتطعمه في الصحه دي، هروح للدكتور بتاعه وبعدين اتصل ابلغهم أني ادتهاله، وبلاها وجع دماغ.
– صح احسن برضو، ادخلي اديله دش كده يمكن يهدى، ورضعيه لعله ينام شوية.
– حاضر يا ماما هعمل كده، خصوصا أني ملاحظة أنه دافي شوية.
– وريني كده.
وضعت يدها على جبهته:
– اه صح اكيد من اثر الحقنه، بعد ما يخلص اديله دوا السخونية هيبقي زي الفل.

اومأت لها ثم ولجت داخل المرحاض، تملئ المغطس الخاص به، ونزعت عنه ملابسه ووضعته في الماء الدافئ، وظلت تحاول ان تضحكه، لكنه ما زال في حالة مزاج متعكره، حزنت من أجله، اكملت حمامه، واخرجته ليرتدي ملابسه، وارضعته بصعوبه، ثم اخذ العلاج ونام في احضانها.

ظلت محتضناه بخوف، متابعه درجة حرارته التي تزداد وتقل مع الوقت، فتح مقلتيه بتعب، وصوت بكاءه يعلو، جاءت على اثره جدته قائلة:

– هو لسه بيعيط، مكنتش حقنه دي اللي تعباه كده؟
– مش عارفه والله يا ماما، اول مره يتعب كده من التطعيم، بس الحمدلله السخونية هديت شوية.
– طب الحمدلله، معلش يا بنتي العيال ياما هتشوفي منهم، مش بيتربوا بالساهل.
– ياااه يا ماما ده حضرتگ شكلگ شوفتي الويل عقبال ما كبرنا.
– هو الويل بس، ده أنا شعر راسي شاب قبل اوانه، اه صحيح انتي مش عندگ النهاردة جلسه عند دكتور أمان؟
– اه وتأخرت كمان، بس شكلي مش هقدر اروح، مستحيل اسيب شادي تعبان وانزل.
– يا بنتي أنا موجوده كأنك موجوده بالظبط، ودي شوية سخونه واهو بقى كويس، عقبال ما ترجعي من الجلسه
هيكون زي الفل، يالا احنا ما صدقنا أن نفسيتگ بقت احسن لما خسيتي.
– قلبي مش موطاوعني يا ماما، مش هقدر اسيبه.
– يا غزال ده كلها ساعتين او ثلاثة بالكثير، ويمكن اقل، بلاش تضيعي وقت، ولو في حاجة كفالله الشر هكلم سند، او اتصل عليكِ.

ظلت صامته لا تعرف بأي قرار تجيب، تريد بالا تهمل في جلساتها، وفي نفس الوقت قلبها لا يطاوعها.

كان “أمان” منتظر مجيئها بفارغ الصبر، يحسب الأيام بالثانيه لرؤيتها، لكن طار انتظاره، وهي لم تجئ، يرمق باب مكتبه حين يطرق يظن انها هي؛ لكنه يتفاجأ بمريضة آخرى، تابع عمله بملل، وعندما تأخر الوقت، ضغط على زر الجرس لتأتي له السكرتيرة قال لها بغضب:

– انتِ اتصلتي بالمريضة غزال، تشوفيها هتيجي ولا لأ؟

تعجبت بشدة الواقفه امامه، فهو للمره الأولى يسأل عن مجئ مريض، فقالت في تعجب:

– لأ لا دكتور؟
– ليه يا آنسه، مش المفروض حضرتك بتتصلي بالمرضى تفكيرهم بمعاد الجلسه؟
– ايوة يافندم، اتصلت إمبارح، لكن المريضة مبلغتش انها مش هتيجي وتلغي المعاد.
– اممم طيب اتفضلي انتِ، وابعتليلي فنجان قهوة لو سمحت.
– حاضر يادكتور، اي أوامر تانية؟
– لا شكرا، شوفي شغلگ.

زفر بضيق من كل شيء، فقد طال انتظاره لها، فالوقت لا تمر عقاربه وتعانده، جاء عامل البوفيه و وضع القهوة امامه، وانصرف دون تعليق، ارتشف منها القليل، وإذا به يسمع طرقات الباب فأذن له بالدخول بملل، وحين انفرج، طاقة الأمل فتحت له على مصرعية، فـ اشرق ضياء وجهه وتبسم، نهض من مجلسه ليصافحها بحب، شاور لها بالجلوس، وقال بنبره بها عتاب ولوم:

– اتأخرتِ ليه كده النهاردة؟

نظرت له بتعجب، فادرگ ماذا قال، فرد بتوضيح:

– اقصد انگ اتأخرتِ على معادگ في الجلسه، ده أنا ظنيت انگ مش هتيجي.

قالت بحزن غيم على ملامحها:

– ومكنتش هاجي خالص بصراحة، وجيت بالعافية.
– ليه؟
– شادي حبيبي اخد التطعيم النهارده، ومن ساعتها وهو سخن وتعبان، اول ما درجة الحرارة نزلت ماما الحت عليا اني اجي ومعتذرش.
– الف سلامة عليه، معلش بكره بالكتير وهيروق.
– يارب يا دكتور أمان، انا لو شادي جراله حاجة ممكن اموت فيها.

بمجرد ان شعر ان من الممكن فقدانها؛ انقبض فؤاده بوغزه تطعنه، فهو ليس لدية أي طاقة ان يفقدها بعد ان وجدها تطل عليه وتشعره بأنه مازال قلبه حيًا وينبض بعد ان ظن انه مات من سنين، رمقها بنظرات خوف ورعب عليها، كانت لم تستطع سببها، موشوة لا تحدد موقفه تجاها، ظلان يتبادلان النظرات في صمت.

كانت “والدة غزال” حامله حفيدها وتسير به ذهابًا وايابًا حتى يهدأ بكاءه، فقد شعرت بإذدياد درجة حرارته من جديد، هاتفت ابنها “سند” ليأتي لها، لكن هاتفه كان خارج نطاق الخدمة، وضعته على الاريكة لتجلب له وعاء مملوء بمياه مثلجه لتضع على جبهته قطعه من القماش القطنيه المبلله بالمياة، انتفض جسده، ربتت عليه بحنان، واستمرت هكذا، لكن الحراره لم تنخفض، بل زاد عليه كل دقيقه جسده ينتفض بفزعه، لامت روحها بأنها جعلت ابنتها تذهب وتتركها معه، وعند هذه اللحظة قامت مهاتفة ابنتها، التي ردت فورا في فزع وخوف قالت:

– الحقيني يا غزال، شادي بيتنفض كل دقيقه ومولع.

كاد قلبها إن يقف من شده الرعب والخوف، ردت بتلعثم:

– انا جاية حالا.

اخذت حقيبتها تحت انظار رعبه عليها ليتسائل بخوف، فجأبته على عجل بما قالتة والدتها، امسگ جاكيت بذلته، وأخذ هاتفه ومفتاح سيارته، واسرع معها لنجدته بعد إلحاح منه، وعندما خرج طلب من مساعدته أن تعتذر بالنيابه عنه عن الحالات المنتظره.
دلفت داخل سيارته ودقات قلبها من الخوف على ابنها كالطبول يصل صداها له، دموعها لم تتوقف لحظة، عيناه ترمقها يذاد حزنًا لها، ويدعو الله في سره ان يطمئنها عليه، وصفت له عنوان منزلها، وبعد وقت ليس بكثير وصلت، ركضت مهروله نحو المصعد، ركض خلفها، وصعد معها، وحين وصل المصعد للدور الذي تسكن فيه، صوت بكاءه وصل لها، فتحت الباب بيد مرتعشه، دخل “أمان” باحراج شديد، وحين رأته التقطته بلهفه وقالت:

– مالگ يا ضي عيوني، ان شالله أنا وانت لأ، الف سلامة عليگ يا حبيبي.

تحدث “أمان” بعمليه شديدة حين أقترب ولمس جبهته فقال بخوف:

– غزال مفيش وقت لازم نروح بيه على مستشفى الحميات بسرعة، السخونه بالشكل ده غلط عليه.

نظرت له برعب غير مصدقه احتمالية فقده، فقالت لوالدتها:

– اتصلي يا ماما بسند وبلغيه بسرعة، هروح مع دكتور أمان الحميات وهو خليه يحصلنا.
ثواني هغيرله حفاضته واجي.
– مش مهم يا غزال يالا بسرعة.

قالها “امان” بخوف حقيقي واضح على معالمه، بينما قالت امها معترضة :

– خليني اروح معاكِ عشان اطمن.
– مش هينفع يا ماما، خليكي عشان لو جه سند تجي معاه، حاولي اتصلي بسمية.

لم تنتظر ردها واسرعت معه وتوجهوا نحو المشفى، وعندما وصلوا توجهوا للطوارئ ولحظات ثم الكشف عليه، وامرهم الطبيب بانخفاض الحراره ضروري، نظرت له “غزال” بأعين عاجزه، فاشارت لها الممرضة بالتوجه نحو المرحاض ووضعه تحت المياه حتى تنزل حرارته ويعرفون التعامل معه، طمأنها “أمان” وتوجهوا لما اشارت له، ونزعت ملابسه ووضعته داخل الحوض وفتحت صنبور المياة على جسده تشنج جسده الصغير، وصرخ في بكاء مرير، كانت تبكي من أجله، وعندما انخفض بدرجة بسيطه ارتدى ملابسه وتوجهه للطبيب الذي أعطى له حقنه مركبه لخفض حرارته، وحين ابلغته عن سبب التشنجات التي اصابته، اجابها بأنها نتيجة صدمة المياة على جسده، انتظرت بالخارج محتضناه برعب، ربت على كتفها “أمان” قائلا:

– ان شاء الله هيكون كويس، تحبي نستنى شوية ولا اروحگ؟
– لأ معلش خلينا نطمن بس عليه، عشان لو منزلتش ندخله تاني، بس ليه احنا جينا هنا ومروحناش اي مستشفى خاص؟
– عشان مستشفى الحميات متخصصه في حالات دي، افضل من اي مستشفى تانية، طمنيني ازيه دلوقتي؟

نظرت لابنها المغمض العينان، تائهًا، وعادت التشنجات له من جديد بكثرة، فنظرت له بأعين دامعه قائلة:

– الحقني شادي بيروح مني.

حمله منها وهرول نحو الطبيب، فحالته لا تبشر بالخير، اخذه الطبيب وتوجه لاسعافة، وأمر الجميع بالخروج، لم تستطع “غزال” أن تتحرگ خطوة، جذبها “أمان” وخرج بها، وما أن اختفت وحاول الطبيب انقاذ الصغير لكن اراده الله نفذت حاول عمل انعاش لقلبه، لكن فشل تأثر لحالته، خرج مطأطأ الرأس، وعندما رمقته “غزال” جرت عليه مسائلة:

– طمني على ابني ارجوگ؟

همس لها بصوت منخفض قائل:

– البقاء لله يافندم.

ياترى غزال هتقدر تتحمل الصدمه الجديدة دي؟
ولا الانتكاسه اللي حصلتلها هتكون اشد من قوتها وعزيمتها؟

يتبع…

جرح اخر ونزيف اعمق اصاب فؤادي…
لماذا يا قدري تصيبني بتلگ السهام الجارحه…؟!
فـ لقد صبرت على اول جروحي، اما هذا فمن الصعب، بل من المستحيل ان اتخطاه..
الضربه كانت كالمطرقة فوق قلبي، قسمه شقين..
آآآه على اول مره فرحتي التي انطفأ ضياءها وسكنت الثرى..
فـ صبرا جميلا يا وتيني..
* * * * * * * * *
همس لها بصوت منخفض قائل:
– البقاء لله يافندم.
لم يستوعبا كل من “غزال” و “أمان”
تلگ الصدمه، كيف حدث ذلگ؟ كيف لمجرد درجة سخونه تفعل هذا به؟
وضح الطبيب بأنها حقًا السبب ناتج عن ميكروب شديد اصابه، نتج عنه هذه التشنجات وزيادة كهرباء في المخ، اودت به في الحال.
ظلت “غزال” جاحظة العينين، تذرف دموع من مقلتيها انهار دون توقف، تحاول تستوعب ما قاله الطبيب منذ لحظات، أيعقل هذا أن ما لها في هذه الدنيا رحل في غمضة عين ؟!
عقلها غير قادر على استعاب هذه الصدمه، قلب “أمان” يتمزق من أجلها، يريد أن يضمها لقبله ليخفف عنها هذا الألم، لكن يده مقيده بسلاسل من حديد، وليس معه مفاتيحها ليحلها ويحررها، لكن قلبه يواسيها، رمقها بأعين مرغرغه بسحابه من الدموع واقفه على حافه اهدابه مهدده بالتحرر، لكنه ما زال قادر على سجنها حتى لا يضعفها أكثر مما هي عليه، هزها بقوه لتفيق مما عليه، اهتزت عيناها بتيه، وحينما استوعبت تلگ الفجعه التي اصابتها، شعرت بقهر السنوات كلها داخل قلبها الذي لم يتوقف نزيفة لحظة، سيل ادمعها قي سيلان لا يتوقف انهماره ثانية، كأن اقدارها اذاقتها من جديد الآلام و وجع فوق احتمالها مره ثانية، لكن في هذه المره أشد وأقصى مما مضى، لماذا اذاقها كل هذا الألم كأن لا يوجد بشر على هذا الكوكب يرتشف منه كأس المرار إلا اياها؟
فلماذا لا يترگ صغيرها الذي تمنته وكانت تحيا مع أجله وتحملت كل الذل والمهانه من اجله هو فقط، والآن خطف الموت من بين احضانها في غمضة عين.. اي عدل تراه تلگ السماء لتسقيها من مُر وعذاب كؤوس لا تنتهي؟!
أين الرحمه في كل هذه الابتلاءات؟
صرخت بأسمه بكل ما اوتيت من صوت، اهتز له جدران قلب “أمان” قبل جدران المشفى، وركضت مهروله لغرفة صغيرها؛ وجدته نائم كالملاگ الصغير في فراشه، تبسمت له بحب ظنًا انه سيبادلها الابتسامة كعادته.. لكن هذه المره اغتيلت تلگ الابتسامة ودفنت ولن تعود…
اقتربت منه وهزته بقوه قائلة بوجع يمزق نياط قلبها بين شهقاتها:
– شادي قوم يا حبيبي اصحى، قوم عشان نروح مع بعض.. أنا جنبگ وعمري ما هسيبگ لحظة واحده، شادي قوم بقى انا عارفة انگ نايم من التعب وهتقوم دلوقتي… شادي والنبي ما تسبني لوحدي انا مليش حد غيرگ في كل الدنيا دي.. شادي اصحي بقى حرام عليگ، انا هموت لو سبتني.. أنا اتحملت عشانگ كتير، و وقفت على رجلي تاني عشانگ انت بس.. ليه تسبني وأنا لسه في وسط الطريق.. لا يا شادي مستحيل تكون دي النهاية ابدا؟! إحنا لسه ملحقناش نشبع من بعض.. ملحقتش حتى اسمع منگ كلمه ماما.. ليه تسبني بسرعة كده بدون اي انزار؟!
آآآآه آآآه ياشادي على قلبي اللي اتكسر، وظهري اللي انحنى من بعدگ… آآآآآه ياربي صبرني يااارب.
لم يتحمل “أمان” كل هذا النواح، حلل كل قيوده وهرول نحوها يوقفها من جديد على قدماها، فرمت نفسها بداخل احضانها، فشتدت في ضمته يحتويها في اشد لحظة ضعف تمر بها، رافضا لاي صوت عقل او ضمير بما يفعله؛ فكل الذي يهمه تلگ الحزينه المقهوره يهدأ من روعها، ظلت تبكي وتصرخ بأسمه، فترة حتى لاحظ ارتخاء جسدها وخارت قواها، واقعه على الأرض، فشتد بها، وهو يصرخ بأسمها مناديًا على أحد ينقذها، حملها ليضعها على الفراش، ثم خرج ليرى الطبيب، وإذا به يلمح اخاها أمامه، وحين أرى فزعه سأل عن اخته وابنها، عرف ما حدث لهما، اغمض عيناه بألم شديد، ودلف لها ليفيقها، بينما “أمان” ذهب ليستدعي الطبيب.
دموع “سند” كانت تسبقه، قلبة كان ينوح قصائد حزن وألم على اخته التي لم تسعد يومًا في حياتها، وحين بدأت اسعادة روحها وثقتها بنفسها، جاءت لها الضربه فوق كل قوتها، فقد كان قلم الاقدار لها كسر فؤادها واقوى مما كانت تتخيل، اقترب منها وحاول ايفاقتها لكنه فشل، جاء الطبيب وفحصها وبلل قطنة منغمسه بالعطر، وحين استردت وعيها صرخت بصوت حزين يمزق كل القلوب، اشتد اخاها في احتواءها، وعندما شعرت بوجوده انهارت في سيل من البكاء غرق كل من واقف بجوارها، فقد كانت العبرات تجري فوق وجنتيها جمره نار تحرق فؤادها قبل وجنتيها هاتفة:
– شادي راح يا سند… ابني وكل عزوتي راح من غير ما حتى اوعده.. كان نفسي اسمع صوته وهو بيناديني، ملحقتش اسمعه ولا يكلمني.. آآآه يا شادي، يا ابن عمري واول فرحتي اللي انطفت من بعدگ يا بني.
ربت على ظهرها بحنان، وصوت شهفاته يشطارها اوجاعها قائل:
– وحدي الله ياحبيبتي، قضاءه واسترد امانته اللي ملناش دخل فيها، ارضي بنصيبك وقولي اللهم اجرني في مصيبتي، وصبربي علي ابتلاءك.
ابصرته وصوت شهقاتها يعلو ردت عليه:
– مش قادرة يا سند، والله ما قادرة، واشمعنى انا اللي يحصل معاها كده؟ ما كل العيال بتتطعم وبتسخن، ليه هو بالذات يحصل معاه كده ويموت مني في غمضة عين.. والله ده حرام.. حرام، ومحدش حاسس بوجعي والآمي.
لم يتحمل “أمان” ان يراها هكذا، صورتها توجعه، يريد مساعدتها ويده مغلوله مقيدة، جاء في ذهنه وميضه انارت ظلمته، خرج من الغرفة، وامسگ هاتفه قام بمهاتفة أخته يبلغها بما حدث، ثواني مرت وجاء ردها قال بنبره حزن:
– الحقي غزال يا آلاء.
– مالها غزال يا أمان، انطق فيها اية؟
قص عليها ما حدث، و وصف لها حالتها، فقالت بخوف:
– لاحول ولا قوة الا بالله، كل ده حصلها، دي ملحقتش تفوق يا قلبي، كده حالتها اتنكست ويا عالم هتقدر تخرج منها ولا لأ؟
– لا متقوليش كده يا آلاء، لازم تخرج كلنا هنفضل جنبها عشان تعدي ازمتها، تعالي بسرعة متتاخريش ارجوكِ، حالتها صعبه اوي.
– مسافة الطريق، انت فين؟
ابلغها بمكانه ثم اغلق معها ودخل ليشاهدها، فوجدها كما هي، اقترب من “سند” وابلغه بأن عليه استلام الطفل لعمل اجراءات دفنه، سمعت همسه فزادت شهقاتها، فانصرف يستخرج تقرير من الطبيب المختص لوفاة الطفل ليكمل في الصباح استخراج دفنه.
جاءت “آلاء” وهاتفت “أمان” ليبلغها بمكانه، ذهب لها وحين وصلت ورأت انهيارها، طلبت اخاها بضرورة توجهها للمشفى لتلقي العلاج، رفض “سند” وطلب منها ان تقوم بمعالجتها في منزلها، حاول مساعدتها حتى تقوم تقف على قدميها، وقفت بصعوبه، ساعدتها “آلاء” سارت معهم بخطى بطيئة، غير مبالية بما يحدث، تردد بهمس اسم فلذة كبدها حتى وصلت لسيارة اخاها وركبت بالداخل معه بجوار “آلاء ” في المقعد الخلفي، و آتى” أمان” خلفهم يحمل الصغير الذي كان ملتفًا بغطاءه، وضعه بجانبه، وذهب لمقعده في وضع السائق وانطلق خلفهم لمنزلها، وحين وصلت ورأت والدتها حالتها هكذا، انفطر قلبها عليها، وسألت ابنها، وحين علمت، صكت على صدرها من هول ما سمعت، احتضنت ابنتها وانهارت معها في البكاء، تحدثت ” آلاء” مطالبه من “سند” يجلب لها حقنه مهدئة تعطيها لها، وعندما نزل وجد “أمان” امامه يسأله:
– الولد معايا، اطلعه فوق، ولا هتاخده عندگ عشان بكره نحسن مثواه؟
– مش عارف والله، خايف اطلعه تشوفه تنهار اكتر، ده أنا حتى رايح اجبلها حقنه مهدئه طلبتها الدكتورة آلاء.
– طب اطلع انت وأنا هروح اجبها، قولي اسمها، وخد انت الطفل من غير ما حد يشوفه، وربنا يصبركم يارب.
– يارب، والله أنا ما عارف اشكرك على وقفتك معانا ازاي يا دكتور أمان.
– مفيش شكر بينا، اعتبرني زي اخوگ.
– واكتر، انت نعم الأخ.
ابتسم بحزن له، واخذ الطفل منه، وابلغه اسم الحقنه، شعور يقهر القلب عندما ضمه لقلبه، قبله بحنان، وبقلب يزدف دموع لا تنتهي، فقد كان يشعر بأن “شادي” بالنسبه له ابنًا ثالث مع ابناءه، احبه بمقدار حبه لأخته، فاذا كان هو خاله ومتألمًا بشده له، فما بال بأخته المنهاره لأجله، دعا الله أن يهون عليها.
صعد لأعلى ليواسي اخته، تذكر انه لم يبلغ زوجته، فقام بمهاتفتها وابلاغها بما حدث، تأثرت بشدة وابلغته بأنها ستأتي له فورًا هي والأولاد ليقفوا جميعًا بجانبها في مصابها.
أغلق معها وابلغ “والد فؤاد” بتلگ المصيبه، صدم الجد، فسأله كيف حدث ذلگ، ابلغه “سند” بالتفصيل، فلم يتحمل الرجل وظل يبكي كالطفل الصغير، فقلبه كان يحدثه والقبضة التي سكنت ثناياه كانت تبلغه بشيء سيئ سيحدث، لكنه كذب نفسه، والآن صدق احساسه، طلب منه بالا يتأخر غدًا ليكون برفقته في انتهاء كل الاجراءات، واغلق معه، ودخل في غرفة يضع فبها الصغير، وأغلق بابها باحكام.
جاء “أمان” ومعه الحقنه واعطاها لاخته، التي عبئتها واعتطها لها لتهدأ من نوبة البكاء الشديدة، دقائق مرت حتى خارت كل قواها، دثرتها بحنان والدتها، ثم خرجوا جميعًا للخارج لترتاح، سألت الأم عن حفيدها، رد ابنها وابلغها انه بالداخل وغدا سيقومون بدفنه في مدافن الأسرة، دعت ان يصبر قلب ابنتها ويلهمها رب العالمين الصبر، آمن علي دعاءها الجميع، ثم وقف “أمان” واستأذن لينصرف، ووعدهم بأنه سيكون متواجد في الصباح الباكر بمشيئة الرحمن معهم، وبرفقته اخته، شكروه كثيرًا على وقفته الرجوليه معهم، ثم انصرف ليقوم بإيصال “آلاء” لمنزلها، ويبيت هو مع والدته حتى يأخذها في الصباح اليهما.
وحين انصرفا، طرق باب الشقة، نهضت لفتحه وجد زوجته جاءت لتواسيه، وصافحت والدته وشاركتها حزنها، فسأل “سند” عن اولاده، فقالت:
– اتصلت ببابا جه اخدهم، مكنش ينفع اجبهم في الظروف دي، وخوفت يتشاقوا، فعرض عليا بابا انه يجي ياخدهم يقضوا يومين عنده، عقبال بس ايام العزا تنتهي.
– عين العقل، احسن برضو، كويس انك اتصرفتي كده، بس خايف نتقل عليهم.
– متقولش كده يا سند، إحنا اهل، ولو الأهل متوقفش جنب بعضهم في وقت الزنقه يبقى لزمتهم اية، وربنا يصبركم يارب، ويكون في عون غزال ويقدرها تجتاز حزنها يارب.
كان يوم حزين على الجميع، ورائحه الموت مسيطرة على جميع جدران المنزل، تشتمها “غزال” بقوة برغم انها في حالة استرخاء، دموعها ما زالت في الانهمار لا تجف، محتضنه اخر ثياب لصغيرها كان يرتديه، تضمه داخل صدرها كأنها تحتضنه هو، تتذكر ضحكاته لها، صوت ملاغته لها الغير مفهوم، كل شيء، وضعت يدها على بطنها متذكره ركلاته الضعيفه أول مره تشعر بها، ومع مرور الأسابيع
تزاد الركله قوة، فتبتسم له وتحدثه وتربت عليه، فيصمت عندما يسمعها تحدثه، فكم من المرات كانت تتحدث معه طوال ليلها، وتهمس له باشتياقها لرؤياه، ولكن الآن رحل في هدوء وبدون وداع، رحل وتركها حزينة محطمه، بائسة، بل كاره للحياة كلها، فكرت في ان ترحل معه ولا تتركه وحيدًا، لكنها برغم كل اوجاعها اشفقت على والدتها، فهي جربت وشعرت معنى حرمان الابن، وتجرعت من كأس الألم والفراق، فلا تتمنى أن ترتشف منه والدتها، نظرت للسماء ودعت الله أن يلهمها الصبر.
واشرقت شمس نهار جديده، لكنها كانت اصعب يوم مشمس حار بحرارة نار جهنم عليها، اليوم هو يوم الوداع الذي بصم بجمرة نار داخل قلبها تحرقها لاخر يوم في عمرها، اسوء ذكرى في حياتها ستحفر بذاكرتها، ولا تستطيع الأيام نسياها.
كانت مثل الروبوت يتحرگ بدون روح، مرتدية لباس الحزن على جسدها، واضعه نظارتها السوداء على عيونها مثل ايامها المقبله، تداري بهما دموعها التي تسيل ابحارًا، الجميع يقفون يساندونها، وكل الأعين تشفق عليها وعلى من سيسكن الثرى بعد لحظات.. فقد كان محمولا في نعشه الصغير كالملاك، جده في المقدمه من جهة اليمين، فحالته لا تقل عن امه المنهاره، وخاله “سند” من جهة اليسار ومن خلفه يشارك في حمله “أمان” وغيرهم من الاصدقاء والاقارب، ومن خلفهم تسير السيدات رافعين سبابتهم وصوتهم يعلو بقول واحد “لا اله إلا الله”
وبعد مرور وقت انتهى كل شيء، وقف الشيخ ودعا له كثيرًا والجميع أمن على دعاءه، ثم انصرفوا وبقى اقرب الاقربين فقط.
وبعد عذاب طويل متغلف بدموع الحرقه والفراق ودعت “غزال” فقيدها، كانت جالسة داخل مدفن الأسرة بعدما تم مراسم الدفن، رافضة الانصراف بأن تترگ فلذة كبدها وتمشي بدونه، حاولت الصراخ لكن صوتها لم يسعفها.. فقد كان مبحوح.. لعابها به مرار كل السنوات التي مضت… ولكن قلبها هو من يتألم ويصرخ بكل ما أوتي من قوة… حاول
الجميع معها جعلها تقف للانصراف؛ فلم تعد قوتها التي كانت مدعياها تصمد معها وتبث بداخلها القوة، خارت وهدمت كل جبال الصبر فوقها، فلم تعد قادرة على الصبر او التحمل.. رمقت الكل في حده وتعجب، كم ودت أن تصرخ فيهم وتتسائل؛ لما لا أحد يشعر بتلگ النيران المتوهجه داخل قلبها، فلم يجرب أحدهما معنى فقدان جزء من قلبگ نبض داخل احشاءه وشاركه كل لحظاته لشهور طويلة.. ترى نظرات الشفقه في اعنيهم، لكنهم لم يقدروا مدى قهرتها، ضمتها والدتها في احضانها وقالت:
– قومي يا بنتي معايا، القعده دي ملهاش عازه غير زياده وجعگ وبس.
بعيون مهزومه، مكسوره باكية قالت بصعوبه وهي تدفع يداها لتركها:
– معقول عايزاني امشي وسيب حته من قلبي تحت التراب؟!
ازاي هقدر يا ماما امشي وهو مدفون تحت، وانا اروح بيتي وارتاح على سريري عادي… انا مش متخيله اني مش هشوفه تاني، مش هصحي من عز نومي على عياطه عشان ارضعه او اغيرله… مش هشوف ابتسامته اللي كانت مصبراني على ظلم الايام ليا.. اااه ياوجع قلبي عليگ يا ضنايا.
اشتدت والدتها وبكت بحرقه معها، فهو كان اعز احفادها لقلبها، وتربى على يدها، لكن ارادة الله نفاذه، قالت لها بصوت باكي:
– استهدي بالله واذكريه يا بنتي، احنا لينا اية في روحنا، الأمانه ورجعت لبارءها، اصبري واكيد عوض ربنا كبير.
خرجت من احضانها مسائلة بوجع وغضب يعتليها:
– اي عوض في الدنيا ممكن يعوضي عنه؟ مفيش حاجة تطفي نار قلبي غير رجوعه ليا من تاني…اي عدل يقول ان اللي عشت عشانه وملحقتش افرح بيه يروح مني في غمضة عين ؟!
– أستغفري ربگ، مقوليش كده، ده ربنا الحكم العدل، واسمه العدل، وحرم على نفسه الظلم، قومي الله يهديكي، وادعيله يهون عليكي، واصبري على ابتلاءه.
– مش قادرة يا ماما، رجلي مش شيلاني والله، أنا حاسه ان خلاص ظهري انكسر من بعده.
حين سمع اخر جملتها، مد “سند” يده لها محتضنها قائلا:
– اياكِ سمعگ تقولي كده في يوم يا غزال، أنا ظهرگ وسندگ يا اختي، يوم ما اموت قوليها بالفم المليان ظهري انكسر؛ لكن طول ما انا عايش مش عايز اسمعها ابدا، لا عشت لحظة على وش الدنيا لو اختي اللي طلعت بيها من الدنيا ظهرها ينحني ولا يتكسر… انا معاكِ يا حبيبتي هسندگ واشيل همگ وحزنگ، وهنعدي اي حزن وتعب مهما يكون.
بحديثه هذا ابكى “سند” كل الواقفين، فزادت بكاء”غزال” فجفف الشلالات المنسابه من مقلتيها، ونهضت معه لتستقل سيارته، وهناگ عيون دامعه، ترمقها وقلب يذرف دم من اجلها، كم كان يتمنى أن تكون احضانه هي موطنها الذي تلجأ إليه، وهو من يخفف الآمها ويجفف ادمعها، لكنه ليس من حقه التقرب من نيرانها حتى يطفئها، ويبدل كل هذا الحزن لفرحه.
ياترى هيقدر أمان يخرج غزال من حالة الحزن اللي سيطرت عليها؟
والاهم هل غزال هتقدر تقاوم بحر احزانها وتتفادى تلاطم امواج الحزن وترسى لبر الامان؟

يتبع…

 

اشتقتُ إليگ يامن سكن في احشائي شهورًا وليالي طوال..

اشتقتُ لصوت بكاءگ يقيظني من غفوتي، فـ اعانقگ داخل احضاني، فيهدأ صراخگ وتتحول حمل وديع، الاغيه وادندن له اعذب الكلمات….

آآه وآآه على قلبي الذي ذبح بفراقگ حبيبي…

يا ليت العمر يتنتهي َوتصعد روحي إليگ، فمن أجلگ تحملت الكثير، والآن تهون الدنيا وانا حرمت عيناي من ضي نورگ حبيبي…

 

بحديثه هذا ابكى “سند” كل الواقفين، فزادت بكاء”غزال” فجفف الشلالات المنسابه من مقلتيها، ونهضت معه لتستقل سيارته، وهناگ عيون دامعه، ترمقها وقلب يذرف دم من اجلها، كم كان يتمنى أن تكون احضانه هي موطنها الذي تلجأ إليه، وهو من يخفف الآمها ويجفف ادمعها، لكنه ليس من حقه التقرب من نيرانها حتى يطفئها، ويبدل كل هذا الحزن لفرحه.

وصلوا إلى منزلها وصعدوا لأعلى، وحينما شعرت بهما جارتها “هناء” فتحت بابها لتقوم بواجب العزاء، معتذره لعدم ذهابها معهم للمدافن؛ حيث فضلت المكوث لاعداد الطعام لهما، شكرتها الأم بشده، واعتذرت لها على قبول الطعام، لكنها اصرت وجاءت بصواني الطعام تضعها على المائدة قائلة:

 

 

– بألف هنا وشفا يا طنط، انا قولت اجهز حاجة بسيطة كده مش اد المقام، اكيد محدش اكل من ليلة امبارح، والبقاء لله ربنا يرحمه ويغفر له ويسكنه فسيح جناته ويلهمكوا الصبر، قلبي معاكِ يا غزال، كان الله في عونگ حبيبتي.

لم تقوى “غزال” على الرد بصرتها بضعف وأعين دامعه وتقدمت للداخل بخطى بطيئة مرتعشة، فـ ردت والدتها بإمتنان بالنيابة عن ابنتها:

– والله يا هناء انتي كل شوية تطوقينا بجمايلك، كتر خيرگ على تعبگ معانا.

– متقوليش كده ياطنط، الجيران لبعضها وإحنا اكتر من جيران، والباب في الباب، وسامحوني مره تانية أني محضرتش معاكوا الدفنه، ويارب يجعلها آخر الاحزان، عن اذن حضرتك.

 

انصرفت ودعت الأم الجميع للمائدة للطعام، وتحت الحاحها تقدموا والكل ادعى الاكل، إلا “غزال” كانت في غرفتها محتضنه لعبة من العاب صغيرها تبكي في صمت.

أنصرف كل من “آلاء” و “أمان” إلى مبتغاهم والحزن يكسو وجههما، والصمت سائد، وصوت آيات الذكر الحكيم صوتها يعلو من المذياع، يستمعون له في خشوع، تبكي في صمد فبكاء “غزال” وانهيارها ذكرها بهذا اليوم الحزين في حياتها، وعاشته مره اخرى بكل أوجاعة والآمه، لذا فهي أكثر الناس تشعر بما تعانيه، لذلگ احبت أن تتركها تأخذ وقتها في الحزن، لعلها تفرغ كل ما بداخلها من حزن وتفيق؛ وإذا استمرت وطالت مدتها ستحاول معها وتتدخل في الوقت اللازم.

 

وحين وصلت إلى البناء الساكنه بداخله، اوقف السيارة ورفض أن يصعد معها، وتركها لينفرد بروحه فهو يريد البقاء بمفرده؛ حتى لا يراه أحد في هذه الحاله.

صعدت لشقتها في هدوء، لم تستطيع الجلوس بجوار والدها، فحالتها لا تسمح بالحديث، ففي القلب وجع السنين، دلفت داخل غرفتها ورمت بثقل جسدها على فراشها تبكي على حبيب خطفه الموت من احضانها فجأة في لمح البصر.

اخرجت اااه من آلام الفراق ولوعته، متذكره حين تركت مدفنه وانصرفت؛ شعرت حينها بأنسحاب روحها من جسدها، ما أقساه شعور حين يشعر الانسان بخروج روحه من جسده، ويبقي جسد بلا روح.

فكل يوم، وكل دقيقه تذكره، لم يحرمها بعاده أن تراه في أحلامها كل ليلة؛ فتشكو له وتقص عن عذابها، وقلة حيلتها.

 

فتصحو من نومها وتشعر بأن عطره بداخلها تتنفسه؛ ينشرح قلبها لذكراه.

فماذا تقول وتصف تلگ الام، وما أصاب فؤادها من طعنات بعاده.

نزيف اهاتها مازال يصرخ، ويبكي عليه من لحظة رحيله عن روحها.

سمع والدها نواحها و وقف على بابها المغلق بقلب يتألم من أجلها، متردد في الدخول، يود ان يأخذها في احضانه، لكنه في نفس ذات الوقت قلبه يتعبه لحالتها ولا يوجد شيء يفعله من أجلها غير الدعاء بأن يهدأ رب العالمين نيران حرقة قلبها.

 

سار في طريقة بلا هدف او عنوان، كان مثل الأسد الجريح.. مجروح لها ومن أجلها؛ فكل دمعه تتسلل وتنحدر من مقلتيها؛ كانت جمرات نار تحرقه قبلها، ولكنه لا يستطيع الاقتراب منها ومساندتها، كأن الظروف تعانده وتبعده عنها بعدما كان يظن انها اقربت بعد ان فقدت الكثير من وزنها واستردت ثقتها بنفسها، كان بينهم فقد خطوات ويتشجع لطلب ودها، لكن الآن ابتعدت بعد الشرق عن الغرب، ولا يعلم متى ستتحسن حالتها ويعود الأمل له من جديد، زفر انفاسه بغضب، وقبض يده وضرب مقود سيارته لاعنًا كل الظروف التي تبعده عن غزالته الحزينه الباكية.

 

كان “فؤاد” يباشر عمله بذهن شارد يفكر في صحة والده، فقد هاتفه أكثر من مره ولم يجد رد منه، خشى أن يكون ازداد مرضه، فكر أن يهاتف طليقته؛ لكنه لم تأتيه الشجاعة لفعل ذلگ، انتبه لصوت زميل له في مكتبه يبلغه بأن المدير يريده لأمر هام، ترگ ما في يده، وهندم ملابسه، وارتدى جاكت بذلته وتوجه إليه، وحين وصل سأل السكرتيرة قائلا:

– في حد عند المدير؟

اجابته “سارة” بصيغه رسميه بوجود العميلة “ام عبدالله” في انتظاره، وحين سمع بحروف اسمها زفر بضيق من تلگ السيدة التي من وقت طلاقها وهي تطارده، وسبق أن رفض التعامل معها واعتذر، لكنها لم تبالي وكررت طلبها وجددته من جديد، كيف له أن يخبرها بأنه عزف عن كل نساء الكون من وقت جرح قلبه ممن احبها وخدعته، بل طعنته بخنجرها المسموم، لقد كره كذبهن وأصبح لا يثق في جنس حواء، قلبه اغلق ولا يريد فتحه مرة ثانيه، لكنها لم تيأس في التقرب منه برغم الفارق العمري بينهما، إلا ان وسيلتها اغراءه بالمال من جهه، ومن الجهه

 

الاخري بحسنها ودلالها المبالغ فيه، زفر نفسًا عميقًا دلاله على شدة غضبه وطرق عدة طرقات وحين اذن له بالدخول، انفرج بابه وجدها جالسه واضعه ساق فوق الاخر، وفي قمة اناقتها، متزينه بمستحضرات التجميل التي تزيد من جمالها، وتخفي علامات السنين على وجهها، شعر بالاختناق عندما دلفت قداماه من انتشار عبق عطرها الفواح في المكان، حلل عقده عنقه، فهو لا يحتمل وجوده برفقتها في مكان، وحينما طال صمته اشار له بالجلوس، ثم قال:

– الحاجة ام عبدالله جت النهارده مخصوص عشان عايزاگ تغيرلها ديكورات الفيلا بتاعها.

– لكن أنا عندي شغل كتير معايا الفترة دي يا فندم.

– الشغل ممكن يا فؤاد يتوزع على باقي المهندسين، لكن منقدرش ابدا على زعل الحاجة.

– تسلم بيض الله وجهگ اخي.

 

اني ابغى يا بشمهندس فؤاد تغير كامل في شكل الفيلا، ابغى احس اني بالجنة والله، ولا تحمل هم للمصاري، اصرف كيفا تريد، اني بثق في ذوق العالي.

قالت حديثها وهي تحدقه بنظرات اعجاب ولها مخذى لا يفهمه إلا رجال مخضرمه، شعر بالاحراج من ملاحقتها له، تنحنح وقال معتذرا:

– أكيد يسعدني يا فندم أني اتعامل مع حضرتگ، لكني فعلا مضغوط جدا، وفي هنا في المكتب زملاء افضل مني.

نظرت للمدير الجالس تحدقه بغضب، وأنه لا بد عليه أن يحسم الموقف، فقال له بحده:

– فؤاد الموضوع منتهي، قولتلگ الحاجة طلباگ بالاسم، والشغل هيخف من عليگ بس انت اتفرغ لديكورات الفيلا، احنا منقدرش على زعل الحاجة ابدا.

شعرت بالانتصار قليلا، ونهضت مصافحه اياه وقالت له بنبرة هامسه:

– تكفى يا فؤاد، بتچي الحين معي ترى الفيلا على الطبيعة.

تحرگ معها لأسفل على مضض، فهو يعلم ما في جبعتها تجاهه، لكنه كيف لها ان يبلغها بأنه لا فائدة مما تفعله معه، تحركت نحو سيارتها الفارهه، وحين لمحها السائق، تحرگ بخطى سريعه يفتح لها الباب الخلفي ليجلس بجاورها “فؤاد” ثم اغلقه وتوجهه جالسًا على مقعد السائق وساق متجهًا إلى مكان مسكنها، كل هذا حدث ولم تنتبه لتلگ الأعين التي تحدقها في الخفى، وتسير خلفهم دون ان يلاحظها أحد.

 

وبعد حوالي مرور ثلاثون دقيقه وصلت السيارة امام فيلا شديدة الفخامه، ترجلان ودلجان للداخل، تقدمت امامه تسير بغنج قائلة:

– يا هلا ياهلا بيگ انرت يا بشمهندس بيتي.

تقتربت منه اكثر وهي تشاور له في كل ركن من اركانها، وما تريد فعله، كان يتابع بأعينه عليها ويجزم بأن هذه الديكورات غاية من الروعة والجمال ولا تحتاج لأي تجديد، انتهت مما تريده في تجديد الهول، ثم قالت بعينان لامعه:

– تعالي معي لنصعد للچناح فوق لترى غرف النوم.

 

صعد معها لأعلى بدقات قلب متسارعة لا يعرف سبب لها، وعندما دخلت لغرفة نومها، سمعان صوت جهور أسفل، وما أن وصل إليهما خرج “فؤاد” يستطلع الأمر، كان هذا الرجل يعلو بصوته من سباب، كاد أن يرد، لكنه تلقى لكمه في وجه اسقطته ارضًا، فصاحت الحاجة بصوت جهور:

– ايش فيگ يا ابا عبد الله، هل چننت في عقگ، كيف تدخل من دون إذن، انت ما عندك علم كيف دخول البيوت ، ولا تستحي على وچهگ؟

– وانتِ كيف تتصرفي متل الصغيرات المراهقات، وانتِ إيش تسوين معه في غرف النوم؟

– اعقب واچفل خشمگ يا مغبول، اني مَره حره، ما ليگ حكم علي.

 

امسكها من رسغها بعنف، وكاد أن يمد يده عليها، لولا أن نهض “فؤاد” وتعدى عليه بالضرب في غفوه منه، رد عليه اللكمات بكل غضب وتبادل الضربات، فغفله الرجل بركله قوية بكل قوته في مكان حساس لدية، تعالت صراخات “فؤاد” متألمًا تحت انظارهما، ركضت الحاجة نحوه ومالت لتتفقده، فرمقها الآخر بغل قائلا:

– ادينى خليته لا ينفع ليكي ولا لغيرگ.

– انت فعلا مچنون… مچنون.. اقلب وچهك، كان يوم لا يظهر له شمس يوم ما تچوزتگ، تركت لگ كل البلد عشان ابعد عنگ، وانت برضو جيت ورايا، أهرب منگ على فين، منگ لله يا شيخ.

نظر لهما بإحتقار شديد، ثم انصرف، وهي ظلت تتفحص الجالس يآن من شدة الألم، صاحت منادية على السواق الذي أتاها على عجل، واستند “فؤاد” على كتفه وتوجه به للمشفى.

حين وصلوا صاحت في الجميع وحاله من الهرج والمرج لقدومها نظرا لمكانتها العالية، دخل غرفة الكشف، وتم عمل اللازم له من تحاليل ومفحوصات، فقد كان الألم في هذا المكان الحساس جعله يصرخ طوال الوقت، يتألم بشده.

 

خرج الطبيب بعد مده وقال وهو يشفق عليه:

– من الواضح أن الضربة مع كل آسف كانت قوية جدا، لدرجة تسببت في كدمة داخل منطقة حساسة لدية مما أدى إلى حدوث تجمع دموي يضغط على النسيج السليم وتسبب في ذلك إلى تهتك جزء من الأعضاء التتاسلية ، مما يترتب عليه عدم مقدرته على التزاوج والإنجاب.

حين سمع “فؤاد” قول تشخيص الطبيب، اعتلته الصدمه، شعر أنه انتهى للأبد، اصبح مثل الأرض التي اصابها العجز واصبحت بور ولم تنبت ثمارها من جديد، قالها هذا الرجل ولكنه حينها لم يفهم معنى حديثه، والآن استوعب جيدا أنه حكم عليه بالإعدام، وفقد رجولته، وحكم عليه أن يترهبن مدى الحياة.

 

اشفقت عليه الحاجة، وحاولت أن تواسيه، لكنه آبى أن يسمع منها أي حديث، وقال في انهيار لها ابشع الكلمات وعندما سألها عن هويته، علم أنه طليقها ويغار عليها بشده، ودائما يلاحقها في كل مكان، ووعدته أنها ستجلب له حقه وتدفعه ثمن ما فعل به، فرد عليها بأنه لا يريد منه شيء، وكل الذي يحتاجه أن يتركوه في شأنه وفي مصابه، لكنها صممت بأن تعوضة على ما خسره بسببها، انصرفت لتتركه ليأخذ قسط من الراحه.

توجهت لطليقها تهدده بنفوذها بأنها ستقاضية في المحاكم وتشهر بسمعته، وحين شعر بصدق وقوة حديثها، سألها عما يرضيها، امرته بكتابه شيگ بمبلغ كبير تعويضًا عما فقده بسببه، رضخ لقولها، فهو يعلم بأنها قادره على تنفيذ ما تهدد به، اخرج دفتر شيكات وكتب له مبلغ باهظ، وقدمه لها، وحين نظرت له تبسمت وقالت:

 

– ترى هذا اخر انزار لگ يا ابا عبدالله، و لو اتكررت منگ وتعرضت الي، والله ما تدري راح اسوي معگ يا ابا عبدلله، الزم حدودگ، وكف عن مطاردتي، فالذي كان بينتنا صار وانتهى، انساني الله لا يرضى عليك، وياريت ما تريني وچهگ من تاني.

انصرفت واغلقت الباب بحده، ثم ذهبت إلى منزلها، لتبدل ملابسها وتحاول أن تستريح، وتفكر في اعادة اوراقها من جديد بعد كل الذي حدث وصار لمن كانت تود التقرب له، سبت طليقها وما فعله فيه، ولعنت بداخلها غباءه وسوء تصرفه الحمقاء.

 

كان “فؤاد” حزينًا باكيًا لمصابه، هو نعم كان لا يريد أن يتزوج مره ثانيه، لكنه في ذات الوقت شعر بفقدان رجولته، وهذا ليس أمر سهلا على أي رجل، فقد حرم من نعمه الإنجاب مره ثانية، وايضا نعمه الزواج بأن تكون في حياته زوجه يؤنس بها وحدته، فمن ترضى به الآن وتتحمل مصابه، وتضحي بأن تكون زوجة اسمـًا لا فعليـًا؟ لا يصدق عقله الذي جعله يتذكر زوجته سابقًا؟ فهل ترضى به بعد كل الذي صار بينهما من جروح؟

هل إذا عاود لها وطلب السماح والغفران، ستستجيب؟

هل ستمنحه الحياة التي كان ينعم بها من قبل، وتمرد عليها بكل قسوة، وهدم المعبد فوق رأسه ورأسها، ولم يهتم بمصلحه صغيره؟

صغيره الذي عرف بقيمته الآن؛ فهو من تبقى لدية وهو من سيكون تذكره مروره من جديد لوالدته ولم الشمل مره ثانيه، فعليه بالاهتمام والسؤال عليه، حتى إذا حتم الأمر عليه أن يتواصل معها او مع اهلها، الآن فقط اشتاق له ولصورته، تمنى أن يراه، فكر انه حين يتشافى سيطلب من والده أن يطلب من “غزال” تأتي لمنزل والده ويطلبه ويرى صورته في فيديو يقوم والده بتصويره له، حتى يحتفظ به كلما اشتاق لرؤيته.

 

استيقظت الحاجة “ام عبدالله” مبكرًا وتوجهت إليه حامله بيدها الشيگ لتقدمه لها ومعها شيگ اخر تعويضًا منها على الضرر الذي لحق به، وعندما قدمته نظر لهما وضحگ بسخرية وألم لا يشعر به إلا رجل مثله في حالته وقال بحزن:

– تقدري تقولي هيفيد بأيه الفلوس دي كلها وانا بحالتي دي؟ هيعملي ايه مال الدنيا كله وانا فقدت اغلى ما يملكه اي راجل؟

– معگ حق، لكن بالفلوس هادي ممكن تسافر في اي بلد، ويمكن تلاقي علاج لحالتگ، او تعمل بيها شركة ديكور كبيره في بلدگ.

حرام تضيع الفرصة منگ.

 

صمت بإنصات لحديثها، وتذكر ابنه فبهذا المال يضمن له مستقبله ويقوم بتعليمه في احسن مدارس اللغات، وينشأ شركة كما اقترحت وتعمل معه “غزال” لمعت تلگ الأفكار في ذهنه واختمرت و وافق واخذ منها الشيكان، فتبسمت الاخرى لاقناعه، ثم أنصرفت بعد أن دفعت له حساب اقامته في المشفى.

* * * * * * * * * * * * * * * * * *

مر أسبوع على وفاة “شادي” وكل المحيطين الحزن ساكن اضلعهما، تقوقعت “غزال” داخل غرفتها لا تخرج منها إلا إذا دلفت للمرحاض، منعت الطعام، لا تأكل ولا تشرب إلا قليل القليل، فقدت من وزنها الكثير، ذبلت مثل اوراق الخريف حين تتساقط وريقها ورقة تلو الاخرى، اصبحت هذيله، لم تسمع لنداءات كل من حولها بالنهوض واسترداد صحتها، كل من يراها لا يصدق أن تلگ الراقده على فراشها هي “غزال” الورده المتفتحه، كانت انتكاستها صعبة وشديدة عليها، رمقتها والدتها بحزن بعد الحاح منها ان تأكل ولو بضع لقمات صغيرة، لكنها خرجت تحمل خلفها اذيال الخيبه والرفض، رأت ابنها جالسًا، اقتربت منه قائلة:

 

– واخرتها يا سند هنعمل اية مع اختگ، هنفضل سيبنها كده لما تموت وتحصل إبنها؟

– الف بعد الشر عليها، متقوليش كده.

– لما تبقى من يوم حصل اللي حصل وهي ما دقتش الاكل، يبقى هتروح مني، انت لازم تتصرف، انت اخوها الكبير وفي حكم ابوها.

– يعني عايزاني اكتفها يا ماما عشان تاكل، عمر الأكل ما كان بالعافية، ده نفس وانتِ عارفه بنتگ لما بتزعل مش بتاكل.

– يعني اية الحل دلوقتي؟ اسبها كده يعني؟

– والله ما عارف اقولگ اية بس.

– جبتگ يا عبد المعين تعيني؛ لاقتگ عايز تتعان، إحنا لازم تكلم دكتورة آلاء، هي اكيد عندها الحل، حتى لو كان الحل ده تدخل المستشفى، انا مش هقف وبنتي تروح مني، دي طول الوقت بتكلم روحها وعايشه في وهم ان شادي لسة عايش.

– انا هقوم اتصل عليها، هي اتصلت بيا إمبارح تطمن عليها، وهبلغها بحالتها، انا خايف عليها اوي.

هاتف الدكتورة، وقص عليها حالتها وعدم تناولها الطعام، وحديثها الدائم مع ملابس ولعب صغيرها الراحل، انزعجت بشدة وقالت له بحزن وآسى عليها:

 

– كده مقدمناش غير حل واحد؛ أنها تروح المستشفى، غزال دخلت في دور اكتئاب شديد، عقلها مش قادر يستوعب كل اللي حصل، رافض فقدانه لابنها، وكمان عشان تعلق محاليل، ياريت تجهز ليها حاجاتها وتحاول تقنعها انها تيجي المستشفى، ومش كده وبس، لما تتحسن بإذن الله وتخرج؛ غزال لازم الفترة الجاية تبعد عن شقتها، لان كل حاجة حواليها بتفكرها بالماضي، وزاد دلوقتي عليها فقدانها لابنها، حاول تاخدها عندگ او تروح تعيش عند مامتگ الفترة دي.

– كلامگ مظبوط يا دكتورة فعلا البيت بقى صعب اوي بعد اللي حصل، انا هدخل اتكلم معاها ويارب ترضى تروح عند حضرتگ في المستشفى.

– تمام وانا بكره ان شاء الله هيجي اشوفها.

– تنوري يا دكتورة، في رعاية الله وحفظه.

 

انهى معها وعينان والدته تبصره للتحدث عما قالته له، فـ قص عليها ما سردته له، تأثرت لحالة ابنتها ودعت لها أن يطيب الله اوجاعها،

دلف لها اخاها، وجدها مستغرقه في نومها، ومحتضنه ملابس صغيرها بحنان.

بينما “آلاء” حينما انهت معه قامت بالإتصال بأخاها الذي لبى ردها بعد عدة محاولات قال في اقتضاب:

– نعم.

وإلى هنا تنتهي احرفي وتتوقف عند هذا الحد، لنكمل بقية احداثنا غدا وماذا سيكون رد فعل غزال اذا طلب منها فؤاد الغفران؟ وماذا سيكون رد فعله حين يعلم بفقدان فلذة كبده؟

وما هو مصير غزال هل ستستمر في دوامه الاحزان، ام ستخرج منها؟

 

هنتظر توقعاتكم ومتابعتكم في روايتي الجديدة المتواضعة

يتبع…

 

اعلم ان الوصول إليگ مستحيلا..

كما اعلم ان بيني وبين بحر من الأحزان والدموع حبيبتي..

لكني ساخطو واجادف بسفينتي في اعماق احزانگ يا معذبة الوتين، وحتمًا سأصل لگ في يوم، وامسك بيداكِ واخطفگ لجزيزة العشاق…

سأجاهد في تبديل كل احزانگ، لفرحه وهناء…

فثقي بي يا محبوبتي ولو لمره ولن تندمي….

 

لبى ردها بعد عدة محاولات قال في اقتضاب:

– نعم.

– اية نعم دي، في حد يرد على اخته بنعم، نعمه لله عليگ يا سيدي، مالگ انت كمان، مرات عمي بتشتكي منگ، أنا بصراحه مش عارفه هلاقيها منگ ولا من غزال.

 

ما أن سمع حروف إسمها، الرجفه تسربت لفؤاده والخوف جعل دقاته في ازدياد، فأسرع قائلا:

– مالها غزال، فيها اية يا آلاء؟

ردت عليه بحزن شديد على حالتها:

– تعبانه اوي يا أمان، ومنعت الأكل وطول الوقت حابسه نفسها، ومش كده وبس دي وصلت أنها بتكلم اللعب وهدوم ابنها.

 

أغمض عيناه بوجع لما اصابها، يريد أن يقف بجانبها ويساندها، لكنه لا يستطيع، فقد اشتاق لها ويريد رؤيتها بأي طريقة، فسألها هاتفًا:

– أنا عايز اشوفها بأي طريقة يا آلاء، ارجوكِ ساعديني.

– هتشوفها ازاي وبأي صفة بس؟

– مش عارف، بس اطمن عليها.

– طب انا قولت لأخوها بكره هروح اشوفها، تعالى معايا بحجه انگ هتوصلني عشان مش عارفه البيت، ومنها تطمن عليها.

– ربنا يخليكِ ليا، مش عارف من غيرگ هعمل اية؟ شوفي هتروحي على الساعة كام وبلغيني اعدي عليكِ، بس ياريت قبل ما اروح العيادة.

 

– خلاص تمام اتفقنا، وانت ياريت تفوق لنفسگ ولشغلگ، طنط اشتكت منگ مر الشكوى، فادي ملوش ذنب في حالتگ دي يا أمان.

– حاضر هحاول صدقيني، وبكرة كل مشاكلي هتتحل بإذن الله، بس انتِ ادعيلي بقلب جامد.

– مع اني مش فاهمه حاجة، بس ربنا يوفقگ يا حبيبي.

* * * * * * * * * * * * * * * * * *

هاتف والد فؤاد “سند” حتى يطمئن على حالتها، فزداد ألما لها حين علم بما تعانية، وابلغه “محمود” بأنه حتى هذا الحين لم يستطع تبليغ ابنه بما حدث لفقدان حفيده، فالأمر في غاية الصعوبه عليه، لمح من بعيد بأنه يقوم بهذه المهمه بدلا منه، فأجابه على استحياء:

 

 

– آسف جدا يا عمي، العلاقة بيني وبين فؤاد بعد اللي حصل منه انقطعت وشبه معدومه، وبصراحه مش هقدر أني اتكلم معاه في العادي، ما بالگ أني ابلغه بمصيبه زي دي !! حضرتگ هتكون افضل مني بكتير.

– حاولت اتشجع واقوله، لكن في كل مره بيرن عليا واشوف اسمه على شاشة التليفون، قلبي بيرتعش وبدل من أني ارد عليه؛ بلاقي نفسي بكنسل، ومن يومها مكلمتهوش ولا اعرف عنه حاجة.

– كده كده يا عم محمود هيعرف، لما يعرف دلوقتي احسن من بعد كده، واعتقد يعني أن الخبر مش هيبقى صعب عليه بالصوره اللي متخيلها.

– ازاي تقول كده يا سند يابني، ده ابنه الوحيد مهما يكن، واللي طلع بيه من الدنيا.

– والله انت طيب اوي، هو لو زي ما بتقول كده، كان سافر من غير حتى ما يبص في وشه ولا يضمه لقلبه، ده ولا كان فارق معاه، بالذمه في أب يهون عليه ميشفش إبنه الشهور دي كلها، ولا يطلب من حد فينا يصوره ولا يشوفه.

 

صمت الأب وهو يشعر بأن كل ما قاله محق فيه، وكم مره عاتبه على ذلگ، لكن هو على ثقه انه لو علم، سيتألم قلبه لرحيله، ويندم على حرمانه كل هذه الفترة بدون ما يراه او يسأل عليه، طال صمته فقطعه “سند” حينما استشعر انه زاد من حدته عليه قائل:

– على العموم ربنا يهديه، ويصلح حاله، ويعينگ على إبلاغه.

– يارب يا سند، ادعيلي.

أغلق معه وبداخله عزم على ابلاغه في اول اتصال هاتفي يقوم به.

 

وجاء موعد ذهاب “آلاء” برفقة” أمان”، هاتفت “سند” وابلغته بأن اخاها معها من منطلق الذوق والعلم، فرحب الاخر بقدومهما، مرت دقائق وكانت تطرق باب شقتها، فتحت لهما “سمية” ورحبت بهما و لجوا إلى الداخل ملبين دعوتها بالجلوس حتى جاءت والدتها واخاها، اللذان رحبا بمجيئهما، انصرفت “سمية” لتأتي بواجب الضيافة، بينما قالت “آلاء” مستفسرة عن حالتها الآن، فأجابت الأم:

– زي ما هي يا بنتي، على حالتها، بتبكي ساعات طويلة في صمت، وشوية نسمع صوتها وهي بتكلم صوره على تليفونها بتنادية يجلها او تروحله كفالله الشر، والنوم مش بتنام الا ساعات قليلة أوي، وبطلوع الروح لما تاكل حاجة بسيطة كده.

ادمعت كل الأعين من أجلها، ونهضت وقالت طالبه لها بالدخول لها، وضعت “سمية” كاسات العصير وتقدمت نحو غرفتها، وحين اقتربت من الباب سمعتها رادفة بصوت باكي:

 

– نام.. نام يا حبيبي .. نام وادبحلگ جوزين حمام… نام يا روح ماما وإحلم بالمنام..

الفراشة في الهوا والطيور في السما

الغزال والحمام يغنولك نام.. نام

فتحت الباب لتراها محتضنه ملابسه داخل احضانها ومردده بهمس اغنيتها، وفي عالم اخر غير مستوعبه بمن حولها، فهي ما زالت تحيا على ذكرى وليدها، ضمت ملابسه و وضعتها برفق على فراشه، ظنًا وخوفًا من استيقاظة، ثم دثرت الثياب بالغطاء، وقبل أن تنظر لهما نادت لها “الآء” قائلة:

– غزال بتعملي اية يا حبيبتي؟

 

اقترب منها ورفعت سبابتها على ثعرها قائلة بصوت هامس:

– هششش وطي صوتگ يا دكتورة، انا ما صدقت شادي ينام، مغلبني حبيبي من إمبارح اصله يا قلب امه كان تعبان، تعالي نخرج بره.

– فوقي يا غزال، حرام عليكِ اللي بتعمليه في نفسگ ده؟

نظرت بتعجب غير مستوعبه لقولها، فسألتها:

– بعمل اية مش فاهمه تقصدي اية؟

 

تقدمت نحو الفراش، وازاحت بيدها الغطاء الذي دثرته على ثيابه، لم تتحمل “غزال” ركضت نحوها، وهي تصرخ بأن تترگ صغيرها نائم، فـ ازاحت بيدها بقوة، سحبتها الأخرى وامسكت بالثياب قائلة وهي تهز هذا الثياب رادفة:

– فوقي يا غزال، اللي مغطياه هدوم شادي، شادي خلاص ربنا استرد أمانته، استعوضيه للذي لا تضيع ودائعه، بلاش تعيشي في الوهم، وفوقي الكل بره قلبهم بيتألم من وجعهم عليكِ.

وقفت تبكي وتهز رأسها بنفي، رافضة سماع اي حديث مما قالتة، هزتها “الآء” كتفها بعنف لتفيقها مما فيه، مردده حقيقة موته، وضعت يدها على اذنيها تخرس صوتها، لكنها ازاحت يدها و واجهتها اكثر من مره، صرخت في وجهها وتمسكت بملابسه تقبلها بجنون هاتفة بين شقهقاتها:

 

– لا متقوليش كده، شادي عايش وهيفضل طول عمره عايش.. وهو اللي هيدفني مش أنا… هكبره لحد ما يبقى راجل واجوزه ست البنات وافرح بيه… ليه بتقولي انه راح؟ انتي مش عارفه انا بحبه اد اية؟

اشفقت عليها وضمتها بحب وقالت لها مواسيها:

– شادي هيفضل طول العمر جوه في قلبگ، وعمره ما هيموت لأن كل نبضه بيدق بيها قلبگ هو ساكنها، الدنيا مش هتقف ابدا لو فقدنا حد غالي، لازم هتمشي، اه هنتوجع اوي عشان محرومين منهم، لكن مع مرور الوقت هتكون ذكرى حلوة بتذكرها كل ما بنفتكركم، ارضي بقضاء الله يا غزال عشان ترتاحي، انتي لو استمريتي بالشكل ده هتصابي بالجنون… ليه بتهربي من الواقع؛ للخيال وبتبني قصور في خيالگ متمسش للواقع بشيء.

 

سكتت للحظة حين ادركت ما قالته لها، فهذا الكلام كم تحدث به والدها واخاها للتخفيف عنها، وهي رافضة تماما وغير مصدقه لما يقولان، فلماذا إذن تقوله لها؟ وهي لا تستطيع تنفيذ حرف واحد منه، شردت قليلا واستفاقت حين باغتتها بقول ما اسكب على قلبها سولار لتزداد النيران في احتراقها حين قالت:

– مش قادرة والله حاولت اتقبل الواقع المرير مقدرش.

– طالما انگ واعية للحقيقة المُره دي، يبقى انتِ في كامل قواكِ العقلية، واللي حصل ده اسمه هروب واستسلام، بتهربي من حقيقة موته؛ بأنگ عايشه في الوهم، وتتخيلي أنه لسه عايش وبتكلميه، وده لو استمريتي فيه هيوصلگ لطريق ربنا وحده عالم ازاي هتخرجي منه، حرام عليكِ امگ واخوكِ بره قلبهم هيتفطر عليكِ، غزال انتي جربتي وجع فقدان الضنا، فشفقي بحالة مامتگ اللي قلبها بيبكي عليكِ.

– انتوا ليه محدش حاسس بالنار اللي في قلبي؟

 

ليه كلكوا بتطلبوا مني المستحيل، أني اعيش عادي أكل واشرب وحتة من قلبي وأول فرحتي ماتت ومش هترجع تاني؟!

انتي مجربتيش يعني اية تتحرمي من اكتر شخص روحگ فيه.

قالت “غزال” حديثها بانهيار شديد وانفعال أشد غير مسيطرة على حروفها التي تبعثرت وأودت مثل قلبها وروحها اللذان دفنا مع صغيرها، فـ رمقتها “الأء” بوجع وحزن شديد تجلى على صفحة وجهها، وجلست على المعقد، واغمضت عيناها للأسوء ذكرى محفوره بداخلها وقصت عليها مأساتها منذ سنوات.

* * * * * * *

كان “أمان” جالسًا يرتشف العصير، يريد ان يبدأ حديثه ولكنه لا يعرف من أين يبدأ، ظل مرتبگ ومتوتر، شعر به “سند” بأنه يريد التحدث ولا يستطيع، فتنحنح وقال:

 

– اتفضل اتكلم يادكتور أمان، حاسس انگ عايز تقول حاجة ومتردد؟

جفف العرق المتساقط من جبينه، ونظف حلقه وقال بصوت هامس:

– بصراحه كنت عايز افاتحگ في موضوع مهم.

نهضت الأم من مجلسها، فأوقفها بيده “أمان” قائل بترجي:

 

– خليكِ قاعده يا طنط، الموضوع يهم حضرتگ.

– يهمني انا ازاي يا بني؟

– أقصد يهمنا كلنا.

قال “سند” طالبًا منه توضيح حديثه بصوره أوضح، فقال له:

– انا عارف أن اللي هطلبه في التوقيت ده مش مناسب، لكن أنا راجل بحب ادخل البيت من بابه، ونفسي يتوافق على طلب ايد مدام غزال.

 

التف “سند” ينظر لوالدته التي تهلل اسارير وجهها سعادة، كاد ان يجاوبه لكنها من شده الفرح لبنتها نست كل الوجع في لحظة قالت له:

– والله يا دكتور ده يوم المنى، انت نعم الراجل اللي هأمن على بنتي معاه، لكن هي حاليًا مش هتقدر تاخد قرار، كل مشاعرها حزينة ومجروحه، دي يا قلب امها لسه يا دوب بتتخطى جرحها من ظلم جوزها، وجت الضربه دي اللي وجعت قلوبنا كلنا.

– وعشان كده أنا حبيت افاتحكم بنيتي، مقدرتش اخبي عنكوا مشاعري لحد دلوقتي، نفسي اكون انا البلسم اللي هيطيب بخاطرها، واساعدها تعدي الازمه دي على خير.

تنحنح “سند” وقام بتحريك منظاره الطبي على عيناه، وقال بتسائل:

 

– انت شايف يا دكتور أمان الوقت مناسب للخطوة دي؟

– عارف أنه مش مناسب، بس على الاقل أكون واقف معاها بمعرفتكوا طبعا، مش من ورا ظهركوا في الخفى، اقدر اجي اطمن عليها إذا سمحتوا يعني، اتصل بيها او بيكوا، انت متتخيليش يا سند الأيام اللي فاتت مرت عليا ازاي وأنا حاسس بوجعها وعذابها وأنا متكتف مش قادر لا أقرب ولا امسح دمعتها.

قال “أمان” حديثة بكل وجع وتأثر صادق شعر به كل من الام والأخ، اومأت بعيناها الأم تحس إبنها على موافقتها ربما يكون فعلا هو العوض الذي سيجعل بريقها يزدهر وتتورد من جديد، فقال وهو يربت على ساقه:

 

– انا مصدقگ يا دكتور وشرف لينا انگ تكون فرد من العيلة، واحنا معندناش مانع في قبول طلبگ، والرأي الأخير لغزال، هي صاحبة القرار، وزي ما انت عارف ده مش هيكون ابدا في الفتره الحالية.

سعد جدا لقوله، فرد بحماس شديد:

– عارف طبعًا، وربنا يقدرني أني اخليها تجتاز الفترة الصعبه دي، وتسترد ثقتها بنفسها من تاني.

صمت لحظات واكمل بهيام وعشق:

 

– أنا ثقتي في الله كبيرة اوي، والحب اللي جوايا من ناحيتها قادر يمسح اي حزن جواها ويبدله لفرحه وسعادة، اوعدكم اني هعمل كل اللي في وسعي عشان امحي كل ذكرى وحشة مرت بيها، بس في حاجة كنت عايزكم تعرفوها عني.

– خير يادكتور.

– خير، انا أرمل زوجتي توفت من سنوات، وسابت ابني فادي صغير.

اندهشان ونظر لبعضهما في صمت، ثم رد عليه:

– انت شرف لاي بيت يا دكتور، واللي فيه الخير ربنا يقدمه.

 

 

تبدلت فرحته لخوف من احتمالية رفضهما بعد ما جد وقصه عليهما.

ظل الصمت سائد بينهما.

انهت قصتها “آلاء” فـ تبدلت في لحظة الأدوار وأصبحت “غزال” هي من تواسي “آلاء” في الآمها، فعانقتها بحب وكل منهما يفرغ في احضان الاخر همومه واحزانه.

استمر الحال حتى تداركت نفسها وقالت لها وهي تجفف ادمعها:

– شوفتي بقى أنا جاية اهديكِ خلتيني احكيلگ قصتي، تعالي يا غزال نحاول نتخطى احزانا، و اوعديني انگ ترجعي لحياتگ من تاني، وتبدأي من جديد، وتهتمي بنفسگ زي ما كنتِ بتعملي.

 

كانت “الآء” تقول كلماتها وصوت داخلي يسألها هل انتِ تصدقين ما تقولينه؟ هل تستطيعين تنفيذ هذا الوعد وتبدأي من جديد، مع شخص أخر غير زوجگ الراحل؟

جاء صريخ فؤادها المتحرر يعلن عن وجوده والآمه بالرفض التام، اغمضت عيونها تتمالگ روحها، وانتظرت ردها الذي جاء بهمس:

– اوعدگ أني هحاول، وربنا يقدرني ويصبرني.

– ربنا يصبرنا كلنا يا حبيبتي، ممكن بقى نخرج عشان نطمنهم كلهم عليكِ، ده أمان صحيح بره؛ جه مخصوص معايا يوصلني ويطمن عليكِ.

– كتر خيرة، والله مش عارفه اودي جمايلة فين، مسبنيش من وقت ما حصل اللي حصل.

 

 

اقتربت منها وربتت على اكتافها بحنان قائلة بابتسامة:

– ولسه هيقف اكتر واكتر، وعلى قلبه زي العسل، بس انتِ اسمحيله انه يقرب.

رفعت حاجبها بتعجب، فلم تستوعب قولها فسألتها عن مقصدها فأجابت بتهرب:

– أقصد أنه متعاطف معاكِ اوي وقالي لازم كلنا نقف جنبك، وكان بيتمنى انگ تسمحيلة أنه يقرب.

– اااه فهمت، كتر خيره.

 

 

فتحت بابها المغلق، وفتحت بداخل قلبه طاقة نور مستبشر من نظرتها برغم الوجع الساكن جفونها، ملامحها تغيرت، الحزن جعلها اصبحت هذيله، فاقده للكثير من وزنها، وعندما قامت والدتها باحتضانها بقوة كأنها غابت عليها لسنوات، تمنى ان خطواته تسبقها ويضمها بداخله ويرحل معها لعالمه الذي سيغمرها بكل الحب والعشق الذي يكنه، ظل على حالة التمني وفاق على صوت الأم قائلة:

– الف بركة حبيبتي، حمدلله على سلامتگ يا قلب امگ، كلنا معاكِ يا غزال وهتعدي كل حاجة وهتبدأي من تاني وانتِ واقفه على رجلگ، واثقة من نفسگ، بالحب يا بنتي كل الصعوبات هتعدي مهما كانت.

قال “أمان” وهو ينظر لها بحب شديد وبنبره حانية مترجية:

– ازيگ يا مدام غزال، يارب تعدي الفترة الصعبه دي على خير، وياريت ترجعي تاني تنوري العيادة ونكمل اللي بدأناه تاني.

 

اومأت بعيناها له، وقالت بمجاملة له:

– بإذن الله يا دكتور أمان، وشكرا لتعب حضرتگ معايا.

– مفيش تعب ابدا، وكلنا معاكِ هنا عشان نسندگ، والارادة القوية هتجتازي أي ألم و وجع.

– أن شاء الله، ربنا ميحرمنيش من دعمكم ليا يارب، بس انا ليا طلب.

– امري أمر يا حبيبة اخوكِ وانا انفذ مهما يكون.

– حبيبي يا خويا، عايزة اسيب الشقة هنا، مش قادرة اقعد فيها وكل مكان فيه ذكرى مؤلمه، مش هتحمل افضل هنا.

– غالي والطلب رخيص، بكره سمية تساعدگ تلمي هدومگ وتروحي شقة ماما تقعدي فيها لحد ما تقرري هتعملي اية هنا.

 

– ياريت اي مكان بعيد عن هنا، أنا كرهت كل ركن فيها، بقيت احس بخنقة، عمري ما شوفت فيها يوم حلو، اللي كان بيهون عليا بس هو…

وهنا لم تستطع نطق حروف اسمه، تسابقت دموعها التي انسابت في صمت، لكن هذه المرة هي من جففتها.

اقتربت منها “الآء” و ودعتها بعد أن أثنت على طلبها الذي كانت قالته من قبل وهي الآن من طلبته، فهو خطوة هامه في علاجها و وقوفها على قدميها بقدم ثابته هذه المره.

 

خرج “فؤاد” من المشفى بعد مكوثه بداخلها عدة أيام، توجه لمقر عمله يقدم اجازة طويلة حتى يتخذ قرار فيما ينوي فعله، بعدما اصبح من اصحاب الملايين، وافق مديرة بعد ما علم بحالته، تركه وذهب لمنزله، وعاود الإتصال بوالده الذي رد عليه حين سمع رنين هاتفه، فقد عزم على ابلاغة بالأمر، وحين اتاه رد قال “فؤاد” بلهفة واضحه في صوته:

– خير يا بابا بقالي كتير بتصل عليگ مش بترد خالص عليا؟ قلقتني صحتگ كويسه.

رد الأب بنبره حزينة بتوتر وتلعثم في الحديث:

 

– أنا كويس يا بني متقلقش، بس كان في ظروف كده شغلتني شويتين.

– ظروف اية؟ انت مخبي عني اية ومتردد تقوله؟

– بصراحه اللي هقوله صعب اوي وثقيل عليا أني انطق بيه يا فؤاد، لكن ارادة ربنا ملناش دخل فيها، وربنا يصبرگ.

انقبض قلبه بشدة، فهو ليس في حمل سماع أي اخبار سيئة، فكفى ما فيه من هم وغم، لكنه تجمع شتات افكاره المبعثرة، ولا يعلم لماذا اتت به افكاره للتو لزوجته السابقه فقال:

 

– غزال فيها حاجة حصلتلها؟

– لا مش غزال، ده.. ده..

– امال مين يا حج حرام عليگ بلاش الغاز، ارحمني انا فيا اللي مكفيني مش ناقص.

نطق اباه بسرعة السهم الذي خرج من قوسه، فأصابه للحين عندما ردد حروف اسم إبنه، فصرخ “فؤاد” مستفهما:

– ماله شادي، جراله أية؟

– البقاء لله.

يتبع…

 

 

دارت الأيام وارتشفت من نفس كأس المرار كؤوسًا حد ما ارتويت وفاض الكيل بي…

انها حقًا عدالة السماء؛ اصدرت قرارها بأصعب الاحكام…

يا قاضي العدل اغيثني، فـ فؤادي لم يحتمل كثرة الصدمات…

و يا سماء افيضي علي بزخاتگ لتبرد من ناري وترحم تأچچ وتوهج

الفؤاد…

 

فقد خسرت كل شيء، ولم يتبقى لدي غير الحزن والآهات…

* * * * * * *

– البقاء لله.

كانت اخر كلمه وقعت سماعها عليه، اوقفت عقارب الساعة، اله الزمن اعلنت عن صمتها، ولم يستمع إلا حقيقة فقدانه لولده الوحيد.. ولده الذي لم يستطع انجاب غيره، فهو كان له كل شيء ومن أجله هو قبل المال ليحقق له كل ما يتمناه،

والآن لمن يعمل ؟!

ومن أجل من سيترگ له هذه الأموال الهائلة ؟!

يا ليته يفقد كل امواله، ويعود لحظة واحده ابنه ويضمه لاحضانه ؟!

 

 

عندما طال صمته، قلق والده عليه، ونادى عليه ولم يجد رد منه فقال بعد سماع شهقاته بالبكاء:

– اهدي يا بني متعملش في نفسگ كده، ربنا اخد امانته، وبإذن الله يعوضگ بعيل تاني ويفرحگ.

صرخ بكل ما فيه من ألم معلنًا له عما حدث له بنبره انكسار ويأس، ونحيب على حاله قائل بين دموعة:

– خلاص اللي كنت بترجاه من الدنيا راح هو كمان، يعني الوقت اللي اخسر اعز ما أملكه يضيع مني أملي اللي كنت عايش عشانه… اااه ياربي انتقامگ كان كبير اوي عليا، لدرجة مش قادر اتحمله فوق كتافي.

 

كان والده يسمعه وغير قادر على استعاب ما قاله، فصدمته اكبر بكثير مما هو فيه، لم يجد ما يستطيع قوله لمواساته، الا انه قال بإيمان :

– اهدى مش كده، استغفر ربنا، وادعيله يصبرگ ويشفيگ.

– هيصبرني على اية ولا اية؟

أكيد اللي انا فيه ده؛ ذنب غزال، انت قولتهالي قبل كده اتقي شر دعوة المظلوم، أهي الدعوة جابتني الأرض، وفقدت كل حاجة في لحظة… حياتي كلها انتهت في لحظة… ومش عارف هقدر أعيش ازاي تاني؟

– لا هتعيش وتتهنى، ارجع تاني لحضن ابوگ، وبلاش تعذبني احنا دلوقتي بقينا ملناش غير بعض حرام كل واحد فينا يعيش لوحده، تعالى نلم شملنا من تاني، واتعكز عليگ الباقي من عمري يا بني.

– ربنا يديگ الصحة يارب، أنا في اقرب وقت هظبط حالي وارجع اجازه اخدگ وتيجي تعيش معايا، بس اظبط اموري هنا.

 

– اللي تشوفه اعمله، وربنا يصلح حالك ياحبيبي، خلي بالگ من نفسگ، وابقى طمني عليگ.

أغلق معه والده، قذف هاتفه بجانبه، واستمر في النواح على وجع قلبه لفقدانه لصغيره، وتأنيب ضميرة بأنه تركه دون أن يراه ويودعه، اخذ يلوم ويعاتب روحه كثيرًا، وظل يبكي بكاء مرير؛ يوم لا ينفع فيه البكاء، امسگ هاتفه مره ثانية وضغط على ايقونه الاستديو الخاصة بالصور، وقلبها جميعها يبحث عن صوره له ربما التقطها له تصبره ويراها لتبرد من نيرانه، لكنه لم يجد مع كل آسف، سأل نفسه لماذا لم يحتفظ بصوره واحده لطفله او زوجته؟

لماذا لا توجد له اي ذكريات بينهم؟

”رواية الغزال الباكي” لتكلمة الجزء التالى من الرواية اضغط هنا?⏬???

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top