رواية غوثهم

“وأنظر لحالي…. أنظر لحالي في خوفٍ وفي طمعٍ هل يرحم العبد بعد الله من أحدٍ”

_”النقشبدي”
_________________________

close

الطُرق مَفروضة و الحُرية مرفوضة، هي دنيا تشبه السجن للمؤمن و نُزهة الضال، عليك السير فيها بحثًا عن الأمان و الطمأنينة، وكأنك تبحث عن مأوىٰ وسط صحراءٍ كاحلة، إن أبصرت بها أملًا…أحرص حتى لا ينقلب ألمًا…
______________

 

 

مَنْ لي سِواك، ومَنْ سِواك يَرى قلبي … ويسمَعُه؟ كُلّ الخَلائِق ظِلٌّ في يَدِ الصَمدِ
أدعوكَ يَا ربّ فاغفر زلَّتي كَرماً … واجعَل شَفيعَ دُعائي حُسنَ مُعْتَقدي
وانظُرْ لحالي في خَوفٍ وفي طَمعٍ … هَل يَرحمُ العَبدَ بَعْدَ الله من أحد؟
مَولاي إنّي ببابكَ قَد بَسطتُّ يَدي … مَن لي ألوذُ به إلاك يا سَندي؟

 

 

صدح صوت ذلك الابتهال عاليًا في سكون الليل بغرفته كعادته دومًا في الليل يُروح عن نفسه بكلماته، حيث ترسله إلى عالمٍ أخر حيث الهدوء و السكينة، انتهى صوت الابتهال فتنهد هو بعمقٍ ثم أغلق الصوت ثم فتح شرفة غرفته يطل منها على الشارع، لكن هناك صوت خطواتٍ أتت من الخارج أقرب إلى التَسحب وكأنها واحدة من الزواحف تسير على الأرض، وقد رافق تلك الحركة ظلٌ لاحظه “أيوب” من أسفل عتبة باب غرفته، فضيق جفونه بغموضٍ سُرعان ما تحول إلى الخبث وقرر اللعب هو الأخر.

 

 

_”أيوب عبدالقادر بكر العطار”
شاب في العام التاسع والعشرون من عمره، ملتزم دينيًا يسعى دومًا إلى منفعة الناس بعلمه و عمله، حيث مَنَّ الله عليه بتعلم أمور الدين الإسلامي.

 

 

ملامحه الهادئة دومًا تجعل من ينظر له يشعر بالراحةِ، السكينة تسكن وجهه، بشرته حنطية اللون حيث تمتزج بين البني الفاتح والبني الداكن، عينيه بُنيتين وأهدابه كثيفة باللون الاسود، طويل القامة وجسده قوي البنية، خصلاته سوداء كثيفة مرفوعة دومًا وكثيفة، لحيته السوداء المنمقة تُزين وجهه دومًا، على الرغم من الحزم البادي عليه، إلا إنه عُرف بالهدوء و لين الطبع.

 

 

خرج من الغرفة يسير بنفس سير الجسد الأخر الصغير وكأنهما سربًا مع بعضهما، ثم توقف لبرهةٍ عابرةٍ، ينتظر فيها مرور الأخر نحو وجهته _الغير معلومة _ ثم وقف على أعتاب المكان ينتظر القادم.

 

 

دخل الطرف الثاني بنفس طريقة السير نحو الثلاجةِ على الرغم من الظلام الدامس بالمكان يفتحها في منتصف الليل كما السارق يود تفريغ الخزينة، فتح بابها وظهر الضوء منها و مبتغاه بها مُنيرًا، ضرب كفيه ببعضهما في اشتهاءٍ واضحٍ ثم بلل شفته السُفلى وهو يقول بنبرة شرٍ:

 

 

“مش عيب تباتي برة أوضتي؟”

فور انتهاء جملته وجد من يمسكه من سترته في الخلف وهو يقول بنبرةٍ جامدة:

“العيب هو أنتَ بنفسه يا إياد، بتسرقنا !! بتسرق بيت جدك؟”

 

 

اتسعت عينيه بدهشةٍ وظل ثابتًا يمسك قالب الحلوىٰ، ثم التفت برأسه يقول بخوفٍ:

“أيوب !! أوعى تفهمني صح !!”

نظر له “أيوب” بسخريةٍ وقبل أن ينطق شعر باقتراب أحدهم من المطبخ فخطف قالب الحلوى يضعه على الطاولةِ، ثم كمم فم الصغير ووقف به منزويًا في أحد أركان المطبخ متخفيًا عن الأنظار و الصغير يقف أمامه وكف “أيوب” على فمه.

 

 

دلف ذلك الشخص في الظلام يحاول ألا يصدر أية أصواتٍ قد تزعج الآخرين، بالطبع ليس حبًا بهم، لكن خوفًا على هيئته.

أخرج هاتفه يضيء مصباحه فوجد قالب الحلوىٰ على الطاولةِ فابتسم بظفرٍ وهو يقول بنبرةٍ هادئة لم تخلو من الفرح:

“أنا كنت عارف إنك مستنياني، مش هتعرفي تباتي من غيري”

 

 

كاد أن يضحك الصغير لكن “أيوب” ضغط على فمه أكثر ثم مال عليه يهمس له بنبرةٍ خافتة بالكاد سمعها هو:

“ما شاء الله، دي وراثة بقى”

حرك رأسه موافقًا وعينيه تضحكان على الموقف، فتحدث الأخر باشتهاءٍ يقول:

 

 

“أنتِ حلوة أوي أوي، و نوعي المفضل على فكرة”

كان يتحدث مع قالب الحلوى وهو يقلبه في يده، ثم نطق بأسفٍ:

“الواد إياد برضه حبك على فكرة، و أيوب كمان، بس على رأي المثل، الغايب اهضمله النايب، علشان كدا تعالي اهضم نايبهم فيكِ”

 

 

وضعها على الطاولةِ ثم اقترب من مقبس الكهرباء يضيء المطبخ، ثم التفت من جديد فوجد “أيوب” و “إياد” الصغير يجلس بجواره، حينها شهق بفزعٍ ثم تابع بقوله:

“أعوذ بالله من الخبث و الخبائث”

تحدث “أيوب” بتهكمٍ:
“يا جدع ؟؟ دا احنا في المطبخ حتى، عيب يا أيهم، عيب”

 

 

تحولت ملامحه إلى الضجر ثم اقترب يسحب مقعدًا يجلس بجوارهما وهو يقول بتهكمٍ:

“ولما هو عيب ليا، مش عيب عليكم، جايين تمدوا ايدكم في الحرام ؟؟ إخس !!”

رفع “أيوب” طرف فمه بسخريةٍ، بينما تحدث الصغير “إياد” بسخريةٍ:

 

 

“هو أنتَ كنت جاي تكشف عليها يعني يا بابا ؟؟ جاي علشان تعمل زينا كدا”

تدخل “أيوب” يمنعه بقوله بنبرةٍ اقرب للانفعال:

“لأ ولا !! زيك أنتَ و أبوك يا حبيبي، أنا واحد في أوضتي لمحتك بتتسحب من الأوضة، مشيت وراك علشان أمسكك، طلع أبوك ما شاء الله خبرة”

 

 

هتف جملته الأخيرة بسخريةٍ وهو يوزع بنظراته بين أخيه و الصغير، وقبل أن يتشدق أخيه هو الأخر، أرهف “أيوب” سمعه، فوصله صوت خطواتٍ تقترت منهم، فاشار لهم وركضوا معه يختبئون في زاويةٍ بعدما أغلق “أيهم” الضوء.

دلف صاحب الخطوات حيث المطبخ ثم فتح الضوء وقبل أن يتجه للثلاجة، لفت نظره قالب الحلوى الموضوع على الطاولةِ، فاقترب يقول بتعجبٍ بعدما وضع عصاه جانبًا:

 

 

“مين اللي ساب دي هنا !! إيه بيت المجانين دا”

تحدث “أيوب” بنبرةٍ خافتة يهمس لهما:
“طب والله راجل كُبرة ومحترم، عمره ما يمد أيده في الحرام”

أنهى جملته فوجد والده “عبدالقادر” يتنهد بعمقٍ وهو يقول:

 

 

“أنا بقول خسارة تتسابي هنا وأخدك الأوضة مع كوباية شاي بالنعناع”

تلاشت البسمة من وجه “أيوب” فيما جاهد “أيهم” ليكتم ضحكته وهو يقول هامسًا:

“يابا بيقولك العِرق دساس”

 

 

نظر له “أيوب” بحاجبٍ مرفوعٍ، بينما “عبدالقادر” أوشك على المغادرة فركض له “إياد” يقول بنبرةٍ مرحة:

“استنى يا جدو هاجي آكل معاك”

انتقض “عبدالقادر” فزغًا من ظهور الصغير المُفاجيء له، بينما “إياد” توسعت ضحكته أكثر خاصةً وجده يرمقه بغيظٍ قائلًا:

 

 

“ياض هتوقفلي قلبي في مرة، مش حملك ولا حمل أبوك أنا”

خرج “أيهم” من مخبئه يقول معاتبًا بمرحٍ:

“لأ لأ مش اسلوب أبدًا دا يا حج”

نظر له والده بسخريةٍ وهو يقول:

 

 

“أنتَ كمان هنا !! ما شاء الله على الخِلفة و الأصل ؟؟ الواد و أبوه؟؟”

_”وعمه كمان يا حج”

هتفها “أيوب” بمرحٍ وهو يقترب منه، فزادت السخرية أكثر من قِبل والده الذي قال بنفس السخرية:

 

 

“حتى أنتَ !! يا فرحتك يا عبدالقادر، مكانش العشم أبدًا”

ضحك “أيهم” ثم أشار لابنه بسخريةٍ وكأنه يدعوه للمشاهدة، بينما الصغير ضحك أكثر وهو يوزع النظرات بينهم وكأنه يسأل ما القادم ؟؟.

_”أيهم عبدالقادر بكر العطار”
الابن الأكبر لعبد القادر يبلغ من العمر ثلاثة وثلاثون عامًا، والد “إياد” ذلك الصغير الذي يبلغ من العمر ٩ سنوات.

 

 

يشبه “أيهم” والده كثيرًا حيث الملامح الحادة نفسها، بشرته تميل إلى البني، أغمق من بشرة أخيه بنسبة قليلة، عينيه باللون العسلي الداكن، خصلاته بنية داكنة طويل القامة كما أفراد عائلته و كما المعروف عنهم حبهم للرياضة الجسدية منذ الصغر لذلك وجدوا أقوياء البنية، لحيته داكنة اللون البني، أكثر وسامةً من أخيه كما أن شخصيته حازمة تميل إلى الجدية مع الغرباء لكن مع ذويه تظهر طبيعته المرحة، و يشبهه ابنه كثيرًا في نقاط شخصيته وملامحه أيضًا.

 

 

_”عبدالقادر بكر العطار”
والد الشباب، رجلٌ عرف بالهيبة والوقار وسط الجميع، من تجارته الواسعة أو معاملته الحسنة مع الجميع ومساعدته للمنطقةِ بأكملها حتى ذاع صَيته وعرفت المنطقة باسم “حارة العطار”.

 

 

يخالط الشيب رأسه والهيبة دومًا مرسومة على ملامح وجهه، على الرغم من لينه و رزانته، إلا أن الجميع يهابونه كما لو أنه أسدًا أمام سربًا من الضباع، حازم الطباع، جاد في كل شيءٍ، صارمٌ في عمله و قرارته، يعتبر بيته هو المملكة الخاصة به و بأولاده خصيصًا بعد وفاة زوجته و حبيبة عمره، و قبل وفاتها تركت له ثلاثة هدايا كما يلقبهم هو، أكبرهم “أيهم” و أصغرهم “آيات” تلك الفتاة التي ورثت كل صفات والدتها الشكلية أو التعاملية.

 

 

التفوا حول الطاولةِ مع بعضهم، فسأل “إياد” بتعجبٍ من سكونهم أمام قالب الحلوىٰ:

“هنفضل نتفرج كتير ؟؟ حد يأكلنا طيب ولا ندخل ننام؟؟”

تحدث “أيهم” بثباتٍ:

“جدك موجود أهو يبدأ هو افتتاح المشروع، يلا يا حج ورانا هم متلتل الصبح”

 

 

نظر “عبدالقادر” لابنه الأخر بسخريةٍ ثم قال:
“و حضرتك مش ناوي تقول حاجة ؟؟”

رد عليه “أيوب” ببساطةٍ:
“كدا كدا نازل أروح المسجد كمان شوية، مش فارق معايا أنا لسه واكل الحمد لله”

استمع “أيهم” إلى صوت خطواتٍ يقترب منهم، فقال بهمسٍ يحذرهم من مجيئها:

 

 

“الباب بتاع أوضة آيات فتح، يلا بسرعة اتحركوا”

اختبأ “أيوب” ومعه الصغير في الجهة اليسرى و الآخرين في الجهة اليُمنى، وظل المطبخ فارغًا بقالب الحلوى على الطاولةِ.

دلفت “آيات” المطبخ فشهقت ما إن أبصرت القالب على الطاولة ثم اقتربت منه بلهفةٍ تبحث عن السبب في وجوده هنا، فتنهدت بعمقٍ ثم قالت ومازالت توليهم ظهرها:

 

 

“اللي طلع التورتة من التلاجة يطلع بكل براءة كدا علشان مزعلهوش، يلا مين اللي كان ناوي يعمل كدا فيها”

تقدم “إياد” منها يقول ببراءةٍ:
“أنا يا عمتو، هتستخسريها فيا؟”

 

 

نظرت له من فوق كتفها بعدما حانت منها التفاتة، بينما هي تنفست بعمقٍ وقبل أن تنطق خرج “أيوب” يقول ببراءةٍ مُقلدًا طريقة الصغير:

“أنا يا أختي، هتستخسريها فيا؟”

رفعت حاجبها تطالعه باذدراءٍ وهي تقول ساخرةً:

“دا انتم تشكيل عصابي بقى !!”

 

 

اقترب “أيهم” يقول بضجرٍ:
“فيه إيه يا بت !! كل دا علشان أهل خطيبك جايين بكرة يعني ؟؟ اعملي غيرها يا حبيبتي، حرام عليكي تكسري بخاطري العيال دي”

حاولت التحدث فأوقفها “أيهم” بقوله الذي ظهر به الأسىٰ:
“قبل ما تتكلمي افتكري إن محدش فينا عمره بخل عليكِ بحاجة، ياما طلعتها من بوقي علشانك”

تحدثت “آيات” بنبرةٍ جامدة:
“بس قرف !! وسعت منك شوية بقى علشان أنا بقالي يومين بظبط فيها، والناس جاية بكرة خلاص، حرام عليكم بجد، أنا هقول لبابا هو يجي يشوف حل”

 

 

التفتت تغادر المطبخ بعد جملتها فوجدت والدها يقف أمامها بهيبته وهو يستند على عصاه الخشبية التي اعتلى رأسها حصانًا من اللون الفضي، بينما هي سألته بتعجبٍ:

“بتعمل هنا إيه يا بابا ؟؟ دا أنا كنت جاية أشتكيلك منهم”

تحدث “إياد” يجاوبها بفرحةٍ امتزجت بالبلاهةٍ:

 

 

“تشتكي لمين بس !! دا كان جاي يعمل زي اللي إحنا عملناه بالظبط، اتارينا كلنا طالعين للراس الكبيرة”

حدجه “أيهم” يحذره بسبب طريقته، فسكت “إياد” عن الحديث بإحراجٍ من حديثه، بينما “عبدالقادر” قال لها بثباتٍ:

“أخواتك كانوا نفسهم في حاجة حلوة، وخير ربنا كتير أهو، ولا هو علشان خطيبك بقى أنيم العيال جعانة يا أستاذة آيات؟؟”

تنهدت بعمقٍ ثم قالت بمرحٍ:

 

“طز في خطيبي وعيلته كلها، يلا كلوا منها ومش مهم هو، بكرة هتجوز عندهم و اعملهم كتير إن شاء الله”

ظهر الحماس على ملامحهم، فأضاف “أيهم” يوعدها بقوله:

“وعد مني بكرة الصبح هيكون عندك محل حلويات، بس دي بصراحة عيب تتساب كدا، المفروض نقدر الجمال دا، ولا إيه يا شيخ أيوب؟؟”

 

 

حرك رأسه موافقًا بينما سحب “عبدالقادر” مقعدًا ثم أشار لـ “إياد” الذي اقترب منه فأجلسه على قدمه وهو يقول بزهوٍ:

“إياد هيقطعها أهو، وأنا معاه، بسرعة قبل ما أخوكم يروح المسجد يلا، اقعدوا”

تحدث “أيهم” بطريقةٍ مصطنعة يقول:

 

“لو حد بس ربنا يكرمه ويقوم يعملنا كوبايتين شاي كدا جنبها يبقى كدا فل أوي، بس مين هيقوم؟؟”

سحبت “آيات” المقعد تجلس عليه وهي تتشدق بنذقٍ:

“آه إن شاء الله، لأ أنا من الصبح واقفة بعمل الأكل والحلويات، خلوها مرة تانية إن شاء الله”

كان “أيوب” الوحيد الذي يقف بينهم وقبل أن يسحب المقعد تحدث “أيهم” بقوله يردعه:

 

 

“أيوب !! أنتَ هتقعد ولا إيه؟؟ أخوك الكبير قاعد و الحج واختك الصغيرة البريئة دي، و أنتَ عاوز تقعد !! أعمل الشاي يا حبيبي يلا”

رفع “أيوب” حاجبه فعضعض “أيهم” شفته وهو يغمز له وكأنه يتعامل مع طفلٍ في صغر عمره، فقلد “أيوب” حركته وهو يقول بتهكمٍ:

“إيه دي؟؟ إيه دي مش فاهم بجد كدا أنتَ بتشتغل مين فينا؟؟”

 

 

تحدث “عبدالقادر” بنبرةٍ هادئة:
“طب لو قولتلك إني عاوز الشاي من إيدك أنتَ ؟؟ هترفض؟”

حرك رأسه نفيًا ثم رد مُبتسمًا:
“مقدرش، أعمله من عيني كمان”

 

 

ابتسم له “عبدالقادر” فيما تحرك “أيوب” في المطبخ الواسع يقوم بصنع الشاي للجميع و “آيات” تنظر له بحبٍ.

_”آيات عبدالقادر بكر العطار”
الفتاة الصغيرة لعبد القادر، تبلغ من العمر خمسٌ وعشرون عامًا، عينيها باللون العسلي الفاتح كما لون أعين والدتها، بشرتها بيضاء

 

اللون و وجنتيها ومنطقة الأنف باللون المتورد، جسدها لم يكن نحيفًا لكنه ضعيفًا مقارنةً بعمرها، طويلة القامة كما أبيها وأخوتها، عرفت بالتزامها وسط فتيات المنطقة و خجلها الدائم من الجميع عدا أفراد أسرتها تتعامل وكأنها الابن الثالث مع أخوتها، لينة الطباع ورقيقة، تمت خطبها منذ فترة وقد شارف موعد الزفاف على القدوم.

أنهى “أيوب” عمل الشاي ثم اقترب منهم بالصينية يجلس وسطهم فَـ ساد المرح بينهم وهم يتقاسمون قطع الحلوىٰ، بينما “عبدالقادر”

 

وزع نظراته عليهم وهم يضحكون مع بعضهم ثم تنهد بعمقٍ وظهرت الدموع في أعينه وهو ينبس بنبرةٍ خافتة يدعو لحبيبة عمره”.

“الله يرحمك يا رُقية”
_________________________

 

 

تعددت الأوصاف في الغُربة، وكلٍ منهم ينعتها بأبشع الصفات، الغُربة…كُربة، الغُربة….مُرة، لكن تلك هي الغُربة التي يعيشون هم بها، فماذا عن الغُربة التي تسكنهم !! ماذا عن خمول روحهم، تأتي عليك أحيانًا لحظات تجعلك تفكر على أنتَ من يسكن الغربة أم أن الغربة هي التي تسكنك !!.

 

 

تنهد بعمقٍ ثم رفع رأسه للسماء يطالع نجومها وفي يده سيجارته المشتعلة، ثم رفعها باصبعية السُبابةِ و الإبهام يَضعها بين شفتيه يسحب هوائها داخل رئتيه ثم يُخرجه من جديد.

 

 

كان يجلس في مدينة
“العين السخنة” على الشاطيء ليلًا وسط الطبيعة التي تبدو للآخرين موحشة، لكنها تشبهه كثيرًا فارغة… شاغرة لكن بتواجدك بها تجد الراحة.

أخرج هاتفه وخاصةً موقع التغريدات “تويتر” حيث يُعد واحدٌ من أشهر رواده في التغريدات حيث العبارات التي يدونها به، وتُلاقي إعجاب الكثيرين، رأى أيقونة الاشعارات مُمتلئة فضغط عليها ليظهر له اعجاب المتابعين بما يكتبه.

 

 

سحب نفسًا عميقًا ثم دون كعادته واصفًا ما يشعر به:

“بس أنا لوحدي كتفي من غير طبطبة و دماغي لسه مفضيتش من الكركبة”

دون تلك العبارة ثم أغلق الهاتف ورفع رأسه للسماء من جديد يتذكر ماضيه الذي مر بعدة محطاتٍ كلما زاد عمره زادت معاناته، ارتوىٰ الكثير من المعاناة وكأن روحه تتعطش للعذاب.

 

 

صدح صوت هاتفه من جديد في تلك اللحظة، فرفعه ينظر على اسم المتصل ليجده رقم عمته، تنهد بضجرٍ ثم تجاهل المكالمة، فحاولت هي من جديد.

زفر بقوةٍ ثم وضع الهاتف في جيبه بعدما ألقى سيجارته، فوجد أحد العاملين معه يقترب منه وهو يقول بلهفةٍ:

“يا بشمهندس يوسف، فيه مكالمة على تليفون المدير علشانك، تعالى علشان عاوزك ضروري”

 

 

زفر “يوسف” بحدةٍ ثم رد بإيجازٍ:

“مش جاي، قوله مش فاضي”

رد عليه الرجل الذي تقريبًا في ضعف عمره:

 

 

“مش هينفع صدقني، قوم بس تعالى ربنا يكرمك عدي الليلة دي”

وقف “يوسف” ثم نفض كفيه ببعضهما من الغُبار الذي علق بهما، ثم قال بتهكمٍ:

“خليه ميعديهاش، يبقى جاب أخره في صبري”

 

 

تحرك أمام الرجل، بينما الأخر نظر في أثره بيأسٍ من طريقته الجامدة معهم، وبحثه عن المشاكل دومًا وكأنه يستلذ بذلك.

وصل لغرفة المدير ثم طرق الباب حتى وصله إذن الدخول، ففتح الباب ثم وقف أمامه يقول بثباتٍ لم ينفك عن محله على الرغم من ملامحه المقتضبة:

“نعم يا فندم ؟؟ خير ؟؟”

 

 

أخفض المدير نظراته الطبية ثم قال بنبرةٍ هادئة:

“الأتوبيس اللي جاي كمان ساعة حضرتك هتنزل فيه إن شاء الله مع الطقم كله، مش هتفضل قاعد هنا”

حرك رأسه باستفهامٍ دون أن يتفوه بذلك، فطالعه الأخر مستنكرًا وهو يسأله:

“خير فيه حاجة؟؟”

 

 

سأله “يوسف” بنبرةٍ أقرب للانفعال على الرغم من محاولة تمسكه بالهدوء:

“بس أنا قولت أني مش هنزل، وإني هستنى لحد البريمة الجديدة تشتغل، لازمته إيه انزل بقى ؟؟”

رد عليه الأخر مفسرًا:

“لازمته إن لسه في شهر كامل لحد البريمة ما تتحرك، و كل حاجة هنا هتمشي لأن الشركة خلصت دورها، أكيد وجودك هنا ملهوش أي داعي، يبقى تنزل تقضي اجازتك لحد ما البريمة الجديدة نعرف مكانها فين”

 

 

زفر “يوسف” ثم التفت يغادر الغرفة، فسأله المدير بتعجبٍ من صمته:

“أنتَ رايح فين؟؟ رد عليا”

التفت يتحدث بضجرٍ:

“رايح ألم حاجتي، مش قولت الاتوبيس جاي في الطريق ولا دا كان كلام فاضي؟؟”

 

 

رفع المدير حاجبيه بغير تصديق لطريقة الأخر الذي عاد من جديد يستأنف خروجه من الغرفة، فضرب المدير كفيه ببعضهما يقول بدهشةٍ:

“مجنون دا ولا إيه؟؟”

 

 

خرج “يوسف” من غرفة المدير يتجه نحو غرفته هو بخطواتٍ واسعة ثم ضرب الباب بيده فوجد زميله بالغرفة يقول بفزعٍ من دخوله بتلك الطريقة:

“ياعم قولتلك خبط ولا أعمل أي حاجة كدا بدل دخلة الحكومة دي، هتقطعلي الخَلف يا عم”

زفر “يوسف” ثم تجاهله تمامًا وسحب حقيبته يضع بها أغراضه فتحدث الأخر بتهكمٍ:

“يا سلام ؟؟ مش قولت إنك هنا لحد البريمة الجديدة؟؟ بتعمل إيه بقى؟؟”

 

 

وقف “يوسف” يضع كفيه في خصره بحيرةٍ ثم أطلق زفيرًا قويًا وقال:

“الحاجة هتتفك ومش هينفع أفضل هنا خلاص، أكيد حد كلمه علشان انزل طالما مبردش عليهم، هنزل أشوف عاوزين إيه و أخد إجازة شوية لحد البريمة الجديدة، خصوصًا إن فلوسي قربت تخلص”

تفهم زميله حالته، فاقترب منه يقنعه بالحديث قائلًا:

 

 

“أديك قولت أهو أنزل غير جو وشوف الدنيا هناك و هات فلوسك لحد الشغل الجديد اللي لسه مش معروف وقته ومكانه، هتقعد هنا تأجر شقة تصرف فيها فلوسك كلها بعدين ترجع تندم؟”

تنهد “يوسف” ثم جلس على الأريكة ينظر في الفراغ أمامه محاولًا الوصول لنقطةٍ ترضيه، فصدح صوت هاتفه عاليًا بنفس الرقم، فتح الهاتف أخيرًا يجاوب باقتضابٍ:

“نعم ؟؟ خير حصل حاجة ؟؟”

 

 

وصله صوتها تقول بنبرةٍ مختنقة وكأن البكاء يداهمها:
“يوسف…ازيك يا حبيبي، وحشتني أوي…كل دا علشان ترد عليا ؟؟؟”

تنهد بضجرٍ ثم قال بحديثٍ مقتضبٍ:

“مش فاضي عندي شغل، خير؟”

 

 

ابتلعت طريقته ومعاملته الجافة ثم قالت بنبرةٍ باكية:

“صدقني أنا عاوزاك ومحتاجالك أوي، لو ليا خاطر عند ورحمة مصطفى عند…..”

تحدث بنبرةٍ جامدة بعدما نفذ صبره:

“متحلفينيش برحمته !! ومحدش يجيب سيرته على لسانه منكم، مفهوم !!”

ردت عليه ببكاءٍ وقد أحزنها حديثه:

 

 

“على فكرة مصطفى كان أخويا زي ما هو كان أبوك، محدش قالك أني كنت بكرهه، بالعكس أنا روحي كلها كانت فيه هو”

ابعد الهاتف عن أذنه يهمس بضجرٍ:

“استغفر الله العظيم”

أعاد الهاتف من جديد ثم قال بإيجازٍ:

 

 

“الله يرحمه، نعم برضه ؟؟”

مسحت دموعها ثم قالت بتوسلٍ:

“تعالى أبوس إيدك، أنا مش حمل اللي بيحصل هنا كتير عليا، تعالى يا يوسف وابقى أرجع تاني”

استسلم هو لكل ما يحيطه من ضغطٍ ثم تشدق بنذقٍ:

 

 

“جاي…. إن شاء الله، سلام”

أغلق الهاتف ثم ألقاه على الطاولةِ وفرد جسده وزفر بعمقٍ فيبدو أن القادم يحمل معه الكثير وهو أضعف من مواجهة كل ذلك.

 

 

_”يوسف مصطفىٰ الراوي”
شابٌ في العام الثلاثون من عمره ، يعمل مهندسًا بتروليًا، لم يكن له يومًا مستقرًا، بل دائم الترحال بسبب عمله، ومنذ صغره أيضًا فرضت عليه الغربة و التنقل خصيصًا بعدما فقد أسرته بالكامل في حادث سيرٍ على الطريق ولحسن حظه أو سوءه لم يكن مع أسرته في ذلك اليوم، إنما كان في بيت العائلة القديم.

 

 

بشرته حنطية و خصلاته سوداء لامعة وثابتة دومًا، مرفوعة بثباتٍ و عينيه بُنيتين قاتمتين نظراتهما حادة ورغم ذلك هناك نظرة بريئة تشبه نظرات الطفولة التي تطل منها، قوي البنية ولم يكن مبالغًا في عضلات جسده، حيث كانت طبيعية، طويل القامة بشكلٍ طبيعي، أخذ من والده وسامته و اهتمامه بنفسه و هيئته، ولم يأخذ أية صفة من صفاته، بل جميعها غريبة حتى عنه هو.
_______________________

 

 

في صباح اليوم التالي

_”يا حج كتر ألف خيرك لحد كدا، إن شاء الله هيكونوا معاك النهاردة، ربنا يكرمك ويجعلهم فكة في إيديك دايمًا، مع ألف سلامة في رعاية الله”

صدح صوت “فضل” وهو يتحدث في الهاتف ثم أغلقه وقد اقتربت منه زوجته تضع أمامه كوب الشاي وهي تسأله بلهفةٍ:

 

 

“ها يا فضل ؟؟ هياخدهم خلاص اجهزهم ؟؟”

رد عليها بملامح وجهٍ ظهرت بها الراحة وكذلك نبرته وهو يقول:

“آه يا ستي الحمد لله، كتر ألف خيره لحد كدا، كان رافض ياخدهم خالص وبيقولي ضحى زي بنتي، الحج عبدالقادر طول عمره راجل محترم وخيره على الكل وحارة العطار كلها تشهدله”

 

 

ردت عليه بوجهٍ مبتسمٍ:
“أنا مصدقتش بصراحة أنه مش هياخدهم ساعتها، يبان جد وناشف بس لما عرف حوار الخطوبة سامح فيهم بقاله ييجي سنة، أبن حلال أوي”

أمسك كوب الشاي في يده ثم ارتشف منها رشفةً كبيرة ثم قال يذكرها:

“آه شوفي عُدي كدا ياخدهم يوديهم النهاردة علشان هتأخر في الشغل شوية، مش هلحق أروحله”

 

 

ردت عليه بقلة حيلة:
“عدي ؟؟ يا حبة عيني نزل يلف على شغل من ساعة ما مشوهم وباعوا الشركة، وشايل هم عروسته اللي لسه متقدملها دي لو عرفت، ربنا يصلحله الحال”

وقف “فضل” ثم قال بنفاذ صبرٍ:
“قولتله ييجي يشتغل معايا في المحل، ماله يعني ؟؟ صنعة قديمة والكل بيشكر فيها”

 

 

ردت عليه بقلة حيلة تحاول بها إرضاء جميع الأطراف:

“مش شغلته يا حج، عدي عنده طموح وعاوز يوصل بشهادته، بس تقول إيه بقى ؟؟ معاه شهادة وخلاص، متزعلش منه هو برضه مضغوط”

حرك رأسه موافقًا ثم لوح لها بكفه وهو يقول:
“هو حر خلاص، المهم شوفي الفلوس مين هيبعتها، لو ضحى أو قمر هنا، خلي واحدة منهم تروح حارة العطار تديهم الفلوس”

 

 

وافقت على حديثه ثم دعت له بالرزق والخير في الصباح وأن يفتح له الله أبواب الرزق.

تحركت “أسماء” من محلها بعد تحرك زوجها ثم فتحت باب الشقة واتجهت للشقة المجاورة ففتحت لها فتاةٌ من عمر ابنتها، فقالت بضجرٍ:

“وسعي يا ضرتي من وشي، خليني أدخل أشوف أمك”

 

 

تحركت الفتاةِ تشير لها بالدخول، بينما الأخرى رمقتها بغيظٍ ثم رفعت صوتها تقول:

“يا ضحى !! يا ضحى أنتِ فين”

خرجت ابنتها من الداخل وهي تقول بضجرٍ:
“نعم يا ماما ؟؟ أنام في شقتنا تصحيني، أنام عند عمتي برضه تصحيني ؟؟ أنام فين تاني على السلم ؟؟!”

 

 

أتت عمتها من الداخل تقول بسخريةٍ:

“ما أنتِ صاحية أهو وزي الفل، يعني الست مصحتكيش ولا حاجة”

ردت عليها “ضحى” بيأسٍ:
“والله لو نايمة هي برضه كانت هتصحيني، بس أمري لله أمي بقى”

 

 

تنهدت “غالية” ثم جلست على الأريكة وقد اقتربت منها “قمر” ابنتها وهي تقول مستفسرةً:

“خالو مشي ؟؟”

حركت “أسماء” رأسها موافقةً ثم أضافت بتشفٍ:

“واحدة منكم تروح حارة العطار تودي الفلوس للحج عبدالقادر، علشان فضل كلمه وقاله الفلوس هتوصله النهاردة”

 

 

تحدثت “ضحى” ابنتها بلهفةٍ:
“مش هينفع خطيبي جاي النهاردة ومش هلحق اروح وأرجع تاني اظبط نفسي، معلش خليها مرة تانية”

تحدثت “قمر” بضجرٍ من ذكره:
“يا ستار يا رب من دي سيرة، افتكريلنا حاجة عدلة الله يرضى عنك”

 

 

نظرت لها “ضحى” بحزنٍ بينما “اسماء” قالت بسخريةٍ:
“لو الشتيمة في علاء دا بفلوس كان زماننا أغنيا، بس نقول إيه سيرة فقر برضه”

تحدثت “ضحى” بضجرٍ:
“يا جماعة بس بقى علشان بزعل، الراجل معملش ليكم حاجة وحشة”

 

 

تحدثت “اسماء” بضجرٍ من ذكره الغير مرحب به:
“بس بقى قفلي على السيرة دي داهية تقطع الحب و سنينه، مين فيكم هتروح يعني ؟؟؟”

 

 

هتفت “ضحى” بلهفةٍ:
“قمر تروح وخلاص كدا كدا هتجيب حاجات من هناك، أنا بصراحة مش هقدر أنزل وأرجع تاني”
تنهدت “قمر” بقلة حيلة ثم حركت رأسها موافقةً.

 

 

_”قمر”
فتاة تبلغ من العمر ثلاثة وعشرون عامًا، تخرجت من الجامعة العام الماضي، تسكن برفقة والدتها بعدما سُلبَ منهم بيتهم القديم، فقد تحمل “فضل” مسئوليتهم من بعد فراغ الحياة عليهما هي وابنتها الوحيدة، ملامح “قمر” رقيقة إلى حدٍ كبير حيث انفها الصغيرة و عيونها الواسعة البنية، واهدابها الكثيفة و حاجبين سوداويين مُنمقين، بشرتها بيضاء، جسدها متناسق كما جسد والدتها، طولها متوسط، تشبه غيرها من الفتيات.

 

 

“ضحى ابنة فضل”
الابنة الثانية له من بعد شقيقها الكبير، تبلغ من العمر أربعة وعشرون عامًا، بشرتها أقرب للاسمرار قليلًا، مرحة بشوشة الوجه، تحب عائلتها بدرجةٍ كبرى وكذلك تحب خطيبها “علاء” الذي شارف زفافها معه خلال فترةٍ قصيرة.
_________________________

 

 

في حارة العطار.
بداخل الحارةِ نفسها تحديدًا ذلك البيت الضخم الذي بُنيت وجهته الخارجية من الرخام، و مزود بإضاءة عالية، قمة البيت هرمية الشكل، وأساس البناء نفسه من الطوب البني الفاتح (طوب فرعوني) والأرض رخامية أيضًا و ردهته واسعة، يلحقها من الجانب مكانٍ يطلق عليه

 

“مندرة العطار، كان من أفخم البيوت في المنطقة بأكملها.

الطابق الارضي بردهة البيت و الطابق الاول لعبدالقادر، وبقية الطوابق مقسمة لأبناءه حيث الطابق الثاني لـ “أيهم” و الثالث لـ “أيوب” و الطابق الرابع خصصه لـ “إياد” و الخامس لحفيده الثاني ابن “أيوب” إن شاء المولىٰ.

 

 

وقفت “آيات” في الطابق الأول تقوم بتجهيزه لعائلة خطيبها، و بجوارها “مهرائيل” تقول بتذمرٍ:

“هو خطيبك أنتِ مال أمي أنا بقى يا آيات ؟؟”

ردت عليها الأخرى بمعاتبةٍ زائفة:

“اخس عليكِ يا مهرائيل، دا بدل ما تقوليلي ريحي أنتِ وأنا هعمل مكانك ؟؟ دي معاملة يعني؟؟”

 

 

حركت رأسها موافقةً وهي تؤكد حديثها، بينما اقتربت إمرأةٌ جسدها ممتلئ إلى حدٍ، مسئولة عن إدارة البيت بجميع أحواله تقول بسعادةٍ:

“كل حاجة جاهزة ياست البنات، و الآنسة مهرائيل كتر خيرها من الصبح طلع عينها، هبقى آكلها قبل الكل واتوصى بيها”

 

 

اقتربت منها “مهرائيل” تمسك ذراعيها وهي تقول بحماسٍ:

“طنط وداد أنا بحبك أوي، بقولك إيه، خدي بوسة، أنتِ باشا البشوات”

ربتت “وداد” على ظهرها وهي تقول بتمني:

“ربنا يسعدك يا حبيبة قلبي”

 

 

نظرت لهما “آيات” بوجهٍ مبتسمٍ، خاصةً في ملامح وجه رفيقتها “مهرائيل”.

_”مهرائيل جابر عطية”
فتاة في العام الخامس والعشرون من عمرها، رفيقة “آيات” الوحيدة وجارتها، فتاة مرحة ودودة مع الجميع، تملك الشيء ونقيضه معه.

 

 

عينيها باللون الأخضر تشع حيوية و طاقة كما الطاقة الإيجابية المنقولة من الأشجار، متوسطة الطول يصل طولها ١٦٠ سم وأكثر ، جسدها طبيعيًا، خصلاتها باللون الأشقر مزيج بين اللونين الذهبي والبني، تفضل شكله كمل يُقال عنه “كيرلي” على الرغم من طبيعته الناعمة.

صاحت “مهرائيل” بصوتٍ عالٍ تُحيي صديقتها، بينما “آيات” ضحكت بفرحةٍ ثم ركضت خلف صديقتها.
_________________________

 

 

في محل العطار لتجارة المواد الرخامية و الطينية وديكورات البناء وقف “بيشوي” بهيبته و طلته التي تجبر الجميع على احترامه يتحدث في الهاتف بقوله:

“تمام يا حج جلال، الرخام هيوصل بكرة إن شاء الله، هروح آكد على أيهم، كدا كدا الحاجة جاهزة من قبل الميعاد”

 

 

اغلق الهاتف مع الرجل ثم تحدث مع مساعده قائلًا:
“حسني !! أنا هروح عند أيهم مش هتأخر، الحاجة عندك أهيه هييجي يستلمها كمان شوية”

تحرك من محله نحو المحل الأخر على بعض أمتار قليلة من محله ثم دلفه فوجد “أيوب” يجلس أمام “أيهم” فرحب به بينما الأخر كان يتحدث في الهاتف بحنقٍ يقول:

 

 

“حاضر يا حج، مش هيحصل كدا تاني، و أنا بنفسي هربيهولك، إن شاء الله الموضوع دا هيخلص، متزعلش نفسك يا بابا”

رد عليه “عبدالقادر” من الجهة الأخرى:

 

 

“الراجل متضايق يابني علشان خاطر ابنه الزفت دا وبنته خايفة بسبب الزفت سعد، اتصرف الراجل متعشم فيا وفيكم”

تنهد “أيهم” ثم قال يُطمئنه:
“حاضر يا حج، إن شاء الله خير”

 

 

اغلق الهاتف مع والده، فسأله “بيشوي” بتعجبٍ:

“خير ؟؟ حصل إيه على الصبح؟؟”

تحدث “أيهم” مفسرًا:
“زفت الطين سعد، خد تليفون أخت الواد شادي منه بسعر بخس، ورجع من عليه الصور وبيهدد البت بيها والواد عبيط مش عارف يتصرف”

 

 

وقف “أيوب” يقول بنبرةٍ جامدة:

“كدا كتير، قدامي يلا، هتيجي يا بيشوي؟؟”

حرك رأسه موافقًا ثم تحرك معهما، بينما في المقدمة كان “أيوب” يسير بملامح وجهٍ جامدة.

 

 

دلف ثلاثتهم للمكان وكلٍ منهم يضرب الأرض بقدميه و كأنه يصارعها، في حين ذلك قد تفاجأ القابع بداخل “المحل” و هو يُلقي كامل بصره على هاتفه الذكي القابع بين كفه و هو يشاهد ما اعتاد دومًا على مشاهدته هروبًا من المخلوقين دون أن يخشى الخالق، و بتفاجئه بوجودهم قد رفع بصره نحوهم مُسرعًا، فتحدث “أيوب” بصوتٍ هاديءٍ محاولًا التحلي بالصبر أمام ذلك المستفز:

 

 

“السلام عليكم يا أخ سعد !! ممكن كلمتين بهدوء ؟!”

زفر “سعد” بقوةٍ و نفاذ صبرٍ ثم تبع رد فعله الحانق بقوله المُضجر:

“و عليكم السلام….نعم يا عم الشيخ ؟! أؤمرني”

 

 

و بنفس الصبر الذي يتحلى به قال بنبرةٍ صوتٍ هادئة و بين ثناياها تجمع الشدة و الحزم:

“دلوقتي أنا لما ألاقيك بتعمل حاجة غلط و بتضر بيها الناس و بنات الناس، يبقى تصرفي معاك إيه؟! مش هتبطل تستغل رزقك في الحرام و تتاجر بصور بنات الناس ؟!”

رمى هاتفه على الطاولة الزجاجية أمامه و هو يقول بصوتٍ عالٍ لعله بذلك يحيد الطاولة لجهته و هو يقول:

 

 

“جرى إيه يا عم أيوب !! هو أنتَ مفيش وراك غيري ؟! طلعني من دماغك، و بعدين إيه دليلك على كلامك”

تخلى عن صبره و احتدت نبرته و هو يقول مُعقبًا على حديثه:

“مش محتاج دليل، أنتَ مش أول مرة تأذي حد بالطريقة دي يا سعد، و أنا قدمت النصيحة بالحسنى، و لسه هتتعاقب من ربك على اللي أنتَ بتعمله دا و افتكر إن الخائض في أعراض الناس مُفلس يوم القيامة، و كل ساقٍ سيسقى بما سقى”

 

 

احتدت نبرة الأخر و هو يرد عليه الحديث بنفس الطريقة:

“جــرى إيــه يا عم !! بالراحة علينا أنتَ هتعيش الدور !! مبقاش غير اللي محدش يعرف ليهم أصل و لا فصل كمان يتكلموا، يلا يا حبيبي خد أخواتك و امشوا من هنا، متوجعوش دماغنا بقى”

تقدم “أيهم” خطوة حتى جاور أخيه و هو يقول بصوتٍ رتيبٍ:

 

 

“خلصت حصة الدين بتاعتك يا “أيوب” ؟! و لا لسه؟!”

حرك رأسه موافقًا فأمسك مرفقه و هو يقول بنبرة صوتٍ جامدة و عينيه لا تفارق ذلك الذي رفع أحد حاجبيه و كأنه ينتظر ما بـجبعتهم، و في ذلك الحين رفع “أيوب” رأسه يسأل أخيه بترقبٍ:

“أنتَ هتعمل إيه يا أيهم ؟! استنى بس”

 

 

حرك رأسه نفيًا ثم قال بنفس الهدوء الذي بث الرعب بنفس الأخر و هو على أعتاب المحل:

“هشرحله حصة الألعاب يا “أيوب” و لا إيه رأيك يا “بيشوي”؟!”

سأل الواقف بجواره يحدق بنظره في وجه “سعد” الذي ازدرد لُعابه بخوفٍ، فتحدث “بيشوي” بمرحٍ خبيث مُكملًا حديث صديقه:

 

 

“معاك يا أيهومي، تحديدًا بقى هنشرحله درس كمال الأجسام”

دفع “أيهم” أخيه بخارج المحل ثم أغلق الباب، و من بعدها التفت لذلك الماثل خلفه و هو يقول مُتحديًا له:

 

 

“أنا بقى هوريك الأصل و الفصل نقطة….نقطة و كلمة….كلمة”

قال حديثه ثم هجم عليه يدفعه على رف الهواتف الذكية خلفه بينما “بيشوي” أمسك الحاسوب الخاص به ثم دفعه على الأرض و هو يقوم بتدميره كليًا داخليًا و خارجيًا.

 

 

كل ذلك كانت تتابعه المنطقة بأكملها من خلال زجاج المحل، و “أيوب” يقف في مقدمتهم يستمع لتأوهات “سعد” الذي انهال عليه “أيهم” باللكمات و قد انضم إليه صديقه، و على الرغم من الطريقة العنيفة التي يتعاملان بها، إلا أن لذة الانتصار كانت تُخيم على أوجه الجميع بتشفٍ في ذلك الذي يخوض في أعراضهم و يستغل حاجتهم في ارضاء أهوائه و نفسه المريضة.
_________________________

 

 

وصل “يوسف” لمنطقة الزمالك حيث بيت العائلة، وياليته ما أتى، فهو يكره تواجده هنا وحياته و عائلته، بل يكره نفسه أيضًا، الموت أهون له من أن يأتي لهنا.

 

 

وقف على أعتاب البيت الذي يبغضه بشدة و يكره تواجده به و لكن للضرورةِ أحكام، و حُكِم عليه بالمجيء لذلك البيت بعد إلحاحٍ دام كثيرًا، سحب الهواء إلى رئتيه ثم زفره على مهلٍ محاولًا التحكم في ثباته، حتى اقترب منه حارس العقار يحمل حقيبة سفره و هو يقول مرحبًا به:

 

 

“حمدًا لله على السلامة يا بشمهندس يوسف، نورت الزمالك كلها و نورت البيت”

التفت برأسه ينظر للرجل حتى ابتسم له و هو يقول بثباتٍ:
“دا نورك يا عم فيصل، ربنا يكرمك، متعرفش هما عاوزني ليه؟!”

 

 

سأله بنبرةٍ ثابتة ينتظر الإجابة لحيرته وراء الحاحهم لعودته، حتى رد عليه الرجل بلهفةٍ:
“أكيد علشان الست حكمت يا بشمهندس، دي حالتها بقت صعب أوي و كل شوية دكتور خارج و دكتور داخل”

ابتسم له بسخريةٍ و قال بتهكمٍ مريرٍ:
“الموت علينا حق يا عم فيصل، و حكمت حقها جاي متأخر أوي، يلا عقبال ما تاخد حق عيالها هما كمان معاها”

 

 

طالعه “فيصل” بشفقةٍ و لمحة حزن غلفت عيناهُ، فيما حمحم “يوسف” بخشونةٍ و عَدل ثيابه المُنمقة من الأساس؛ فقام الرجل بفتح بوابة البيت له حتى سبقه بالحقيبة و وقف هو يصارع رغبته في الدخول لذلك البيت، حتى نجح في ذلك و دلف حتى منتصف ردهة البيت.

 

 

وقف يطالع البيت حوله، حيث احتوى على أثاث منزلي فخمٍ و ديكورات ثمينة و رغم ذلك يفتقد الروح، وقف بثباتٍ حتى وصله صوتها من الخلف و هي تقول بصوتٍ مختلط المشاعر و لكن طغى عليه الشوق له:

“يوسف ؟! ازيك يا حبيب عمتو عامل إيه ؟؟ وحشتني أوي”

أغمض عيناهُ عند استماعه لصوتها يجاهد حتى لا يتأثر و قد برع في رسم الثبات و اللامبالاة حينما التفت لها يقول

 

بثباتٍ:

“كويس الحمد لله، ازيك أنتِ ؟!”

حركت رأسها موافقةً و قبل أن تخطو خطوة واحدة نحوه وصلهما صوته يقول بلهجةٍ حادة من أعلى الدرج:
“أنتَ بتعمل إيه هنا ؟! إيه اللي جابك يالا أنتَ ؟!”

التفت عمته نحو ابنها و هي تنهره بقولها:
“نادر !! عيب كدا، دا أخوك و مينفعش تكلمه كدا أبدًا”

 

 

نزل الدرج بخطواتٍ واسعة حتى وقف مقابلًا لوالدته و هو يقول بصوتٍ عالٍ:
“مش اخويا….أنا معنديش أخوات، رد عليا يالا بتعمل إيه هنا ؟!”

وجه حديثه لـ “يوسف” الذي وقف بمنتهى الثبات و اللامبالاة حتى اقترب منه يقف مقابلًا له و هو يقول بطريقته المعتادة:

 

 

“عاوز تعرف أنا هنا بعمل إيه ؟! أســأل أمـك”

اتكأ على حروف كلماته الوقحة و هو يشير برأسه نحو عمته التي طالعته بعتابٍ، فيما اقترب “نادر” يمسكه من تلابيبه و هو يصيح بهتافٍ حاد:

“آه يا سافل يا حيوان، أنا هربيك يا عديم الرباية أنتَ، مش هسيبك النهاردة”

 

 

أمسك “يوسف” في تلابيبه هو الأخر و بغضبٍ جامٍ دفعه على الأريكة و هو يقول بصوتٍ متهدجٍ عالٍ:
“و ماله وريني أخرك يا بن سامي، كدا كدا أنا متربيتش”

 

 

قال جملته ثم لكم “نادر” في وجهه و عمته في الخلف تصرخ محاولةً إيجاد العون لفكهما من بعضهما و “يوسف” استمر في تلقين الآخر درسًا عنيفًا، حتى وصله صوتها الذي أودىٰ بثباته و هي تقول ببكاءٍ:
“يــوسف !!”

 

 

تعرف على صوتها في الحال لذلك حكم حصار مقلتيه أسفل جفونه لذلك دفعه من يده ثم وقف و هو يلهث بقوةٍ و التفت لها فوجدها تطالعه ببكاءٍ حينها اقترب منها يقول بصوتٍ متقطعٍ:

“آسف يا مدام، بس جوزك كان فاكرني مش متربي ؛ قولت آكدله المعلومة، Sorry”

قالها ببرودٍ و هو يرمقها بلامبالاةٍ و قبل أن يتحرك قيد أنملة وصله أخر صوت يبغضه في تلك الحياة و هو يقول بنبرةٍ جامدة:

 

 

“الكلام دا في الشارع مش هنا !! قلة تربيتك و أخلاقك دي على نفسك، إنما طول ما أنتَ هنا تفضل باحترامك”

نزل الدرج بثباتٍ و شموخٍ كعادته حتى وقف مقابلًا لـ “يوسف” يسأله بنبرةٍ جامدة:
“بتعمل إيه هنا يا يوسف ؟؟ إيه اللي جابك هنا ؟!”

 

 

استعاد ثباته من جديد و ظهر التحدي في نظراته و هو يقول بنفس الثبات و الثقة:
“عاوز تعرف أنا هنا بعمل إيه ؟؟ تحب أجاوبك زي ما جاوبته كدا”

لم يرد عليه الأخر بل استمر في رميه بغضبٍ و كرهٍ من نظراته حتى ابتسم “يوسف” بمراوغةٍ و هو يقول:

“أســـأل أمـــك”

 

 

طالعته عمته بدهشةٍ و كذلك الفتاة التي وقفت تطالع الموقف بندمٍ و حزنٍ، فتحرك “يوسف” من أمامهم نحو الأعلى بعدما اقترب من حقيبته يمسكها و يجرها نحو الأعلى و كأن ما حدث لم يقم من الأساس، فيما وقف “نادر” و قبل أن يقترب منه أشار له خاله بالوقوف، ثم التفت ينظر في أثر “يوسف” الذي صعد بلامبالاةٍ و الأخر يتوعد له بنظراته و كأنها حربٌ نُشبت بين قبيلتين تقع جذورهما لأرضٍ واحدة من الأساس.

يتبع….

 

 

_يكشف النقشبندي عن حديثُ قلبي حين يبتهل قائلًا:
قصدتُكَ مِن كُلِّ الجهاتِ مُناديًا
أجِرني مِن القيدِ الذي شَدَّ مِعصمي
أعِدني لنفسِي كم تغربتُ حائرًا!
___________________

 

_يُشبه الأمر في أكمله المتاهة، حيث أنتَ اللاعب الوحيد بها وعليك أن تحرز الطريق الصحيح للخروج منها، أو كأنها محطة قطارات وأنتَ تركض لاهثًا لتدخل القطار، ثم تتفاجأ بحقيقةٍ كما الصفعة على صحفة وجهك، أن الطريق الذي أحرزته كان خائنًا، وأن القطار الذي اختارته خاطئًا.

 

في حارة “العطار”
كانت المنطقة بأكملها تراقب “سعد” داخل المحل و كلٍ من “بيشوي” و “أيهم” يلقنه الدرس بطريقته الخاصة، حيث تم تدمير المكان بكافة محتوياته، على الرغم من العنف الذي تعامل به كليهما، إلا أن تلك هي الطريقة التي

 

يستحقها ذلك الخائن.
تنهد “أيوب” بضجرٍ فوجد شابًا يقترب منه بلهفةٍ ينطق بقلقٍ عليهم:

 

_حصل إيه يا “أيوب” ؟؟ انتم كويسين ؟؟ فيه حاجة ؟؟.
انتبه له “أيوب” فالتفت له يربت على كتفه ناطقًا بنبرةٍ هادئة:
_متقلقش يا “تيام” كل حاجة زي الفل، هما بس بيدردشوا معاه بكلمتين وخارجين تاني.

 

أشرأب “تيام” برأسه يطالع الوضع بالداخل ثم أعاد رأسه من جديد يقول بتشفٍ:
_لأ وهو ابن حلال يستاهل كل خير بصراحة، خليهم بس يعلوا صوتهم شوية علشان محدش سامع.
فور انتهاء جملته، رفع “سعد” صوته من الداخل يتأوه بصراخٍ خاصةً حينما أمسك “أيهم” كفه يلويه للخلف

 

ضاغطًا على أنامله وهو يتحدث من بين أسنانها بنبرةٍ أعربت عن غله من ذلك القذر:
_إيدك دي لو فكرت بس بعد كدا تلعب بيها، قسمًا بربي لأكون قطعهالك حتة حتة، وافتكر مين هو “أيهم العطار” اللي ياما علم عليك، مفهوم ؟؟؟!
حرك “سعد” رأسه موافقًا، بينما “بيشوي” تحرك نحوه بخطواتٍ ثابتة دون عُجالة، ثم أخفض جسده ليصبح في

 

نفس مستوى الأخر أرضًا، وبدون أن ينطق بكلمةٍ واحدة، مد يده يسحب هاتفه ثم أداره لكي يفتح ببصمة وجه “سعد” ثم قام بحذف كل شيءٍ بداخله، ثم وضع بصمته لكي تم التأكيد، وكان “سعد” حينذاك يرمقه بسخطٍ، فتحدث “بيشوي” بثباتٍ:

 

_أنا صبرت عليك كتير، بس كدا كفاية على اعصابي منك، صدقني لو فكرت بس تتعرض لأي واحدة تاني في حارة العطار أو عينك تترفع في بنت من بناتها أنا بنفسي هزفك ملط في الشارع ، وأنا ممكن أعملها عادي زي ماسبق وابويا عملها قبل كدا، لو ناسي افكرك يا “سِعدة”.

 

ظهر الغل على نظرات “سعد” وهو يرمق “بيشوي” الذي فاجئه حينما ضرب الهاتف أرضًا حتى تكسر كُليًا، ثم نطق بعدها بحديثٍ قصده خبيثًا:

 

_علشان لو شيطانك وزك بس إنك ترجع منه حاجة تاني، أظن مش كل فترة ولاد العطار هييجوا هنا يأدبوك، عيب في حقك.
قام بعد حديثه ثم فتح الباب وقال لـ “أيوب” بنبرةٍ متهدجة بسبب انفعاله:

 

 

_تعالى يا “أيوب”، أنا كدا خلصت.
تحرك الأخر نحو الداخل، بينما “بيشوي” نظر بسخريةٍ لـ “تيام” قائلًا بمشاكسىةٍ:
_ياض نفسي أشوفك جاي بدري مرة، علطول كدا متأخر ؟؟

 

رد عليه “تيام” بقلة حيلة:
_كنت بجيب فطار للحجة.
ضحك “بيشوي” ثم اقترب منه يقف مجاورًا له وكلٍ منهما يتابع المكان بنظراته في انتظار القادم.

 

_”بيشوي جرجس يوحنا”
شاب في العام الواحد والثلاثون من عمره، مسيحي الديانة، تربى وترعرع في بيت “عبدالقادر العطار” ويعتبر الابن

 

الثالث له، حيث يعد والده هو الأخ الروحي لـ “عبدالقادر” وقد تربى “بيشوي” منذ صغره معهم وكانت أسرته ترتبط ارتباطًا وثيقًا، حتى نسوا الاختلاف بينهم واصبحوا عائلةً واحدة، وقد عرف في بعض الأحيان باسم “بيشوي العطار”.

 

طويل القامة عريض المنكبين، هاديء الطباع لحدٍ كبير، يعتبر النصف الأخر لـ “أيهم” وكأنه توأمه حيث لا يفارق أحدهما الأخر، خصلاته سوداء كثيفة وعينيه بنيتنين غامقتين دومًا نظرتهما صادقة، اكثر ما يحبه في حياته هي عائلته وعائلة “العطار” بشرته أقرب للاسمرار قليلًا أنفه مُحدبة.
_”تيام صبري الشامي”

 

من سكان حارة العطار، في العام الثامن وعشرون من عمره، رفيق الشباب و تربى وسطهم منذ صغره، كما أنه يعمل في محل “عبدالقادر” الرئيسي، ويعد مسئولًا عن الشئون الخاصة بالمكان، درس بكلية الحقوق وأصبح

 

مسئولًا عن الأمور القانونية بوكالة العطار أقل من الشباب طولًا بنسبة قليلة وكذلك الجسد، مجتهد في عمله يعيش مع والدته بمفردهما.
دلف “أيوب” بخطواتٍ واثقة ثم أخفض جسده مجاورًا لأخيه ومُطلًا على “سعد” وهو يقول بنبرة وعيدٍ:

 

 

_كدا خلاص مفيش حاجة تاني نعملها معاك علشان نعرف الناس إنك من غير قيمة، وانك مش إنسان، بس ملحوقة إن شاء الله، دا آخر انذار ليك علشان اللي جاي بعد كدا هيزعلك، و ياريت ملكش دعوة بينا ولا بحد من عيلة العطار، مفهوم ؟”.
دون أن ينتظر جوابه أشار لأخيه ثم تحركا خلف بعضهما، بينما “أيهم” ما إن أبصر ذلك التجمع قال بصوتٍ عالٍ:

 

_اي حد هيفكر بس يعمل زيه هيكون نفس مصيره كدا، ويا ويله اللي يقع تحت ايد ولاد العطار.
أشار لأخوته ثم تحركوا خلفه تاركين “سعد” في محله يحاول الصمود لكي يقف على أقدامه حتى نجح في ذلك وسار مترنحًا نحو باب المحل يُغلقه بعنفٍ خاصةً وكل سكان المنطقةِ يرمقوه بتشفٍ به.
_________________________

 

عودته إلى هنا لم تكن أمرًا عاديًا يستطع التعايش معه، بل هي محطاتٍ وفي كل منها طُعن غدرًا على أيديهم في جميع مراحل عمره، طفولته… مراهقته… شبابه…رجولته….كل ذلك تدمر على أيديهم وهو كل ما يصدر عنه الصمت أو الرد بما يثير جنونهم، لذلك صعد غرفته محاولًا التماسك برابطة جأشه أو لربما الاستعداد لما هو قادم.

 

_دلف “عاصم” مكتبه بغضبٍ عارمٍ لو أُتيح له الأمر لدمر كل ما تطوله يداه دون أن يرأف بما يقابله بعد مقابلته معه، فدلفت خلفه شقيقته تقول بتعجبٍ من حالته:
_مالك يا “عاصم” ؟ شايط و محدش عارف يهديك كدا ليه ؟!”
التفت لها بنفس الغضب البادي عليه و هو يقول بجمودٍ:

 

_الحيوان بيقولي أنا اسأل أمك ؟! نسي أصله ؟! بيقول لي أنا كدا ؟! نسي أني عمه !!
ظهر التهكم على وجهها و خالطت السخرية بسمتها و هي تقول:
_و إيه الجديد ؟! و بعدين هو برضه اللي نسي إنك عمه ؟!

 

ضيق المسافة ما بين حاجبيه و هو يسألها بانتباهٍ بعدما استطاعت بحديثها جذب نظره لها:
_قصدك إيه يا فاتن، بتلمحي لإيه
وضعت كفيها على بعضهما و هي تقول بقلة حيلة:
_لا بلمح و لا نيلة، أنتَ حر أنا مش فايقة ليك.

 

زفر هو زفرةً قوية اختلطت بنيرانه الداخلية و هو يضرب بكفه المتكور على سطح المكتب و قبل أن تنسحب هي من أمامه أوقفها بقوله الذي خرج منه جامدًا:
_”فاتن” …أنتِ اللي جيبتي “يوسف” هنا، أنتِ اللي بعتيله ؟
ظهر التوتر على مُحياها و تصدع ثباتها و هي تطالع قسمات وجه أخيها الحادة، فهزت منكبيها بعدم اكتراث و قبل

 

أن تنطق معقبةً تحدث هو مسرعًا:
_و قبل ما تتكلمي، لو عرفت إن أنتِ اللي عملتي كدا، أنا هخربها على دماغك قبلي.
ابتلعت ريقها بخوفٍ و كأنها تبتلع أشواكًا في حلقها و قبل أن تنطق هي، تحرك “عاصم” من الغرفة بخطواتٍ واسعة نحو غرفة الآخر و حينما أدركت هي وجهته ركضت خلفه بخوفٍ خلع قلبها من مكانه.

 

في غرفة “يوسف” كان واقفًا في منتصف الغرفة يتابع نظامها الجديد بعينين ثاقبتين، عاري الجزع يرتدي بنطالًا بيتيًا بعدما بدل ثيابه و في يده السيجارة المشتعلة يسحب هوائها داخل رئتيه، فَـ فُتح باب الغرفة فجأةً و طل منه عمه “عاصم” فابتسم هو بسخريةٍ و نطق متهكمًا:

 

_طب خبط !! خلاص مفيش أدب و لا ذوق
اقترب منه “عاصم” يقف مقابلًا له و هو يسأله بنبرةٍ جامدة و غلظة لا يشوبها شائبة لينٍ:
_هي جملة واحدة، أنتَ هنا بتعمل إيه ؟! إيه اللي جابك؟

 

رفع “يوسف” حاجبه له فوجد نظرات عمته خائفة و كأنها تتوسله ألا يفضح أمرها، فاستعاد ثباته بعدما فهم مجرى الأمور و هو يقول ببساطةٍ:
_هو احنا هنرغي كتير ؟؟ ما أنا جاوبتك
ظهر الاستنكار على ملامح وجه عمه فأضاف هو ببراءةٍ و هو يُعدل سترته القطنية حتى يرتديها:

 

و مع ذلك هجاوبك علشان عيب عمو يسألني على حاجة و أنا انفضله كأنه ملوش لازمة
أنهى ارتداء سترته ثم اقترب من عمه أكثر لا يفصل بينهما إنشٍ واحدٍ فغمز له بعبثٍ و قال بمراوغةٍ:
_أســـأل أمـــك
للمرة الثانية على التوالي في نفس اليوم يرفع معدل احتراق الدم في جسده كما احتراق الوقود في السيارة، فهل ستستمر تلك الحرب بينهما؟ رفع “عاصم” سبابته في وجهه ينطق محذرًا له:

 

 

_خليك فاكر إن صبري ليه حدود وقلة أدبك دي أنا مش هستحملها كتير، إذا كان محدش رباك، أنا موجود وهربيك

يا “يوسف”
حرك كتفيه ببساطةٍ وهو يرد عليه مُتعمدًا استفزازه:
_ربيني، بس الأولىٰ بقى تربي نفسك الأول، على الأقل علشان أخدك قدوة، ولا أنتَ ماشي بمبدأ فاقد الشيء أحق من يُعطيه ؟؟.

 

ابتسم “عاصم” بشرٍ ثم نطق بتوعدٍ:
_براحتك….على الأخر.
حرك رأسه موافقًا ثم أخرج هواء السيجارة في وجهه وقال بثباتٍ:

 

_عارف أنه براحتي، برة وخُد الباب في إيدك يلا.
التفت عمه يغادر الغرفة وخلفه “فاتن” بينما هو انتظر حتى اختفى أثرهما ثم أقترب من الباب يغلقه خلفهما ثم جلس على الأريكة المجاورة للباب ينظر أمامه بنظراتٍ ثاقبة.
_________________________

 

في نفس الطابق بغرفةٍ مجاورةٍ لغرفته، جلس “نادر” على الفراش و أمامه زوجته تقوم بمسح وجهه فسألها هو بتهكمٍ:

 

_ساكتة ليه؟ ولا علشان المحروس وصل هنا ؟
تنهدت بضجرٍ ثم قالت:
_ملهوش لازمة الكلام دا يا “نادر” أنا الموقف كله مش عاجبني أصلًا، واحد داخل بيته، مكانش ليه لازمة تعمل كل دا، كدا غلطت نفسك قصاده.

 

بعد حديثها ازداد انفعاله، فرد عليها بنبرةٍ جامدة:
_يغور من هنا المجنون دا، نسي هو كان فين و سُمعته عاملة إزاي؟؟ “شاهي” أنا مش عاوز أي كلام يربط بينك وبينه مفهوم؟؟

 

رفعت عيناها له وما إن أبصرت نظرته المحذرة لها، حركت رأسها موافقةً ثم هربت بنظراتها منه، بينما هو ثبت عيناه عليها ثم زفر بقوةٍ وهي تضع اللاصق الطبي على وجهه.
_”نادر سامي السيد”

 

 

ابن “فاتن” شقيقة والد “يوسف” ابنها الوحيد ومن أكثر الكارهين لـ “يوسف” حيث رباه كلٍ من والده و “عاصم” على كره “يوسف” والحقد عليه.
_”شاهي نزيه”

 

زوجة “نادر”، فتاةٌ مدللة من الطبقة الأرستقراطية كما تزعم عائلتها، تملك قدرًا كبيرًا من الجمال، خصلاتها بنية مسترسلة ناعمة، عينيها باللون البني الفاتح، جسدها ممشوق القوام، تهتم بنفسها كثيرًا وأكثر ما تحرص عليه هو الاهتمام بنفسها وهيئتها أمام الجميع.
_________________________

 

خرج “يوسف” من غرفته بعدما بدل ثيابه البيتية بأخرى عصرية عبارة عن بنطال من خامة الجينز باللون الأسود “بوي فريند”، وفوقه القميص باللون الأبيض من إحدى الماركات العالمية الشهيرة، و ساعة معصمه الفاخرة ورائحة عطره المميزة تفوح من غرفته حتى الأسفل.

 

نزل الدرجات بثقةٍ وشموخٍ لم ينفكا من محلهما، فوجد “نادر” يجلس على الأريكة و “شاهي” بجواره تضع رأسها على كتفه تتصفح هاتفها، وقف على الدرجات ينظر لهما لمدة ثوانٍ عابرة أخذته في رحلةٍ شرد هو بها لتفتح أحد

 

الجروح الغائرة في عمق روحه.
( منذ فترة تتراوح بين القصر والطيل)
كانت هي تنتظره في النادي الرياضي تتصفح هاتفها وتحاول التواصل معه ولم يأتيها منه الرد، فزفرت بضجرٍ ثم

 

ألقت الهاتف على الطاولةِ ناطقةٍ بنفاذ صبرٍ:
_براحتك يا “يوسف” شكلك نمت ونسيت معادنا أصلًا، براحتك شكلي همشي و أسيبك.
جمعت مُتعلقاتها وقبل أن تهم بالمغادرةِ تفاجئت به يجلس بجوارها ببرودٍ، فرفعت حاجبيها مستنكرةٍ فعله وتبعت

 

نظرتها تلك بقولها:
_والله !! “يوسف” أنتَ بتهزر؟ كل دا سايبني مش سائل فيا وأنا مستنياك بقالي كتير ؟؟.

 

تنهد بعمقٍ ثم نطق يُعبر عن ضيقه:
_هو أنا ماتور قدامك؟؟ جاي من طريق سفر فوق الـ ٨ ساعات ومنمتش وجيت علشانك، يعني الرحمة شوية يا “شهد”.
ردت عليه بدلالٍ:

 

_وحشتني يا “يوسف” أنا مصدقتش إنك جاي أخيرًا، بعدين الصبح شوفتك دقايق وسيبتني.
ابتسم لها وهو يقول بثباتٍ:
_ماشي اقنعتيني، على العموم أنتِ كمان وحشتيني، وقاعد هنا أسبوعين معاكِ بعدها هروح أبو رديس، ها هنروح فين؟؟.

 

حركت كتفيها بتعالٍ وهي تقول:
_شوف بقى هتودي “شاهي” فين سايبالك نفسي خالص.
حرك رأسه للخلف وكأنه يفكر ثم قال بنفس الثبات والهدوء:

 

_تعالي بس نقوم نمشي شوية في النادي هنا يا “شهد” نشرب حاجة سوا أكون فكرت وأحنا بنتمشىٰ تمام ؟؟.
حركت رأسها موافقةً وهي تبتسم له، فصدح صوت هاتفها في تلك اللحظة وقد استأذنت منه بنظراتها ثم قامت من أمامه تجاوب على الهاتف، بينما هو أرجع رأسه للخلف يتثاءب حتى اغمض جفونه، ولم يشعر بشيءٍ بعد ذلك

 

سوىٰ صوتها وهي تحرك كتفه، فاستيقظ من غفوته القصيرة تلك وهي تسأله بحنقٍ:
_إيه يا “يوسف” أنتَ هتنام؟؟
رد عليها بقلة حيلة:
_بقولك منمتش يا “شهد” وجيت علشان مزعلكيش، لو منك تيجي تقعدي جنبي وأحط راسي على كتفك، تعالي

 

بس.
أمسكت يده تسحبه خلفها وهي تقول آمرةٍ له:
_ورايا يا يوسف !! يلا وبطل دلع.

 

تحرك خلفها على مضضٍ ثم سألها بقلة حيلة:
_طب شوفيلنا حتة بقى نقعد فيها أحط راسي على كتفك، ماهو أنا جاي إجازة برضه يا جدعان، حسي بيا يا “شهد”

 

التفتت تحذره بقولها وهي تشهر بسبابتها في وجهه:
_”شاهي….اسمي “شاهي”

 

 

غمز لها فقالت بتراجعٍ بدا واضحًا عليها وهي تُغمغم بخجلٍ:
_بس دا ميمنعش أني بحب اسم “شهد” منك، أنتَ بس ماشي ؟؟
حرك رأسه موافقًا فسارت أمامه وهو خلفه يبتسم بقلة حيلة ليبدأ يومه معها.

 

(عودة إلى ذلك الوقت)
خرج من شروده على صوت هاتفه، فسحب نفسًا عميقًا داخل رئتيه ثم نزل الدرجات الباقية حتى وصل لهما فجلس على المقعد الأبعد عنهما، حتى اعتدلت هي على الفور وقد اربكها حضوره، بينما “نادر” وزع نظراته بينهما

 

ثم أمسك رأسها يضعها من جديد على كتفه وكأنه يثبت ملكيته الخاصة.
لاحظ “يوسف” فعلته تلك فأخرج هاتفه ثم وضع قدمًا فوق الأخرىٰ بثقةٍ، لم تتزعزع ثم أخرج سيجارته يُشعلها وهو يتابع هاتفه متجاهل وجودهما بالمكان، حتى بدأت هي تشعر بالاختناق رائحة سجائره وخاصةً أن الهواء يسير تجاهها، فازداد سُعالها، حتى نطق “نادر” يقصده بالحديث:

 

_المفروض الناس تخلي عندها دم وتعرف إن مش كل الناس بهايم زيها مبيحسوش، قوم يا بني أدم أطفي السيجارة دي، ولا اشربها في أي حتة تانية.
رفع “يوسف” نظره من على شاشة هاتفه وهو يسأله بتهكمٍ:

 

_الكلام دا لما نكون في مستشفى ولا المدام تكون حامل وفي خطورة على الجنين، لكن أنا قاعد في صالة البيت، اللي مخنوق يطلع هو من هنا.
نزل “عاصم” و “فاتن” معه في تلك اللحظة، فيما تحدث “نادر” قاصدًا إهانته بقوله:

 

_الظاهر كدا قعدتك في نزلة السمان وسط الحمير هناك خليتك متفرقش عنهم كتير.
ابتسم “يوسف” تلك الابتسامة العابثة وهو يرد بِحُجةٍ قوية قاصدًا كل ما تفوه به:
_والله يا “نادر” يا أخويا أنا في نزلة السمان كنت قاعد هناك وسط خيول أصيلة و فُرسان، الحمير دول مبشوفهمش غير لما باجي هنا.

 

 

قبل أن يرد عليه “نادر” أو حتى أيًا منهم، دلف “سامي” زوج عمته كما الإعصار ينطق بصوتٍ عالٍ:
_أنــتَ ياللي اسمك “يوسف” !! وريني نفسك يا عديم الرباية، بتمد ايدك على ابني أنا يا جربوع يا تربية الاصلاحية ؟؟.

 

بدا الترقب عليهم جميعًا بسبب دخول “سامي” المفاجيء وبسبب حديثه الغير مبشر بالخير، بينما “يوسف” وضع هاتفه في جيبه ثم أخذ مفاتيحه و قصد التحرك من المكان متعمدًا تجاهل الأخر الذي قال بنفس الغضب البادي عليه من تجاهل الاخر له:

 

_مــش بكلمك أنا !! رد عليا.
توقف “يوسف” عن السير ثم حرك رأسه لليسار قليلًا ينطق بوقاحةٍ قصدها وتعمد النطق بها دون أن يلتفت بكامل جسده قاصدًا إهانته أمامهم جميعًا دون تعقل أو ذرة تهذب في حديثه:
_محدش بيروح يقول للكلب أنتَ بتهوهو ليه، يا بيسيبه ويمشي، يا بيرميله عضمة تسكته، في كلتا الحالتين أنتَ

 

أدرى بحالك.
ردوده قوية وغير متوقعة ومُهينة أيضًا، هكذت اعتاد هو وهكذا اعتادوا هم منه، فكلٍ مَن يفكر أن يقف أمامه حتى ولو بالحديث يلقىٰ حتفه وتُصاب كرامته في مقتلٍ، وتلك هي الطريقة الأنسب للتعامل مع عائلة “الراوي”، فهم من

 

حكموا عليه بالغربة وسطهم بدلًا من أن يكون هو صاحب كل شيء.
اعتلت الصدمة ملامح وجوههم بعد حديثه، ورحيله من أمامهم بثباتٍ يُحسد عليه، بينما “سامي” اقترب من ابنه يسأله مُمررًا نظراته على قمسات وجهه التي اتضحت عليها أثر اللكمات التي تركها “يوسف” في وجهه، لذا سأله بنبرةٍ أقرب للإنفعال:

 

_أنتَ كويس !! فيه حاجة وجعاك؟؟

حرك رأسه نفيًا ثم قال بنفس الغضب الذي سبق ودلف به:
_ماشي يا “يوسف” يا أنا يا أنتَ.
على الرغم من ملاحظة العائلة لطريقة حديثه عن ابنهم، إلا أنهم تجاهلوا حديثه وكأنه لا يعنيهم كعادتهم منذ أن وُجد

 

وسطهم بعد وفاة أسرته.

تحرك “يوسف” بغضبٍ جامٍ بعد مقابلته مع ذلك الملقب بزوجة عمته وقف يلهث بقوةٍ وصدره يعلو و يهبط يحاول التماسك أمام نفسه، قبل أن يدخل ويجعله طريح الفراش و يَريه تلك التربية التي يُخطيء بها.

 

انتبه لذلك الصوت الذي يناديه، فانتبه له والتفت ينظر خلفه فوجد تلك الفتاة تقف أمامه بصغيرها على يدها وما إن تقابلت نظراتهما قالت بحماسٍ:
_”يوسف الراوي” هنا ؟؟ مش مصدقة، جيت أمتى ؟؟

 

ابتسم لها وهو يقول بنبرةٍ هادئة بعدما حاول إخفاء غضبه:
_”إيناس” !! عاملة إيه ؟؟ و “حازم” عامل إيه هو كمان ؟؟
حركت رأسها موافقةً وهي تبتسم له، بينما هو نظر للصغير على يدها ثم سألها بتعجبٍ:
_دا ابنك ؟؟ ما شاء الله ربنا يحفظه.

 

ردت عليه بضحكةٍ واسعة ورافقها حديثُ يعاتبه:
_أيوا ابني اللي خاله الندل محضرش سبوعه وجاي يشوفه بعدما تم سنة، شاطر بس تقولي أنا اخوكم الكبير، ياريتك حتى طلعت أخ في kg2.

 

ضحك رغمًا عنه ضحكة خافتة ثم تبعها بقوله مُستسلمًا:
_حقك، مش هقدر أقول حاجة، هاتيه بقى علشان اشيله، اسمه إيه؟؟
مدت يدها له بالصغير ثم قالت بنبرةٍ غلفها الحزن و الآسف:
_”حمزة”

 

رفع عيناه يطالع الصغير ثم حمله على يده وهو يقول بنبرةٍ غلفها الحزن أيضًا:
_العمر الطويل ليك يا حمزة، ربنا يبارك فيك و يرحمه إن شاء الله.
في تلك اللحظة خرج “حازم” زوجها وما إن أبصره قال بمرحٍ:
_”يوسف باشا الراوي” !! اللي منكد على أبونا في تويتر هنا بنفسه ؟؟.

 

ابتسم له “يوسف” ثم اقترب منه يحتضنه وهو يقول بنبرةٍ مرحة:
_يعني هو محوق معاك حاجة؟ وحشتني ياعم، ربنا يباركلك في “حمزة” و يفرحك بيه ويبارك في عمره.
آمن خلف حديثه، فقالت “إيناس” بحماسٍ:

 

_كويس إنك هنا، تدخل تسلم على ماما وعلى البت المُكتئبة اللي جوة دي، وأنا رايحة عند طنط مامة “حازم” عاوز حاجة؟؟
حرك رأسه نفيًا بينما “حازم” زوجها تحرك نحو السيارة يفتحها، فاقترب “يوسف” منها يهمس لها بتهكمٍ:

 

_طبعًا زي ما جيتي عند أمك، هتروحي عند الحرباية أمه، العين بالعين، طول عمرك هبلة.
حركت رأسها بيأسٍ ثم قالت بغلبٍ على أمرها:
_هعمل إيه بس !! دي حكمة ربنا.
ضحك هو بسخريةٍ ثم قبل الصغير وأعطاه لها، بينما هي وزوجها قاما بتوديعه ثم تحركت السيارة بعد ذلك ليتجه

 

هو عدة خطواتٍ قليلة يتجه نحو البيت المجاور لبيت عائلته ففُتِح له الباب وظهرت منه سيدة في أواخر العقد الرابع من عمرها، وما إن رأته أمامها، قالت بحماسٍ:
_يا حبيبي، حمدًا لله على سلامتك؟؟ وحشتني أوي.

 

ابتسم لها ثم نطق بنبرةٍ هادئة:
_وحشتيني أكتر يا “لوزة” فين “رهف” ؟؟ عاوز أشوفها.

 

أشارت له بالدخول ثم أمسك ذراعه وهي تقول بشوقٍ له:
_وحشتني اوي اوي يا حبيبي، كل دي غيبة عني كدا ؟؟ أومال لو مش قايلالك إنك أخو البنات وملناش غيرك ؟؟ هي دي الجيرة اللي ما بيننا ؟؟

 

 

تنهد بعمقٍ ثم قال بصوتٍ رخيم:
_أنتِ عارفة اللي فيها، المهم فين “رهف” أوعي تقولي لسه زي ماهي؟؟
حركت رأسها موافقةً ثم تحولت نظراتها إلى الأسف وهي تقول بصوتٍ طغى عليه الحزن:
_للأسف لسه زي ماهي، “رهف” التانية اتبخرت خلاص، من يوم موت “حمزة” وهي قافلة على نفسها الدنيا كلها،

 

خلاص فاض بيا.
ربت على كفها ثم نطق يُطمئنها بقوله:
_متقلقيش، أنا هتكلم معاها وكله هيبقى كويس.

 

حركت رأسها موافقةً ثم ابتسمت له وقالت بحبٍ:
_بس أنتَ وحشتني.
ضحك لها فوكزته في مرفقه وهي تقول بضجرٍ زائف منه:

 

_رد عليا يا كاريزما وقولي وأنتِ كمان، دا أنتَ عيل رخم بصحيح.
جلس على المقعد قاصدًا تجاهلها عن عمدٍ، بينما هي تعجبت منـه ثم تحركت بعدما رمقته بيأسٍ فهو لن ينطق ولن يعترف بمشاعره حتى وإن اتضحت في نظراته.
_________________________

 

في المقر الرئيسي لوكالة العطار وخاصةً مكان “عبدالقادر”، كان جالسًا على مكتبه وأمامه الشباب الأربعةِ، فسألهم بثباتٍ:
_يعني اتأدب؟؟ انتم راضيين عن اللي عملتوه ؟؟

 

تحدث “أيهم” مؤكدًا حديث والده:
_آه اتأدب، بصراحة بقى، أنا صبرت عليه كتير ، بس كدا كفاية بقى، كل شوية مشكلة شكل، واحنا عمالين نمشط في المنطقة كلها، مش هييجي واحد زي دا يخلي سمعتها تتوسخ.

 

تدخل “أيوب” يقول بنبرةٍ هادئة:
_”أيهم” معاه حق، كلمناه كتير بالحسنى يا حج بس مفيش فايدة، واحد مش بيراعي ربنا في لُقمة عيشه، وماشي في الحرام، يبقى ليه بقى أسكت عليه لحد كدا ؟؟ صدقني اللي زي دا لازم يتأدب.
حرك “عبدالقادر” رأسه موافقًا فدلف أحد الشباب الذي يعمل معه يقول بأدبٍ:

 

_حج “عبدالقادر” فيه عربية برة جايبة حاجات تبع المكان هنا، باين كدا حلويات ؟؟.
وزع “عبدالقادر” النظرات بين ابنيه اللاذي ضحكا رغمًا عنهما، فابتسم لهما بنظراته، ثم نطق بنبرةٍ هادئة:
_خليه يوصلها على البيت، ولو مش هينفع حد يوصلهم.
تحدث الشاب بأسفٍ:

 

_للأسف يا حج الناس كلهم في الورشة علشان نقلة الفُخار، والعربية مش هتوصل لحد جوة.
تدخل “أيهم” يقول مُقترحًا:
“حد فاضي يروح وخلاص، تروح يا “تيام” ؟؟

 

سأله “بيشوي” بتعجبٍ:
_ثانية بس، الحلويات دي بتاعة إيه ؟؟ هو دا عيد ميلاد عندكم؟؟
تحدث “أيهم” بسخريةٍ:

 

_عيد ميلاد ؟؟ الشيخ “أيوب” هيخلينا نعمل عيد ميلاد برضه ؟؟ لأ دي حلويات علشان خطيب “آيات” جاي مع أهله نتفق على كتب الكتاب.
بدا صوت تصدع القلب واضحًا من خلال قبضتي كفيه اللاذي ضغط عليهما و نظراته التي زاغت بالمكان عند ذكر تلك السيرة ولم يكن سوىٰ “تيام” الذي لاحظه “بيشوي” فتنهد بضجرٍ ثم قال بحزمٍ:
_أنا اللي هروح أوصل الحاجة للبيت، وكل واحد فيكم يروح محله، “أيوب” !! هتروح محل المُعز النهاردة ؟؟

 

 

حرك رأسه نفيًا ثم قال بهدوء:
_لأ علشان “أيمن” خطيب “آيات” اللي هييجي دا و ورايا حاجات كتير في المحل هنا، ولسه هعمل حاجات بالفخار مطلوبة مني، يعني صعب، ممكن “أيهم” يروحه لو فاضي.
تحدث “عبدالقادر” بثباتٍ وهو ينظر لابنه الكبير:

 

_لأ، “أيهم” وراه مشوار تاني مهم.
نظر له بتعجبٍ، فزفر “عبدالقادر” ثم نطق بحزمٍ و جمودٍ:
_هتفضلوا كدا ترغوا كتير ؟؟ يلا كل واحد على مكانه، يلا منك ليه، “تيام” خش طُل على العمال جوة، و أنتَ يا

 

“بيشوي” على البيت وصل الحاجة، و “أيوب” على شغلك يلا، و استاذ “أيهم” يقعد علشان عاوزه.
كانت صيغة حديثه آمرة لهم جميعًا يوجه لكلٍ منه أمره، وهم فقط عليهم السمع والطاعة، فتحرك “تَيام” من المكان بحزنه البادي عليه، بينما “بيشوي” و “أيوب” تحرك كلٍ منهما حيث وجهته، وظل فقط “أيهم” أمامه ينظر

 

له بنظراتٍ ثاقبة يحاول سبر أغواره، حتى فاض به الكيل من ذلك الصمت فتشدق يتسائل:
_وبعدين طيب ؟؟ هتتكلم أمتى يا حج ؟؟ هو أنا عملتك حاجة ؟
تقدم “عبدالقادر” على مكتبه يُشبك كفيه ببعضهما وهو يقول بثباتٍ:

 

_وبعدين يا “أيهم” أنا صابر بقالي اسبوعين وبقول هيروح من نفسه، بس كدا كتير بقى، مراتك هترجع امتى ؟؟
تنهد بضجرٍ عند ذكرها ثم قال بقلة حيلة:
_هعمل إيه يعني يا حج؟؟ أنا غلطت في إيه يعني، أنا قدامك مغلطتش في أي حاجة.
حرك رأسه موافقًا ثم أضاف بحكمةٍ اكتسبها من الزمان:

 

_عارف إنك مش غلطان، بس الراجل بجد هو اللي يمشي دنيته، إنما أنتَ عصبي وقفل، مراتك بتغضب أكتر ما بتقعد في بيتها، بطل تفكير في نفسك وفيها وفكر في ابنك الصغير اللي حياته كل شوية على المحك كدا، أنا اللي هقولك يا عاقل يا كبير ؟؟.

 

 

اقترب “أيهم” من المكتب يقول بنبرةٍ غلفها الحزن:
_يا حج، أنا على يدك أهو حاولت بس هي مش بنت أصول ومش عاوزة تعيش، طماعة و الست الطماعة يتخاف منها، حاطة عينها على شقة من عمارة التجمع من ساعة ما اتبنت، واحدة طماعة عاوزة كل حاجة ليها هي.
سأله “عبدالقادر” بتهكمٍ:

 

_وهو أنتَ لسه واخد بالك؟؟
حرك رأسه نفيًا ثم أضاف مُفسرًا:
_لأ، بس الحكاية بدأت تزيد عن حدها بطريقة لا تُطاق يا حج، كل ما واحدة تعرفها جابت حاجة جديدة تطلب زيها، وكل شوية فلوس ودهب، أنا مش بخيل، بس مش كدا، ماله بيتنا ؟؟ المنطقة كلها معروفة ببيت العطار، شقتها

 

اللي مش عجباها دي، لما حد بيدخلها بيبقى مش عاوز يمشي منها، غيرت توضيبها مليون مرة، وبرضه مش عاجب، قولي أنا قصرت في إيه، غلطي إيه ؟؟ عاوزاني في الأخر امشي و اسيبكم ؟؟ بتحطكم في كفة وتحط حياتنا في كفة؟؟ فين غلطي يا حج ؟؟

 

كان يحدثه بغلبٍ يُعبر به عن وجعه وروحه التي تألمت و أحلامه التي تبخرت على يدها، حلم معها ببيتٍ يعيش به ليكون مملكته الخاصة، فتفاجأ بها تحول ذلك البيت إلى جحيمٍ كره به حياته، تنهد “عبدالقادر” ما إن لمح وجعه في نظراته، ثم قال بصوتٍ متحشرجٍ نتيجةً لوجع ابنه:

 

_غلطك كان من الأول يا “أيهم” كان من أول ما إحنا كلنا قولنالك دي لأ، دي مش زينا، مش شبهنا، ومكانش قصدي على الفلوس والعز، دا كله رزق من ربنا، لكن النفوس مش شبهنا، الأصل مش زينا، بس برضه فيه بينكم عيل، علشانه هو، ارجع يابني، روح رجعها وحاول توصل معاها لحل.
حرك رأسه موافقًا ثم مد حسده للأمام يقبل رأس والده تقديرًا و احترامًا له، ثم اعتدل جالسًا يمسح وجهه ونطق

بشموخٍ لكن صوته خرج مُتحشرجًا:

_حاضر… علشان عيونك وعيون “إياد” هرجعها يا حج، راضي كدا؟؟
حرك رأسه موافقًا ثم قال مؤكدًا:
_راضي عنك، ربنا يراضي قلبك يا حبيبي أنتَ وأخواتك يا رب.

 

_________________________
في منزل “العطار” وصله “بيشوي” بعدما سار نحوه على قدميه ومعه أحد الشباب الذين يعملون تَبَعهم، يمسك كلٍ منهما في يده الحلويات المُعلبة كرتونيًا، حتى توقف “بيشوي” أمام باب البيت ثم ضرب الجرس الخارجي له

 

ينتظر خروج أيًا من سكان البيت.

في الداخل كانت “آيات” تتابع تسوية الطعام، وحينما استمعت لصوت الجرس، فقالت لرفيقتها:
_بقولك إيه يا “مُهرة” انزلي افتحي البيت، ماما “وداد” شكلها كدا مش فاضية.
حركت رأسها موافقةً ثم تحركت من أمامها بعدما أغلقت هاتفها الذي كانت تتصفحه، ثم توجهت حيث الطابق

 

الأسفل ركضًا لكي تفتح البيت، ثم فتحته بحماسٍ فوجدته هو أمامها.
تسمرت مكانها و تيبس جسدها، بينما هو خلع نظارته الشمسية السوداء ثم نظر لها وطالت النظرات بينهما وضربات قلبها تتسارع في الحركة بمجرد فقط رؤيته، بينما هو ظل ثابتًا ثم قال بصوتٍ رخيم:

 

_ازيك يا “مهرائيل”؟ فيه حد هنا؟؟
حركت رأسها موافقةً ثم أشارت نحو الداخل وقالت بثباتٍ يتنافىٰ مع تلك الضجة التي حدثت بمجرد رؤيتها له:
_جوة….”آيات” و طنط “وداد”

 

حرك رأسه موافقًا ثم تحرك للداخل يضع العُلب على الأرض بجوارها، ثم التفت يأخذ الباقي من الشاب تزامنًا مع قوله بثباتٍ:
_روح أنتَ يا “مانجا” وخلي بالك لحد ما أجيلك، مش هتأخر.
تحرك الشاب من أمامه بأدبٍ، فيما وضع هو العُلب بجوار الأخرى ثم اعتدل في وقفته يسألها باهتمامٍ يحاول

 

احجامه:
_محتاجة حد يدخلهم؟؟ ولا هتتعاملي ؟؟
ردت عليه بثقةٍ وزهوٍ في ذاتها:

 

_طبعًا، أنا مش أي حد.
ابتسم لها بهدوء، بينما هي اخفضت جسدها حتى تمسك الصف الأول من المُعلبات، فاتسعت عينيها بتفاجؤٍ من حملهم، وهو يتابعها باهتمامٍ يود أن يضحك لكنه لم يَرد إحراجها، بل انتظرها حتى اعتدلت وقالت بثباتٍ:

 

_الاضمن يعني بما إنك الراجل تدخلهم، ولا كلامي غلط ؟؟

ابتسم لها بعينيه ثم حملهم مع بعضهم وقال بسخريةٍ:
_كنت فاكرك جامدة يا “هيري” طلعتي لسه زي ما أنتِ من واحنا عيال.

 

رمقته بغيظٍ بينما هو تحرك من المكان يحمل الأشياء بثقةٍ متعمدًا إظهار قوته الجسدية أمامها، فيما نظرت هي في أثره بنظرةٍ ضاحكة تُغلفها السعادة خاصةً حينما نعتها باسم الطفولة الذي اخترعه هو لها “هيري” وكأنه أصبح هو الوحيد الذي يحق له منادتها بذلك الاسم، لذا ركضت نحو الداخل بسرعةٍ كبرىٰ وهي تضحك مع ذاتها.
_________________________

 

في محل “أيوب العطار” جلس يتابع الأوراق الموجودة أمامه برزانةٍ وهدوءٍ وفي يده القلم يدون به ملاحظاته حتى وصله صوتٌ مُضطربٌ يقول بنبرةٍ مهتزة الوتيرة:
_السلام عليكم……مساء الخير.
رفع رأسه من على الأوراق الموجودة أمامه فوجد تلك الفتاة أمامه دون أن يمعن نظره لها، أخفض نظره سريعًا

 

يرد عليها بنبرةٍ هادئة:
_وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
سألته هي بنبرةٍ حاولت جعلها ثابتة على الرغم من توترها:
_هو…هو الحج “عبدالقادر” هنا؟؟

 

حرك رأسه مستفسرًا بعدما رفع رأسه لها، فوجدها تقول من جديد:
_أنا “قمر” بنت أخت “فضل” وهو ليه أمانة معايا عاوزة أسلمهاله ممكن ؟؟.
رد عليها بنبرةٍ هادئة:
_أنا ابنه، ممكن لو عاوزة تسلميلي الحاجة، اخدها أنا و أسلمهاله، دا لو تحبي يعني.

 

ظهر التخبط عليها وبدت مضطربة أمامه، بينما هو ضيق جفونه ينتظر منها الرد وحينما طال صمتها، حمحم بخشونةٍ يجذب نظرها له، بينما هي قالت بتشوشٍ:

_ماشي…. أو ممكن يعني اروحله مكانه، علشان اضمن يعني إن حضرتك متنساش ؟؟.

 

حرك رأسه نفيًا وهو ينطق بأسفٍ:
_للأسف المكان دا بعيد عليكِ، سيبيهم هنا وأنا هخليه يكلم أستاذ “فضل” يشكره بنفسه، ولو لا قدر الله يعني سرقتهم أو حاجة، تقدري تيجي هنا أنا موجودة علطول.

 

حركت رأسها موافقةً ثم أقتربت منه تخرج الأموال من حقيبتها ثم مدت يدها له وهي تقول بنبرةٍ خافتة:
_أنا نيتي خير وأكيد يعني ربنا مش هيضرني، لو حصل وخدتهم ساعتها أنا هاجي هنا بنفسي واعمل مشكلة.
حاول كتم ضحكته وقد نجح في ذلك بينما هي، تركت الظرف على المكتب ثم التفتت حتى تغادر وهي تعدل حقيبة

 

ظهرها، وقبل أن تقف على أعتاب المحل التفتت له تسأله بثقةٍ:
_هو حضرتك اسمك إيه؟؟
أشار على نفسه مستنكرًا فأكدت هي قولها بنظراتها ليرد عليها بنبرةٍ بدت حائرة:

 

_”أيوب عبدالقادر العطار”
حركت رأسها موافقةً ثم قالت:
_الأسطى “أيوب” بتاع القُلل، كدا أنا عرفتك علشان لو حصل حاجة، مع السلامة.

 

تحركت من المكان تاركةً إياه خلفها مدهوشًا ثم ردد خلفها مُستنكرًا:
_أنا بقيت الأسطىٰ “أيوب” بتاع القُلل ؟؟ أنا بتاع قُلل ؟؟.
_________________________

 

بعد مرور بعد الوقت اجتمع “عبدالقادر” مع “أيهم” و “بيشوي” بعائلة خطيب ابنته، قبل تناول الطعام تحدث “عبدالقادر” مع الرجال وهو يجلس معهم في المندرة المُخصصة للمقابلات:
_يعني مناسبكم امتى كتب الكتاب؟؟ الوقت اللي يعجبكم بما اننا في أجازة.

 

رد عليه “أيمن” بحماسٍ:
_الوقت اللي يناسب حضرتك يا عمي، طبعًا احنا ينولنا الشرف اننا نناسب عيلة “العطار”
نظر له “عبدالقادر” مُستحسنًا ثم حرك رأسه موافقًا، وقال بثباتٍ بعدما وزع نظراته على الرجال

 

 

:
_تمام يابني، واحنا حضرنا القايمة لو عاوز تمضي عليها احنا جاهزين، ها قولت إيه؟؟.
نظر الشاب في أوجه أفراد عائلته، فوجد النظرات بأكملها تحثه على أخذ تلك الخطوة، فحرك رأسه موافقًا بلهفةٍ

 

ثم قال بنفس الحماس:
_هات يا عمي، أنا موافق.
حرك “رأسه” موافقًا ثم نظر جهة الشباب ناطقًا بشموخٍ يليق به وبمكانته:

 

_”بيشوي” ناولني القايمة.
أخرج “بيشوي” الأوراق من درج الطاولة الموضوعة بجانبه، فتحدث خال “أيمن” بمرحٍ:
_طول عمرك عامل حساب كل حاجة يا حج “عبدالقادر” ودا اللي بيخلينا نفسنا نكون زيك.

 

حرك رأسه موافقًا ثم أجبر شفتيه على الابتسام، بينما “بيشوي” اقترب من “أيمن” يمد يده له بالورقة ثم نطق بنبرةٍ جامدة:
_اتفضل يا أستاذ “أيمن” أمضي.

 

أخذ منه الورقة بوجهٍ مبتسمٍ وأول ما بحث عنه بنظره كان الرقم المدون، ليصرخ أمامهم بقوله الذي أعرب عن دهشته:
_كـــام ؟؟ الـقــايمة بـكـام ؟؟

 

توجهت الأنظار بأكملها نحوه، بينما “عبدالقادر” عدل عصاه في يده ثم هتف بإصرارٍ:
_مليون ونص، قايمة بنتي مكلفانا مليون ونص، هتمضي؟؟.

نظر الشاب لأفراد عائلته فوجد النظرات تحولت إلى التحذير و الترقب، فتنهد “عبدالقادر” ثم نطق بثباتٍ في

 

حروف كلماته:
_على العموم الورقة معاك أهيه، راجعها وشوفها ودلوقتي يلا علشان نتغدا كلنا سوا، يلا بينا.
اقترب خال “أيمن” يخطف الورقة منه ثم دسها في جيبه قاصدًا إرسال رسالة إلى ابن شقيقته وكأنه يطلب منه

 

التريث، بينما “أيهم” فبدا مثل والده وهو يراقب تصرفاتهم الغير مُبشرة بالخير.
_________________________
في حارة “العطار” في مكانٍ ما بقرب بيت “العطار” جلست تلك المرأة على الأريكة تضحك وهي تشاهد الهاتف في يدها حتى سألتها والدتها بضجرٍ ونفاذ صبرٍ منها:

 

_هو أنتِ يابت معندكيش دم ؟؟ ابنك بقالك ييجي شهر متعرفيش عنه حاجة، وفي الآخر قاعدة هنا بتضحكي في المحروق اللي أنتِ مسكاه دا ؟؟ ابنك موحشكيش يابت ؟؟.
زفرت بقوةٍ ثم ألقت الهاتف بجوارها على الأريكة وهي تقول بحنقٍ:
_نعم ياما ؟؟ صعبان عليكِ اقعد رايقة شوية، وحشني طبعًا، بس هجيبه هنا ويسيب العز اللي هناك؟؟.

 

ردت والدتها بتهكمٍ ناطقةً:
_قولي لنفسك يا موكوسة، أنتِ اللي سايبة العز وجاية هنا للهم برجلك، جتك خيبة في خيبتك التقيلة، خليكِ ماشية ورا “شُكري” أخوكِ لحد ما تخسري كل حاجة، أنا تعبت منكم.

قبل أن تهم بالحديث عليها، خرج “شكري” من غرفته يقول بضجرٍ:

_ياما ماله “شكري” ؟؟ هو أنا علشان عاوز مصلحتها وبخاف عليها يبقى كدا بخسرها؟؟ بالعكس هي بس تسمع

كلامي وهناكل الشهد، وبعدين خسارة فيها يعني شقة من ضمن بحور الشقق اللي عندهم؟؟ طب دي جايبالهم “إياد” يعني واد والمفروض يكون متدلع هو وأمه.

 

سألته والدته بتهكم وهي تضع اصبعيها أسفل ذقنها:
_وهما هيدلعوها إزاي أكتر من كدا ؟؟ دي ستات حارة العطار كلها بتتكلم عن العيشة اللي “أماني” عايشاها.
اقترب من والدته يجلس بجوارها ثم قال بخبثٍ:

 

_برضه مش صح، لازم تبقى هي الكل في الكل، علشان لما المحروس التاني يتجوز محدش ياخد مكان بنتك، الدنيا كلها عارفة إن “أيوب” روح “عبدالقادر” بسبب اللي حصله وهو صغير، يعني هيتدلع صح، بنتك بقى تأمن نفسها ولا تضيع حقها وسطهم ؟؟؟

 

سألته شقيقته بلهفةٍ:
_جدع ياض يا شكري، طب أعمل إيه بقى ؟؟ شور عليا يا أخويا.
رد عليها بخبثٍ:

 

_لو “أيهم” كلمك مترديش عليه، ولو جالك متروحيش معاه وقوليله إنك هتطلقي وترفعي قضية تاخدي بيها حضانة الواد، شوفي بقى لما تقوليله كدا، عيلة العطار كلها هترمي الفلوس تحت رجلك رمي، مش بعيد يحطولك عمار باسمك كمان.

 

اتضح التشتوش عليها، وبدت مُتحيرة في الصواب والخطأ، فاقترب أخيها منها يحتضنها ثم قال بحبٍ زائفٍ:
_يابت أنا خايف عليكِ، شايل همك أنتِ وهم ابنك اللي هيتحط عليه لما عمه يتجوز ويخلف، ابنك هيضيع، مش كفاية إنك أمه ؟؟.

 

انتفضت تبتعد عنه تسأله بانفعالٍ:
_قصدك إيه يا “شكري” ؟؟

 

 

_مقصديش.. خلاص أنتِ حرة بقى، بس يعني ياختي مش شايفك بتسألي على الواد ولا عاوزة تشوفيه، وقاعدة ماسكة الزفت دا ليل نهار أوعي يابت تكوني بتعملي حاجة حرام؟؟.
لوت فمها بتهكمٍ، فيما قال مُستحسنًا ويبدو كأنه في عالمٍ أخر:
_جدعة يابت طول عمرك جدعة.
_________________________

 

في منطقة الزمالك
جلس “يوسف” مع “رهف” جارته فبدت له حزينة وشاردة و وحيدة، فسألها هو بتعجبٍ من صمتها الدائم:
_مالك يا “رهف” ؟؟ جاية على نفسك كدا ليه؟؟ الله يرحمه مات خلاص، يعني عند اللي أحسن مننا كلنا، هتضيعي نفسك كدا ؟؟.

 

نظرت له بعينين دامعتين ثم انهارت في وجهه بنبرةٍ باكية:
_محدش فيكم حاسس بيا يا “يوسف”؟؟ “حمزة” كان كل حاجة ليا، صاحبي وحبيبي وكنا لسه بنبدأ المشوار سوا مع بعض، بس اللي حصل إنه مشي قبلي، كل حاجة كان مشاركني فيها، قبل ما نكون سوا، كل حاجة ضاعت.

 

حرك رأسه نفيًا ثم تحدث بجمودٍ:
_مش صح، لو كان هو نصيبك مكانش مشي وسابك، بصي كدا على كل الناس اللي كانوا في حياته هتلاقيهم

 

عاشوا من بعده، إنما أنتِ الوحيدة اللي دافنة نفسك، مش “حازم” جوز أختك أخوه ؟؟ عاش حياته وخلف كمان، مش أمه هي هي أم “حياة” اختهم ؟؟ جوزتها و فرحت بيها، الحياة مبتقفش على حد يا “رهف” هو لو عايش مكانش هيرضى إنك تضيعي حياتك كدا، فين “رهف” ؟؟ طفيتي نفسك وأنتِ لسه بنت عشرينات ؟؟.

 

مسحت دموعها وهي تنتحب من فرط البكاء، فيما سألها هو يمازحها:
_طب بلاش فين عيونك الزرقا؟؟
ضحكت رغمًا عنها ثم نظرت له بقلة حيلة فضحك هو الأخر ثم قال بنبرةٍ هادئة:
_أيوا كدا اضحكي وافرحي وارجعي شغلك من تاني وقومي اقفي على رجلك، الحياة مش هتستناكِ لحد ما

 

تقومي، لأ هي هتمشي وتجري كمان بس هتتفاجئي بيها وهي بتخسرك كتير أوي بسبب وقوفك ولو فكرتي تندبي حظك، أول حاجة هتتقالك أنتِ اللي وقفتي، فوقي لنفسك وقومي كملي اللي كنت خايفة هتعمليه مع “حمزة” خلي نجاحك يكون هو شاهد عليه.
حركت رأسها موافقةً ثم قالت بنبرةٍ مختنقة من البكاء:

 

_ياريتك كنت جيت من بدري.
_وأنتِ ياريت عيونك كانت سودا.
كان ءلك قوله المرح الذي مازحها به وجعلها تضحك رغمًا عنها بصوتٍ عالٍ، جعله يتنهد بعمقٍ ثم حرك رأسه

 

لليسار قليلًا ينظر لوالدتها ثم أشار بابهامه لها وهي الاخرى فعلت مثله.
_”رهف جمال الحُسيني”
فتاة تبلغ من العمر ثلاثة وعشرون عامًا، جارة “يوسف” منذ صغره وانتقاله مع افراد عائلته إلى هنا، عينيها

 

زرقاوتين و نحيفة الجسد متوسطة الطول، وجهها رقيقًا تبدو كما الطفلة الصغيرة للأخرين على الرغم من ثيابها العملية وحجاب رأسها، فقدت حبيبها إثر حادث مروعٍ على الطريق لتعود متقهقرة إلى وحدتها من جديد تشعر وكأنها كان هو سكن روحها وهُدم عليها لتصبح من بعده عارية أمام الجميع.

 

 

رحل “يوسف” من المكان بدون أن يتناول معهما الطعام ثم ركب سيارته وفتح الدرج الصغير الموجود بها لتضح له ميدالية صغيرة، أمسكها هو ثم قلبها بين كفه لتأخذه في رحلةٍ جعلته يُغلق السيارة ثم ارجع رأسه للخلف بعدما ضغط على تلك الميدالية.

 

(منذ ما يقرب عامين)
قفزت أمامه بفرحٍ بعدما أخبرها بحديثه الجديد المُفاجيء لها وهي تقول بصوتٍ مختنقٍ من فرط الحماس:
_بجد يا “يوسف” ؟؟ يعني خلاص هتيجي تتقدملي ؟؟.
حرك رأسه موافقًا ثم أضاف بعدما ابتسم لها:

 

_بما أني قاعد لسه حوالي ١٢ يوم كمان، نعمل فيهم خطوبة واسافر وارجع بعدها نعمل الفرح، بلاش نأجل أي خطوة نكون فيها سوا، أنا عاوزك معايا علطول، عاوز لما أرجع من السفر يكون لينا بيت سوا، مش عاوز نفضل نتقابل هنا في النادي ونقضيها خروجات، قولتي إيه ؟؟.

 

ردت عليه بفرحةٍ كبرى:
_من غير تفكير طبعًا موافقة، هستناك بليل إن شاء الله، هروح أجهز نفسي بقى، متتأخرش.
حرك رأسه موافقًا ثم قال بنبرةٍ ضاحكة:

 

_ههرب يعني يا “شهد” ؟؟ قبل الميعاد هكون عندك، وفيه مفاجأة كمان، الشقة اللي كان نفسك فيها، جمعت المُقدم بتاعها، والاقساط بقى ندفعها واحدة واحدة.
اتسعت بسمتها أكثر وهي ترد عليه بسعادةٍ مُفرطة:

 

_أنتَ أحلى “يوسف” في الدنيا كلها، أنا بحبك أوي أوي.
حرك رأسه موافقًا ثم ابتسم لها بصفاءٍ وقال بثباتٍ:
_يلا علشان متتأخريش يا “شاهي”

 

ردت عليه هي بفرحةٍ اكبر بكثير مما سبق وهي تقول:
_حلو “شاهي” منك بس برضه “شهد” أحلى.
تحركت من أمامه بخطواتٍ شبه راكضةً، بينما هو نظر في أثرها مُبتسمًا ثم التفت نحو الجراج حتى يركب سيارته

 

ويرحل لتحقيق أول خطوة في حلم حياته.
وصل “يوسف” بيته في منطقة الزمالك ثم رفع صوته ينادي على “فيصل” حتى حضر له الاخر، فأخبره بنبرةٍ مُتلهفة:
_عاوزك تخلي حد يظبطلي العربية، عاوزها بتلمع، وعاوزك تروح عند محل الورد على أول الشارع تجيبلي منه

 

واحد، و كمان علبة شيكولاتة هكتبلك اسمها، تمام ؟؟
حرك الرجل رأسه موافقًا ثم سأله بخجلٍ من تدخله في تلك الأمور:
_عدم المؤاخذة يعني يا أستاذ “يوسف” الحاجات دي ليه؟؟ فيه حاجة مهمة ؟؟.

 

رد عليه “يوسف” بعدما توسعت ضحكته الجذابة التي قلما تظهر في ذلك المحيط:
_رايح أخطب يا عم “فيصل”
هلل الرجل فرحًا بقوله:
_الله أكبر، ربنا يسعدك يابني، ويتمم فرحتك بخير، أيوا كدا فرحنا وفرح الحبايب بيك، الله يرحمهم.
تنهد “يوسف” ثم نطق بلمحة أسىٰ في حديثه:

 

_الله يرحمهم، مش هوصيك عاوزك تظبط كل حاجة، دي أول مرة اتهور كدا، تمام ؟؟
أشار الرجل على عيناه ثم رحل من المكان، فاقتربت منه “حكمت” بثباتٍ:
_خير ؟؟ رايح فين كدا ؟؟.

 

تنهد بضجرٍ ثم قال بإيجازٍ:
_رايح اتجوز تيجي معايا ؟؟.
رمقته بسخريةٍ، فوجدت ابنها “عاصم” يقترب منها، لذا قالت بخبثٍ:
_بارك لـ “يوسف” يا “عاصم”، هتيجوز، فرحتله أوي والله.

 

ابتسم “يوسف” بسخريةٍ وقال:
_من أمتى يا مرات الأب، هتبقي ام ؟؟ ناسية إنك مرات جدي مش جدتي ؟؟ يعني فرحتك بيا مش في محلها أبدًا.
ابتسمت بسخريةٍ، بينما عمه سأله بسخطٍ:
_وحضرتك رايح بقى تخطب مع مين ؟؟.

 

رد عليه بوقاحته المعتادة:
_هو أنا عيل برضع قصادك ؟؟ رايح لوحدي طبعًا، خير ممنوع ولا عاوز مِحرم معايا ؟؟.
نطق عمه بثباتٍ:
_لأ بس على الأقل تروح معاك حد، عاوز الناس تقول حفيد الراوي راح يخطب لوحده من غير حد ؟؟ قاصد تقل

 

بينا ؟؟.
ازداد التهكم على وجهه وهو يقول بسخريةٍ لاذعة:
_اللي عاوز يكبر نفسه أهلًا و سهلًا، أنا مش وزير التموين همنع عنه اللبن.
رفع عمه رأسه بشموخٍ ناطقًا:

 

_احنا هنيجي معاك كلنا، مش معقول نقبل حد يقل بينا بسببك، دا غير أني مضمنش أخلاقك قدام الناس.
حرك كتفيه ببساطةٍ وهتف قاصدًا استفزازه:
_براحتك … I don’t care
“أنا غير مهتم”.

 

ابتسم “عاصم” بسخريةٍ وهو يراقبه يتحرك من أمامه بعدما تعامل بلامبالاةٍ مع الأمر وكأنه لا يهتم بهم من الأساس، وتلك هي الحقيقة، لربما درب هو نفسه على تجاهلهم وعدم الاكتراث بهم.
في المساء ركب “يوسف” سيارته و سيارة عمه خلفه تتبعه حيث بيت العروس وبالطبع ماهي إلا “شهد”.

 

صف “يوسف” سيارته أمام بيتها وخلفه توقفت سيارة عمه و نزلت منها العائلة بكل أفرادها، فانتظر هو اقترابهم منه ثم نطق بنبرةٍ خافتة:

 

_ياريت نبين اننا عيلة للأسف يعني بتحب بعض، دا لو مش فيها إساءة ليكم، نخلص بس الليلة دي، ونرجع لجو الأخوء أعداء بتاعكم دا.
تحدثت “فاتن” بودٍ حقيقي نبع من قلبها:
_ربنا يكرمك إن شاء الله و ييسرلك كل أمورك يا رب، خير يا حبيبي.

 

حرك رأسه موافقًا ثم نظر في وجه ابنها فوجده جامدًا، حينها زفر بقوةٍ ثم أشار لهم بالتقدم.
دلف مع عائلته يجلس مع والد “شهد” وعمها وأسرتها وقد تم التعارف بينهم كعائلتين من الطبقة الأرستقراطية يحسبون أنفسهم من عِلية القوم.

 

تم التعارف بينهم وقد خرجت “شهد” من الداخل ترتدي فستانًا قصيرًا يصل ما بعد ركبتيها بنسبة قليلة اكمامه تصل إلى مرفقها تقريبًا، قُرمزي اللون يُلائم بشرتها البيضاء.
اقترتب منهم تضع التقديم أمامهم ثم جلست بجوار والدها، فراقب “عاصم” نظراتهما لبعضهما وبقية النظرات،

 

فتنهد ثم حمحم بخشونةٍ لفتت الانظار له ليقول بثباتٍ:
_أظن الغرض من زيارتنا النهاردة معروف لحضراتكم، بدون مقدمات إحنا جايين نطلب أيد الآنسة “شهد” لحفيد العيلة.

 

ابتسم “يوسف” بسخريةٍ، فقال “سامي” مُكملًا على حديث الأخر:
_جايين نطلبها للقبطان “نادر سامي السيد” ابني.
تلاشت البسمة من وجه “شهد” وهي تنظر له بدهشةٍ، بينما “يوسف” عقد مابين حاجبيه مستنكرًا ما سمعه للتو، وكأنهم يستلذون بطعنه، لتتحدث “حكمت” بثباتٍ:

 

_طبعًا مش هلاقي نسب يشرف لحفيدي الوحيد أفضل من عيلة حضراتكم وبنوتة جميلة زي “شهد” تكون مرات حفيدي، قولتوا إيه ؟؟
وزع “نادر” نظراته عليهم جميعًا ثم ابتسم بظفرٍ، بسمة المنتصر في حربٍ حصل على كل غنائمها دون حتى أن يُرهق جيشه.

 

(عودة إلى الوقت الحالي)
خرج “يوسف” من شروده على صوت هاتفه، فأغلق الهاتف ثم تنهد بعمقٍ محاولًا الهروب مما عايشه بسببهم، لذلك حرك سيارته دون أن يحدد إلى أي وجهةٍ سيذهب.

_________________________

كان “أيوب” جالسًا في محله الخاص بتوريدات المواد الرخامية و الفخارية، وقد تأخر عن زيارة بيته لموعد مقابلة “أيمن” خطيب شقيقته، وقد حل الليل عليه وانشغل هو في عمله.
حل الليل بعتمته و ظلامه على الجميع، فيما قضى هو ليله بغضبٍ يود الثأر لكرامته و الانتقام لما حدث معه

 

صباحًا، كان جالسًا في المقهى الشعبية وسط رفقة السوء، و عينيه تنطق بسهام الغِل و الحقد، و قدميه تهتزان بانفعالٍ بات واضحًا من كثرة التشنجات حتى وضِع كف أحدهم على قدمه يوقف حركتها و هو يقول بصوتٍ عالٍ يوقفه عن توتره:

 

_ما خلاص بقى يا سعد !! هدي نفسك هيجرالك حاجة كدا، يا جدع اللي يزعلك نجيب كرشه، ما توحد الله !!
رد عليه الأخر بنفس الحقد الدفين الذي يُقطر من أحرف كلماته المحقونة بالسم:
_أنا يتعلم عليا وسط المنطقة كلها في محلي ؟! عيال زي دي تحط عليا كدا ؟؟ طب و اللي خلق الخلق لأكون مخلي عبدالقادر يحضر الحفلة و أنا بحط عليهم.

 

لمعت عيني الأخر بطمعٍ و خبثٍ؛ لذا قال مسرعًا بلهفةٍ:
_غشيم يا سعد، لو عاوز تقهر عبدالقادر يبقى تزعله على واحد منهم، و خصوصًا اللي رافع راسه وسط الكل.
استطاع بسم حديثه أن يجذب أنظار الأخر، فأمعن له بكامل حواسه ينتظر التكملة على أحر من الجمر، فقال صديقه بهسيسٍ يشبه هسيس الأفعىٰ:
_خد بس ولع السيجارة دي و اسمعني كويس، أنا هجيبلك الناهية خالص، و اللي يريحك طول العمر.

 

مد يده له بسيجارةٍ ملفوفة من أحد أنواع النباتات المخدرة “حشيش” فأخذها الأخر منه مستسلمًا لوسواس الشيطان الذي يجلس أمامه متجسد في هيئة بشر، فقال له بهمسٍ:
“عبدالقادر” اللي مخليه متفرعن على الكل و نافش ريشه هو إن أيوب ابنه، اسمع مني بقى، اخلص من أيوب و كدا تبقى كسرت عبدالقادر و شوكته و جيبت عيلة العطار في الأرض
_نقتله ؟!”

 

 

قالها بلهفةٍ مستنكرًا قول الأخر الذي قال معنفًا له:
_بس يخربيتك هتودينا في داهية، يا سيدي ضربة سلاح أبيض في الشارع عند الجامع لا من شاف و لا من دري، اديك شايف منشفينها علينا ازاي و موقفين سوقنا قدام الحارة كلها، متخافش ساعة كدا و أنا اللي هنفذ، بس

 

تدفعلي ايجار المطواة، دي الغالية برضه
شرد “سعد” أمامه يقلب الحديث في رأسه و يحسب جوانبه و لكن غله و حقده تغلب عليه حتى حرك رأسه موافقًا بشرودٍ جعل الأخر يبتسم بظفرٍ ثم قام بإشعال القداحة و هو يقول بخبثٍ:

 

_ولع بقى و روق على نفسك و أنا هخلصك من الصداع دا كله
على الجهة الأخرى أنهى “أيوب” ما يفعله تمامًا ثم قال لمساعده في العمل أن يغلق المكان حتى يتوجه للمسجد يفتحه كعادته يجلس به حتى لمدة ساعة تقريبًا، لعل وعسى أن يأتِ من يطلب معاونته كما عُرِفَ عنه، خرج من المكان سيرًا على الأقدام يرتدي ملابس رسمية عبارة عن حلةٍ باللون الأسود أسفلها قميص باللون الأبيض و ذلك

 

لطبيعة عمله التي تفرض عليه ارتداء الملابس التي تتسم بالطابع الرسمي.
قبل أن يصعد الدرجات الصغيرة التي تؤدي إلى دخول المسجد، وقف يخرج مفاتيحه و في الخلف قام الأخر بفتح المطواة حتى يطعنه غدرًا من الخلف، لمعت عينيه بشرٍ و خبثٍ كما ينقض الصائد على فريسته، لكن تلك المرة هذه الفريسة بريئة تمامًا من الغدر فما مصير تلك البراءة التي تمتع بها ؟!.

يتبع….

 

 

_أغيبُ وذو اللطائفِ لا يغيبُ, و أرجوهُ رجاءً لا يخيبُ. وأسألهُ السلامة َ منْ زمانٍ, بليتُ بهِ نوائبهْ تشيبُ، وأنزلُ حاجتي في كلِّ حالٍ, إلى منْ تطمئنُّ بهِ القلوبُ.
_النقشبندي
_________________________

 

ثمة بعض الأشياء حينما تأتِ لكَ تَزدَهِر حياتك وكأنها وَجدت ما يُسرها من بعدَ العُسرِ، وثمة بعض الأشياء حينما تأتِ لكَ تشعر وكأن وجودها أصبح ثقيلًا على روحك وكأنك تحمل الأرض فوق صدرك، فما فائدة الأشياء المتأخرة أن تأتِ بعد انطفاء شوقك لأجلها، وما نتيجة الغياب إن كان الحضور باهتًا بدونها ؟؟.
_على الجهة الأخرى أنهى “أيوب” ما يفعله تمامًا ثم قال لمساعده في العمل أن يغلق المكان حتى يتوجه للمسجد

 

يفتحه كعادته يجلس به حتى ولو لمدة ساعة تقريبًا، لعل وعسى أن يأتِ من يطلب معاونته كما عُرِفَ عنه، خرج من المكان سيرًا على الأقدام يرتدي ملابسه الرسمية عبارة عن حلةٍ باللون الأسود أسفلها القميص باللون الأبيض و

 

ذلك لطبيعة عمله التي تفرض عليه ارتداء الملابس التي تتسم بالطابع الرسمي.
قبل أن يصعد الدرجات الصغيرة التي تؤدي إلى دخول المسجد، وقف يخرج مفاتيحه و في الخلف قام الأخر بفتح المطواة حتى يطعنه غدرًا من الخلف، لمعت عينيه بشرٍ و خبثٍ كما ينقض الصائد على فريسته، لكن تلك المرة هذه الفريسة بريئة تمامًا من الغدر فما مصير تلك البراءة التي تمتع بها.

 

 

أخرج مفاتيحه ثم وقف يسردها لينتقي منها مفتاح باب المسجد تزامنًا مع زحف الاخر على الدرجات الرخامية ثم مد يده بالسكين في ظهر “أيوب” ليطعنه _أو هكذا ظن _ حيث تفاجأ بكلمةٍ في وجهه جعلته يرتمي تقريبًا بجسده نحو ثلاثة درجات، فيما نزل “أيوب” كما الأسد الجريح بملامح وجه جامدة ثم أمسكه من تلابيبه يوقفه

 

مقابلًا له وعينيه تنطق بالشرر ثم قال بتهكمٍ:
_عيب يا “أمير”، مش “أيوب” ابن العطار اللي يتغفل على أيد عيل زيك، ولو كنت ناسي افكرك أني ياما بايدي دي علمت عليك زي ما بيقولوا كدا، مش علشان بقيت شيخ وبدخل بيت ربنا، يبقى تفكر اني ضعيف !! فوق علشان أنا معايا اللي اقوى مني ومنك، مـــفــهـوم ؟؟.

 

حرك الأخر رأسه موافقًا وقد بدأ الألم ينتشر في جسده كما انتشار السموم بالأوردة، فقام “أيوب” بلكمه برأسه في أنفه حتى صرخ الأخر بألمٍ وقد تركه “أيوب” على الأرض ثم اقترب من السكين يُغلقها وقال بنبرةٍ جهورية تهدجت من فرط انفعاله:

 

_خُد القرف بتاعك دا، دي يمسكوها اللي زيك، مش أنا، بس خليك فاكر حارة العطار كلها بابين وشباك، يعني تقول للي بعتك، أني هزعله بالجامد.
تحدث “أمير” بخوفٍ منه حتى خرجت حروفه غير مُنمقة بقوله:

 

_مـ…محدش باعتني، أنا…. أنا اللي جيت لوحدي.
رفع “أيوب” حاجبيه مُستنكرًا ثم سأل بتهكمٍ قاصدًا التقليل من الأخر:
_يا شيخ !! معقولة يعني شربت السيجارتين فهبت منك تيجيلي هنا تخلص مني ؟ ياأخي دي سيجارة غريبة أوي.
كان “أمير” ينظر له بترقبٍ، فوجده يقترب منه المسافةِ الفاصلة ثم حذره بقوله:

 

_روح قول لـ “سعد” أني هخليه مايشوفش يوم هنا في حياته بعد كدا، وأنه كدا جاب آخر ما عندي، واتكل بقى من قدامي علشان على أخري منك، غــور !!.
ركض “أمير” من أمامه بقوةٍ لم يعلم من أين أتت له، لكنه حقًا نجا بحياته ولاذ بالفرار من أمام “أيوب” وكما يُقال كُتُبتَ له حياةُ أخرىٰ يَحياها بعدما هرب من براثن عائلة العطار.

 

تنهد “أيوب” تنهيدةً حارة ثم استغفر ربه بنبرةٍ خافتة وعاد من جديد للمسجد يفتحه ثم دلف إلى المرحاض يتوضأ من جديد ليبدأ روتينه المعتاد.
خرج بعدما توضأ ثم اقترب من مُكبر الصوت يقوم بتشغيله كعادته على صوت الابتهالات التي اعتادت المنطقة بأكملها على سمعها منه بعدما يقوم بتشغيلها.

 

نسائم الليل الباردة وسكونه مع الصمت الدائر بالمكان، الطبيعة الهادئة في ذلك الليل لم يظهر منها سوىٰ صوت بعض الحيوانات كما مواء القطط و نباح الكلاب في الليل، خالط ذلك الهدوء صوت الابتهال لُِيُعبر عن نفوسٍ أكلتها وحشة الدُنيا، ومزقتها أنياب الواقع، لتكون تلك الكلمات بمثابة السكينة وهي تعبر عن أنفسهم يرجون من الله أن

 

يُديم لُطفه عليهم حيث صدح صوت الآتي:
_أغيب وذو اللطائف لايغيب
وأرجوه رجاءً لايخيبُ

 

وأنزل حاجتي في كلِّ حال ٍ
إلى من تطمئنُ بهِ القلوبُ

 

 

فكمْ للهِ من تدبير أمر ٍ
طوتهُ عن المشاهدةِ الغيوبُ
ومن كرم ٍ ومن لطفٍ خفي ٍّ

ومن فرج ٍ تزولُ بهِ الكروب
ومالي غيرُ بابِ اللهِ بابٌ
ولا مولىً سواهُ ولا حبيبُ

 

كريمٌ منعمٌ بَرٌّ لطيفٌ
جميلُ السَتر للداعي مُجيبُ
إلهي مِنكَ إسعادي وخيري

 

ومنك الجودُ والفرجُ القريب.
كانت تلك الكلمات تَصدح عاليًا تشق سكون الليل كما الثلج يُضاف على الحروق فيخمدها تمامًا، ويزول أثرها كُليًا، جلس “أيوب” يستند بجسده على العمود الرخامي في المسجد ثم أرجع رأسه خلفًا يتنهد بعمقٍ وقد لمعت العبرات في عينيهِ، كلما شعر بالضعف أو بالهوان، جلس هنا حيث أكثر الأماكن مَحبةً إلى قلبه، وفرجًا لكربه، لذا

 

استغفر ربه ثم وقف يُغلق الصوت ثم شرع في بداية صلاته كما اعتاد في جوف الليل، ينحني شكرًا للمولىٰ على تلك الفرص التي يوهبه له لتمنحه حياةً أخرى يتقرب فيها إلى الله سبحانه وتعالى، لذا سجد السجدة الأولىٰ وما

 

إن لمس جبينه الأرض وجد دموعه تنهمر لِتُبلل سجادة الصلاة وفقط استمر لسانه يردد:
_الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مُباركًا فيه.

 

 

شعور الراحةِ يجتاحه وكأنه يسكن قلبه، ليجد نفسه يتنفس الصعداء وكأنه النفس الأول والأخير منذ بداية ذلك اليوم.
_________________________

 

تحرك بسيارته مُندفعًا بحيرةٍ لم تستمر معه كثيرًا حيث حدد وجهته أخيرًا وقرر الذهاب إلى هُناك حيث هو، تواجده هناك أكثر ما يحتاج إليه حاليًا خاصةً بعد مكوثه في ذلك البيت حتى ولو لمجرد ساعاتٍ، لكنها كافيةً حتى تُثير استياءه وحنقه.
الأرض الرملية و السماء الواسعة والنجوم الواضحة، الاضواء العالية التي تتعامد على سفح الأهرامات البعيدة عنهم

 

_نسبيًا _ مكانٌ يبدو وكأنه لوحة طبيعية أبدع الفنان في رسمها، منذ وقوع بصرك عليها سواء ليلًا كان أو نهارًا، تجد نفسك غارقًا في تفاصيلها البديعة، ذلك المكان الذي عُرف بالخيول والفرسان حيث منطقة “نزلة السمان”.
شقت إطارات سيارته الأرض الرملية نحو وجهته وكأنه كما المحارب يغزو الطُرق ببسالةٍ، فصدح صوت أحد

 

الصبية في بداية شباب عمره ما إن لمح سيارته تقترب من البوابة الحديدية حيث ركض للداخل مُهللًا بفرحةٍ:
_الـغــريــب حـضـر، الــغـريـب وصــل، يوسف الغريب حضر هنا يا حــج نـعـيم.
وصله صوت ذلك الشاب فانتفض من مقعد مكتبه بلهفةٍ حتى فُتح الباب عليه وطل منه شابٌ أخر يقول ببهجةٍ ظهرت عليه كليًا:

 

_يا حج !! “يوسف الراوي” هنا.
_بجد يا “اسماعيل” ؟؟ حضر ؟؟
حرك رأسه موافقًا وقد زاحمت الضحكة ملامحه فيما تحرك الأخر يسحب عصاه الخشبية ثم عدل عباءته على كتفيه وتحرك للخارج و ذلك الشاب خلفه يسير بثباتٍ كظله.

 

أوقف “يوسف” سيارته ثم سار للداخل مع من أرشده للبيت، حيث ذلك المكان الذي يشبه القصور متأثرًا بالطابع الفرعوني الذي يَغلب عليه، ليكون كما المزيج بين الحضارتين، كان يسير الرجل أمامه وهو خلفه بثباتٍ وثقةٍ حتى

 

التقت نظراته بنظرات الأخر الذي وقف في انتظاره مُتخليًا عن مكانته وقيمته التي تجبر الجميع على تنفيذ أوامره، ولأول مرّةٍ ينزل هو بنفسه ينتظر شخًصا ما، لكنه دومًا حالة استثنائية وسط الجميع، لذا تُفتح له كل الأبواب حتى أبواب القلوب وإن قصد الناس إوصادها في وجهه.
غريبٌ وطأت قدماه إلى هنا ولم يكن يومًا عنهم غريبًا، اعتاد على الغُربةِ لكن هنا !! قد يحسبه موطنه الأصلي، وإن لم

 

يبالغ في الأمر لقام بإلغاء كل ما سبق واحتسب فقط حياته من اليوم الذي أتى به إلى هنا.
لم يمانع نفسه من الابتسام وهو يقترب من “نَـعيـم” الذي فرق مابين ذراعيه قائلًا بنبرةٍ غَلُبَ عليها الشوق:
_وحشتني يا غالي يا ابن الغالي.

 

اقترب “يوسف” منه يحتضنه مُربتًا على ظهره ثم نطق بصوتٍ مختنقٍ ما إن التقىٰ بذلك الرجل:
_أنتَ اللي وحشتني، مقدرتش أكون هنا أكتر من كدا وماجيش ليك.
ربت “نَـعـيم” على ظهره وهو يمسك عصاه، ثم ابتعد عنه يبتسم له ويشبع من ملامحه، بينما “اسماعيل” اقترب من

 

“يوسف” يعانقه وهو يقول بنبرةٍ طغىٰ عليها المرح أثناء الترحيب:
_دي الخيول كلها رقصت من فرحتها بيك يا “غريب” كل دي غِيبة عن أهلك ؟؟ وحشتنا يا سيدي.
ابتسم “يوسف” ثم رفع ذراعيه يبادله العناق وهو يقول بنبرةٍ شبه ضاحكة لم تخلو من مرحها:

 

_ماهو أنا جيت ارقص الخيول دي، والله أنتَ اللي وحشتني، أنتَ وحبايبك.
غمز له بعدما لمحَ بحديثه الذي جعل الأخر يضحك بصوتٍ عالٍ، فيما رفع “نَـعـيم” صوته لأحد رجاله بقوله:
_”دوشة” تدخل تقول لـ “سمارة” و الستات جوة يحضروا العشا علشان “يوسف الراوي” هنا وحد يطلع يتمم على

 

اوضته، حمامة يلا.
تحرك الرجل من أمامه فيما نطق “يوسف” يمنعه بقوله:
_ملهوش لزوم يا حج، أنا مش مطول هنا وهمشي علطول.
أشار له بالصمت وفقط تحدث بكلمةٍ واحدة موجزًا قوله:

 

_ورايــا.
تنهد “يوسف” باستسلامٍ ثم تحرك خلفه ويجاوره “إسماعيل” الذي ابتسم ثم وضع يده على كتف الأخر يسيران بجانب بعضهما.
_”نَــعـيم الحُـصري”

 

تاجر الخيول العربية في منطقة نزلة السمان ويعد من أكبر روادها بل تشتهر المنطقةِ به و باسمه هو، يعتبر الأب الروحي لـ “يوسف الراوي” حيث جمعتهما صدفةٌ نتج عنها تواجد “يوسف” معه بصفةٍ شبه دائمة.
رجلٌ رغم صرامته و جديته، إلا أنه رقيق القلب عطوف بدرجةٍ كُبرىٰ، ملامحه حادة إلى درجةٍ كُبرى، عينيه رُمادتين

 

اللون، يخالط الشيب رأسه، بشرته بيضاء بدرجةٍ طبيعية، يملك العديد في منطقة نزلة السمان من اسطبلات الخيول أو المقاهي العامة، أو تلك التي أُشتهرت أخيرًا بـ “خِـيم الجلوس” حيث قام بفتح العديد منها بقرب الأهرامات على الطريقة البدوية، ومنها ماهو حديث حيث الكافيهات الفاخرة، يملك حشدًا من العُمال، أساسهم “إسماعيل الموجي” ابن رفيقه الذي توفىٰ منذ فترةٍ كبرىٰ.

 

كان له ابنان، الكبير فقده إثر ظروفٍ غامضة، والأخر مشاكس ومغامر، تركه برغبته وابتعد عنه حتى ينعم بعيشةٍ تمناها هو ولم يجدها في المكوث مع أبيه.
دلف “نَـعـيـم” غرفة الجلوس بالشباب وهو يقول مُرحبًا به:

 

_نزلة السمان وبيت “الحُصري” نوروا بوجودك تاني، طلتك هي نفسها طلة المرحوم، ربنا يطول في عمرك يا حبيبي.
أبتسم له “يوسف” ثم قال بصوتٍ رخيم:
_افتكرت أول مرة جمعتني بيك، وتاني مرة الظروف لاقتنا سوا، المرة الأولى قولتلي هعتبرك ابني، والمرة التانية

 

نجدتني، كأنك بتقولي إن حتى وهو ميت مأمن ضهرك.
ربت على كتفه ثم نطق بحديثٍ حاول اخفاء تأثره به ناطقًا:
_وهو دا اللي حصل إنه فعلًا أمن ضهرك، و أمني معاك بوجودك.
أرجع “يوسف” رأسه للخلف سامحًا لنفسه أن تغوص في الذكريات البعيدة حينما كان في صغره مُرافقًا لوالده.
(منذ أعوامٍ كثيرة مضت)
كان “مصطفىٰ” جالسًا بجوار “نَـعيم” في مزرعته الخاصة بتربية الخيول، يتابعان العمل الذي أوشك “مُصطفىٰ” على إقامته مع “نَـعـيم” و “يوسف” تقريبًا في العام التاسع من عمره يجلس على الأرجوحة الحديدية يتابعهما بنظره.
فجأة ركض أحد الرجال من الداخل يقترب من موضعهم وهو يقول بلهفةٍ:
_يا حج “نعيم” يا حج، ولدت، “أصيلة” ولدت أخيرًا.
انتقض “نعيم” من مكانه يقترب من الرجل يسأله بلهفةٍ:
_متأكد يا “هاشم” ؟؟ ولدت بجد.

حرك رأسه موافقًا وهو يضيف بفرحةٍ:
_والله العظيم ولدت و الدَكتور معاها جوة، جابت مُهرة.
ابتسم “نعيم” ثم التفت لذلك الصغير الذي يراه لمرته الأولىٰ ثم أمسك وجهه بكلا كفيه وهو يقول بامتنانٍ مُتفائلًا بتواجده:
_وشك وش خير با ابن “الراوي” الحمد لله كنت فقدت الأمل أنها تعيش، تعالى معايا !!.
سأله “مُصطفى” من الخلف بحيرةٍ طغت عليه من تلك الأجواء الغريبة:
_أنا مش فاهم حاجة يا حج “نعيم” مهرة مين ؟! و “أصيلة” مين ؟؟
التفت برأسه دون أن يُفلت يداه عن وجه الصغير يجاوبه بتفسيرٍ:
_”أصيلة” دي الفرسة مرات “أصيل” ولادتها كانت صعبة والدكتور كان خايف، بس وش الخير “يوسف” ابنك بقى المشكلة اتحلت، الخير على قدوم الواردين.
ابتسم له “مُصطفىٰ” فيما نطق “يوسف” بلهفة طفلٍ صغير العمر تبدو عليه البراءة:
_يعني الحصان بقى عنده نونو؟.
ضحك عليه “نَـعيم” بصوتٍ عالٍ، بينما ابتسم “مُصطفىٰ” بيأسٍ من حديث ابنه، فتحدث الأول بعدما أمسك بكف الصغير:
_تعالى معايا بقى نطمن عليها سوا، و نشوف هنسميها إيه”
حرك رأسه موافقًا ثم هتف ببراءةٍ:
_عمو ينفع نكون صحاب ؟؟.
التفت له “نَـعيـم” يطالعه بتأثرٍ بينما “مُصطفى” هتف بسخريةٍ:
_أنتَ عاوز تصاحب أي حد وخلاص يا “يوسف” يابني عمو كبير وأنتَ صغير.
رد عليه “يوسف” بدهاءٍ:
_طب ما أنتَ كبير وصاحبي برضه.

مشاكسته منذ الصغر واضحةً للجميع، لذا أُعجب “نَـعـيم” به و بفصاحته ورأىٰ به طفله المفقود، لذا حمله على يده ثم قال بثباتٍ وقد قرر الآتي:
_ابني، يشرفني إنك تكون ابني يا “يوسف” دا بعد إذن بابا طبعًا.
تحدث “مُصطفىٰ” بودٍ يقول:
_من غير ما تقول دا شرف ليا وليه كمان، إبنك وينول الشرف دا.
تحرك “نَـعيم” بالصغير على يده وتبعه “مُصطفى” حتى وصل إلى غرفةٍ جدرانها أسمنتية و ارضيتها مُغطاةٌ بالتِبن، تتخللها أشعة الشمس من خلال حديد النافذة العالية التي استقرت أعلى جدارها الرئيسي.
كان “يوسف” يستقر على ذراع “نَـعيم” وما إن دلف ورآى المُهرة الصغيرة هتف بفرحةٍ غلفها حماسه:
_الله دي صغيرة وشكلها حلو أوي، بص يا بابا عاملة إزاي ؟؟
اقترب “مُصطفى” يرى ما أشار له ابنه، وما إن رآها ابتسم بتأثرٍ وهو يقول بإعجابٍ:
_سبحان الله، خلق كل شيء وقدره بالتمام، سبحان الله.
طبع “نعيم” قبلةً على وجه “يوسف” ثم سأله بمرحٍ:
_ها !! هتسميها إيه يا بطل؟؟.
فكر “يوسف” قليلًا ثم أشار باصبعه يهتف بحماسٍ شديد:
_”شَــمس” !! هسميها “شمس”

نال الاسم اعجاب الحاضرين، وأكثرهم “نعيم” الذي نظر لها ثم قال بنبرةٍ هادئة:
_”شمس الأصيل”
قال بنبرةٍ بها الكثير من الزهو، ثم التفت ينظر للصغير على يده قائلًا:
_حلو اسمها زيك تمام، أول مرة أشوفك بصحيح بس قلبي اتفتحلك وكأني معاك من سنين.
ابتسم له “يوسف” ثم قال بمراوغةٍ:
_طب هتديني حصان من بتوعك؟
تدخل “مُصطفى” يقول بنبرةٍ ضاحكة:
_هو يعني علشان سميت المُهرة يبقى تاخد قصادها حصان ؟؟ إيه الاستغلال دا ؟؟.
قاطعه “نَـعيم” بقوله:
_سيبه يا أستاذ “مُصطفى” وعد مني اول ما “شمس” تولد أنتَ اللي هتاخد أول ولدة وتكون كبرت وشديت حيلك وبابا ييجي يعلمك هنا، تمام ؟؟.
حرك “يوسف” رأسه مومئًا بينما “مُصطفى” تابعه بوجهٍ مبتسمٍ.
كانت تلك هي المقابلة الأولى التي جمعتهم سويًا، ولربما كانت الأخيرة أيضًا حيث مات والده من بعدها وانقلبت حياته رأسًا على عقبٍ ولم تجمعه بعدها سوىٰ صدفةٌ أحيته من جديد ولربما كُتِبَت له بها حياةٌ أخرىٰ.
وصل “يوسف” لعمر السادس عشر تقريبًا من سنون عمره حيث أكمل الباقي من بعد وفاة والده مع عائلة “الراوي” للأسف الشديد، وظل بكنفهم _غير أمنًا” بل مُهانًا وسطهم حتى حدث الآتي:

تشاجر “يوسف” مع أحد الشباب من عمره في سن السادس عشر، و وصلت المشاجرة إلى الضرب المشحون بالغضب وإهانة “يوسف” بإنه عالةً على العائلة وقد دفعه الشاب وهو يقول بقسوةٍ:
_أنتَ هتساوي نفسك بيا يا جربان ؟؟ دا أنتَ عالة عليهم كان زمانك مرمي في الشارع مش لاقي تاكل.
حديثه جعل النيران تنشب في صدره لذلك وبدون تفكير هجم على الشاب ثم ألقاه أرضًا وهو فوقه ينهال على وجهه باللكمات المتفرقة وقد كان بارعًا في تسديد اللكمات حيث علمه والده قبل رحيله تلك الرياضة.
استمر في ضربه للشاب في طريق المدرسة الثانوية حتى إجتمع المارة وفصلوه أخيرًا عن الشاب، بينما هو لهثَ بقوةٍ و بغلٍ دفين، حتى اقترب أحد المارة من المُسجى أرضًا يتفحصه، فقال بخوفٍ:
_دا شكله بيموت !!.
احتلت الدهشة ملامح “يوسف” وقد تفاجأ بالناس يكبلون حركته ومن ثم بعدها تم نقله إلى قسم الشرطة باعتباره مُجرمًا في حق الشاب.
علمت عائلته وعائلة الشاب أيضًا الذي عادت له حياته من جديد لكن والده أصر على تلقين “يوسف” درسًا قاسيًا وعدم التنازل عن حق ابنه، لذا قدم به بلاغًا و أصر على دخوله ما يُطلق عليها الأحداث، وهي عبارة عن سجنًا لصغار السن و المراهقين الذين يرتكبون الجرائم.
وضِع “يوسف” في الاحداث لمدة تقريبًا شارفت على الشهر دون أن تتدخل عائلته في ذلك أو حتى يحاولون إخراجه من ذلك المأزق بالطبع عدا “فاتن” التي حاولت كثيرًا مع أسرة الشاب لكن كل محاولاتها ذهبت هباءًا.
ذات يومٍ في مكان التحقيقات وقف “يوسف” ينتظر دخوله لاستئناف التحقيق معه، ينتظر في الرواق و يده مُكبلة بالأصفاد الحديدية، يفكر في الخروج من ذلك المأزق، وكأن الله أراد أن يبشره في نفس اللحظة حيث خرج “نَــعيم” من الغرفة المجاورة لمكان وقوفه، وصوت الضابط يقول بودٍ:

_اعتبر كل حاجة خلصت و الأوراق كلها يا حج “نعيم” كفاية مِجيتك لهنا.
ابتسم له “نَعيم” وقبل أن ينطق رفع “يوسف” صوته قائلًا:
_عــمــو “نَــعيـم”.
التفت “نعيم” إلى صاحب الصوت يطالعه بتعجبٍ، بينما هو قال بلهفةٍ:
_أنا “يوسف” ابن “مصطفى الراوي”
اتسعت عينيه بدهشةٍ واقترب منه بخطواتٍ واسعة يضرب الأرض أسفله، لم يصدق ما تراه عينيه، لقد تغير صوته و ملامحه أيضًا حيث بدت عليه علامات سن المُراهقة و صوته الذي بدا خَشنًا كعلامة من علامة البلوغ.
سأله “نَـعيم” بلهفةٍ:
_إيه اللي عمل فيك كدا !! ومين اللي جابك هنا وفين أهلك ؟؟.
قام “يوسف” بسرد الموقف موجزًا في التفاصيل الهامة، بينما الأخر كان يستمع له لايصدق ما حدث، لذا التفت للضابط الواقف خلفه ينطق بلهجةٍ أمرة:
_أنا عاوز أعرف مين المسئول عن كل دا ؟؟ ازاي تسجنوا شاب زي دا لسه في بداية عمره ؟؟؟.
رد عليه الضابط بصوتٍ مضطرب خشيةً من نفوذه الطائلة:
_مش عارف والله يا حج، بس طالما الموضوع هنا في القسم مراحش النيابة تبقى محاولة إن شاء الله، متقلقش أنا هنا.
تحولت نظراته إلى أخرى بثت الرعب بداخل الأخر وهو يقول:
_قسمًا برب الناس لو الليلة دي “يوسف” مخرجش من هنا لأكون مطربق الدنيا على دماغ ابوكم كلكم، ســمــعت !!.
حرك رأسه موافقًا ثم تحرك من أمامه نحو مكتب الضابط الأخر بينما “نــعـيم” التفت له يحتضنه وتحدث بنبرةٍ جهورية:
_متخافش….. أنا معاك.
تلك هي العبارة الاصدق التي سمعها في حياته، فهو حقًا لازال معه يحميه و يحافظ على حياته بل حارب لأجله أيضًا حتى انتهى الموضوع أخيرًا ودفع مبلغًا ماليًا لأسرة الشاب و للمحامي حتى ينتهي من الاجراءات دون أن يتلوث حتى اسمه أو اسم “يوسف” الذي حصل على حريته من جديد بعدما جلس قُرابة الشهر في تلك الزنزانة بكائبتها و بؤسها، وكم كان الغريب حنونًا عليه أكثر من ذويه.

(عودة إلى الوقت الحالي)
صوت طرقعة أصابع وصله يُخرجه من شروده، حتى انتبه هو ثم تقدم بحسده بعدما كان يجلس مُرتخيًا فسأله “إسماعيل” بتعجبٍ:
_روحت فين يا عمنا !! خير؟؟
ابتسم له ثم نظر لـ “نَـعيم” يقول بصوتٍ مُحشرجٍ:
_روحت في اللي فات وجمعني بيكم هنا، افتكرت أول مرة أشوف فيها الحج، وتاني مرة لما خرجني من الأحداث.
ربت “نَـعيم” على كتفه ثم نطق:
_ربنا يبعد عنك الأذى و المؤذيين.
مال “يوسف” للأمام قليلًا يقول بثباتٍ:
_لسه فاكر الكلام اللي قولتهولي لما جيت معاك هنا، منستهوش، فاكره يا حج ؟؟.
ابتسم له بقلة حيلة وكأنه يقول له ” كيف لي أن أنسى”، بينما الأخر تحدث بنفس الشموخ قائلًا:
_المراكب الراكدة وسوقها واقف، يوم ما بيفيض بيها من حالها الواقف، بتعايب المراكب السايرة إنها دايرة بَطال، لو المراكب السايرة وقفت زيها وسمعت كلامها وسلمت بيه، يبقى كدا هي عملت اللي هي عاوزاه و وقفت حالها زيها ، أوعى تكون مركب واقفة أو حتى مركب سايرة بتسمع كلام حد، اسمع نفسك وبس، ولو مركبك وقفت في يوم شوف غيرها وافتكر إن الدنيا دي ملهاش عزيز وإلا سيدنا آدم مكانش نزلها لما اتفتن بيها.
ربت “نَـعـيم” على كتفه ثم قال بنبرةٍ ضاحكة:

_وأنتَ اتعلمت الدرس صح، لدرجة إنك حتى مبقيتش تسمعني أنا، بس على مين مش عليا يا ابن الراوي.
_________________________
خرج “أيوب” من المسجد وأغلقه ثم عاد في طريقه إلى منزله حتى وصله في الليل فوجد “عبدالقادر” جالسًا في انتظاره بردهة البيت الأسفلتية، فمر عليه “أيوب” يُقبل كفهِ ثم سأله بوجهٍ مبتسمٍ:
_صاحي ليه لحد دلوقتي؟؟ عاوز حاجة ولا إيه ؟؟
حرك رأسه نفيًا ثم رد عليه بقلة حيلة:
_مستنيك، تليفونك بيتقفل ومش بعرف أوصلك و قلبي بيوجعني عليك، كويس إنك بخير.
جلس “أيوب” أمامه ثم حمحم بخشونةٍ و أخرج من جيبه الظرف الأبيض يمد يده له به قائلًا:
_اتفضل دي أمانة وصلتك.
أخذه منه “عبدالقادر” وقد ضاقت المسافة بين حاجبيها وبدا مُتعجبًا، فأضاف الأخر مُفسرًا:
_دي جاية من بيت الاستاذ “فضل” بعتهم مع بنت أخته.
ابتسم “عبدالقادر” ثم قال بنبرةٍ ظهرت بها ضحكاته:
_آه….”قــمـر” ؟؟
حرك رأسه موافقًا وهو يبتسم ثم قال بسخريةٍ:
_هي، وخلي بالك بقى وكلمه أشكره علشان متجيش تفضحني، دي بقت عارفة عني كل حاجة، وأنا أسطى “أيوب” بتاع القُلل.
ضحك “عبدالقادر” بصوتٍ عالٍ فيما ابتسمت “أيوب” بسخريةٍ وسأله بتهكمٍ:
_يا سلام !! عجبتك أوي؟؟.
حرك رأسه موافقًا فتنهد “أيوب” بقلة حيلة ثم نطق مُغيرًا مجرىٰ الحديث:
_المهم صح، عملت إيه مع “أيمن”؟
حرك كتفيه ببساطةٍ ثم قال مُستسلمًا:

_ولا أي حاجة، كتبتله القايمة بسعرها بكل حاجة، يمضي عليها و يجيبها، نكتب الكتاب.
ضاقت نظرات “أيوب” نحو والده ثم سأله بقلقٍ بالغٍ:
_مش عارف ليه يا “عبده” مش مرتاحلك ؟؟ قلبي بياكلني كدا وحاسس إننا هنتغفل كلنا.
أشار نحو نفسه مستنكرًا مُرددًا:
_أنا يابني !! ربنا يسامحك.
حرك “أيوب” رأسه موافقًا صعودًا و هبوطًا وقد ارتسمت السُخرية على ملامح وجهه واضاف مؤكدًا:
_يبقى شكي في محله، على العموم أنا عارف إن دماغك توزن بلد، وعارف إنك لا يمكن تضر حد فينا، علشان كدا توكل على الله طالما نيتك خير يا حج.
سأله “عبدالقادر” بنبرةٍ خافتة:
_طب بما إنك بقى بتثق فيا، شايف إن “إياد” يستاهل “أماني”؟
فهم مقصد والده فتنهد بعمقٍ ثم تحدث بحكمةٍ وتعقلٍ:
_علشان مشيلش ذنب حد أنا اغتبته، معرفش، بس الواضح إنها مش قادرة تحافظ على بيتها يا حج، عندها نِعم كتير أوي غيرها يتمنوها، والحمد ربنا كرمنا من وسع، و “أيهم” مش مخليهم محتاجين حاجة، بس هي مخلياهم محتاجين حنية دايمًا، ابنها دا هي متعرفش عنه حاجة أصلًا وسايباه لـ “آيات” و الست “وداد” هو نفسه مش مركز معاها، بالعكس طول ماهي هنا هو زعلان من طريقتها و غيرتها من “آيات” معرفش ليه؟؟.
سأله باهتمامٍ:
_يعني شايف إنها مترجعش هنا تاني ؟؟
حرك كتفيه وضم شفتيه بحيرةٍ ثم أطلق زفيرًا قويًا تبعه بقوله:
_مقدرش أحكم، دا قرار “أيهم” لوحده لو هو مبسوط برجوعها يرجعها وربنا يهدي الأمور إن شاء الله.
ابتسم “عبدالقادر” بسخريةٍ ثم ارجع ظهره خلفًا وهو يقول:

_أنا قولت أنتَ مش هتوافق تعتب البيت دا تاني بعد ما اتبلت عليك قبل كدا في أول جوازها، ساعتها لولا إنك حلفتني كان زماني خارب بيتها.
اقترب منه “أيوب” وقد ارتسم الخبث على ملامحه وهو يقول بنبرةٍ خافتة:
_الناس فاكرة ابنك عبيط علشان مربي دقنه و شيخ مسجد وفاكرين أني معرفش حاجة، أو زاهد في الدنيا، بس محدش فيهم واخد باله إن ربنا منور بصيرتي بكشف عباده، هي حبت تحس أنها محور اهتمام وإني كراجل تقي قادرة هي تلفت نظري وإني ببص عادي وعيني بتخوني، بس نسيت أني ابن العطار، علشان كدا جيتلك أنتَ، و أهو ربنا هداها، عقبال ما تتهد خالص.
ابتسم له “عبدالقادر” ثم قال بغلبٍ على أمره:
_لم و شيل يا “عبدالقادر”.
ابتسم له الأخر فيما اقترب منه يمازحه بقوله:
_بقولك إيه يا اسطى “أيوب” ما تقوم تعملنا كوبايتين لمون بالنعناع من بتوعك كدا خلينا نروق شوية من السيرة الغم دي.
ضحك “أيوب” رغمًا عنه ثم تحرك من مكانه يقبل رأس والده وقال بعدها بمرحٍ:
_عيني هغير هدومي وأجي أعملهولك، عاوز حاجة تاني؟؟.
حرك رأسه نفيًا وهو يبتسم له، فيما تحرك الأخر من أمامه نحو الداخل ليبتسم في أثره بحنانٍ على كل لحظةٍ أوشك بها على فقدان ذلك الملاك كما يُلقبه هو، فلو استطاع لقضى عمره بأكمله ساجدًا للمولىٰ على رأفته بابنه.
_________________________
في الطابق الثاني بنفس البيت كان “أيهم” جالسًا على الأريكة و أمامه بعض الأوراق و الدفاتير التجارية الخاصة بعملهم يُمعن كامل تركيزه بها ويدون في دفتره الخاص أدق التفاصيل.
خرج له “إياد” من غرفته يجلس بجواره صامتًا، فانتبه له لذلك أغلق دفاتره ثم سأله باهتمامٍ:
_صاحي ليه لحد دلوقتي يا باشا؟
رد عليه بضجرٍ:
_”آيات” زعلانة تحت ونامت من بدري و “أيوب” مكانش هنا، و أنتَ بتشتغل وجدو كان قاعد معاه ناس، زهقت.
حمله “أيهم” يجلسه على قدمه ثم مسح على وجهه وقال:
_بعد الشر عنك من الزهق، طب إيه يرضيك نعمله علشان متزهقش؟؟.
حرك كتفيه بحيرةٍ وسرعان ما جال بخاطره فكرةٌ لينطق بحماسٍ:

_ممكن نعمل حاجة حلوة هنا ؟؟ أو ننزل ناخد من تحت عادي فيه كتير ؟؟ بس تسهر معايا !!.
رفع “أيهم” حاجبه الأيسر ثم قال بنبرةٍ بدت شريرة للصغير:
_حاسس إن فيه اشتغالة في الموضوع مش قادر أحط ايدي عليها، بس ماشي، وبما أنك فاشل زي اللي خلفك بالظبط يبقى ننزل ناخد من تحت، موافق ؟؟؟
حرك رأسه موافقًا وهو يقول:
_اشطا يلا بينا.
امتعض وجه “أيهم” ثم زفر بيأسٍ وحمله على كتفه وهو يقول بنبرةٍ ضاحكة:
_على الله بس منلاقيش حد منهم تحت قام بالواجب، ادعي يا وش الفقر.
نزل “أيهم” بابنه نحو الأسفل وهو يحمله على كتفه، فتحدث “عبدالقادر” بضجرٍ:
_ولما يقع من إيدك ؟؟ نزله وشيله عِدل بعد كدا.
أنزل الصغير ثم جلس بجواره يقول بمشاكسىةٍ:
_إيه يا “عبده” جرى إيه ؟؟ خايف عليه ومش خايف عليا وأنا شايله ؟؟ مين فينا اللي ابنك؟
نطق “عبدالقادر” وهو يسحب الصغير لعناقه يطوقه بذراعيه:
“أعز الولد ولد الولد، يعني هو أعز منك عندي، هديت كدا ؟؟.
حرك كتفيه ببساطةٍ وكأن الأمر لا يعنيه، بينما “أيوب” خرج من المطبخ في يده دَورق العصير وبجواره الكاسات الفخارية التي صنعها هو بيده، وتحدث بتهكمٍ:
_رغم إن مفيش إشارة لكدا، بس، واضح إن حماوتكم بتحبكم يعني، اقعدوا اشربوا العصير معانا.
سأله “إياد” بلهفةٍ:
_الحلويات اللي هنا فين يا “أيوب” ؟؟ أنا نازل علشانها.
وضع “أيوب” الصينية على الطاولةِ أمام والده، ثم اقترب من الصغيب يحمله وهو يقول بمرحٍ:
_مفيش حلويات هنا غيرك يا حلويات، هات بوسة لعمو ياض.

قبله “إياد” على وجنته وهو يضحك بسعادةٍ فيما دار به “أيوب” أمامهم وبضحكةٍ واسعة وصل صداها لأرجاء البيت، يُريد “أيوب” أن يؤازره فهو يشعر به حينما مر بما يمر به الصغير بعد فقدان والدته، لكن الفرق هنا أن والدة ذلك الصغير تركته عمدًا، بينما الأخرى اخذها منه المرض.
_________________________
في اليوم التالي وسط النهار صدح صوت هاتف “أيهم” في محله وهو يجلس مع بعض التجار يرتدي حِلته الرمادية المُفصلة لديه، وقد انتهت المقابلة عقبها دخول “بيشوي” له وما إن رآه قال بخبثٍ:
_الله !! لابس البدلة الرمادي اللي بتحبها ؟؟ أيوا يا عم الليلة عيد ورايح ترجع العروسة.
رفع “أيهم” حاجبه وكأنه يحذره من التكملة بتلك الطريقة، فجلس “بيشوي” على المقعد المجاور لمكتبه وهو يقول بخنوعٍ بعد نظرته تلك:
_خلاص !! متكشمليش كدا، المهم يلا علشان نروح البيت عندي، علشان تاخد أمي و “ڤيولا” معاك.
تنهد “أيهم” ثم أخذ مفاتيحه و هاتفه و اغلق درج مكتبه ثم تحرك مع الأخر نحو بيته الذي يقرب بيتهم بخطواتٍ بسيطة.
فتح “بيشوي” البوابة الحديدية للمنزل حيث يسكن في أحد الأبراج الخاصة بـ “عبدالقادر” هو و أسرته بأكملها، تحرك أولًا نحو شقة والدته و الأخر يقف بجواره، وجد والدته تجلس أمام التلفاز وأمامها طبق التسالي و هناك صغيرين يركضان خلف بعضهما فرفع صوته بنبرةٍ جامدة يقول:
_ولا !! اقعد منك ليها بقى، فين ماما ؟؟.
اقترب منه الصغير يقول وهو يلهث بنفسٍ متقطعٍ من فرط الحركة:
_ماما جوة بتكلم بابا يا خالو، اجيبهالك ؟؟.
حرك رأسه موافقًا ثم قال:
_روح قولها خالو برة ومعاه عمو “أيهم” بسرعة يا “أبانوب”.
ركض الصغير نحو الداخل، بينما الفتاة اقتربت منه بدلالٍ وهي تقول:

_وحشتني يا خالو.
ابتسم لها ثم حملها وهو يقول بنبرةٍ ضاحكة:
_وأنتِ يا عيون خالو، شوف برضه يا أخي البنات دلع وعز إزاي ؟؟ مش الطحش اللي جوة متفش في وشي حتى.
ضحك “أيهم” ثم قال بسخريةٍ:
_خليه هو و التاني كرفوا على بعض، ربنا يهديهم، و يهديكي يا “كاترين” أنتِ كمان.
ردت عليه بحنقٍ:
_اسمي “كاتي” يا عمو “أيهم”
قبل أن يرد عليها التفتت لهما “تريز” تقول بحنقٍ:
_مش عارفة أسمع المسلسل أسكت يا حيوان منك ليه !!.
اقترب منها “أيهم” يجلس بجوارها وهو يقول بتهكمٍ:
_يا شيخة ؟؟ ماهو محدش بيسمع المسلسل، بيتفرج عليه بس، قومي يا “تريز” البسي يلا.
زفرت هي بقوةٍ في وجهه ثم قامت بضجرٍ تقول وهي تتحرك من موضعها:
_أنا تعبت منك يابن “رقية” اللي مصبرني عليك المرحومة أمك غير كدا كان زماني حطيت صوابعي في الشق منك.
دلف للداخل، فأتت ابنتها تسألهما بضجرٍ:
_نعم يا أساتذة !! خير ؟؟
تحدث “بيشوي” بقلة حيلة قائلًا:
_هتروحي ترجعي “أماني” مع أمك، يلا علشان المحروس لو راح لوحده هيعك الدنيا.
ردت عليه تقترح ببساطةٍ:
_طب ما يطلقها ويخلص !! البنات كتير وفيه ألف واحدة تتمناه.
التفت لها “أيهم” يقول بسخريةٍ:

_هاتيلي ياختي واحدة من الألف دول وأنا موافق، مش لاقي.
ابتسمت له وقبل أن تتحدث خرجت “تريز” من الداخل وهي تقول بقلة حيلة:
_يلا قدامي، صبرني يارب على المشوار الأسود دا.
سألتها “فيولا” بتعجبٍ:
_يعني هروح معاكم و أسيب البهوات دول هنا ؟؟ لأ طبعًا دول توأم عامل زي القط والفار.
تحدث “أيهم” مُسرعًا:
_وديهم البيت عندنا يلعبوا في الجنينة مع “إياد” واحنا راجعين خديهم، يلا بس.
بعد مرور دقائق وقف “بيشوي” أمام بيت “العطار” بالصغيرين في يده، حتى خرجت له “وداد” فقال هو بوجهٍ مبتسمٍ:
_معلش يا ست “وداد” هتعبك، دخليهم الجنينة مع “إياد” و ماما و “فيولا” هياخدوهم وهما ماشيين.
حركت رأسها موافقةً ثم أخذتهما منه، فخرجت لهم “مهرائيل” وحينما وقع بصرها عليهما ركضت نحوهما بحماسٍ تقول:
_يا كتاكيتي، وحشتوني اوي.
ركضا نحوها كليهما، بينما “بيشوي” ابتسم بسعادةٍ وقد التقت نظراتهما سويًا وهي تبتسم بخجلٍ، فتحدث هو يشاكسها:
_منورة يا “هيري”
كتمت ضحكتها ثم تصنعت الثبات وهي تقول بنبرةٍ تعمدتها جامدة:
_بنورك يا أستاذ “بيشوي”
رفع حاجبيه مستنكرًا ثم تحرك من المكان وهو يقول بثباتٍ قاصدًا إثارة استفزازها:
_متتشاقوش ومحدش فيكم يزعل طنط “مهرائيل” تمام ؟؟.
شهقت هي بقوةٍ فيما ترك المكان ورحل وهو يضحك على رد فعلها المبالغ فيه، بينما هي ضربت الأرض بقدميها، ثم دلفت للداخل بالصغيرين تسحبهما خلفها.
_________________________

في شقة “أماني” زوجة “أيهم” وصل هو ومعه الامرآتين، فتحدثت “تريز” بنبرةٍ هادئة:
_أظن أنتِ مش صغيرة كل شهر هاجي أخدك من هنا، عيب كدا، وابني أنا عرفاه كويس، “أيهم” تربيتي أنا يعني مش اي حد، أظن تعقلي كدا وترجعي بيتك.
قبل أن ترد عليها هي تدخل “شكري” شقيقها يقول بنبرةٍ جامدة:
_أختي مش هبلة علشان كل شوية تغضب، هي بتغضب لما بيفيض بيها وتجيب أخرها.
تحدثت “تريز” بعدما أمسكت كف “أيهم” تمنعه عن الحديث:
_و هي السنة كلها فايض بيها ولا إيه ؟؟ ليه إن شاء الله أختك السد العالي ؟؟.
كتم “أيهم” ضحكته ثم سألها بجمودٍ برع في اصطناعه بقوله:
_يا بنت الحلال هترجعي معايا ولا لأ ؟؟.
نظرت في وجه أخيها فحرك رأسه نفيًا و نظراته تُحذرها من القبول، فتحدثت هي بصوتٍ مُضطربٍ:
_لأ مش هرجع يا “أيهم” أنا مش مرتاحة في البيت هناك وحاسة أني في سجن، معلش يعني مش هقدر آجي على نفسي.
وقف “أيهم” بعدما تنفس بعمقٍ ثم أبتسم لها وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_حقك يا “أماني” وحقي برضه أني أقدر نفسي وأبطل أهينها اكتر من كدا.
توقف عن الحديث يتابعها وهي تطالعه بحيرةٍ فيما أضاف هو بثباتٍ:
_أنــتِ طـالـق.
تفوه بها بثباتٍ وكأنه يُلقي عليها التحية، بينما أمها لطمت على وجهها تزامنًا مع قولها بنبرةٍ أقرب للصراخ:
_يا مُصيبتي السودا !!!.

نظرت له “فيولا” بدهشةٍ وكذلك والدتها التي ضربت كفيها ببعضهما، فتحدث هو بنبرةٍ جامدة:
_يلا يا أم “بيشوي” يلا يا “مدام فيولا” مبقاش لينا حاجة هنا، قدامي يلا.
تحركت النساء معه، بينما هو رفع إصبعه في وجهها وهو يقول بنفس الجمود:
_مش كل شوية فرصة العمر هتجيلك، حقك بورقتك هيوصلك لهنا، سلام يا مدام.
تحرك من مكانه يتنفس الصعداء وكأن حجرًا أُزيح من فوق صدره، علاقته بها تشبه الأرض ولكن بدلًا من أن يتحرك هو بخفةٍ عليها، جثت تلك الأرض فوقه تخنق روحه لذا خرج من ذلك البيت بحريةٍ وكأن القيد حول معصمه كُسِرَ وتحرر هو ليُحلق في الآفاق.
نزل للأسفل فسألته “تريز” بمعاتبةٍ:
_ليه كدا يابني ؟؟ تسلم دماغك للشيطان في ثواني كدا ؟؟ تخرب بيتك بايدك ؟؟.
زفر بقوةٍ ثم بنفاذ صبرٍ:
_اتخنقت يا ستي، تعبت وكل شوية كدا ارجع اصالح فيها، طب اتحرق أنا، ابنها دا مش هاين عليها ترجعله هو ؟؟ دي حتى مسألتش عنه، دي أم إزاي دي ؟؟.
تدخلت “فيولا” تقول بضجرٍ:
_بصراحة معاه حق بقى، قلبها جامد اوي، دا أنا سايباهم أهو نص ساعة وروحي هتجري قبلي علشانهم، دي بقالها ييجي شهر و البيت جنب البيت مفكرتش حتى تنزل تطل عليه.

حدجتها “تريز” بسخطٍ وهي تقول:
_أنتِ بتشعلليه يا بوتاجاز ؟؟ اخرسي يابت.
أشار لهما “أيهم” قائلًا:
_يلا خلونا نمشي من هنا.
تحركوا مع بعضهم نحو بيت العطار، يُريد قطع تلك الصفحة من دفتر حياته، لكن يبدو أنها كانت صفحةٌ مُلطخةً بالحبرِ فبقى أثرها في باقي الصفحات.
________________________
في حديقة بيت العطار.
شردت “آيات” في ماحدث و أخبرها به والدها مما فعله مع خطيبها، فانتبهت “مهرائيل” لشرودها فسألتها بنبرةٍ عالية:
_إيه يابت !! سرحانة في إيه؟؟.
تنهدت “آيات” بعمقٍ ثم سألتها بتخبطٍ تُدلي أمامها بما يخيفها:
_تفتكري هيرضى يمضي على القايمة ؟؟ ولا هيحصل مشكلة ؟؟ أنا ماكنتش أعرف إن بابا هيحط كل الحاجات دي.
سألتها “مهرائيل” بتعجبٍ:
_هي إيه القايمة دي أصلًا؟ علشان مش فاهمة.
ردت عليها مردفةً بقولها:
_دي عبارة عن كل الحاجة اللي العروسة جابتها في الجهاز بتتكتب بكل التفاصيل زي ضمان حقوق كدا، علشان يعني لو حصل حاجة تضمن حقها وهو كمان، بس بابا كتبها غالية اوي.
ربتت على كفها وهي تبتسم لها تحاول طمئنتها بقولها:
_متزعليش نفسك، إن شاء الله هيمضي ونكتب الكتاب، بس هو أنتِ إيه اللي مخوفك أصلًا أومال لو بتحبيه.
ردت عليها بتخبطٍ:

_أنا محتارة يا “مهرائيل” حاسة كدا إني من جوايا مش مرتاحة للموضوع دا، هو نفسه بحاول أثق فيه بس بقلق منه، وبقول مشي المركب وخلاص بلاش تسيئي الظن فيه.
دلف “أيهم” عند تلك الجملة ثم قال بنبرةٍ جامدة:
_تغور المركب لو مش مرتاحة فيها، مركب إيه اللي تمشي وأنتِ لسه على البر ؟؟ المركب متحركتش أصلًا، مستنية إيه ؟؟ تركبي مركب غلط تعطل بيكِ في نص البحر ؟؟ اوعي تغلطي غلط زي دا، محدش بيضربك على إيدك علشان تتجوزي، إن شاء الله لو هتقعدي معانا هنا العمر كله، خليكي، إنما تضحي علشان حد بحياتك وأخرتها يلومك إنك مفضلتيهوش على نفسك لأ !!.
تعجبت منـه ومن طريقته فدلفت خلفه النساء، حينها دلفت “وداد” تقول بلهفةٍ:
_أستاذ “أيهم” !! الحج اتصل وبيقولي أحضر المندرة علشان خطيب الآنسة “آيات” جاي على هنا ومعاه رجالة عيلته.
تنهد هو غمغم بقلة حيلة:
_جاي وراكي أهو، روحي بس جهزي الحاجة وافتحي المكان.
تحركت من أمامه بينما هو قال لشقيقته بثباتٍ:
_لازم تحضري القعدة دي وتشوفي بنفسك، علشان بناءًا عليها هنقرر، ماشي ؟؟.
تحرك من أمامها بينما هي ارتمت على المقعد بتخبطٍ و تشوشٍ من حالته فتحدثت “مهرائيل” تسألهما:
_هو ماله يا طنط ؟؟ وفين مراته.
تحدثت “فيولا” بخيبة أملٍ:
_طلقها…. خسارة بس مش أوي.
اتسعت عيني “آيات” بينما “مهرائيل” وضعت كلا كفيها على فمها من هول الصدمة.
_________________________

في شقة “فضل” جلس برفقة أسرته و شقيقته وابنتها، فسألته “قمر” باهتمامٍ:
_خالو !! الفلوس وصلت تمام؟؟
حرك رأسه موافقًا ثم قال:
_آه يا حبيبتي تسلم ايدك، الحج كلمني و قالي إن الحاجة وصلته.
تنهدت بعمقٍ، فيما قالت “ضحىٰ” ابنته بضيقٍ من الأخرى:
_دي وترت أهلي، كل شوية خايفة حد ياخد الفلوس، وكل شوية عاوزة تطمن.
تحدث “فضل” باستحسانٍ:
_”قـمـر” دي حبيبة قلبي، تربيتي و بتقدر الأمانة، ربنا يكرمها بابن الحلال اللي يحافظ عليها.
ابتسمت له “قمر” و قد دلف “عُدي” في تلك اللحظة يتنهد بعمقٍ ثم ألقى عليهم التحية باقتضابٍ، حتى سألته “غالية” عمته بتعجبٍ:
_مالك يا حبيبي، أنتَ تعبان؟؟.
حرك رأسه نفيًا ثم قال بنبرةٍ آسية:
_لأ يا عمتو أنا بخير، حمايا كلمني وقالي كل شيء قسمة ونصيب مش هينفع نكمل أنا وبنته علشان ممعيش شغل، ومش موافق بنته تقعد في إيجار.
اعتلىٰ الحزن ملامحهم جميعًا، فيما قالت والدته بقلة حيلة:
_يابني ما كل الناس بتتجوز في إيجار وربنا بيكرم بعدها بشقق تانية، بعدين هو عارف إن شقتك عمتك فيها….اقصد يعني شقة عمتك.

خجلت من حديثها وظنت إنها تسببت في احراجهم، بينما “غالية” قالت بتفهمٍ:
_دي شقة “عدي” وقولتلكم هاجي اقعد هنا معاكم يا إما اقعد في إيجار، مش عاوزين تسمعوا كلامي لسه بس ؟؟
تحدثت “أسماء” بمعاتبةٍ:
_اخس عليكِ يا “غالية” هو أنا برضه دا قصدي ؟؟ أنا بتكلم إن أمها فاتحتني وقولتلها إن دي شقتك، يعني عارفين إنها بتعتك، بعدين هو أنا ليا غيرك يعني علشان تسيبيني؟؟.
ابتسمت لها “غالية” فتحدث “فضل” بنبرةٍ هادئة:
_متشغيلش بالك بيهم، شوف حياتك بس وشغلك وربنا يكرمك إن شاء الله، ويعوضك ببنت الحلال، ربك كبير.
_ونعم بالله.
رد عليه “عُدي” بذلك ثم تنهد بعمقٍ وهو يبتسم لهم حتى يطمئنهم أنه على ما يرام.
_”عُدي فضل”
الابن الأكبر لـ “فضل” شقيق “ضحى” شابٌ في العام التاسع والعشرون من عمره، متوسط الطول، جسده متوافق مع طوله حيث بدا طبيعيًا، ملامحه هادئة بشرته أقرب إلى البيضاء، خصلاته بُنية قصيرة إلى حدٍ ما كما يفضلها هو إلا أنها كثيفة كما خصلات والدته تخرج من كلية “لغات وترجمة” يبحث عن عملٍ.
صدح صوت هاتف “قمر” فرفعت رأسها بارتباكٍ ودلفت للداخل من أمامهم جميعًا ثم وصلت غرفتها تقول بدلالٍ تعمدته:
_ألو….. ازيك يا “علاء” عامل إيه.
بالطبع ذلك لم يكن سوى نفسه خطيب “ضُحى” ابنة خالها ورفيقتها، وعند ذكرها لاسمه فُتح الباب عليها وقد اتسعت عينيها وهي ترىٰ “أسماء” زوجة خالها أمامها ومن المؤكد أنها لاحظت الهاتف لذلك اتبعتها نحو الداخل، فيما تسمرت الأخرى والهاتف في يدها.
_________________________

في حارة “العطار”
بداخل المندرة جلس “عبدالقادر” بجوار الشباب ومعهم “تَيام” أيضًا يجلسون في انتظار عائلة “أيمن” و بعد مرور دقائق قليلة دلف مع اعمامه الاثنين و خاله.
تم الترحيب بهم من قبل “عبدالقادر” و الشباب ثم جلسوا أمامهم كان “تَيام” يرمقه بسخطٍ لم يقو على تقبله، وكذلك “بيشوي” أيضًا يكرهه دون أن يعلم حتى السبب، فيما سأله “عبدالقادر” بعدما طل بنظراته لخارج الغرفة فوجد ابنته تقف تستمع لهم:
_ها يا “أيمن” مضيت القايمة؟؟.
تحدث هو بتوترٍ:
_معلش يا عمي كنت عاوز اتكلم معاك في حاجة مهمة.
أنصت له ونظر له يخبره أنه يستمع له ولحديثه، فوجده يقول بنبرةٍ مهتزة:
_المبلغ كتير يا حج، صحيح قولت هدفع مهرها وهي تجيب الحاجة بس المبلغ كبير عليا ومش هقدر أمضي عليه.
رفع “أيهم” حاجبه يطالع شقيقه الذي أشار له بالتريث، بينما “عبدالقادر” سأله بنبرةٍ هادئة:
_يابني هو أنا بقولك تدفعهم دلوقتي ؟؟ دا ضمان لحق بنتي مش أكتر.
اندفع “أيمن” يقول بتسرعٍ:
_ولو حصل طلاق يا حج هجيب الفلوس منين ؟؟ هشحت علشان اسدد الفلوس دي ؟؟.
حديثه كان بمثابة إنذار الخطأ، بينما تدخل عمه يُزيد الأمور سوءًا بقوله:

_بعدين فرضًا وافقنا، نضمن منين إن الحاجات اللي مكتوبة دي موجودة أصلًا، مش يمكن فيه حِسبة غلط ؟؟.
اندفع “أيهم” يسأل بانفعالٍ:
_تقصد إيه يا حج “حامد” ؟؟ هو احنا هنسرقكم ؟؟ على أخر الزمن عيلة العطار هتغشكم انتوا ؟؟ فوق يا حج وشوف أنتَ بتكلم مين و ولاد مين ؟؟.
تحدث “ايمن” يحاول تلطيف الأجواء بقوله متوترًا:
_خالي مش قصده يا “أيهم” بس بصراحة المكتوب كتير و مفيش حاجة مضمونة حتى الجواز.
في الخارج اعتلت الصدمة ملامح وجهها وكأنها ضربت فوق رأسها بعصا غليظة، بينما “عبدالقادر” ضرب بعصاه في الأرض اسكتهم جميعًا، ثم رفع صوته ليخرج جهوريًا بقوله:
_”آيــات” !!…. تعالي
دلفت هي على استحياءٍ تُطرق رأسها أرضًا ترتدي خمارها على الفستان الأبيض والحجاب الزهري، تعلقت نظرات “تَيام” بها على الفور، بينما “عبدالقادر” سألها بثباتٍ:
_سمعتي اللي اتقال ؟؟
حركت رأسها موافقةً فأضاف من جديد يستفسر بقوله:
_وإيه رأيك فيه ؟؟.
نبست بخفوتٍ بالكاد وصلهم:
_اللي حضرتك تشوفه.

وقف “عبدالقادر” ثم قال بشموخٍ:
_شوف يابني، أنا راجل ابن سوق وداير وفاهم كويس، وعيني تلقط الدهب الأصلي من العيرة اللي واخد لون على قشرة، لو كنت قولتلي شاري بنتك وميهمنيش الفلوس كنت قطعت الورقة دي قدامك ١٠٠ حتة وقولتلك أنا كسبت راجل جنب عيالي، إنما أنتَ خايف ومش واثق، والراجل اللي يخاف…يكسف.
حديثه لاذعًا وكأنه يقصد توجيه الإهانة لهم، بينما الشاب نكس رأسه للأسفل ثم سأله بخزيٍ:
_طب فرصة يا حج.
رفع كفيه يبسطهما أمامه وقال بثباتٍ:
_الفرصة في أيد “آيات” أنا مليش دخل، لو هي عاوزاك بجد هديك فرصة علشانها.
تنهدت بعمقٍ ثم رفعت رأسها تطالع أخوتها وكأنها تطلب منهما العون، فحرك “أيوب” رأسه لها يحثها على التحدث، و “أيهم” نظراته كانت محذرةً أكثر حتى تنفست بتروٍ ثم استجمعت جزءًا من شجاعتها المفقودة وقالت بنبرةٍ هادئة رغم شموخها أمامهم كابنة “عبدالقادر”:
_مفيش كلمة تتقال بعد كلمتك يا بابا، اللي ميقدرش أهلي و اخواتي و يتهمهم حتى لو اتهام غير صريح، ميلزمنيش، و الراجل اللي يفكر في يوم يبيع يتخاف منه في الشِرا.
ابتسم “عبدالقادر” وكذلك “أيوب” فيما سألها “أيمن” بلهفةٍ:
_يعني إيه ؟؟.

رد عليه “أيهم” بثباتٍ:
_يعني زي ما سمعت معندناش بنات للجواز، فرصة سعيدة اتمنى متتكررش تاني، نورت.
تحرك هو وعائلته كما المحارب المَهزوم في الحرب، بينما “تَيام” تراقص قلبه بين أضلعه، فمال عليه “بيشوي” يقول بنبرةٍ خافتة:
_اتصرف هتفضحنا، شكلك باين عليه أوي.
سَعل “تَيام”بقوةٍ لفتت الأنظار له وجعلت “بيشوي” يضربه على ظهره من الخلف فتأوه بألمٍ لينطق “بيشوي” مُفسرًا بسخريةٍ:
_ أصل دا معاد الشَرقة بتاعته، حبيبي، شِرق يعيني.
_________________________
في منطقة “نزلة السمان”
_لقد اعتاد على الغُربة دومًا، شخصٌ مزقته الحياة لم يعد نافعًا بشيءٍ، تصفعه الحياة ثم تلومه على تألمه، تُكمم فمه و تعاتبه على كتمانه، تُكبل ذراعاه و تكسر جناحاه، ثم تطالعه بازدراءٍ لكونه غير قادرًا على الحركة، تَجرع القسوة في حياته كما يتجرع المرء المياه من الأكواب، اعتاد دومًا على لقب “الغريب” أينما حلت خُطاه، لكن هنا !! لم يكن غريبًا، إنما هنا يجد نفسه.
وقف ذلك الرجل “نعيم” و الشيب يخالط خصلات رأسه و الهيبة و الوقار يبديان على وجهه و ملابسه التي عبارة عن جلباب باللون الرمادي الداكن و فوقه عباءة سوداء اللون و حوافُها لامعة يتابع المنظر حوله، حيث تلك المنطقة التي تُعد علامة مُسجلة في أثار و تراث البلد، قمة الأهرامات تبدو أمامه واضحةً و الأرض الرملية المشابهة للصحراء و السماء الصافية بلونها الداكن في عتمة الليل بدون نجوم تُزينها، و ذلك الغريب يقترب من خَيله “ليل” يقف في المنتصف حتى هلل الخيل و أصدر صهيله ترحيبًا برفيقه

كان واقفًا في شرفته يتابع ذلك “الغريب” كما لُقِبَ حتى أتى من خلفه صوتٌ يقول بتعجبٍ:
_برضه واقف تراقبه يا حج نعيم ؟! بقى نعيم الحُصري اللي نزلة السمان كلها بتقفله على رجل، يقف كدا يراقب الغريب؟!.
ابتسم “نعيم” ثم التفت بكامل جسده و هو يقول بثقةٍ:
_تعالى بس و أنتَ تشوف الغريب دا بنفسك هيعمل إيه دلوقتي
اقترب صاحب الصوت يتابع الشُرفة بأنظاره الثاقبة حتى وجد الخيل يُهلل و رفع قدماه عن الأرض و كأنه يُحيي صاحبه، بينما الأخر ربت على خصلاته السوداء و هو يبتسم بخفةٍ ثم قال بنبرةٍ بث فيها كامل طاقته:
_يلا يا ليل، صاحبك حبيبك عاوزك تفرحه، جاهز ؟!
صهلل الخيل من جديد و كأنه يجاوبه على سؤاله و يلبي مطلبه، بينما الأخر قفز عليه قفزةً واثقة ثم ربت على رأسه للمرة الثانية و قد فهم الخيل مغزى تلك الحركة و ركض بأقصى سرعة لديه و الأخر عليه كما الفارس تهابه حتى الأسود، النيران المُشتعلة بداخله يريد إخراجها من جوفه، لكنه كالعادة التزم بِـ عهدًا قطعه على نفسه، لِـ يُكمل تكبيل حركته، لكن هل ستظل حياته مُكبلة للأبد و يقع هو أسير العهد، أم أن العهد سيقع أسيره ؟!!
اعتلىٰ خيله و أطلق العنانِ له، فكان خَيله جامحًا شامخ القوىٰ مرفوع الرأسِ دومًا كلٍ منهما يُشبه الأخر، ركبه وكما عادته يذهب في رحلةٍ لماضيه البائس، تحديدًا عند يوم تقدمه لخطبتها.
(عودة إلى ذلك اليوم)
نظر “يوسف” بضياعٍ بعد تحدثهم عن خِطبتها لـ “نادر” خاصةً والأخر ينظر له بتشفٍ، حتى تحدث والدها بزهوٍ يُثني على الاخر بقوله:
_طبعًا دا شرف لينا إن بنتي تتجوز “نادر” و قبل أي حاجـ…..

أوقف حديثه حينما قطعه “يوسف” بقوله:
_استني يا عم !! “نادر” مين اللي هيتقدملها ؟؟ أنا اللي جاي اتقدملها ودول جايين معايا بصفتهم عيلتي، “نادر” مين ما تنطقي يا “شهد” !!
رفعت عيناها له تقول بنبرةٍ أقرب للبكاء:
_مش عارفة، أنا قايلة لحضرتك يا بابا إن “يوسف” هو اللي هيتقدملي، معرفش إيه موضوع “نادر” دا.
تحدث والدها بثباتٍ:
_بس “عاصم” و “سامي” بيه كلموني النهاردة في موضوعك أنتِ و “نادر” بصراحة أنا موافق.
التفت “يوسف” إلى “نادر” يسأله بنبرةٍ جامدة أقرب للإنفعال:
_أنتَ يا نطع موافق !! خلاص مفيش نخوة عند اللي خلفك ؟؟.
تدخل “سامي” يقول بتهكمٍ:
_اظن دي مش أخلاق الناس توافق بيها لبنتها، دي حاجة تكسف.
التفت له “يوسف” يحذره بقوله:
_بلاش سيرة الأخلاق علشان مجيبش سيرة أمك و أزعلك !!.
تحدث والدها بثباتٍ:
_برة يا “يوسف” معنديش بنات للجواز، لا يمكن أوافق إن بنتي ترتبط بواحد زيك كل حاجة عنده على المَحك، دا غير أني على دراية بكل تفاصيل حياتك والحقيقة ماضي غير مُشرف.
نظر لها فوجدها تبكي وهي تحرك رأسها نفيًا بينما هو لم يقبل الإهانة أكثر من ذلك في حقه وحق تربيته حتى وإن كان يتعمد تصدير غير ذلك، لكن يكفيه كل تلك الإهانات لذلك خطف مفاتيحه ثم رحل من المكان كما الإعصار بعد إنتهاءه لم يعد شيئًا كما كان.

خرج من ذلك المكان يتوجه حيث مكانه الأخر “نزلة السمان” يقود سيارته بين السيارات الأخرى كما المجذوب حتى أوشكت حياته على الإنتهاء أكثر من مرّةٍ حتى وصل أخيرًا ودلف لـ “نَــعيم” يقص عليه ماحدث حتى عنفه الأخر بقوله:
_غلط !! كان المفروض تقف وتاخدها وتحارب علشانها، إنما تسيبها وتمشي ؟؟ بتديهاله على طبق من فَضة !! فين محاربتك علشانها، مش حاببها بجد ؟؟.
التفت له يقول بنبرةٍ أقرب للصراخ من فرط آلامه:
_مـسـتحـملتـش !! مقدرتش أقف وأنا بتهان و بتذل قدامهم، وقوفي كانت نهايته جناية وأنا بخلص على روح حد فيهم، اللي عملته دا الصح.
اقترب منه “نَـعيم” يسأله بنبرةٍ أظهرت الآسى و هو ينطق بشفقةٍ عليه:
_طب وبعدين يا حبيبي ؟؟ هتعمل إيه ؟؟ هتسكت.
نظر له بإصرارٍ وهو يقول:
_مش أنا اللي أسيب حقي يا حج، هاخدها طالما هي عاوزاني يبقى غضب عن الكل هاخدها حتى لو هتضطر أسيب كل حاجة علشانها.
ربت على كتفه مُستحسنًا ثم نطق بإصرارٍ:
_يبقى الليلة دي تروح لأبوها تاني وتقوله إنك عاوز بنته وإنها عاوزاك، روح ليها علشان تبقى عملت اللي عليك، اللي بيخلي الحب حقيقي هو محاربتنا علشانه، روح يا “يوسف”.

حديث “نَـعـيم” جعله يشعر بنشوة الانتصار دون حتى أن يتحرك لذلك فر من أمامه نحو سيارته يعود حيث أتى لمكانها.
في بيت “شهد” هدأت الأوضاع قليلًا بعد رحيله، وبدأت العائلة في الحديث عن تفاصيل الزفاف، كل ذلك كانت هي تتابعه بعينين دامعتين فلاحظتها “حكمت” لذلك أشارت لابنها ففهم عليها ثم استأذن بقوله:
_معلش بس يا “نزيه” بيه عاوز الآنسة في كلمتين على انفراد ومعايا والدتي.
حرك رأسه موافقًا أشار لهم على الغرفة و ذكر اسم ابنته حتى تقوم معهما، فسارت خلفهما كما الجسد بدون الروح وكأنها فارقته.
تحدث “عاصم” بثباتٍ بعدما وضع كفيه في جيبيه:
_عارف إنك متضايقة من اللي حصل بس أنا عاوزك تركني عواطفك شوية وتحسبيها حِسبة عقل، جوازك من واحد زي “يوسف” هيخسرك كتير، واحد معندهوش أي حاجة، حتى الشقة مش موجودة، وأظن أنه هيجيبها قسط باين أو حاجة كدا، إنما “نادر” مستقبله مضمون عنده شقته الخاصة وبيت العيلة اللي “يوسف” سايبه، غير كدا أظن إنك بابا و عيلتك مناصبهم عالية، و “يوسف” متهور و مُغامر، مينفعش تكون نتيجة المغامرة دي سمعة العيلة، الحب مش كفاية، وأظن إنك مش بتحبيه.
رفعت عيناها له بلهفةٍ حتى تنفي حديثه، فأضاف هو بثقةٍ:
_مش بتحبيه، أنتِ حابة الحياة اللي معاه، الخروج و الجنان و السفر و المغامرة، إنما الحب !! موصلتيش للمرحلة دي، “يوسف” بالنسبة ليكِ شاب وسيم البنات كلها بتحب نوعه و شقاوته، إنما لو هنتكلم في استقرار يبقى واحد زي “نادر” شخص عملي متفاني، قولتي إيه ؟؟.
بدت أمامه مُتخبطةً و عينيها زاغت في اللاشيء أمامها تفكر في حديثه، بينما “حكمت” فهمت عليها لذلك اقتربت منها تخرج علبة مخملية من حقيبتها ثم قالت بوجهٍ مبتسمٍ:

_شوفي دي يا “شهد” دي حاجة بسيطة علشانك.
انتبهت لها الأخرى، فقامت “حكمت” بفتحها ليظهر بها خاتم من الألماس البراق، حينها اتسعت عيني “شهد” بدهشةٍ فيما نطقت الأخرى توثر عليها بقولها:
_دي حاجة بسيطة علشانك، اعتبريها هدية الخطوبة، مش كدا يا “عاصم” ؟؟
حرك رأسه موافقًا بينما هي مسحت دموعها ثم تنفست بعمقٍ أمامهما تحاول الوصول إلى قرارٍ ينقذها منهم.
بعد ذلك بثلاث ساعات تقريبًا عاد “يوسف” لبيتها يضرب الباب بعنفٍ حتى فُتح له بواسطة مدبرة البيت، بينما هو دلف للداخل ينادي على والدها الذي نزل له يسأله بنبرة غَلظة:
_فيه إيه ؟؟ جيت هنا تاني ليه؟؟
اقترب منه يقول بثباتٍ:
_أنا هتجوز “شهد” غصب عنهم وعن الدنيا كلها، مش بعد كل دا في الأخر ياخدها مني، شوف عاوز إيه يضمني ليك وأنا مستعد لأي حاجة، حتى لو هسيب شغلي علشانها و أسافر برة أنا مستعد.
ابتسم له بسخريةٍ ثم قال:
_يا سلام ؟؟ ولما تبقى عاطل كدا أنا هسلم لبنتي معاك ؟؟ أنتَ مجنون ؟؟.
رد عليه “يوسف” بنبرةٍ جامدة:

_المجنون بجد هو اللي بيسيب حقه يتاخد منه وهو واقف ساكت، هات بنتك و أسألها هتقولك إنها عاوزاني، اسألها أنا مستعد أعمل إيه علشانها !! كنت بطبق يومين ورا بعض وأنا راجع من طريق سفر علشانها، اسألها.
وصله صوتها من الخلف وهي تقف على الدرج ثم قالت بنبرةٍ اتضح بها البكاء:
_أنا موافقة يا “يوسف”.
يبدو وكأنه كما المحروق وُضِعَ بداخل المياه المثلجة لتهدأ جروحه وهو يلتفت يبتسم لها فوجدها تمسح دموعها ثم قالت من جديد بثباتٍ واهٍ:
_أنا موافقة أتجوز “نادر”.
تلك الغِصة التي استقرت في حلقه لتبدو كما الأشواك وهو ينظر لها بعينين أبت العبرات فيهما الإفصاح عن نفسها، و قد أحاططها الخيوط الحمراء كما الجَمرِ المُشتعل، لا يصدق إنها نطقت اسم الأخر بدلًا منه، سار لها كما المجذوب يسألها بضياعٍ:
_قولتي….. قولتي مين ؟؟
تفوه والدها من خلفه يقول مؤكدًا:
_قالت “نادر”.
الطعنات مستمرة في قلبه بدون شفقةٍ أو رحمةٍ حتى، نزيف قلبه مستمر و الجميع كل ما يشغلهم البحث عن مكانٍ جديد للطعنات دون أن يكلف أحدهم عناءًا لنفسه أن يمد يده يوقف ذلك النزيف.
أمعن النظر في وجهها ثم مرره على كفها ليرى الخاتم الألماس مُستقرًا في إصبعها، حينها ابتسم بسخريةٍ ثم هتف بوجعٍ:
_مبروك….. مبروك يا عروسة.
رحل من المكان وتلك المرة هو المهزوم حقًا، هُزِم مِن مَن ؟؟ منها هي، هل يُعقل أن البلدة التي أوشكت على لفظ أنفاسك الأخيرة لأجل حماية حصونها هي نفسها من تُجمع جيشها لتكون أنتَ عدوها الوحيد؟ من أقمت الحرب لأجل حمايتهم أول ما استوطنتهم القوة، قام باختبارها عليَّ.

(عودة إلى الوقت الحالي)
كان يسير بخيله وكلٍ منهما فقد السيطرة على نفسه بل نسىٰ نفسه وكل ذلك تابعه “نَـعَيم” من نافذة غرفته، ثم رفع صوته يقول بقلقٍ:
_إســمـاعـيل !! ألحقه يابني بسرعة، الاتنين شكلهم جرى لمخهم حاجة.
ركض “إسماعيل” من المكتب يأخذ الخيل الأخر وهو ينادي بملء صوته:
_أقـــف يـــا يــوســف.
يبدو وكأن الأخر لم يسمعه أو تعمد ذلك حيث استمر في الركض بالخيل حتى أنقذه الخيل وقلت طاقته فوقف فجأةً حتى كاد أن يسقط “يوسف” من فوقه وحينها فقط عاد له وعيه من جديد فنزل يجلس على رُكبتيه وهو يلهث بقوةٍ و أنفاسٍ مُتقطعة فاقترب منه “إسماعيل” بالخيل ثم نزل له يطمئن عليه بلهفةٍ.
كان “يوسف” حينها في عالمٍ آخر، حتى وقف بنظراتٍ قاتمة ثم تحرك للخلف بدون الخيل و توجه لخارج بيت “نَـعيم” حيث مكان سيارته التي ركبها وقادها دون أن يدري إلى أين هو ذاهبٌ وفقط كلمة واحدة تتردد في سمعه:
_تربية الإصلاحية.
رفع سرعة السيارة يشق الطرقات بها وكأنه يغزوها حتى أوقفها عند وجهته أخيرًا ثم نزل من السيارة و ركض لداخل البناية يركض درجات السُلم بخطواتٍ واسعة حتى وصل أمام مُبتغاه ثم طرق على باب الشقة ففُتِحَ له و سأله صاحب المكان بتعجبٍ من تواجده:
_ابن الراوي ؟؟.
حرك رأسه موافقًا ثم قال بنبرةٍ جهورية:
_آه ابن الراوي، اللي هيسقيك المُر.
رفع “سامي” صوته بنبرةٍ جامدة:

_لو فكرت تعمل حاجة هعلي صوتي وافضحك يا تربية الاصلاحية.
ابتسم “يوسف” بشرٍ ثم دفعه ودخل الشقة يغلق بابها بقدمه وقال بنبرة وعيد وتهديد:
_وماله، تربية الاصلاحية مش أحسن من تربية الرقاصة، يابن الرقاصة.
قال جملته ثم اندفع عليه يُخرج كَبت السنون والأيام به، وينقل له لو جزءًا بسيطًا من معاناته التي عاشها منذ أن ربطه القدر بهم.

يتبع….

_أنا وقلبي في الهوىٰ هَوينا، فلا عَرفنا راحةً ولا هُوينة، فياليتنا ما أحبننا وياليتنا ما هَوينا، نحنُ مَن سِرنا نحو الهوىٰ بأنفسنا ولألامه خَطينا، فما كان لنا من كل ذلك سِوىٰ العَذابِ، وقبل نهاية الطريق؛ انتهينا.
_وماله تربية الاصلاحية مش أحسن من تربية الرقاصة يابن الرقاصة.
كان ذلك قول “يوسف” الذي تفوه به بعدما وقف أمام “سامي” على أعتاب شقته، فسأله الأخر بريبةٍ:
_”يوسف” اعقل وبطل جنان، جاي الساعة دي تعمل هنا إيه؟؟
ازداد الشر في نظراته أكثر و لمع بريقُها الحاد وهو يقول بثباتٍ:
_جاي أرمي النقطة على “أمك”
فور انتهاء جملته امسكه من تلابيبه بعدما انقض عليه، بينما الأخر قبل أن يرفع صوته ويتهمه بأنه سارقه، كمم “يوسف” فمه ونطق يحذره بقوله:
_ولا !! لو رفعت صوتك من غير يمين أنا هزعلك، احترم نفسك و اهدا كدا و كِن مع نفسك.
حرك الأخير رأسه بخوفٍ خاصةً ونظرات الأخر تبدو وكأنها سهامًا تقتله، فأمسك “يوسف” تلابيبه من جديد ينطق بنبرةٍ جهورية:

_بقى أنتَ زعلان أني مديت أيدي على ابنك ؟؟ وإني تربية احداث ؟؟ اتفرج بقى على تربية الأحداث دي لما تشوف ابن رقاصة قدامها.
لكمه في وجهه بدون تعقل أو حتى تفكير في فارق السن بينهما، حتى سقط الأخر على مقدمة الرواق المؤدي للغُرف، فأمسكه “يوسف” من جديد وهو ينطق من بين أسنانه:
_زعلان مني علشان تربية احداث ؟؟ طب وأنتَ أمك وهي رقاصة كانت رابعة العدوية يابن ال****.
لكمه بعد جملته حتى تأوه “سامي” وهو يرتمي على الحائط، بينما “يوسف” لم يمهله الفرصة ولو هُوينة فقط، بل اقترب منه ينطق بنفس الطريقة التي أعربت عن كامل غِله المشحون بداخله:
_ولما أنتَ حطيتلي سم قبل كدا في الاكل، دا كان عادي ؟؟ هــا ؟؟ كنت تربية The Voice Kids بروح أمك؟؟
فور انتهاء جملته أمسكه من فروته ولم تظهر أمامه سوى صورته أثناء مرضه بسبب “سامي” لذا أمسك رأسه يضربها في الحائط، وقد ظهرت الدماء على وجه الأخر إثر ضربات “يوسف” التي سددها له، فترنح حتى سقط أرضًا وخارت قواه.
انتبه “يوسف” لما يرتديه، فضحك بسخريةٍ وهو يقول:
_لابسلي بيجامة ستان حمرا؟ وماله طلبتها ونولتها وهخلي دمك يغرق الشقة، دي أمك اسمها “تماسي” أومال لو كانت “صباح” بقى.
نطقها بتهكمٍ لاذع ثم سحبه من فروة رأسه ينطق بتهديدٍ يحذره:

_طول ما أنا في البيت، لو سكتك جت على سكتي أنا هطلع عليك عفاريت “يوسف الراوي”، فكر بس تيجي قدامي، وأنا هفرمك زي القطر، هدوسك، فـــاهــم ؟؟.
حرك رأسه موافقًا وحاول أن يتحدث فصدح صوت جرس الباب في تلك اللحظة، حينها تركه “يوسف” ثم تحرك نحو الباب يفتحه دون أن يستعلم عن هوية الطارق، فتفاجأ بعامل توصيل الطعام أمامه يطالعه بريبةٍ من هيئة “يوسف” التي لا تنذر بأي خير، بينما “يوسف” سأله بنبرةٍ غَلظة:
_نعم، خير ؟؟.
رد عليه بتوترٍ:
_فين الأستاذ “سامي”، جايبله الأكل دا.
خطفه منه “يوسف” ثم سأله:
_حسابه مدفوع ؟؟.
حرك الأخير رأسه بخوفٍ، فيما أشار له بالانصراف، فامتثل لمطلبه، بينما “يوسف” عاد من جديد للأخر يوضع أمامه الطعام على الأرض ثم جلس على إحدى رُكبتيه يقول بنبرةٍ رغم هدوئها إلا أنها خانته وخرجت منه موجوعة إبان قوله:
_فاكر لما جيت مرة زمان ترميلي بواقي أكلك أنتَ وابنك وأنا جعان في البيت علشان “حكمت” قفلت المطبخ ؟؟ أنا عندي استعداد دلوقتي اخليك تجرب نفس الاحساس دا، بس العهد اللي قطعته على نفسي مش هخونه علشان واحد تربية رقاصة زيك، اطفح بألف هنا.

أشار إلى الطعام برأسه، ثم اعتدل واقفًا وأخرج من جيبه علبة السجائر الخاصة به، يشعل واحدةً منهم بقداحته، ثم غادر المكان تاركًا الأخر خلفه يأنِ من الألم و الويلات، فها هو وقع تحت يده بمفرده عزيلًا، وتلك فقط ماهي سوى نُقطة في بحر “يوسف الراوي”.
_________________________
في شقة “فضل” تحديدًا بالغرفة التي جلست بها “قمر” دلفت “أسماء” خلفها بعدما انسحبت الأخرى وفتحت الباب عليها، وحينما رآتها “قمر” تنهدت بعمقٍ ثم اوقفت المكالمة وهي تقول بهمسٍ حانقٍ:
_خضتيني، افتكرتك “ضحى” تعالي اقفلي الباب يلا.
أغلقت “أسماء” الباب ثم ركضت تجلس بجوارها، بينما “قمر” فتحت المكالمة من جديد وهي تقول بدلالٍ اصطنعته:
_ معلش يا “علاء” الباب كان بيخبط بس وافتكرت حد دخل.
رد عليها الأخر بتفهمٍ:
_ولا يا سُكر، المهم أنتِ إيه أخبارك؟؟ كويسة ؟؟.
نظرت في وجه “مرات” خالها تتأفف بضجرٍ ثم نطقت بنفاذ صبرٍ:
_آه الحمد لله، قولي صحيح خلاص بدأت تجهز نفسك علشان الفرح ؟؟ كلها شهرين بالكتير أهو.
زفر هو بعمقٍ ثم قال:

_مش عارف والله، حاسس أني بتسرع، عاوز اهدا شوية في قراري دا، خصوصًا أني مش مرتاح مع “ضحى”.
هَمت “أسماء” بالحديث معه تهينه، فأوقفتها “قمر” تحذرها بنظراتها، ثم قالت له بنبرةٍ هادئة:
_لأ، لازم تفكر دا جواز مش لعب عيال، بعدين إحنا اتفقنا اننا صحاب لو فيه حاجة عرفني.
رد عليها بنبرةٍ لَعوبة فمهتها هي:
_ هو أنا أطول، والله شكلي كدا هعيد التفكير من تاني.
سألته بخبثٍ قاصدة أن تتحدث عن ذلك الموضوع:
_طب والبنت اللي بتكلمها دي، اللي هي كانت زميلتك، لسه بتكلمها ؟؟ طب “ضحى” خطيبتك وأنا صاحبتك، هي إيه بقى ؟؟.
رد عليها بنبرةٍ ضاحكة:
_في دكة الاحتياطي، بس مالك غيرانة ولا إيه ؟؟
بصقت في الهاتف، ثم تصنعت التوتر وهي تقول:
_ها…لأ عادي يعني، أنتَ حر، سلام علشان خالو بينادي عليا.
أغلقت في وجهه، ثم كتمت صوت الهاتف تتنهد بعمقٍ بينما “أسماء” سبته سبةً بوالدته، فقالت “قمر” بقلة حيلة:
_أهو زي ما أنتِ شايفة كدا، عيل واطي ملهوش أصل أصلًا، بيكلم مليون واحدة على بعض وعادي عنده، دا يتأمنله إزاي ؟؟
نطقت “أسماء” بتوعدٍ:

_وربنا ما هسيبه، يا أنا يا هو، لو مكانتش بس الموكوسة بتحبه وهو مفهمها أنه اتغير و محتاجها، بس هقول إيه ؟؟ عيلة عبيطة.
تحدثت “قمر” بحزنٍ غلف نبرتها:
_أنا زعلانة علشانها هي، خايفة عليها لما تعرف، وخايفة تزعل مني وأنا مليش غيرها.
ربتت “أسماء” على كتفها وهي تقول بنبرةٍ هادئة:
_إن شاء الله مش هيحصل حاجة، أنا موجودة هنا متقلقيش.
حركت رأسها موافقةً فضمتها “أسماء” إليها تربت على ظهرها و عينيها شاردتين في الفراغ يغلفهما الاصرار كما القطة وهي تحمي صغارها.
_________________________
في بيت “العطار” تحديدًا بتلك الغرفة وذلك الجزء المُخصص منها جلس “أيوب” كعادته قبل موعد قيام الليل أمام صانعة الفخار اليدوية يعمل بيده هو كعادته الماهرة في تلك الصناعة، رغمًا عنه ابتسم حينما جال بخاطره جملتها وهي تقول:
_كدا أنا عرفتك، الاسطى أيوب بتاع القُلل علشان لو حصل حاجة.
أبتسم من جديد ثم حرك رأسه نفيًا بيأسٍ وقد شرد في أول مقابلةٍ تجمعمها سويًا و يراها هو بها لأول مرّةٍ:
( منذ عام و أكثر)
وقف “أيوب” شامخًا في محله بجوار كلٍ من “أيهم” و “بيشوي” بعدما أحسن صناعة ذلك الشيء الذي يضعه أمامهما، فتحدث أخيه بإعجابٍ يُثني على فعل أخيه:

_لأ جامد، طول عمر دماغك تتاقل بالدهب بصحيح، الشكل من برة زير فخار و الصناعة من جوة مُبرد مياه و كُلمن، دماغ.
ابتسم له “أيوب” فيما سأل “بيشوي” بحيرةٍ:
_إيه الفايدة برضه مش فاهم؟؟.
جاوبه “أيوب” مُفسرًا:
_ فيه مطعم فتح جديد وعامل كل حاجة شكلها قديم بس مدخل معاها حاجة جديدة، طلبوا مننا نعملهم حاجة شبه الزير بتاع المياه، وفي نفس الوقت تكون عملية يقدروا يستنفعوا بيها في حاجة، قولت اعملها كدا زير و من جوة زي الكولمن بحيث لو حطوا تلج جواه ميحصلش حاجة، ولو الفخار سحب الحرارة برضه ميحصلش حاجة.
بدا الاعجاب واضحًا عليهما، فسأله “بيشوي” باهتمامٍ:
_قولي خد منك وقت قد إيه؟؟
رد عليه بعدما فكر قليلًا:
_يدوبك يعني أسبوع وقبلها ٣ أيام بجهز في الحاجة، ١٠ أيام كله على بعضه.
ابتسم أخيه بفخرٍ، وكذلك “بيشوي” بينما “عبدالقادر” في تلك اللحظة يُلقي عليهم التحية و خلفه “قـمر”.
أخفض الشباب رأسهم حتى لا يتسببون في اخجالها، بينما هي اطرقت رأسها للأسفل فاقترب “عبدالقادر” من الدرج الخاص بابنه ثم فتحه وأخرج منه مفاتيحًا يُسلمها لها وهو يقول:
_اتفضلي يا بنتي، المفاتيح إيه، وقولي لأستاذ فضل ألف شكر وكفاية تعبك معانا.

ردت عليه بأدبٍ:
_متقولش كدا حضرتك، لا تعب ولا حاجة، هسلمهم لخالو إن شاء الله.
حرك رأسه موافقًا وهو يبتسم لها، بينما هي التفتت حتى تغادر فاصطدمت أمامها بقطة سوداء اللون جعلتها تصرخ بملء صوتها، و ركضت بدون هوادة تبحث عن مكانٍ تختبيء به، وماكان لها إلا الجهة المجاورة للشباب تركض نحوها حتى اصطدمت في الحامل المعدني ليسقط بما عليه، وما كان إلا الزير الذي صنعه “أيوب”.
صرخت هي ثم وضعت كلا كفيها على فمها، فيما نطق “أيهم” ببلاهةٍ نتجت عن خوفه من تحول أخيه:
_يا وقعة اللي خلفونا سودا !!.
ضغط “أيوب” على كفيه وأغمض جفونه، يحاول التماسك أمامهم، بينما “عبدالقادر” علم أنه ابنه على ذروة غضبه لذلك تحرك من موضعه بلهفةٍ يقول مُلطفًا للأجواء:
_حصل خير الحمد لله، قدر الله وما شاء فعل، حصل خير بابنتي.
التفتت له بعينيها الدامعتين وهي تقول بنبرةٍ أقرب للبكاء:
_أنا مكانش قصدي والله، أنا لما شوفت القطة خوفت منها، علشان كدا حاولت استخبى منها.
نظر لها “أيوب” بجمودٍ وهو يقول بعدما فقد أعصابه:
_قطة، هتعملك إيه يعني ؟؟ أكيد مش هتبلعك، فيه حد يعمل كدا ؟.
ازداد بكائها بعد لومه لها، بينما “عبدالقادر” رفع صوته بقوله:
_”أيـوب” !! خلاص قولت.

تنفس “أيوب” بحدةٍ ثم قال:
_يـا صـبر “أيـوب”.
تحرك من أمامهم بعد جملته تلك ثم فتح الباب الصغير بالمكان يدلفه فيما نطق “بيشوي” بنبرةٍ هادئة حينما وجدها تبكي:
_حصل خير يا آنسة، اتفضلي مفيش حاجة حصلت، واخدين على كدا.
اقترب “عبدالقادر” يمسك زجاجة المياه وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_امسكي اشربي المياه دي و متزعليش نفسك هو نفسه واخد على كدا، حصل خير ومقطوع منه النصيب.
خرج “أيوب” مرةً أخرى بواحدٍ يُشبه الاخر بل يماثله ثمامًا ثم مد يده لـ “بيشوي” وهو يقول بنبرةٍ جامدة:
_خُد دا أكتب عليه اسم المطعم، وخليه عندك أنتَ.
سأله “أيهم” بتعجبٍ:
_هو أنتَ كنت عامل اتنين؟؟
حرك رأسه موافقًا ثم بقلة حيلة:
_آه، كنت عامله للمسجد، بس ملهوش نصيب هعمل واحد تاني.
نطقت “قـمر” بثباتٍ ورأسٍ مرفوع:
_شوف حسابه كام وأنا هدفعلك.

ابتسم بسخريةٍ، بينما هي بنفس الشموخ نطقت بثباتٍ:
_شوف الحساب كام وأنا هدفعلك، محبش حد يبقى ليه حاجة عندي، تكلفته كام ؟؟
رد عليها بثباتٍ هو الاخر:
_الله الغني عنك وعن عوضك، ربنا يكرمني إن شاء الله ويعوض عليا، مش هقبل العوض من البشر.
قبل أن ترد عليه أوقفها “عبدالقادر” بقوله:
_خلاص يابنتي بقى روحي علشان متتأخرييش، مع السلامة.
لهجته بدت لها وكأنه يأمرها لذلك رحلت في خنوعٍ دون أن تتفوه بكلمةٍ واحدة، بينما هو قال بثباتٍ:
_اللي حصل حصل خلاص، مش عاوز الموضوع يتفتح بعد كدا.
حرك الشباب رأسهم بموافقةٍ بينما “أيوب” وزع بصره بين الهشيم على الأرض وبين أثرها وهي ترحل بشموخٍ وكأن شيئًا لم يكن.
(عودة إلى الوقت الحالي)
خرج من شروده على صوت طرقات الباب فتنهد بعمقٍ ثم وضع كفيه في دلو الماء يُزيل أثر الطين من كفه، بينما وصله صوت “وداد” تنطق من الخارج بقولها:

_أستاذ “أيوب” الحج عاوزك برة.
رد عليها بنبرةٍ هادئة:
_حاضر يا ست “وداد” جاي أهو.
خرج من الغرفة ثم دلف نحو والده في مكتبه، فوجد الأخر يقول بسخريةٍ:
_مش عارف اتلم عليكم ؟؟ واحد قافل على نفسه اوضته، والتاني خد ابنه وطلع، والتالتة في أوضتها عازلة نفسها، خير ؟؟
قبل أن يرد عليه “أيوب” نزل “أيهم” لهما وهو يقول بنبرةٍ ناعسة:
_خير يا حج ؟؟ اؤمرني؟؟
أشار له بالجلوس أمام أخيه، فامتثل الأخر لمطلبه وهو يتنهد بضجرٍ، فيما سألهما هو:
_حد فيكم كلم أخته بعد اللي حصل؟؟ محدش اتكلم معاها؟؟.
تحدث “أيوب” بحرجٍ منه:
_بصراحة الكلام ملهوش لازمة، أكيد حقها أنها تزعل طبعًا، علشان كدا سيبتها براحتها تخرج طاقتها وأنا بنفسي لما أرجع من صلاة الفجر هقعد معاها.
حرك رأسه موافقًا ثم التفت إلى الآخر يسأله بثباتٍ:
_مراتك مرجعتش ليه يا “أيهم”؟
وزع “أيهم” نظراته عليهما سويًا ثم تصنع الثبات وهو يجاوبه موجزًا:

_طـلـقـتها.
_نــعم !!
رددها “أيوب” بصوتٍ عالٍ بعدما تفاجأ بقول أخيه، فيما سأله “عبدالقادر” بنبرةٍ أقرب للانفعال:
_بتقول إيه ؟! طلقتها ازاي؟؟
رد عليه ببساطةٍ:
_كدا، قولتلها في وشها أنتِ طالق، مش هخبي عليها يعني.
سأله “أيوب” بنبرةٍ جامدة:
_وابنك ؟؟ مفكرتش فيه حتى؟
جاوبه “أيهم” بثباتٍ يحاول الهروب من وجعه بتصدير اللامبالاة:
_أنا عملت كدا علشان خاطري ابني، دي خسارة فيها يكون عندها ابن زي دا، واحدة أنانية وطماعة عاوزة كل حاجة في الدنيا ليها، يبقى احرمها من النعم دي علشان تعرف قيمة اللي كان عندها.
سأله “أيوب” باهتمامٍ:
_معني كدا إنك هترجعها تاني لما الدنيا تهدا شوية بينكم ؟؟ صح؟
حرك رأسه نفيًا ثم نفى قول أخيه تمامًا بقوله:
_لأ مستحيل، أنا ماصدقت أخلص من العلاقة دي وهي عاملة زي الحِمل على كتافي، اللي برميه باليمين عمري ما هاخده بالشمال.
تنهد “عبدالقادر” ثم تحدث بلباقةٍ:
_أنا عمري ما جبرت حد فيكم على حاجة، وعمري ما اتدخلت في اختيار حد منكم، بس لو دا هيتكرر تاني، أظن من حقي أتدخل و أوقفه.

حرك رأسه موافقًا فقال “عبدالقادر” بثباتٍ:
_اتفضلوا يلا كل واحد فيكم يروح يشوف بيعمل إيه، وبكرة عاوزكم بدري علشان عربيتين رخام طالعين، تمام ؟؟
حركا رأسيهما بموافقةٍ ثم قاما بتوديعه ورحلا من جديد بينما هو نظر في أثرهما في تنهد بعمقٍ مغلوبًا على أمره.
_________________________
عاد “يوسف” إلى منطقة الزمالك بعدما شعر بنشوة الانتصار لو قليلًا، بعدما أوصل جزءًا من معاناته لـ “سامي”، لذا يرى الآن أنه يحق له أن يدخل البيت بل و بسعادةٍ لا يدري سببها، رؤية الأخر ذليلًا بين يديه لم يقو حتى على التوسل له، جعلته كما الطير المحلق في السماء.
جلس في ردهة البيت الواسعة يراقبه بنظراته، حيث قضى ليلته بالأمس في منطقة نزلة السمان، ذلك البيت الذي عاش به أصعب الأيام وتعامل به كما الحيوانات، حتى أصبح بربريًا معهم، همجيًا إذا أرادوا، تُصاب كرامتهم كل يومٍ بحديثه اللاذع.
تحرك من الردهة نحو الأعلى حيث سطح البيت أو ما يطلق عليه “الروف” مكانه المفضل الذي يشعر فيه بالحُرية، كان يركب دراجته به يدور بها في المكان حتى في شبابه.
وصله بخطواتٍ متريثة سُرعان ما تحولت إلى واسعة حينما رآها هي تقف بجوار الدراجة في مكانه المفضل بجوار أشياءه.
بدلًا من أن يُظهر غيظه لها وأنها استطاعت أن تثير اهتمامه، رفع صوته يدندن بسخريةٍ:
_اعذريني يوم زفافك مقدرتش أفرح زيهم، مخطرش أبدًا يوم في بالي أني أبقى واحد منهم.
التفتت له بعينين مُتسعتين سكنت بهما الدهشة، بينما سألها هو بسخريةٍ:
_مش دا اللي نفسك تسمعيه وهتموتي و أقولهولك ؟؟ عاوزاني اوريكي نفسي وأنا مكسور من بعدك ؟؟
تحدثت بنبرةٍ جامدة وهي تقول:

_ملكش حق تتكلم عن الوجع بعد اللي عملته، جيت فرحي وحضرته و وقفت زيك زي كل الناس الفرحانة كأنك ما صدقت تخلص مني، كنت أنا مقهورة في فرحي، وأنتَ بكل قسوة بتضحك كأنك مش همك.
ابتسم لها وهو يؤكد قولها هاتفًا:
_أنتِ فعلًا مش هماني، ولا فارقة معايا، طلعيني من دماغك أحسنلك، علشان ترتاحي بس شوية، لكن أنا ؟؟ مشوفتش الراحة غير في بُعدك.
همت بالنطق وهي تقول باكيةً:
_أنا….
قبل أن تُكمل حديثها قام هو ببتر حديثها بعدما رفع صوته قائلًا:
_أنــتِ إيه اللي طلعك هنا ؟؟ هــا بتلعبي في حاجتي ليه ؟؟ غوري من وشي بدل ما أكسرهم فوق دماغك….غــوري !!.
اجفل جسدها من حديثه و طريقته لذلك ركضت من أمامه، بينما هو تنهد بعمقٍ ثم حلس على المقعد فلم يقوى على استماع حتى صوتها بعدما وقفت بكل قسوة تُفضل الأخر عليه و تطعنه أمامهم جميعًا لتصبح سكينتها هي الضربة التي أودت بحياته.
كان يقدم لها حياته على طبقٍ من الذهب، ففضلت عليه فُتات اهتمام الآخرين، وضع لها الأمان في كفها لتقبض عليه، وما إن استقرت الطمأنينة في قلبها و اشتد أزرها، قامت باختبار تلك القوة عليه، حتى هُزم ممن أقام الحروب لأجلها.
عاد بذاكرته ليوم زفافها، ذلك اليوم الذي أقسم فيه لنفسه أن يظهر لهم شامخًا مرفوع الرأس.
(قبل موعد زفافها بيومٍ)

كان “يوسف” في منطقة نزلة السمان بعدما قرر الهروب منهم جميعًا، أشعل العديد من السجائر حتى امتلأت أرضية الغرفة و كذلك سلة المهملات وماحولها، دلف “إسماعيل” له في الغرفة وما إن رأه بذلك الوضع قال ينهره بقوله:
_هتموت نفسك يابني أدم أنتَ !!
رفع “يوسف” رأسه له يحذره بنظراته ثم أنزلها من جديد يسحب هواء السيجارة، فسأله “إسماعيل” بتعجبٍ:
_مش قولت إنها مش فارقة معاك ؟؟ عامل في نفسك كدا ليه ؟؟ ها ؟؟
رد عليه بنبرةٍ جامدة حاول إخفاء ألمه بها وقد أتعبته قساوتهم
_مش علشانها هي، علشاني أنا، البيه عمل فرحه في أجازتي علشان يقولي اللي كنت هتعمله في شهور أنا خدته في أسبوعين، علشان دي اللي كنت بضحي بصحتي كل يوم و راحتي علشانها هي متبقاش مخنوقة، وفي الآخر اختارت اللي معاه، وقفت بكل جبروت تقولي هتجوز “نادر”، اختارت واحدة محدش طايقه في الدنيا غير أبوه حتى أمه بتندم على خلفته ساعات.
نظر له “إسماعيل” بقلة حيلة و شفقةٍ ثم ربت على ظهره، والأخر يجلس على الأريكة، فدلف لهما “نَـعيم” يقول بنبرةٍ هادئة:
_”شهد” تحت وعاوزة تقابلك.
هب منتفضًا ما إن وصل اسمها إلى سمعه، ثم تشدق بنذقٍ:
_بتقول مين تحت ؟؟

لم يجاوبه “نَـعيم” بل صمت تمامًا واكتفى بالنظر له، فتحول “يوسف” في ثوانٍ وتحدث بنبرةٍ جهورية تهدجت من فرط انفعاله:
_ جاية ليه ها ؟؟ جاي تبرر ولا جاية تعزمني على فرحها ؟؟ خليها تغور بكرامتها بدل ما أنزل أمسح رمل السمان كله.
تحدث “نَـعـيم” بثباتٍ:
_اهدا !! أنا كدا كدا مش عاوزك تنزل ليها ولا عاوزك تشوفها، أنا بس جاي أعرفك يمكن يكون في سبب على أخر لحظة يغير كل حاجة.
ابتسم بسخريةٍ ثم أشار نحو موضع قلبه وهو يقول بوجعٍ:
_واللي هنا مين هيغيره؟؟
تنهد “نَـعيم” ثم استند على عصاه الخشبية وقال مؤكدًا على الأخر:
_”إسماعيل” !! “يوسف” مينزلش تحت ولو حصل إيه مفهوم ؟؟.
تحرك بعد حديثه، بينما “يوسف” ضرب الطاولة الموضوعة بجواره لتسقط بكل ما عليها، بينما “إسماعيل” تنهد بيأسٍ ثم وقف يتابعه.
نزل “نَـعيم” لها فكانت توليه ظهرها وهي تبكي أمام باب الاسطبل، فسألها هو بنبرةٍ خرجت منه قاسية:
_خير جاية هنا ليه ؟؟ أظن مبقاش فيه حاجة تربطك بينا هنا بعدما قطعتي حبال الود.
التفتت له تسأله بلهفةٍ:
_”يوسف” فين يا عمو ؟؟ بقالي كتير بحاول أوصله مش عارفة، طمني و قولي أنه عندك هنا.
جاوبها بثقةٍ و عزة:
_”يوسف” ملهوش مكان تاني غير هنا، علشان دا ملكه، يعمل فيه ما بداله ومع ذلك عمره ما قبل شفقة ولا مساعدة من حد، بيكافح بنفسه و لنفسه ولغيره كمان، بس مش كله يستاهل.
ابتلعت تلميحه عليها، قم اقتربت خطوةً منه وهي تقول بنبرةٍ باكية:
_عاوزة أشوفه أنا عارفة أنه متضايق دلوقتي لازم اتكلم معاه، صدقني لازم.

أتى من خلفها يقول بثباتٍ:
_لأ مش متضايق ولا حتى فارق معايا، أنتِ اللي مصممة تحطي نفسك في مكانة أنا مش حاطك فيها، قولي اللي عاوزة تقوليه.
ظهر التبرم و السخط على وجه “نَــعـيم” بينما هي تسمرت أمامه، وقبل أن تنطق اوقفها هو بسخريةٍ يقول:
_استني علشان شوفت الحتة دي في ١٠٠ فيلم عربي قبل كدا، هتعيطي وتقوليلي غصب عني ؟؟ ضغطوا عليا، وبابا والعيلة هيقطعوا علاقتهم بيا، ولا هتقوليلي عملت كدا أحميك منهم، أصلي خوفت عليك ؟؟ فــوقـي، أنـتِ طماعة، لما جبوهالك بالعقل مشيتي وراهم، إيه اللي هيخليكي تضحي مع واحد معندوش أي حاجة، وتسيبي واحد عنده كل حاجة ؟؟ أنا كنت عارف إنك محبتينيش وأنك حابة الحياة معايا مش أكتر علشان كدا بقولك امشي من وشي لو عندك كرامة.
اتسعت عينيها و انهمرت دموعها في الحال، بينما هو اقترب منها الخطوات المتبقية ثم نطق بثباتٍ:
_و يؤسفني أقولك إن اللي شوفتيه معايا دا نقطة في بحر حب “يوسف” لما يحب بجد، بكرة تشوفي اللي أنا هحبها بجد، يلا مع السلامة علشان تلحقي فرحك.
ردت عليه بثباتٍ:
_كدا أنتَ مدتنيش فرصة حتى أوضحلك أو اتكلم أوضح موقفي.
التفتت حتى تغادر من أمامه فأوقفها بنبرةٍ جامدة:
_”شــهد”
ما إن نطق اسمها أغمضت جفونها تُكبح جماح عبراتها، بينما هو اقترب منها و وقف مقابلًا لها يقول بنبرةٍ جامدة:
_ صحيح النهايات أخلاق، بس محسوبك بقى معندهوش أخلاق ولا شاف تربية.

رفعت عيناها نحوه بعد حديثه، فبصق في وجهها بجمودٍ حتى اتسعت عينيها بصدمةٍ و ذهولٍ من فعله، بينما هو أولاها ظهره ثم تركها خلفه دموعها تمردت وأعلنت العصيان وهي تراه يعود للداخل دون حتى أن يقف لو لبرهةٍ أو يلتفت، بينما “نَــعيم” ظهر الأسف في نظراته فبكت هي بحرقةٍ ثم رحلت من المكان تركض حتى وصلت لسيارتها وأغلقت بابها على نفسها.
صعد “نَـعيم” خلفه فوجده يقف في غرفته أمام الشرفة يتابعها بنظراته، فوقف خلفه يسأله بنفاذ صبرٍ:
_ليه يابني ؟؟ نزلت ليه.
ضغط على جفونه ثم سحب نفسًا عميقًا داخل رئتيه والتفت له يقول بنبرةٍ مُحشرجة:
_علشان مصعبتش عليها يا حج وهي شايفاني صعبان عليا نفسي، علشان وقفت قدامي بكل قسوة وعينها في عيني كأني أنا اللي غلطان، علشان حتى لو ملناش نصيب مع بعض مش دي النهاية اللي استهالها بعد كل حاجة عملتها علشانها.
اقترب منه “نَـعيم” يضع كفه على كتفه ثم قال بثباتٍ و شموخٍ كعادته:
_لما جيت هنا أول مرة كان كفك لسه ناعم و قلبك أبيض، لما جيت تاني مرة كانت الدنيا دوقتك قساوتها، ساعتها قررت أني اربيك تربية الخيول، شامخ عزيز رافع راسك لفوق متتحنيش لمخلوق زيه زيك مهما كان عزيز عليك، وقوفك قصادها النهادرة عرفني إنك خيل أصيل، إن جت عليه الدنيا عمري ما ينحني، بس عاوزك تفتكر إنك إنسان ليك حق تزعل و تغضب و تتعب كمان، أوعى تكبت دا جواك.
تنفس “يوسف” بحدةٍ فيما ضمه “نَــعيم” إليه يربت على ظهره.
في اليوم التالي المخصص لزفافهما، في وسط النهار، كان “يوسف” واقفًا وسط الخيول يتابع عمل الرجال في تنظيف الإسطبل، فاقترب منه “إسماعيل” يمد يده له بكوبٍ من الشاي، فامسكها منه “يوسف” ثم طالع الذي لكمه بالأمس حتى ينزل بعدما منعه “نَـعيم” ثم هتف معتذرًا:

_متزعلش مني علشان وشك دا.
رد عليه الأخر بلامبالاةٍ:
_واخد على قلة أدبك عادي.
ضحك “يوسف” رغمًا عنه ضحكة خافتة وقد صدح صوت هاتفه برسالةٍ وصلته للتو، فأخرج هاتفه يطالع تلك الرسالة ليجدها صورةً لِـ “نادر” اثناء تجهيزه للزفاف وكتب معها:
_SOON.
تنهد “يوسف” بعمقٍ ثم أغلق الهاتف وألقى الكوب أرضًا ثم تحرك من المكان للداخل فخلفه “إسماعيل” بلهفةٍ وقد استمع “نَـعيم” لصياح الأخر فتبعهما نحو الداخل حيث ردهة البيت الواسعة، توقف حينها “يوسف” يتنفس بحدة وهو يفكر هل يجعل ذلك الفرح ينقلب إلى عزاءٍ للمرحوم _إن شاء المولىٰ _ “نادر” أم يتجاهل كل شيءٍ وكأن شيئًا لم يكن ؟؟
وصل خلفهما “نَـعيم” فسأل بنبرةٍ جامدة أقرب للانفعال:
_حصل إيه تاني ؟؟ اوعوا تكونوا اتخانقتوا سوا يا “إسماعيل”.
حرك رأسه نفيًا بينما التفت له “يوسف” يقول بنبرةٍ جامدة:
_بص ابن الـ*** باعتلي إيه ؟؟ يعني مش كفاية اللي هو عامله؟؟ بعتلي يقولي أنا النهاردة باخد مكانك للمرة اللي فشلت في عددها.
اعتلى الضيق ملامح “نَـعيم” و خرج من داخله ليتضح في نبرته قائلًا:
_”إسـمـاعـيل” تروح تهد المعبد على دماغ صحابه، تقلبلي الفرح دا مَيتم، عاوز المحروس يدخل الفرح متشال مرابعة، لو حد وقف في وشك دوسه وأنا هنا.

قبل أن يتحرك “إسـمـاعيل” التفت “يوسف” يوقفه بقوله:
_استنى يا “إسماعيل”، لأ يا حج، متعملش كدا، كدا بتقولهم برافو عليكم عرفتوا تدمروا “يوسف” صح، كدا وجعتوه، كدا بتقولها هي أني لسه باقي وعاوزها، ودا لو على رقبتي مش هيحصل.
تحدث “إسـمـاعيل” بنبرةٍ هادئة:
_طب و العمل ؟؟.
انتبه له ثم أقترب منه يقف أمامه وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_عاوزك تحضرلنا بدلتين حلوين و العربية تتغسل غسلة مُعتبرة، الساعة ٨ بالدقيقة هنكون هناك.
سأله “نَـعيم” من خلفه:
_ناوي على إيه يا “يوسف”؟
تنفس الصعداء ثم قال بغموضٍ:
_ناوي أعمل الواجب يا حج.
الساعة ثامنة إلا دقيقتين مساءًا توقفت سيارة “يوسف” أمام قاعة الزفاف التي من المفترض أن يُقام بها زفافه هو على نفس العروس، لكن لتدابير الحياة حسبةٌ أُخرىٰ لم ولن يفهمها هو.
نزل من السيارة يرتدي حِلة باللون الأسود و في يده باقة الزهور الفاخرة، و بجواره “إسـماعيل” يقترب منه حتى دلفا القاعةِ سويًا، فتقابل على بابها مع “عاصم” و “حكمت” فنظر كليهما له بازدراءٍ، بينما هو ابتسم لهما، فسأله “عاصم” بسخريةٍ:
_غريبة جاي كدا عادي ؟؟ قولت مش هتقدر تعتب هنا علشان كدا ممنعتش دخولك، قولت مش هتيجي.

رد عليه بثباتٍ يمتزج بالوقاحة:
_ليه هي كانت قاعة زفاف أمك ولا إيه ؟؟.
ظهر الشرر في نظرات “حكمت” من فرط وقاحته، بينما “عاصم” قبل أن يقترب منه أتى “سامي” و معه “نادر” ابنه وما إن أبصره في المكان سأل بدهشةٍ:
_بتعمل إيه هنا ؟؟ محدش عزمك.
تحدث “نادر” ببرودٍ يقصد إثارة استفزازه:
_خليه يا بابا، طبيعي ييجي يحضر مش أخو العريس و هيكون عم عيالي ؟؟.
انتبه له “يوسف” فابتسم بثقةٍ يقصد قوله الآتي لذلك نطقه بدون تمهل:
_و خالهم كمان، ماهي العروسة عِشرة عمر برضه مش معرفة يوم والسلام .
هم من أرادوا اللعب بالنار وهو أمهر اللاعبين بها، كلما أردت إحراقه تفاجئت به يغوص في تلك النيران كما السباح في المياه، ثم يخطفك جولة وسط تلك النيران، تصبح أنتَ المُتأذي الوحيد بها.
قبل أن يقترب منه “نادر” يبدأ التشاجر معه أوقفته “حكمت” بقولها وهي تتابع نظرات الناس حولها:
_بس !! الناس بتبص علينا عيب كدا، منظرنا هيبقى وحش ومش عاوزة حد يتكلم، تعالى جوة يلا.
سحبت “نادر” من أمامهم، بينما “يوسف” دلف لقاعة الزفاف بشموخٍ و يجاوره “إسماعيل”.

بعد مرور دقائق نزلت العروس من الدرج أعلى القاعة و نزل “نادر” من الجهة الأخرى ليتقابلان في المنتصف ويمسك يدها يُقبلها أمام الجميع ومنهم “يوسف” الذي استمع لصوت القبضة التي تعتصر قلبه وهو يرىٰ الأخر يتمتع بكافة حقوقه حتى حق قلبه.
نزلا حتى نهاية القاعة وهي تبتسم بوجهٍ مقتضبٍ حتى تقابلت نظراتهما سويًا، فاتسعت عينيها لا تصدق أنه هنا، يقف أمامها كما البقية، أدركت في تلك اللحظة خطئها ولكن قد سبق السيف العزل.
وصل المأذون للقاعة فتحدث “سامي” بلهفةٍ بعدما رأى نظراتها له:
_يلا يا جماعة علشان كتب الكتاب، اتفضلوا اقعدوا، اتفضل يا مولانا.
جلس المأذون حيث أشار الأخر و على يمينه “نادر” و على يساره “نزيه” والد العروس فتحدث المأذون مُستفسرًا:
_الشهود فين يا جماعة.
اقترب “يوسف” ببطاقته الشخصية يجلس على المقعد المجاور لـ “نادر” وهو يبتسم بثقةٍ و جلس “إسماعيل” على المقعد المجاور لـ “نزيه” ومعه بطاقته وهو يقول بسخريةٍ:
_اتفضل يا مولانا بطاقة نضيفة وكله تمام، كان فيه محضر بس خلصناه الحمد لله، حاجة نضيفة.
تسبب في احراجهم، لذلك ضحكوا رغمًا عنهم على سخافته، بينما “شهد” رفعت عيناها تسأله بنظراتها هل ما تراه صحيحًا ؟؟ يشهد على عقد قرانه على غيره؟ هل سيستطع فعلها بكل قسوة؟؟
التفت ينظر لها بسخريةٍ وكأنه يقول لها أنها من سبقت وأخرجت قسوته، فلا يجب أن تلومه هو بعدما خانت الوعود التي قطعتها له.

بدأ المأذون عقد القران وسط النظرات الساخطة والناقمة و الحاقدة، والآخرى المرتخية لكل ما يصير حولها، لكن السؤال هنا هل بين ليلةٍ وضحاها ينقلب كل شيءٍ رأسًا على عقبٍ، تتبدل أدوار المسرحية ليصبح بطلها خارج إطار التصوير، وأخرٌ له دورًا ثانويًا يصبح الشخص الرئيسي؟؟ خذلانه عند إعلانها زوجة لِـ “نادر” كمن ركض خلف حلمه وما إن أوشك على إمساكه التفت ذلك الحلم ليُعلن نفسه كابوسًا يقارنه في كل ليلةٍ.
انتشرت المباركات و التهنئة بينما هو تنهد بعمقٍ ثم التفت يبارك لهما بنظراتٍ خاوية وتحرك بعدها خارج القاعة يتنفس الصعداء فاقتربت منه صديقتها في الخلف تقول بنبرةٍ حزينة:
_”يـوسف”
التفت لها فابتسم بهدوء ثم قال:
_ازيك يا “نور” عاملة إيه ؟؟
حركت رأسها موافقةً ثم قالت بلهفةٍ:
_مش جاية أبرر حاجة ولا ادافع عنها بس أنا جاية علشانك، أنتَ كويس ؟؟
رد عليها بهدوء:
_أنتِ شايفة إيه ؟؟
تنهدت بعمقٍ ثم قالت:
_شايفة إنك زعلان ودا حقك، مش هقدر أقولك متزعلش نفسك، بس إن شاء الله ربنا يكرمك في مكان تاني بظروف تانية محدش عارف.
حرك رأسه موافقًا وهو يبتسم لها، فسألها بسخريةٍ:
_دا اللي كنت بتحبيه من وانتم صغيرين ؟؟ ذوقك وحش اوي.

مسحت دموعها ثم قالت بقلة حيلة:
_الحمد لله إن محدش عارف غيرك، بس صدقني من بدري وهو مش في دماغي أصلًا، لو زعلانة أنا زعلانة على نفسي.
لاحظ اجتماع الشباب بالداخل، فمد كفه لها وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_تعالي بقى نرقص رقصة الوداع.
ابتسمت له من بين دموعها ثم مدت له كفها ليقبض عليه، ثم دلف لساحة الرقص يرقص معها و “شهد” عينيها تتابعه فيبدو أنه تفنن في تعليمها الانتقام لنفسه.
بينما هو تجاهلها تمامًا و أمعن كامل تركيزه مع “نور” حتى نهاية الرقصة، فتركها ثم قال بنبرةٍ هادئة:
_معلش بقى استغليتك، مبعرفش أكدب على حد.
حركت رأسها موافقةً وهي تبتسم له ثم قالت بنبرةٍ هادئة:
_ولا يهمك، عارفة المهم انك تكون ارتاحت شوية.
ابتسم بسخريةٍ ثم مد يده لها يقول بنبرةٍ هادئة:

_مع السلامة يا “نور” أشوف وشك على خير مع واحد يستاهلك بجد مش واحد زي “نادر”.
حركت رأسها موافقةً فتحرك هو نحو “إسماعيل” ثم أشار له حتى تبعه الأخر و رحلا سويًا من المكان، تاركًا “شهد” خلفه تتأكل من الغيظ بعدما حضر زفافها وشَهد على عقد قرانها !! قوته وصلابته تخبرها إنها مهما فعلت لن تستطع التغلب عليه مهما حدث، فبدت هي الجانية وهو من تحرر من قيدها.
( عودة إلى الوقت الحالي)
خرج “يوسف” من شرود على وقوف “عاصم” أمامه فوق سطح البيت، فابتسم بسخريةٍ ثم أرجع ظهره خلفًا وأخرج سيجارته يُشعِلها وهو يقول:
_خير يا عمو ؟؟ جاي تطمن عليا؟
رد عليه الأخر بتهكمٍ:
_بإمارة إيه إن شاء الله؟؟
حرك كتفيه ببساطةٍ فصعد في تلك اللحظة “فيصل” وهو يقول بصوتٍ عالٍ:
_يا بشمهندس “يوسف” جيبت لحضرتك الأكل أهو اتفضـ….
بتر حديثه حينما رآى “عاصم” أمامه، فدلف بخوفٍ يضع الطعام أمام “يوسف” فتحدث بنبرةٍ هادئة متجاهلًا عمه:
_تسلم إيدك يا غالي، تعالى بقى كُل معايا و شجعني يلا.

وزع “فيصل” نظراته بينه وبين عمه ثم نطق بتلعثمٍ:
_تـ…تسلم يا حبيبي، سبقتك، ممكن “عاصم” بيه يقعد ياكل معاك.
ابتسم “يوسف” بسخريةٍ ثم فتح الحقيبة البلاستيكية وهو يقول بتهكمٍ:
_يا راجل ؟؟ بقى دا أكل يليق بـ “عاصم” بيه ؟؟ دا يوم ما يحب ياكل حاجة، بياكل مال اليتيم.
استشاط “عاصم” من الغيظ وبدا كأنهما في حلبة مصارعة، فتحرك “عاصم” من أمامه بخطواتٍ واسعة ليوقفه “يوسف” بقوله:
_”عاصم” بيه ؟؟
التفت له، فرمىٰ له “يوسف” زجاجة مياه بلاستيكية التقطها الأخر بسرعةٍ، ليغمز له “يوسف” وهو يقول بنبرةٍ ضاحكة:
_دا علشان تعرف تبلع ورثي اللي كلته.
ضغط “عاصم” على الزجاجة ثم ألقاها له من جديد متعمدًا اصابته بها، لكن الاخر أخفض جسده لليسار حتى مرت الزجاجة من فوقه، واصطدمت بحامل الزهور خلفه، فازدادت ضحكات “يوسف” وهو يقول:
_معلش بقى العضمة كبرت، إلا قولي صحيح، “مادلين” مراتك عاملة إيه مش باينة بصحيح.
التفت له “عاصم” يقول بضجرٍ:
_مالكش دعوة، خليك في حالك، أنا عمري سألتك كنت فين وبتعمل إيه؟؟

رد عليه “يوسف” بنفس طريقته:
_و أنـتَ مــال أمــك؟.
تحرك “عاصم” من أمامه يضرب الأرض بخطواتٍ واسعة، جعلت “يوسف” يتنهد بعمقٍ ثم رفع رأسه لـ “فيصل” يقول بسخريةٍ:
_قول للمدام بقى متجيبش مسحوق للمسح، أنا هنا همسحلك بكرامة اللي خلفوهم البلاط.
ضحك “فيصل” ثم تحرك من أمامه بعد ربت على كتفه، فنظر “يوسف” للطعام بشهيةٍ مفتوحة وهو يقول:
_الواحد على كدا يرن “سامي” علقة كل يوم علشان نفسه تتفتح كدا..
_________________________
في اليوم التالي في حارة العطار وتحديدًا بداخل بيته.
جلست “آيات” بجوار “إياد” و “أبانوب” و “كاتي” ذلك الصغيرين أبناء شقيقة “بيشوي” تتابعهم بنظراتها ولا شك أن الحزن بدا واضحًا على ملامح وجهها، كانت تجلس بشرودٍ وهي تفكر في موعد الزفاف الذي التغى بعدما شارفت على التجهيز لذلك اليوم كغيرها من الفتيات، حزنها أكثر بسبب عدم تمسكه بها، كانت تنتظر منه اثباتًا واحدًا يقول من خلاله أنه حقًا يحبها هي لشخصها، لكن كل ذلك لم يحدث.
صدح صوت جرس الباب فانتبهت هي له وأن الباب لم يُتفح حتى الآن لذلك تحركت والصغار يلعبون مع بعضهم في الحديقة، بينما هي دلفت للنصف الأخر من البيت تفتح الباب بعدما وضعت خمارها.
تفاجئت بـ “مهرائيل” أمامها و “مارينا” شقيقة “مهرائيل” فتحدثت الأولىٰ بحنقٍ:

_جيبتلك أختي أهو و معايا ولسه الباقيين جايين علشانك، أقسم بالله هنروق عليكِ، سيبيلنا نفسك بس.
نظرت “آيات” لهما ببلاهةٍ، فدلفت “مارينا” تقول بنبرةٍ هادئة:
_زعلانة ليه بس ؟؟ مش حرام الوش دا يكون زعلان، صدقيني هو اللي خسران، مين يطول “آيات” و قلبها الجميل.
ابتسمت لها “آيات” فدلفت “مارينا” تحتضنها، و وقفت “مهرائيل” تتباعهما بحبٍ وهي تقول:
_قوليلها الخايبة دي.
بعد مرور دقائق قليلة ارتفعت صوت غناء الفتيات و تصفقياتهن، و الصغار معهن و جاورتهم “وداد” مدبرة البيت حتى انتبهت لصوت الباب يُفتح، فانسحبت من وسطهم، لتتقابل مع “أيوب” في الخارج فسألته بتعجبٍ:
_خير يا أستاذ “أيوب” فيه حاجة
ابتسم لها ثم أردف مُفسرًا:
_لأ أبدًا جاي بس أغير هدومي ورايح محل المُعز، عاوزة حاجة من هناك ؟؟.
حركت رأسها نفيًا وهي تبتسم له بينما هو التقط بسمعه أصوات الغناء و التصفيقات، فسألها بتعجبٍ:
_هو فيه حاجة جوة في الجنينة؟
ردت عليه بنبرةٍ ضاحكة:
_لأ أبدًا، دي الآنسة “مهرائيل” و أختها الله يكرمهم جُم يهونوا على الآنسة “آيات”، تحب أقولهم إنك هنا ؟؟
ردعها عن الحركة وهو ينطق بلهفةٍ:

_لأ لا بلاش، خليهم يفرحوا بلاش تنكدي عليهم، عن اذنك هطلع أغير هدومي ومتعرفيهمش أني هنا علشان يكونوا على راحتهم، تمام ؟؟.
حركت رأسها موافقةً فيما صعد هو نحو الأعلى حيث غرفته في شقة والده لكي يُبدل ثيابه، فصدح صوت هاتفه برقم فتاةٍ جعلته يرد بلهفةٍ يقول:
_أيوا يا آنسة، خير حصل حاجة؟؟
ردت عليه بنبرةٍ أقرب للبكاء:
_أنا كلمتك يا أستاذ “أيوب” علشان عارفة إنك هتحميني، “سعد” اتعرضلي تاني والمرة دي هددني أنه لو موافقتش ارجعله هيرمي في وشي مية نار زي ما حصل قبل كدا، أنا خلاص تعبت.
تنهد بضجرٍ ثم قال بنبرةٍ هادئة:
_هدي نفسك يا آنسة و متقلقيش، النهاردة إن شاء الله حقك هيرجع واط أنا بنفسي اللي هرجعهولك قدام حارة العطار كلها، اتفقنا ؟؟
ردت عليه بنبرةٍ ظهرت بها الراحة:
_اتفقنا، ربنا يكرمك إن شاء الله و اشكرلي الحج “عبدالقادر”.
أغلقت معه، بينما هو تنهد بعمقٍ ثم قال بضيقٍ:

_ضاقت بيك الدنيا يا حج علشان تديها رقمي ؟؟.
_________________________
في حارة العطار تحديدًا شقة والدة “تَيام” كانت والدته تقوم بسرد الأرز تنتقي منه الفاسد، بينما هو اقترب منها يقول بنبرةٍ هادئة بعدما فكر في الموضوع:
_معلش يا ماما عاوز اتكلم معاكِ في حاجة مهمة، ينفع ؟؟.
حركت رأسها موافقةً وانتبهت له، فيما قال هو بثباتٍ:
_أنا هسيب الشغل عند الحج “عبدالقادر” مش هقدر أكمل معاه، وأنا عاوز اتجوز بنته، نفسي مش جايباني أعملها دي.
تنهدت بضجرٍ ثم قالت بنبرةٍ هادئة:
_طب و العمل ؟؟ هتروح فين يعني لما تسيبه ؟؟ دي الناس كلها عارفة أنه بيعاملك زي ابنه، وأنك واحد من عياله، ليه كدا تزعله منك ؟؟.
جاوبها مُفسرًا بنبرةٍ هادئة:
_علشان أقدر أطلبها منه، هسافر حوالي سنة كدا وأرجع أطلبها، أنا خلاص بجهز الورق.
انتبهت له و لمعت العبرات في عيناها وهي تقول بصوتٍ متهدجٍ:

_اخس عليك يا “تَـيام” كدا عاوز تسافر وتسيبني لوحدي ؟؟ هونت عليك إنك تمشي و تسيبني.
اقترب منها يحتضنها وهو يقول بأسفٍ:
_عمرك ما تهوني عليا أبدًا يا “نجلاء” بس أهو حل مؤقت ومش هاخد أي خطوة غير لما أرجع للحج الأول، بس اكيد مش هقوله على موضوع بنته دا، ماشي ؟؟
حركت رأسها موافقةً بقلة حيلة فقبل هو رأسها ثم احضتنها من جديد.
“في محل العطار الرئيسي”.
كان “عبدالقادر” يرتدي نظاراته الطبية الخاصة بالقراءة، فدلف له “تَـيام” يُلقي عليه التحية، فاعتدل الأخر في جلسته وخلع نظاراته وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_قولت هروح أغير وأرجع تاني اتأخرت ليه يا أستاذ ؟؟.
رد عليه بحرجٍ منه:
_معلش بس كنت بظبط حاجة كدا و مستني مكالمة مهمة، خلصتها وجيت يا حج.
ابتسم “عبدالقادر” بسخريةٍ وهو يقول:
_مكالمة “ممدوح” علشان ورق السفر ؟؟

اتسعت عينيه بدهشةٍ فيما قال “عبدالقادر” بثقةٍ:
_مشكلتكم كلكم محدش فيكم عارف أني فاهمكم كلكم، عاوز تسافر ؟؟ خلاص هونا عليك كلنا ؟؟ بلاش أمك نفسها هانت عليك؟؟
تنهد “تَـيام” ثم جلس أمامه يقول بنبرةٍ مُتخبطة:
_أنا مش عاوز أسافر طمع، عاوز أسافر علشان أكافح بنفسي، عاوز أعمل اسم ليا كبير يليق بكل اللي يعرفني، صدقني مش طمع والله العظيم.
ابتسم له “عبدالقادر” ثم قال بثقةٍ وشموخٍ:
_عارف أنه مش طمع، بس عبط، أنتَ عبيط، فاكر إن الإنسان بفلوسه واسمه، ونسيت إن أهم حاجة أدبه و علاقته بربنا، مين قالك إنك متليقش ؟؟ أنتَ تشرف أي حد، ولو عندي شك فيك إنك ملاوع أو حتى طماع، كان زماني طردك من هنا، بس كل الناس عارفة إنك من عيلة “العطار” يعني معاك خِتم النسر بحاله.
ابتسم له “تَيـام” ثم قال بنبرةٍ متأثرة من حديث الأخر:
_ربنا يخليك لينا يا حج.

قبل أن يرد عليه دلف أحد الرجال وهو يقول بتوترٍ:
_مساء الخير يا حج، أنا المحامي اللي “شكري” أخو مدام “أماني” كلمني علشان أرفع قضية على الأستاذ “أيهم”.
انتبه له “عبدالقادر” و كذلك “تَـيام” الذي ظهر على وجهه الاندهاش مما وصل لسمعه.
بعد مرور دقائق دلف “أيهم” و معه “بيشوي” للمحل بعدما أرسل لهما “عبدالقادر” يريدهما في مقابلةً هامة، فتحدث “بيشوي” بتعجبٍ:
_خير يا حج ؟؟ فيه إيه؟؟
رد عليه بقلة حيلة:
_اقعدوا بس، علشان عاوزكم ضروري.
جلس “بيشوي” و “أيهم” بجواره فأشار “عبدالقادر” للمحامي ليتكلم، فحرك الأخر رأسه موافقًا ثم بدأ حديثه بأسفٍ يقول:
_للأسف الأستاذ “شكري” كلمني النهاردة علشان أقابله ولما اتقابلنا قالي ارفع قضية نفقة الزوجة على الأستاذ “أيهم” أنه مبيصرفش عليها وأنه سايبها في بيت أهلها و قالي لو يعمي ينفع أرفعله قضية حضانة، علشان ياخدوا منه “إياد” بالقانون.
انتصب “أيهم” في وقفته كما المضروب فوق رأسه، فيما جاوره “بيشوي” وهو يقول مندفعًا بنبرةٍ جامدة لأجل رفيقه:
_مين دا اللي مبيصرفش عليها ؟؟ حتى وهي غضبانة مصروفها بيروحلها أنا بأيده بنفسي كل يوم وببعته ليه وللحج، هيكدبوا الكدبة و يصدقوها ؟؟؟.

اقترب “أيهم” يمسك تلابيب المحامي وهو يقول بنبرةٍ جامدة:
_أقسم بالله لو فكرت تعمل حاجة من دي لأكون جايب راسك بأيدي معلقها هنا، فاهم ؟؟
_”أيـــهــم” !!
صرخ بها “عبدالقادر” بنبرةٍ جامدة جعلت قبضتاه يرتخيان عن الأخر، فيما قال “عبدالقادر” بأسفٍ للأخر:
_معلش يا فندم، هو بس انفعل شوية علشان اللي حصل واللي سمعه، وأكيد حضرتك مش هتعمل حاجة.
رد عليه بلهفةٍ:
_يا حج لو عاوز أعمل كنت روحت من غير ما أجي هنا، بس حضرتك صاحب فضل عليا وعلى أبويا بعد ربنا، علشان كدا جيتلك أبلغك.
تحدث “تَيـام” في تلك اللحظة بقوله مُتلهفًا:
_لو كلامك بجد يبقى تسمع كلامي في اللي هقوله ليك، كدا كدا هما عارفين إنك مش هترفع القضية ولو رفعتها هنخاف على سمعتنا و ساعتها هندفعلهم فلوس، كلمه وقوله يجيب أخته وييجي هنا، دا بعد اذنك يا حج طبعًا.
حرك رأسه موافقًا، فيما نطق “أيهم” بنبرةٍ جامدة:
_لو جت هي ولا أخوها قدامي أنا هموتهم، سامعين؟؟

تدخل “بيشوي” يقول بنبرةٍ عالية يردع بها الأخر عن ما يريده:
_ ما كفاية واهدا شوية، قولنا هنتصرف ومحدش هيعمل حاجة ليك ولا حتى لابنك.
أشار “تَـيـام” للمحامي حتى يتحدث مع الآخر فأمتثل لمطلبه بتوترٍ.
كانت الأجواء مشحونة بعد تلك المكالمة، والتوتر يسود الموقف، حتى دلف “شكري” بشقيقته وهو يقول بطريقةٍ خَشِنة:
_سلام عليكم، خير يا حج؟؟
أقترب منه “أيهم” يسأله بجمودٍ:
“وهييجي منين الخير يا وش الفقر أنتَ وأختك ؟؟ عاوزين ترفعوا عليا قضية ؟؟ أنا مبصرفش عليكِ ؟؟ أنا ؟؟ بس هقول إيه ؟؟ قليل الأصل لا بيتعاتب ولا بيتلام، في أول بيعة تقابلك قوله سلام.
أخفضت رأسها للأسفل، فسألها “عبدالقادر”:
_أنا هسألك في كلام تقفي تتحاسبي عليه إن كدبتي فيه، ابني دا مبيصرفش عليكِ ؟؟ ومليش دعوة بأهلك كدا كدا دي حاجة مننا لله، أنا بتكلم عليكِ عمره بخل عليكِ بحاجة قبل كدا.
حركت رأسها نفيًا بخزيٍ منهم، فقال “عبدالقادر” بنفس الجمود:

_يبقى حسبي الله ونعم الوكيل فيكِ طالما بتتبلي علينا، بالنسبة بقى لموضوع الحضانة دا تنسيه تمامًا وأنا هكتفي بس إنك تيجي تزوريه في البيت عندنا، لكن يروح بيتكم مستحيل يحصل.
تحدث “شكري” بطريقةٍ سوقية:
_يعني إيه يا حج ؟؟ هتحرموا أختي من ضناها، طب وحقها فيه؟؟
تحدث “تَـيام” بثباتٍ بعدما تدخل في الحديث:
_أختك بنفسها اللي اتنازلت عن حقها فيه، مش منطقي يعني تيجي دلوقتي تطلب ابنها.
رفع “شكري” رأسه يقول بهدوء:
_خلاص اللي مش بايع يشتري.
تحدث “أيهم” بجمودٍ:
_نـعـم !! يعني إيه؟؟.
التفت له يقول بثباتٍ:
_شوف هتدفع كام وتاخد “إياد” ليك ومبروك عليك يتربى في عزك.
يبدو الحديث كما إلقاء الجمر على الأجساد، انصدم “أيـهم” والتفت لها ينتظر منها أن تنفي قول أخيها لكن نظرتها قالت إنها موافقة على ذلك، لذا وقف أمامها يسألها بضياعٍ:

_الكلام دا أنتِ موافقة عليه؟؟
لم تقو على مواجهته أو حتى النظر له، بينما هو سألها بجمودٍ:
_ردي عليا ؟؟ الكلام دا صح؟؟
لم تنطق أيضًا فرماها هو بنظراتٍ ناقمة ثم قال بثباتٍ:
_شوف عاوز كام علشان مشوفش أشكالكم دي تاني.
تحدث “شكري” بثباتٍ لم يكن بمحله:
_نص مليون جنيه ومبروك عليك “إياد” خلاص مش كدا يا “أماني”
حركت رأسها موافقةً بقلة حيلة، فوصلهم صوت تكسير الزجاج على الأرض ولم يختلف كثيرًا عن صوت التكسير في قلب الصغير “إياد” الذي رأى والدته تتخلى عنه مقابل المال، فنزلت دموعه على الفور وركض من المكان بعدما تشوشت الرؤية أمامه دون أن يستمع لصوت ندائهم المتكرر و صرخاتهم باسمه.
_________________________

“في منطقة الزمالك”
جلس “يوسف” يتصفح هاتفه و خاصةً موقع “تويتر” المفضل له فجال بخاطره جملةٌ فتح خانة التجديدات ليكتبها، تنهد بعمقٍ ثم كتب:
_طلعت مش مسألة خير وشر، كل اللي أمنتلهم سابوني في عرض البحر.
أنهى كتابة تلك الجملة وبعد مرور دقائق وصله تعليقٌ عبر ذلك التطبيق من أحد أصدقائه اللذي يُدعىٰ “ياسين الشيخ” كاتبًا:
_والله ؟؟ طب تمام المرة الجاية بايدي دي هرميك في وش الموج.
ابتسم “يوسف” ثم كتب له في التعليقات:
_متظلمنيش، أنا بقول كل اللي أمنتلهم، أنا أنتَ لسه مأمنتش ليك.
وصل التعليق للأخر فكتب له:
_مش أنا اللي هرد عليك، أنا هجيب حد تاني يرد عليك، أظن عارف لو هو رد هيقولك إيه ؟؟.
ارتفع صوت ضحكاته لأول مرّة في ذلك البيت منذ وصوله إلى هنا فانتبهت له “شهد” التي كانت تتحدث في هاتفها بينما هو قبل أن يكتب من جديد وصله صوت عمته وهي تقول بنبرةٍ أقرب للصراخ:
_”سامي” !! مين عمل فيك كدا.
فهم مقصد حديث عمته لذلك تشكل العبث على ملامحه وأغلق هاتفه يضعه في جيبه فاقتربت “شهد” من “سامي” تسأله بتعجبٍ:

_مالك يا عمو ؟؟ مين عمل فيك كدا ؟؟ حد اتعرضلك ؟؟
قام “يوسف” بثقةٍ يضع كفيه في جيبي بنطاله، فيما نطق الأخر وهو ينظر له بشرٍ و وجهه تُغطيه الكدمات:
_تــور…..اللي اتعرضلي كان تور.
رددت “فاتن” خلفه بتعجبٍ:
_تور ؟؟ وهو التور جالك منين إن شاء الله ؟؟ تلاقيك مسكتله حاجة حمرا.
تدخل “يوسف” يقول بسخريةٍ مرحة قاصدًا إثارة استفزاز الأخر:
_أو كان لابسله حاجة حمرا، محدش عارف.
التفت له “سامي” يقول بضجرٍ وقد فاض به الكيل:
_طب والله كويس أنه معترف أنه تور.
اقترب منه “يوسف” أمامهما يغمز له ثم قال بمراوغةٍ:
_مش أحسن ما يعترف أنه كان لابس حاجة حمرا ؟؟.

صدح صوت جرس الباب ففتحته مدبرة البيت لتطل منه امرأةٌ في غاية الجمال، جسدها ممشوقًا، خصلاتها صفراء مموجة لم يبدو عليها السن كأنها في العقد الثالث من عمرها، بل في الحقيقة هي في أواخر العقد الرابع، دلفت لهم تسحب حقيبة سفرها خلفها.
انتبه لها الجميع، بينما هي ما إن أبصرت “يوسف” أمامها قالت بنبرةٍ جامدة:
_أنتَ إيه اللي جابك هنا تاني؟؟ مش كنا خلصنا منك خلاص؟؟
التفت لها يقول بتبجحٍ:
_وأنـتِ مـال أمـك؟؟.
صرخت بغيظٍ منه، بينما هو نظر لها بسخريةٍ، حتى قالت بنبرةٍ جامدة وطريقةٍ مُتعالية:
_ياريت تحترم الفرق ما بينا وتعرف أني مرات عمك، وكل واحد رده بيعبر عن بيئته وأتمنى يعني أنك ترد عليا باحترام لو شوية.
هل تقصد إهانته وتهين بيئته و تربيته ؟؟ إذا كانت تقصد ذلك فعليها بتحمل النتيجة، لذلك وقف أمامها كما يُقال العين بالعين ورفع رأسه يقول بسخريةٍ:
_تتمني أرد عليكِ باحترام ؟؟ والله مش ذنبي إنك شخصية مُهزئة محدش اخترمك قبل كدا لدرجة خليتك تتمني حد يحترمك، ومع ذلك ليكِ مني كامل الاحترام والتقدير مهما كان أنتِ مرات عمي ونفسك حد يحترمك.
طريقته الواثقة وحديثه المُقنع الباهر في سحب الكرة لملعبه، و تحويل الأمور لصالحه مهما كان الأمر تجعل من يقف أمامه يتراجع عن محاولة استفزازه متقهقرًا حتى يحافظ على كرامته لو بجزءٍ إذا بقى في قاموسهم مُصطلح الكرامة.

يتبع….

“يــا صـبـر أيـوب”
___________________
مَوْلاي إنّي بِباك قدْ بسطتُّ يَدِي..
منْ لي أَلُوذُ بِهِ إلّاكَ يا سَندي.
_النقشبندي
اللهُمَّ صَلِّ وسَلِّم وبَارِكَ علىٰ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ
___________________________
_بعدما كان يسرنا رؤياكم، اصبحنا نستسقل وجودكم ونتمنى أن لا نراكم، أنا من حسبتُ نفسي عزيزًا في دياركم، فوجدت نفسي مصونًا بكل مكانٍ إلاكم، ظننتُ أنني عليكم لن أهون، فصان الجميع عهده معي، وما خانني سواكم.
_لقد كُتِبَ عليه في ذلك العمر الصغير أن يختبر هذا الشعور البغيض وهو يرى أحن الناس عليه _أو من المفترض أن تكون هكذا_ والدته تتخلى عنه مقابل المال في صغر عمره وهو أكثر الناسِ حاجةً إليها، استمع “إياد” إلى الحوار الدائر بينهم منذ أن عرض خاله بيعه لهم مقابل المال، فسقطت زجاجة العصير من يده بغير قصد ليصلهم صوت التهشيم على الأرض ولم يختلف كثيرًا عن صوت التهشيم بداخل قلبه.
ركض “إياد” من المكانِ مُتجاهلًا ندائهم المتكرر باسمه حتى تقابل مع رفيقه “أبانوب” فلاحظ الاخر بكائه لذلك سأله بتعجبٍ تخالطه الدهشة:
_مالك يا “إياد” بتعيط كدا ليه ؟؟ عمو “أيهم” زعقلك؟
ارتمى على صديقه يعانقه، فحاوطه الأخر مُربتًا عليه ولم يفهم شيئًا غير أن صديقه يبكي بوجعٍ جعله يود البكاء هو الأخر، فيما استمر الثاني في البكاء حتى وصل له “أيهم” يركض خلفه وما إن رأه في عناق رفيقه، حينها تنفس الصعداء بعدما كان يلهث بقوةٍ ونفسٍ مُتقطعٍ، ثم مال بجسده للأمام يلتقط أنفاسه ويستند بكلا كفيه على ركبتيه.
لاحظه “أبانوب” فسأله بحيرةٍ:
_هو ماله يا عمو ؟؟ مين زعله، أنتَ ؟؟.

حرك رأسه نفيًا ثم اقترب منهما يفصل العناق بينهما وابنه يُطرق برأسه للأسفل يخفي عينيه عن أبيه، فيما رفع “أيهم” رأس الصغير يحدثه بثباتٍ:
_بتعيط ليه ؟؟ زعلان إنك هتكون معايا علطول؟؟ إحنا بنعمل كدا علشان تفضل معايا ومتسبنيش، عاوز تسيبني ؟؟
سأله “أيهم” بنبرةٍ مُحشرجة، فحرك الأخر رأسه نفيًا، حينها مسح والده على رأسه ووجهه ثم أجبر شفتيه على الابتسام وهو يقول:
_طب زعلان ليه؟؟ هنفضل مع بعض علطول.
رد عليه الأخر بسؤالٍ لم بتوقعه موجعًا بتلك الطريقة:
_يعني أنتَ مش هتعمل كدا أنتَ كمان؟؟
اتسعت عيناهُ بغير تصديق وهو يتفحص الصغير بنظراته، فيما انتظر “إياد” جوابه وهو ينظر له مُترقبًا جوابه، وما كان إلا عناقًا أبويًا خطفه فيه بين ذراعيه وهو يقول مؤكدًا كل حرفٍ ينطق به:
_مُستحيل، لو على رقبتي مش هعمل كدا أبدًا، فراق الروح أهون عليا من غيابك عن عيني يوم واحد بس، أوعى تفكر في كدا علشان أنا مليش غيرك يحلي أيامي.
احتضنه “إياد” وكأن حديث والده كما الثلج على النيران أخمدها تمامًا قبل أن تفرض سيطرتها عليه وتقوم بتبخيره، بينما “أيهم” حمله بين ذراعيه ثم اعتدل واقفًا يمسك بكف “أبانوب” فتفاجأ بـ طليقته تأتي من خلفه ولحسن الحظ أن صغيره كان يخفي رأسه في كتف والده الذي هتف مُحذرًا حينما رآها:
_لو شوفت وشك تاني أنا هدوسك برجلي، غوري من وشي، غوري بقولك.
همت بالحديث فاقترب منها شقيقها يمسك كفها يضغط عليه ثم حرك رأسه موافقًا وهو يقول:
_وماله يا باشا حقك.
وزع “أيهم” نظراته المُزدرية بينهما ثم بصق عليهما وتحرك من المكان بعدما رمقهما بمقتٍ وحقدٍ يود الفتك بهما لولا وجود الصغيرين، فالتفت يرحل بهما وحينها رفع “إياد” رأسه ينظر لوالدته مُتحسرًا بعدما خيبت أماله، ليعيش هذا الشعور في ذلك السن الصغير، وعلى الرغم من ذلك ستبقى تلك الذِكرى الأكثر ظلامًا في قلبه.
وقفت “أماني” تتابعه بعينين دامعتين تود الركض خلفه بعدما تحركت غريزة امومتها الفطرية، فاقترب ذلك الشيطان الذي يتجسد في هيئة أخيها يقول بنبرةٍ هادئة:

_كل حاجة هتبقى بخير ياختي، يلا بس قبل ما الحج يرجع في كلامه تعالي يلا.
سحبها من كفها وهي تسير خلفه مُنصاعة في أذعانٍ لأوامره حتى عادت من جديد للداخل بعدما عاد الرجال لداخل وكالة “العطار”، وحينها فقط قرآت في عيون الجميع ابشع النظرات الحاقدة عليها، ولم تحتاج وقتًا أو حتى دقة لتقرأ تلك النظرات الواضحةِ من الأساس.
جلس “عبدالقادر” على مقعده يمسك عصاه، وهو يرمقها بمقتٍ وحقدٍ نظرةً جعلتها تُخفض رأسها سريعًا قبل أن تقتلها محلها.
_______________________
_في بيت “العطار”
وصله “أيهم” بابنه على ذراعه و “أبانوب” في يمسك في كفه حتى توقف فطرق الصغير على الباب وماهي إلا ثوانٍ حتى فتحته “وداد” لهم وعند رؤيتها لهم، تسائلت بلهفةٍ على الصغير:
_حصل حاجة يا أستاذ “أيهم” ؟؟ الولد بخير ؟
حرك رأسه بقلة حيلة فأنحنت جانبًا تترك لهم الفرصة للدخول، فسألها قبل أن يمر على أعتاب البيت:
_”آيات” فين ؟؟
أشارت له باصبعها حيث مكان تواجدها، فتنهد بعمقٍ ثم قال بنبرةٍ حاول جعلها طبيعية.
_خليها تيجيلي عند أوضتها بسرعة.
تحركت “وداد” من أمامه بلهفةٍ بعدما قرأت تعابير وجهه ويالطبع علمت أن هناك أمرًا بالكاد لم يكن خيرًا، فيما تحرك “أيهم” نحو الداخل يقف عند باب غرفة “آيات” والصغير على ذراعه ورأسه يلقيها على كتفه.
اقتربت منه “آيات” بلهفةٍ بخطواتٍ اشبه بالركض، بينما هو زفر بعمقٍ ثم قال:
_افتحي الباب علشان هنيمه عندك في الأوضة.
حركت رأسها موافقةً ثم فتحت الباب له باذعانٍ لمطلبه، فدلف يضع الصغير على الفراش ثم طالعه بأسفٍ وتنهد بثقلٍ ثم مال عليه يُقبل جبينه، اقتربت شقيقته منه تسأله بصوتٍ بدا عليه الحزن واضحًا:
_هو ماله يا “أيهم” ؟؟ قالي هروح أجيب حاجة واروح لجدو المحل وهاجي تاني، حصله إيه بس؟؟
سرد عليها الموضوع إجمالًا بدون تفصيل مما جعلها تبكي دون إرادةٍ منها وهي تحرك رأسها نحو الصغير تطالعه بشفقةٍ وحزنٍ على تلك المشاعر المُميتة التي شعر بها، بينما “أيهم” زفر مُطولًا ثم قال:

_خلي بالك منه ومتخليهوش يخرج من البيت لو طلب يخرج كلميني، مش هوصيكي.
مسحت دموعها وهتفت تعاتبه بقولها:
_هتوصيني على ابني؟؟ روح أنتَ وملكش دعوة.
اقترب منها يُقبل رأسها بامتنانٍ لم يُفصح عنه لكن كلاهما كان على درايةٍ بقلب الأخر ومابه، ثم بعدها خرج من الغرفة بعدما رفع رأسه من جديد واستعاد ثباته ليخرج من البيت كما المحارب نحو ساحة المعركة دون حتى أن يتخذ هُدنة تلتئم بها جروحه.
اقتربت “آيات” من الصغير تجلس بجواره على الفراش فدلفت لها “مهرائيل” بلهفةٍ ومعها “أبانوب” الذي أخبرها بكل شيءٍ رأه، فسألتها:
_حصل إيه يا “آيات” ؟؟ ماله “إياد”؟؟
التفتت له بعينين دامعتين فلاحظت الأخرى ذلك، بينما “آيات” سردت لها ما حدث وأخبرتها بما فعلته والدة الصغير، فشهقت “مهرائيل” وهي تقول بغير تصديق:
_المعفنة الحقيرة !! هي كانت تطول أصلًا إنها يكون عندها ابن زيه من عيلة العطار ؟؟ أقولك أحسن، بكرة هنلاقيها بتتباع في السوق ومحدش يفكر يدفع فيها نص جنيه حتى، بكرهها.
تنهدت “آيات” بثقلٍ ثم قالت بشرودٍ:
_كنت عارفة إن قلبها جامد بس مش للدرجة دي، قولت أكيد دي أم ومسير قلبها فيه حنية شوية، بس طمعها بقى غطى على أي حاجة حلوة ممكن تكون جواها.
اقتربت “مهرائيل” تربت على كتفها، بينما “أبانوب” خلع حذائه ثم انتقل على الفراش يُمدد جسده عليه كُليًا بجوار صديقه ثم ربت على خصلاته وهو يقول بنبرةٍ غلفها الحزن لأجل رفيقه:
_هيصحى إمتى يا “مهرائيل” مش بعرف اقعد من غيره.
ابتسمت له ثم هتفت بحماسٍ تقصد تشجيعه:
_خليك جنبه أنتَ لحد ما يصحىٰ، ماشي ؟؟
حرك رأسه موافقًا ثم وضع رأسه على الوسادة بجوار الصغير وعيناه كما هي مُثبتة على الصغير.
“في محل العطار”
دلف “أيهم” بخطواتٍ واسعة وكأنه يُصار الأرض أسفله، بينما الجميع كانوا في انتظارهِ، ما إن رأه “عبدالقادر” تنهد بعمقٍ ثم قال بلباقةٍ وهيبةٍ يليقان به:

_دلوقتي هتاخدوا الفلوس اللي طلبتوها، وعليهم حاجة بسيطة مني كمان، إكرامية ليكم.
نظر له “أيهم” بتعجبٍ بينما “عبدالقادر” تحرك نحو الباب الصغير في محله من أمام الجميع ليختفي أثره لمدة دقائق ثم خرج لهم جديد بالمال ثم ألقى الحقيبة على الطاولةِ أمامهما، وقبل ان تمتد أيديهم أو حتى نظراتهما نحو الحقيبة، أوقفهما بقوله:
_دول ٦٠٠ ألف جنيه، يعني زيادة عن اللي طلبتوه، كدا ملكيش أي حاجة عندنا، وأظن أنتِ كنت جاية البيت عندنا من غير حتى شنطة هدوم، يعني كل حاجة بتاعة ابني، حضراتكم بقى هتمضولي على ورق، إن لو حد فيكم فكر بس يقرب من ابني أو حفيدي، أنا هخفيه ورا الشمس، قولتوا إيه ؟؟.
هيبته في الحديث وإصرار حروفه لم ينذر بالخير بل يقول أن هذا الرجل قد يفتك بكلٍ من تسول له نفسه المساس بمن يخصه، تحدث “شكري” في الحال بقوله:
_ماشي يا حج دا حقك برضه، وأنا اضمنلك إن لا أنا ولا “أماني” لينا علاقة بالواد تاني.
ضرب “عبدالقادر” الأرض بعصاه ثم نطق بنبرةٍ قاسية:
_اســمـه “إيــــاد” واد الأشكال اللي زيك كدا.
تعمد “عبدالقادر” إحراجه أمام الجميع، ثم التفت يُخرج الاوراق من خزانته وعاد من جديد يمد يده بالأوراق وهو يقول:
_ورقة طلاقك كلها يومين وتكون عندك رسمي، أمضي على الورق دا علشان تمشوا من هنا بالفلوس، يا كدا، يا وعزة وجلالة الله مافيه جنيه واحد هيخرج من هنا !! قولتوا إيه.
خطف “شكري” الورق منه ثم سحب القلم من الطاولة الموضوعة أمامه يدون امضته في الخانة المخصصة له، ثم مد يده لشقيقته التي تجمدت أطرافها و حركت رأسها نحو “أيهم” تتطلب منه العون، فابتسم بسخريةٍ ونطق بتهكمٍ:
_دا كان زمان، كان فيه منه وخلص، أمضي علشان نخلص إحنا كمان و أنضف حياة ابني من أشكالكم، ربنا يتوب علينا.
نزلت دموعها وباتت مُتيقنة أن كل الطرق أصبحت مسدودةّ في وجهها، لذلك أختارت الأصلح لها ثم مسكت القلم تدون به امضتها حتى تم كل شيء، فسحب “عبدالقادر” الورق منهما وأشار برأسه نحو الحقيبة يتحدث باقتضابٍ:
_اتفضلوا خدوا الفلوس وامشوا من هنا، بس قبل ما تمشوا لو حد فيكم يفكر ناحية حد من بيت العطار، أنا هدوسه في وشي، مفهوم أنتَ وأختك ؟؟
تدخل “بيشوي” ينطق بجمودٍ:
_لو لمحتك يا “شكري” بتقرب من “إياد” من غير ما استأذن حد أنا ساعتها هزفك قصاد الحارة كلها، واللي يكلمني هقوله أنا عمه ومعايا إذن، مفهوم ؟؟.
سحب الحقيبة مُتجاهلًا كلام “عبدالقادر” و “بيشوي” ثم أمسك كف شقيقته يسحبها خلفه وهي تجلس كما المضروبة فوق رأسها بعصا كانت على وشك فقد حياتها من خلالها.
راقبها “أيـهم” مُتحسرًا على سنين عمره التي ضاعت منه في العيش معها، و على أحلامه التي تبخرت كما قطعة الثلج التي وضعت أسفل أشعة الشمس، ظننا أنها تلتمس منها الدفء فتفاجأت بنفسها تتبخر أسفل أشعتها حتى اختفى أثرها تمامًا، هكذا هو أعطاها أجمل ما فيه لترد عليه بأقسىٰ ما لديها، أخرج تنهيدةً حارة من جوفه، ثم نظر للجهة الأخرى جهة صورة والده برفقة ابنه و حينها ابتسم للصغير مقررًا الصمود لأجله.
_______________________

في منطقة الزمالك تحرك “يوسف” من أمامهم جميعًا نحو غرفته حتى يُبدل ثيابه بأخرى تتناسب مع الخروج من البيت، فارتدى قميصًا باللون الأسود و شمر أكمامه حتى قُبيل مرفقه و بنطالًا من خامة الجينز وكعادته صفف خصلاته وارتدى ساعة معصمه ثم ارتدى حذاءًا رياضيًا باللون الأبيض ثم تمم على هيئته و ابتسم بزهوٍ لنفسه متعمدًا الظهور أمامهم بأوسم حالاته.
نزل من الغرفة بخطواتٍ ثابتة على الدرج فوجدهم يجتمعون حول طاولة الطعام بدونه، فابتسم هو بسخريةٍ ثم استأنف سيره نحو الأسفل حتى لاحظته “فاتن” فقالت بلهفةٍ:
_”يوسف” تعالى كُل معانا، أنا بعتلك مع “فيصل” بس أنتَ مرضيتش تنزل، تعالى يا حبيبي أنا عاملة الأكل اللي بتحبه.
تحدث “سامي” بنبرةٍ ساخطة:
_هو أكيد مستعجل يا “فاتن” متضغطيش عليه.
ابتسم “يوسف” بزاوية فمه ثم قرر اللعب معهم لذا تحرك نحو المقعد الفارغ بجوار “سامي” يسحبه ثم قال بنبرةٍ تبدو طبيعية لكنها تُنافي ذلك:
_بقى عمتو تتعب نفسها وتعمل الأكل اللي بحبه وأنا أقول لأ؟؟ مينفعش كدا كأني قليل الأصل، وابن الراوي شارب الأصول كلها بالمعلقة.
توجهت الأنظار بأكملها نحوه، بينما هو مد يده بطبقٍ فارغٍ لعمته حتى تضع به الطعام ففعلت هي هذا بنفسٍ راضية و وجهٍ مُبتسمٍ جعله يبتسم هو الأخر متعمدًا إثارة غيظهم.
جلست عمته بعدما قربت من جميع الأصناف، بينما هو حمحم بخشونةٍ ثم نطق بسخريةٍ:
_ما تاكلوا يا جماعة هو أنا غريب؟؟ كلوا عقبال ما تاكلوا في الجنة إن شاء الله.
أدار وجهه للجهة الأخرى بعد جملته تلك وهمس لنفسه:
_ابقوا قابلوني لو عتبتوها حتى.
أدار وجهه من جديد لهم يبتسم باستفزازٍ جعل “نادر” يزفر بقوةٍ من فكرة تواجده عمومًا، بينما “يوسف” مال على أذن “سامي” يهمس له:
_طب أنتَ متربيتش علشان أمك رقاصة، هو بقى مترباش ليه تفتكر ؟؟؟.
رفع “سامي” رأسه نحوه يطالعه بحدةٍ، فابتسم “يوسف” ثم قال بنبرةٍ ضاحكة ينطق هامسًا:
_اقولك أنا ليه؟؟ علشان سته رقاصة.

ضغط “سامي” على قبضته يحاول التحكم في نفسه، ففاجئه “يوسف” وهو يضع الطعام في فمه عنوةً عنه قاصدًا ذلك تحت نظرات الآخرين المُتعجبة، بينما هو لم يلمس الطعام بل مسح كفيه ثم تحرك من مكانه، فسألته “فاتن” بخيبة أملٍ:
_أنا قولت أنتَ هتاكل، ماكلتش ليه؟؟.
التفت لها يقول بنبرةٍ غلفها الحزن:
_شكرًا، أنا قعدت بس علشان مزعلكيش وأنتِ متعشمة فيا، إنما لدرجة أني آكل مش هقدر، كدا كدا معزوم برة.
رفعت “شهد” رأسها نحوه تود أن تسأله عن كافة التفاصيل، بينما هو لاحظ نظرتها تلك وتحرك من المكانِ مُتجاهلًا إياهًا بل وتجاهلهم جميعًا.
________________________
في حارة العطار تحديدًا بقرب محل “سعد” للهواتف المحمولة، اقترب “أيوب” بهيبته الطاغية على الرغم من لين تصرفاته وطباعه، كان يرتدي بنطالًا وفوقه سترة قُطنية على عكس عادته الرسمية، وفي يده زجاجة من خامة الزجاج خضراء اللون، فلمح بعينيه “سعد” جالسًا أمام المحل يضع قدمًا فوق الأخرىٰ و بجواره النرجيلة الفحمية “شيشة” يسحب هوائها ثم يخرجه من جديد و عيناه تُمشط الشارع سامحًا لنفسه أن يغوص بنظره في أجساد النساء و الفتيات بطريقةٍ مُهينة حتى وإن كانت ملابسهن مُحتشمة.
قبل أن يقترب “أيوب” منه أخرج هاتفه يحادث الفتاة وما إن أجابت على الهاتف قال بنبرةٍ هادئة:
_تقدري تطلعي البلكونة تشوفي حقك وهو بيرجع.
أغلق الهاتف معها ثم وضع هاتفه في جيبه واقترب أكثر من الأخر فلاحظ “أيوب” نظراته وقد قرر أن يُكمل ما أتى لأجله لذلك تحرك بخطى ثابتة مَلكًا نحو محل هذا الفظ و النظرات بأكملها مُثبتةً عليه خاصةً بعد لقاءهما الأخير الغير محمود تمامًا، أقترب حتى وقف أمامه بطلته المُهيبة، فازدرد “سعد” لعابه بتلقائيةٍ، بينما “أيوب” رفع صوته أمام الجميع قائلًا:
_اســمــعوا يا أهــل حارة العطار، علشان أنا و أعوذ بالله من كلمة أنا، جيت هنا من يومين بالظبط حذرته بلساني وأيدي انه لو فكر يقرب تاني من حد يخص عيلة العطار، أنا بنفسي هاجي هنا أهينه، الاستاذ طبعًا كان خاطب، ومحصلش نصيب، البيه المحترم مصمم يهدد خطيبته أنه هيرمي في وشها مية نار، كل دا علشان ترجعله تاني بالعافية، أنا بقى جيت علشان أوريه إن اللي بيعمل مبيقولش.
فور انتهاء حديثه التفت لـ “سعد” وقد سبق وفتح الزجاجة التي يمسكها ثم فاجئه بقوله:
_مبروك عليك مية النار يا “سعد”.
قبل أن يدرك الأخر مقصده، كان “أيوب” ألقى الزجاجة في وجهه وسط الشهقات المُستنكرة و الخوف من سكان الحارة، بينما “سعد” صرخ بملء صوته و وضع كفيه على وجهه وهو يصرخ تلقائيًا، بينما “أيوب” ابتسم بسخريةٍ ثم حرر وجهه بعدما ابعد كفيه ثم قال بنبرةٍ جامدة:
_علشان تعرف إنك عيل خايب ملكش لازمة، دي ازازة سفن مكلفتنيش ١٠ جنيه على بعض، بس بصراحة مش خسارة في أشكالك عديمة الرباية، واهو قدام الكُل بقولك فكر كدا تلعب بديلك علشان ساعتها أنا هنفذ بجد.

لهث “سعد” بقوةٍ وهو يطالع “أيوب” بخوفٍ، بينما الأخر ابتسم له بثقةٍ ثم ربت على كتفه وهو يقول بملء صوته:
_بألف هنا يا “سعد” خليك فاكر بقى إن ابن العطار مش لقمة طرية يعني يوم ما تحب تبعت حد يخلصك منه، ابعت حد مصحصح شوية، مش واحد عميان، دا علشان تخلص بسرعة بس.
تحرك “أيوب” من جديد عائدًا بنفس الثبات، بينما من إحدى شرفات الشارع وقفت الفتاة تبتسم بسعادةٍ وهي ترى الخوف باديًا على الأخر، ليعيش نفس معاناة خوفها منه.
________________________
ركب “أيوب” سيارته ثم توجه حيث منطقة المُعز، تلك المنطقة التي يعشقها و يُفضل التواجد بها وسط كل ما يُشبهه، البيوت القديمة و المساجد التاريخية و التُحف القديمة، وصوت المُنشدين الابتهالات الدينية، كل ماهو هنا يبعث السكينة في نفسه، لذلك أوقف السيارة عند مقدمة الشارع ثم نزل منها يسير الباقي على قدميه مُستمتعًا بكل ذلك كما الطفل الصغير يراقب الألعاب التي يعشقها.
وصل محله في منطقة المُعز، وقد كان مُخصصًا لصناعة الفخار بكافة أنواعه و أشكاله، و بعض التُحف التي كُتِب عليها بخط اليد العربي، وبعد الإطارات التي كُتبَ بداخلها آيات قرآنية و بعض الأذكار، معظم الأشياء صنعها هو بيديه، على الرغم من ذلك كانت اسعارها رمزية بسيطة، وذلك لأنه قرر أن يفعلها بقابل الحُب و الشغف وليس للربح المادي.
دلف المحل وهو يبتسم خاصةً حينما وجده مُمتلئًا بالناس، فاتسعت ابتسامته وهو يردد بنبرةٍ خافتة:
_بسم الله اللهم بارك، الحمد لله.
جلس على مقعده فاقترب منه مساعده يُرحب به، بينما هو رد عليه تحييته ثم طلب منه أن يتابع شئون عمله قبل أن يعود من جديد لحارة العطار ويتابع الأمور بها.
________________________
أوقف “يوسف” سيارته عِند منزل “نَـعيم الحُصري” ثم ترجل منها ودلف حتى مُقدمة البيت فوجد “نَـعيم” يجلس بجوار “إسماعيل” يتابعان سير العمل، فاقترب منهما يقول بنبرةٍ هادئة:
_مساء الخير؟؟.
تجاهله “نَـعيم” فيما رد عليه “إسماعيل” تحيته بوجهٍ مقتضبٍ، فسحب هو مقعدًا ثم جلس بجوار “عبدالقادر” يقول بأسفٍ:
_متزعلش مني بقى، حقك عليا.
تنهد “نعيم” ثم أدار وجهه للجهة الأخرى، فتحدث “يوسف” بنبرةٍ هادئة:
_أنتَ عارف غلاوتك عندي واني مقدرش حتى أزعلك، بُصلي طيب و هزئني براحتك.
التفت له “نعيم” ثم نطق بنبرةٍ جامدة:

_علشان أنتَ غبي وأنا خايف عليك، قولتلك ١٠٠ مرة صحيح قلبك جامد وملكش حاجة تكتفك، بس مش كل مرة بتسلم الجَرة يابن الراوي، هتيجي مرة تبقى بجد وتضيع منك كل حاجة، تقدر تقولي بقى روحت فين بعدما سيبت “ليل” و مشيت ؟؟.
تنهد مطولًا يعلم أن تخبئته لن تنفعه بشيءٍ لذلك رفع رأسه يجاوبه بثباتٍ:
_روحت ضربت “سامي” علشان يبطل يقولي تاني أني تربية أحداث، كان لازم اخوفه علشان يتهد شوية.
تحدث “نعيم” بغلظةٍ وقد نفذ صبره:
_ولما يموت في إيدك ؟؟ إيه العمل هتبقى ضيعت نفسك على واحد زي دا !! واحد محدش يقبل حتى يبصله ؟؟ تبقى عديت بكل اللي فات دا وتيجي بعدما اتخطيتهم كلهم تضيع نفسك ؟؟ يابني حرام عليك أنا ما بصدق ترتاح شوية.
اقترب منه يقبل كفه ثم رفع رأسه يقول مؤكدًا:
_صدقني اللي عملته دا ريحني، مرة من نفسي بعدما مشيت من وسطهم من غير أي حاجة، رغم إني ليا في كل حاجة، أوعدك طول ما أنا هنا مش هعمل حاجة لحد ما أمهم تفوق و أعرف هي عاوزاني ليه، اديني مستني.
ربت “نَـعيم” على ظهره، بينما نطق “إسماعيل” بضحكةٍ واسعة:
_طب بما إن “يوسف” خلاص رجع، أنا عندي خبر حلو.
انتبه له كلاهما، فقال “إسماعيل” بحماسٍ:
_النقض بتاع “إيهاب” أخويا اتقبل و الحكم سقط من عليه وخد براءة خلاص.
شهق “يوسف” بحماسٍ فيما انتفض “عبدالقادر” من موضعه يسأله بغير تصديق:
_بتتكلم جد ؟؟ أوعى تكون بتخرف ؟؟ ابني البِكري راجع؟؟
ابتسم له “إسماعيل” ثم اقترب منه يقول بنبرةٍ مختنقة من شدة التأثر:
_صحيح أنتَ مش أبونا، بس اللي عملته معانا هو نفسه الله يسامحه بقى معملهوش، شرف لينا نبقى عيالك أنا و هو و “يوسف” و ربنا يبرد نارك و يردلك الغايب و يطمن قلبك على اللي راح.

لمعت العبرات في عينيه لذلك رفع كفه يمسح على رأس “إسماعيل” ذلك الشاب الذي عانى هو و أخيه من ماضٍ بشع كاد أن يُفتك بهما لولا وجود “نَــعيم” معهما و الحاقه لهما لا كانا تدمرا كُليًا.
_”إسماعيل أشرف الموجي”
شاب في الثامنة والعشرون من عمره، الابن الثاني لاشرف الموجي، يعتبر المسئول الرئيسي عن كافة أمور “نَـعيم” يعتبره كما ابنه تمامًا له مَعزةً خاصة لديه، كونه أكثر الشباب إلزامًا له، لا يفارقه بتاتًا.
طويل القامة بنسبة طبيعية، جسده متناسقًا مع طوله، ملامحه شرقية لكنها لينة يبتسم دومًا بوجهه البشوش، خصلاته سوداء حالكة اللون، عيناه باللون العسلي
جسده عريض بنسبة قليلة، هاديء الطباع، يعيش دومًا بمفرده حتى وهو وسط الناس، وذلك لأن الجميع يخشونه لسببٍ لم يكن له يدًا به.
_”إيهاب أشرف الموجي”
الابن الأكبر لاشرف الموجي، شاب في العام الواحد والثلاثون من عمره، يُشبه أخيه إلى حدٍ كبير لكنه أكثر من طولًا كما أنه جسده ضخمًا كما كان جسد والده، دخل السجن منذ أربعة أعوامٍ على ذمة قضية تم تدبيرها له للزج به فى السجن حتى يتم التخلص منه وقد حصل على حكم خمسة عشر عامًا على ذمة تلك القضية، قضى منهم سنتين في سير التحقيقات و سنتين منذ أن تم الحكم عليه، ليصبح إجمالًا أربعة أعوامٍ.
تحدث “نَـعيم” بفرحةٍ غلفت صوته:
_واد يا “حمدي” يا “عبودة” أحضروا بسرعة.
ركض الاثنان له بلهفةٍ فنطق هو بلهجةٍ رغم من أنها آمرة إلا أنها أعربت عن مدى فرحته وهو يقول:
_اي حد هييجي يأجر خيل بنص التمن بكرة و أي حد في المطاعم وكل الكافيهات الأكل بنص التمن و العائلات و الاسره مجانًا، و عاوزة فراشة تغطي نزلة السمان كلها، و ليلة تتعمل على شرف “إيـهاب” و “يوسف” و وجودهم معايا هنا، سامع !! يلا دلوقتي تنفذوا و عاوزكم تزيعوا خبر إن “إيهاب” الموجي خرج من جديد.
وصلتها تلك الجملة فسقطت منها الصينية الفارغة التي كانت تمسكها وا قتربت منه “سمارة” بلهفةٍ:
_بجد والنبي يا حج ؟؟ سي “إيهاب” راجع بكرة؟؟ بالله عليك ريح قلبي و قولي آه.
ابتسم لها ثم قال بنبرةٍ هادئة:
_خارج بكرة إن شاء الله، هكلم المحامي علشان أروح واكون في انتظاره.
لمعت العبرات في عينيها فرفعت رأسها تقول بامتنانٍ:
_ألف حمد وشكر ليك يا رب، يا ما أنتَ كريم يا حنَّان يا منان.

طريقتها الشعبية في التحدث و طريقتها في العموم غريبة، في العام السابع و العشرون من عمرها، فتاةٌ سمراء البشرة، عيناها واسعة بطريقةٍ ملحوظة و تجذب أنظار كل من ينظر لها، تبدو وكأنها إحدى فتيات الأسر الفرعونية، ترتدي دومًا العباءات و فوقها ما يسمى باسكارف تعقده عند مقدمة خصلاتها السوداء الغجرية المموجة بكثافةٍ، اسمها هو نفسه لقبها “سمارة”.
فتاةٌ من فتيات الشارع تشردت في صغر عمرها، جمعها القدر صدفةً بـ “إيهاب الموجي” و شقيقه انتقلت على أثر تلك الصدفة معهما لبيت “نَـعيم الحُصري” تعمل به مع النساء و تحفظ نفسها من الانتهاكات التي تتسبب لها من الطامعين في جمالها الشرقي من الرجال، فأصبح الجميع يخشون الاقتراب منها بعدما أعلن “إيهاب” حقه بها وأنها تخصه و ستصبح زوجته.
ابتسم لها “إسماعيل” ثم قال بنبرةٍ هادئة:
_أنتِ أول واحدة سأل عليها يا “سمارة” مش عاوزك تقلقي، بكرة إن شاء الله هتشوفيه وتملي عينك منه.
تحدثت بنبرةٍ أقرب للبكاء:
_يا سيدي بس أشوفه و أملي عيني منه.
سألها “يوسف” مُبتسمًا بتعجبٍ من حبها له:
_لسه بتحبيه يا “سمارة” ؟؟ أنا قولت خلاص نسيتيه وفقدتي الأمل دول كانوا ١٥ سنة قبل النقض.
التفتت له تهتف بصدقٍ وقد لمعت عيناها على الفور:
_هو أنا ليا غيره يعني ؟؟ دا كل حاجة ليا في الدنيا دي، من يوم ما أرض ربنا دي جمعتنا سوا وأنا معرفش غيره، أبويا و أخويا و حبيبي، و ربنا يكرم وابقى مراته إن شاء الله، بس هو ينور الدنيا تاني بوجوده.
ابتسم “يوسف” لها بتفهمٍ وهو يفكر أن المسألة لم تكن مسألة أصل و نسب كما يزعمون، إنما هي قلوبٌ، تحب بصدق وتحارب لأجل حبها، وأقرب مثال أمامه تلك الفتاة “سمارة” كانت تعيش في الشوارع بدون عائلة بعدما طردتها زوجة أبيها، وها هي تحارب لأجل حُبها بل تنتظره أيضًا بفارغ صبرها.
_________________________
في شقة فضل ارتدت “ضُحىٰ” ثيابها الخاصة بالخروج تجهيزًا لمقابلة خطيبها، و قد تجهزت تمامًا لتصبح في أرق طلتها و أجملها أيضًا، كانت “قمر” تراقبها بحذرٍ تخشى عليها من انفطار قلبها و تصدع أملها الذي وضعته به على أن تغيره كما سبق و أخبرها.
التفتت لها “ضحى” تسألها بلهفةٍ:
_ها يا “قمر” شكلي حلو ؟؟.
تنهدت الأخر بضجرٍ ثم قالت على مضضٍ وكأنها مجبورة:
_شكلك حلو لدرجة إنك خسارة فيه، هو يطول ؟؟
جلست “ضحى” بجوارها وهي تقول بنبرةٍ هادئة:
_عارفة انكم كلكم مش بتحبوه، بس هو بيحاول يتغير، وعاوزني اساعده، ليه أتخلى عنه و افلت ايدي لما ممكن فعلًا وجودي معاه يكون سبب أنه يبقى واحد تاني.

ردت عليها “قمر” بنبرةٍ جامدة:
_علشان مفيش حد بيتغير علشان حد يا “ضحى”، لو مش هتغير علشان نفسي أنا يبقى هتغير علشان مين؟؟ كلنا عارفين أنه عينه زايغة و أنه كان بتاع بنات، ولسه زي ما هو، دا مش واحد تأمني على نفسك معاه، بعدين عاوز علطول يكلمك و يحب فيكي مش مراعي أي حدود ولا اصول للبيت دا، صدقيني هتخسري معاه كتير، الحقي نفسك أنتِ لسه على البر.
فُتح باب الغرفة وطلت منه “أسماء” تقول بضجرٍ:
_المحروس وصل برة قاعد مع أخوكِ و عمتك.
ابتسمت بحماسٍ ثم وقفت تُتتم على هيئتها، بينما “أسماء” تابعتها بسخريةٍ فخرجت الأخرى من الغرفة، بينما “قمر” ضربت كفيها ببعضهما وهي تقول بغير تصديق:
_بنتك دي مجنونة، يا عميا، بتحبه على إيه؟؟ علشان شكله يغور و هو دمه تقيل و واقف كدا، دا سم.
أبتسمت “أسماء” بغموضٍ ثم قالت:
_خليها، على جثتي الجوازة دي تتم.
بعد مرور دقائق خرجت “أسماء” و معها “قمر” فتعلقت عيناه بها على الفور يبتسم لها دون مراعاةٍ لتلك التي تجلس بجواره، بينما هي حركت رأسها للجهة الأخرى تهرب من نظراته، فدلف “فضل” في تلك اللحظة يُلقي عليهم التحية، فردوها جميعًا.
لمعت مقلتان “أسماء” ثم وقفت تقول أمام زوجها بثباتٍ:
_معلش بقى يا “علاء” يا حبيبي الجواز دا زي الأكل كدا، و أكلتك مش بالعينها مقطوع منها النصيب، حصل خير يا حبيبي.
توجهت الأنظار نحوها بحيرةٍ، فأضافت هي من جديد:
_أصل الراجل اللي طباعه مبتتغيرش، نغيره هو أسهل.
وقف “علاء” أمامها يسألها بدهشةٍ وقد ظنها في باديء الأمر تمازحه:
_حضرتك بتقولي كدا ليه؟؟ أنا عملت أيه طيب ؟؟
فتحت هاتفها وهي تنظر له بوجهٍ يبتسم باستفزازٍ ثم ضغطت على زر تسجيل مكالمته مع “قمر”، ثم فتحت تسجيلًا أخر له وهو يطلب منها أن تتحدث معه و تصبح صديقته ليستشيرها في حياته.
اتسعت الأعين و نطق “فضل” بذهولٍ خلفته صدمته:
_أنتِ يا “قمر” ؟؟
ردت عليه “أسماء” بنبرةٍ جامدة:
_”قمر” ملهاش ذنب، كتير خيرها جت تقولي على اللي حصل و اتفقت معايا تكشفه علشان خايفة على أختها من واحد زي دا، و البيه بيكلم غيرها و غيرها، عاملهم سبحة في أيده.
تندى جبين “علاء” وبدا متوترًا أمامهم يحاول تبريء نفسه، لكنه تفاجأ بـ “عُدي” يمسكه من عنقه وهو يَسبه بوالديه ثم انهال عليه باللكمات حتى حاول الأخر إلصاق التهمة بـ “قمر” و اتهامها في سُمعتها، فضربه “عدي” من جديد حتى سحبه نحو باب الشقة وهو يقول بصراخٍ:
_لو شوفت وشك هنا تاني لو حتى صدفة، أنا هجيب كرشك بايدي، سامع يا روح أمك ؟؟ اخواتي لو فكرت تقرب منهم أنا هدوسك برجلي، خشي يا “قمر” هاتيله حاجته ارميهاله في وشه.
دلفت “قمر” للداخل بينما “ضحى” استجمعت جزءًا من شجاعتها ثم وقفت بثباتٍ و أخاها يمسكه في يده، أقتربت منه وبكل ما أوتيت من قوة صفعته على وجهه بغلٍ مشحون في قلبها تجاه ذلك الخائن، ثم خلعت خاتمه من اصبعها، ذلك القيد الذي يُكبلها لأول مرّة تشعر بالراحةِ وهي تخلعه من اصبعها ثم ألقته في وجهه وقالت بعدها بصراخٍ:

_غور من وشي، غور وإياك أشوفك تاني فاهم؟؟.
اقتربت “قمر” تضع اشياءه أمامه ثم قالت بثباتٍ:
_لو عندك دم تغور من هنا منشوفش وشك تاني، فاهم؟؟
نظر لها بشرٍ وكانت نظرته توحي بالانتقام، لكنها تجاهلت تلك النظرة و رفعت رأسها تتحداه، حينها قام “عدي” بفتح الباب ثم دفعه خارج الشقة و رمىٰ خلفه أشياءه ثم أغلق الباب وكأنه يقول رحيلك غدا بدون عودة.
بينما “ضحى” ارتمت على “قمر” تبكي بين ذراعيها فاحتضنتها الاخرىٰ تبكي معها وهي تهتف بأسفٍ:
_حقك عليا والله، عملت كدا علشانك أنتِ، متزعليش مني لو غالية عندك بصحيح.
انتحبت “ضحى” وهي تتمسك بها، بينما “فضل” جلس بخيبة أملٍ يضع كفيه على ركبتيه ثم قال بقلة حيلة له سوى الله:
_لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
____________________________
قُبيل أذان الفجر بلحظاتٍ قليلة، تقلب “أيهم” على فراشه فوجده خاليًا من ابنه الذي نام بجواره بعد عودته للبيت، فَزُع إبان نومه و ركض من الفراش ينادي عليه بصوتٍ مُحشرجٍ:
_إيــاد !! إيــاد أنتَ فين ؟؟.
وجد الشقة بأكملها فارغةً منه، فعبثت الظنون بخياله أنه قد يكون تركه و ذهب لوالدته أو شعر بالحزن فقرر الهروب من ذلك البيت، نزل للأسفل ركضًا بملابسه البيتية عبارة عن بنطال رياضي باللون الرمادي و فوقه سترة قطنية سوداء اللون، كان صوته عاليًا وهو ينادي على ابنه، فأوقفته “وداد” بقولها:
_متقلقش، فتح الباب ونزل عمه خده معاه.
انتبه لها فسألها باهتمام ونبرةٍ قوية:
_عمه خده ؟؟ خده معاه فين؟؟
ابتسمت له ثم قالت بوجهٍ مبتسمٍ:
_هو قالي لما تسألني أقولك لو حاسس إنك تايه روحله.
تحركت من أمامه وهي تستاذنه بقولها:
_عن اذنك هصحي الحج و “آيات”
تحركت من أمامه بينما هو تنهد بعمقٍ ثم مسح وجهه بكفيه.

بعد مرور دقائق قليلة خرج “أيهم” من البيت بنفس ملابسه دون أن يبدلها فقط توضأ وخرج من البيت سيرًا على الأقدام حتى وجهته _الغير معلومة للجميع عداه_ ثم وقف على أعتاب ذلك البيت المُكرم، فوصله صوت أخيه يقول بنبرةٍ هادئةٍ لابنه:
_كل ما تحس إنك تايه أو دنيتك همومها تقلت افتكر إنك تيجي هنا تقف بين ايدين ربنا و تشكي همومك، عياطك لوحدك مش هيفيدك بحاجة هيبين ضعفك، إنما عياطك وأنتَ في بيت ربنا قوة، لو اشتكتلي أنا أخري أني أطيب خاطرك بكلمتين، إنما الشكوى لله عزة و قوة، تقف قدام العباد كلهم راسك مرفوعة، ومع رب العباد تبين ضعفك وقلة حيلتك اللي ملكش غيرها، ربك اسمه “الجبار” مش معناها المنتقم، إنما الجابر بخواطر الناس، أوعى تخلي الدنيا دي تغريك و تلهيك عن سببها الرئيسي إنك ملزم تبني مكان في الجنة، فاهم ؟؟.
حرك “إياد” رأسه موافقًا وهو يبتسم له، فقربه “أيوب” له يقبل قمة رأسه ثم قال بنبرةٍ هادئة:
_لسه الفجر فاضل عليه شوية، استناني اشغل الابتهال.
أوقفه الصغير بقوله متلهفًا:
_لأ أنا بحب صوتك أنتَ، عاوز أسمعه منك ينفع؟؟.
حرك رأسه موافقًا ثم تنفس بعمقٍ وشرع في الابتهال بصوته العَذب قائلًا:
مَولاي إنّي ببابكَ قَد بَسطتُّ يَدي
مَن لي ألوذُ به إلاك يا سَندي ..
مولآي يامولآي ..مولآي إني بباك قد بسطتُ يَدي
من لي ألوذُ به إلاك يا سَندي ..
أقُومُ بالليل والأسحارُ سَاجيةٌ
أدعُو وهَمسُ دُعائي .. أدعُو وهَمسُ دعائيِ بالدُّموُع نَدي
بِنورِ وَجهِكَ إني عَائذٌ وجل
ومن يعُذ بك لن يَشقى إلى الأبدِ ..
مَهما لَقيتُ من الدُنيا وعَارِضِها
فَأنتَ لي شُغلٌ عمّا يَرى جَسدي ..
تَحلو مرارةُ عيشٍ في رضاك
ومَا أُطيقُ سُخطاً على عيشٍ من الرّغَدِ
مَنْ لي سِواك ، ومَنْ سِواك يَرى قلبي ويسمَعُه !
كُلّ الخَلائِق ظلٌّ في يَدِ الصَمدِ
أدعوكَ يَا ربّ فاغفر زلَّتي كَرماً
واجعَل شَفيعَ دُعائي حُسنَ مُعْتَقدي
وانظُرْ لحالي في خَوفٍ وفي طَمعٍ
هَل يَرحمُ العَبدَ بَعْدَ الله من أحد
لمعت العبرات في عيني “أيهم” و دلف للمسجد بضعفٍ يجلس بجوار ابنه الذي احتضنه مُبتسمًا، بينما “أيوب” أنهى الابتهال بقوله:
_مــولاي…..يا مــولاي…من لي سواك يرى قلبي ويسمعه كل الخلائق ظلّ في يد الصمدِ.
رفع “أيهم” رأسه يطلب من الله أن يلطف بقلبه وقلب صغيره برحمته و كرمه الواسعين اللاذي طالا كل شيءٍ، بينما “أيوب” مسح وجهه ثم وقف أمام مكبر الصوت حينما أشارت ساعة المسجد لموعد اذان الفجر، فوقف يعلن عن موعد التقاء العباد مع ربهم في موعدٍ الناس نِيامٍ به، لكن المؤمن الخاشع من يحارب للوقوف في صفوف المُصليين وفي غضون دقائق، امتلأ المسجد بالرجال فابتسم “أيوب” لهم وألقى عليهم كعادته التحية بقوله:
_السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
ردوا عليه التحية، ودلف والده المسجد فوجدهم بجوار بعضهم حينها تأكد أن أولاده في حفظ الله ورعايته دون أن يقدر عليهم أي عدوٍ، طالما يحافظان على عهودهم مع ربهم فلن يخيفهم شر الإنسِ.
_________________________
عاد “يوسف” من صلاة الفجر مع “نعيم” و “إسماعيل” فاستاذن منهما “نَـعيم” بقوله:
_بقولكم إيه؟؟ كلها كام وهصحى علشان اروح لايهاب، هطلع أنام عاوزين مني حاجة ؟؟.
ردوا عليه بنفيٍ، فربت هو على ظهريهما ثم تحرك من المكان يدخل لداخل البيت، بينما “يوسف” تحرك نحو الاسطبل يقف بجوار الخيول وخاصةً خيله هو “ليل”.
وقف بجواره ثم رفع كفه يربت على خصلاته السوداء الفحمية اللامعة، وهو يبتسم له، حيث تلك الراحة التي يشعر بها وسط الخيول وكأنه منهم، أصبح يعلم كافة تفاصيلهم الصغيرة و الكبيرة طريقة عيشهم و الحد الأقصى لعمرهم، و حزنهم و فرحهم، كل شيءٍ أصبح على درايةٍ به.
وقف “إسماعيل” بجواره يتمم على الخيول بنظره، فصدح صوت هاتفه في تلك اللحظة برقمٍ ما إن ابصره حتى اتسعت مقلتاهُ وفتح الهاتف على الفور وهو يقول بنبرةٍ جامدة:
_من غير كلام كتير، عرفت مكانه ؟؟؟.
وصله الرد من الأخر فانتظر التكملة ثم أغلق المكالمة، فانتبه له “يوسف” لذا سأله بتعجبٍ:
_فيه إيه يا “إسماعيل” ؟؟ حصل حاجة؟؟
أظلمت عيناه بشرٍ ثم نطق بنفس الجمود قائلًا:
_عرفت مكان الزفت “مُـحي”
سأله “يوسف” بلهفةٍ:
_مش قولت أنه من بعد ما ساب أبوه سافر باين؟؟.
أبتسم بسخريةٍ ثم قال:
_كان هنا وقريب مننا أوي، هتيجي معايا ؟؟.
حرك رأسه موافقًا ثم التفت وهو يقول:
_يلا يا “إسماعيل” تعالىٰ.
تحرك الاثنان معًا من البيت فركبا سيارة “إسماعيل” الذي نظر أمامه بشرٍ، فسأله “يوسف” باهتمامٍ:
_مالك يابني ؟؟ هو حد جه جنبك ؟؟.
تنهد “إسماعيل” ثم نطق موجزًا:
_البيه بعد ما ساب أبوه ماشيلي مع رقاصة في شارع الهرم
رفرف “يوسف” بأهدابه ببلاهةٍ لا يصدق ما سمعه للتو، بينما “إسماعيل” رفع سرعة السيارة ثم ضغط عليها يريد الوصول قبل ذرات الهواء نفسها، بينما “يوسف” التزم الصمت وهو يفكر كيف في صغر عمره أن يفعل ذلك؟؟.
أوقف “إسماعيل” سيارته أمام الملهى الليلي، ثم تنهد بعمقٍ، بينما “يوسف” سأله باهتمامٍ:
_هنعمل إيه دلوقتي ؟؟ هتعرف تتعامل ؟؟
ابتسم بخبثٍ ثم غمز له حتى نزل من السيارة وتبعه “يوسف” وهو يقول بنبرةٍ ضاحكة:
_يا ملبوس يا ابن الملبوسين.
وقف كليهما على أعتاب باب ذلك المكان المحرم، فسألهما أحد أفراد الحراسة بنبرةٍ جامدة:
_نعم فيه تذاكر ؟؟ فيه ميعاد ؟؟ فيه دعوة

مال “إسماعيل” على أذن “يوسف” يهمس بسخريةٍ:
_هو إحنا داخلين كباريه ولا داخلين مكتبة الإسكندرية؟؟
رسم “يوسف” ملامح الجدية ثم أخرج من جيبه ورقة مالية يضعها في جيب حِلة الحارس السوداء وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_احنا بس عاوزين حاجتين من جوة لزوم الليلة و ماشيين علطول، مش هنطول عليكم.
فهم عليه الأخر فحرك رأسه موافقًا، فسمح لهما بالدخول، حينها دلف الاثنان لذلك المكان المكروه ثم جلس كلاهما على طاولةٍ فتحولت نظرات الفتيات نحوهما، واقتربت منهما واحدةٌ تتحدث بميوعةٍ وهي تقول:
_مساء الخير يا بهوات، نورتونا.
نظر لبعضهما البعض باشمئزازٍ فأخرج “إسماعيل” بعض الأوراق المالية يمد يده لها وهو يقول بنبرةٍ جامدة:
_عاوزين أوضة “ليلة” الرقاصة، فين؟؟
تحولت نظراتها إلى الريبة، وهي تسألهما:
_خير ؟؟ عاوزين منها إيه ؟؟
تحدث “يوسف” بنبرةٍ جامدة:
_أنتِ مال أمك أنتِ؟؟ اخلصي هي فين؟؟
أشارت نحو موضعها خاصةً حينما أخرج لها “إسماعيل” نقودًا أخرى، جعلتها تطالعهم بطمعٍ ثم خطفتهما، بينما تحرك “يوسف” نحو موضع إشارتها فوجد رواقًا باللون الأحمر حوائطه و ستائره اللامعة و صور الراقصات العاريات، كان الوضع بأكمله يشعره بالضيق والاستياء فوجد غرفةً كتب على بابها “ليلة” اقترب من باب تلك الغرفة يحاول فتحها وقبل أن يقوم بذلك، شعر بفوهة السلاح في رأسه ونبرةٍ جامدة من خلفه تقول:
_ارفع إيدك وامشي قصادي يا حيلتها.
ازدرد “يوسف” لعابه ثم رفع كفيه يعلن استسلامه لذلك الأخر، بينما الثاني وقف يشعر بالانتصار، ولكن هل انتصاره في محله ؟؟.

يتبع….

الأمر أكثر من مجرد حروفٍ عابرة تخطت الفمِ لتصل إلى الأخرين، الأمر أكثر بكثير، ثمة بعض الحروف توقف العقل عن التفكير و القلب عن النبض، حروفٍ تشبه الصفعات المتوالية على صفحات الوجه تُلطمك كما تلاطم الأمواج خلف بعضها، كلمات حارقة تشبه في القلب تأكل النيران لنفسها.
_أشارت الفتاة نحو موضع الغرفة التي سألها عنها الشباب خاصةً حينما أخرج لها “إسماعيل” نقودًا أخرى، جعلتها تطالعهم بطمعٍ ثم خطفتهم، بينما تحرك “يوسف” نحو موضع إشارتها فوجد رواقًا باللون الأحمر حوائطه و ستائره اللامعة و صور الراقصات العاريات، كان الوضع بأكمله يشعره بالضيق والاستياء فوجد غرفةً كُتب على بابها “ليلة” اقترب من باب تلك الغرفة يحاول فتحها وقبل أن يقوم بذلك، شعر بفوهة السلاح في رأسه ونبرةٍ جامدة من خلفه تقول:
_ارفع إيدك وامشي قصادي يا حيلتها.
ازدرد “يوسف” لعابه ثم رفع كفيه يُعلن استسلامه لذلك الأخر، بينما الثاني وقف يشعر بالانتصار، ولكن هل انتصاره في محله، قبل أن يُدرك ذلك التفت “يوسف” له بعينين قاتمتين، بينما الأخر حرك رأسه مستنكرًا وقبل أن يسأله عن تواجده باغته “يوسف” بحركةٍ مُفاجأةٍ حينما شبك كفيه يلوح بهما مما شتت ثبات الأخر وسهل على “يوسف” سحب السلاح منه، فاتسعت أعين الأخر بغير تصديق، فيما ارتسمت الثقة على وجه “يوسف” وهو يتشدق بنذقٍ:
_هــا نــقـول كـمـان ؟؟.

رفع الأخر كفيه وهو يتحدث بنبرةٍ جامدة:
_لو فاكر إني لوحدي اللي هنا تبقى عبيط، جاي تعمل هنا إيه ؟؟ صدقني مش هتخرج من هنا على رجلك.
ابتسم “يوسف” له بينما الأخر تعجب من تلك الابتسامة، وقبل أن يسأل عن سببها تفاجأ بضربةٍ على كتفه جعلته يترنح ويسقط أرضًا من كف “إسماعيل” الذي أتى من خلفه، فيما نظر “يوسف” لجسده المُلقى أرضًا وهو يقول بسخريةٍ:
_بالشفا يا غالي، المهم أنتَ تخرج من هنا على رجلك.
اقترب منه “إسماعيل” وقبل أن يهم بالنطق، سأله “يوسف” بضجرٍ:
_كنت فين ؟؟ مش بصتلك تيجي ورايا على طول ؟؟.
حرك كتفيه بقلة حيلة ثم قال بنبرةٍ هادئة:
_ياعم البت كانت بتلاغيني فضلت اتكلم معاها لحد ما قالتلي إن فيه حيطة واقفة هنا على الباب علشان كدا جيتلك.
حرك رأسه موافقًا على مضضٍ بعدما استمع لتبرير “إسماعيل” ثم التفت ينظر للباب بيأسٍ وهو يقول بسخريةٍ:
_ودا هنفتحه ازاي بقى ؟؟ هنخبط عليهم نقولهم كَبسة؟؟
اقترب منه “إسماعيل” ثم اخرج من جيبه سلاحًا يُشبه السكين لكنه أصغر حجمًا حيث يشبه الميدالية في حجمها ثم اقترب من الباب وبعد مرور دقيقة تقريبًا كللها النجاح، فُتح الباب فابتسم “إسماعيل” بزهوٍ ثم أشار له برأسه بمعنى أن يتقدم، لذلك فتح “يوسف” الباب فجأةً بدون سابق إنذار ليجد “مُـحي” مُمدًا على الفراش وتلك الفتاة تجلس أمام المرآةِ وقد تفاجأ كلاهما من تواجده، فانتفض “مُـحي” بفزعْ وهو يقول بغير تصديق:
_يــوسف ؟؟!

اقترب من “يوسف” يسحبه من خصلاته بغلٍ مشحونٍ، بينما “ليلة” تخصرت وهي تشهق و تتشدق بطريقةٍ سوقية:
_نـعم ؟؟ ودا إيه أصله دا ؟؟ أنتَ عامل كل دا علشانه هو؟؟.
ظهر الذعر في نظرات “مُـحي” وهو يطالع “يوسف” الذي رفع حاجبه، ثم التفت لها يقول بوقاحةٍ:
_لو عاوزاني أجرجرك من شعرك زيه كدا أنا معنديش مانع بس مترجعيش تزعلي !!.
قبل أن تنطق أشار لها بالوقف حينما أشار لها بالسلاح الذي سبق وأخذه من الحارس:
_لو مش خايفة على نفسك قربي كدا علشان اشيعك زي ما أنتِ.
توقفت وهي تطالعه بخوفٍ، بينما “مُـحي” تحدث بثباتٍ زائفٍ لم يستقر بداخله:
_امشي يا “يوسف” علشان أنا مش هاجي معاك بمزاجي.
التوى ثغره ولازال يُشهر السلاح في وجه “ليلة” ثم قال:
_هو فعلًا مش بمزاجك يا “محي” هتمشي معايا ورجلك فوق رقبتك، يلا ياض قدامي بدل ما أفرتكك، “إســمــاعــيل”.
هدر بها “يوسف” ليركض “إسماعيل” له الغرفة فتحدث “يوسف” بنبرةٍ جامدة:
_خد الواد دا وحاسب يهرب منك، تشحنه زي الخرفان في العربية، يلا خلص.
سحبه “إسماعيل” بعدما كبل جسده والاخريسير معه مُنصاعًا بسبب ضعفه وترنح جسده، بينما الفتاة لاحظت اختفاءهما، فظهر الاعجاب في نظراتها لـ “يوسف” لذلك تعمدت الاقتراب منه ظنًا منها أنها سوف تملك تأثيرًا عليه، لكنها تفاجئت به يتحدث بقسوةٍ:

_لو فكرتي تقربي خطوة واحدة أنا هشيل رقبتك، اقفي عندك وناوليني حاجة الواد بدل ما أموتك هنا.
ابتسمت بثقةٍ وهي تسأله بتعجبٍ:
_يعني هو أنتَ مش جاي هنا علشاني؟؟.
رمقها باستخفافٍ يقصد اهانتها ثم قال:
_لأ، أنا جاي علشان الواد وحاجته اللي هتطلع دلوقتي.
تخصرت من جديد وهي تسأله بنفس طريقتها السوقية:
_حاجة إيه دي يا حبيبي إن شاء الله ؟؟ خد صاحبك واتكل من هنا بدل ما اجيب الرجالة يقطعوك.
قبل أن ترفع صوتها فاجئها “يوسف” حينما أطلق عيارًا من السلاح أصاب صورتها على الحائط خلفها ثم تحدث بنبرةٍ جامدة عندما بدا الزُعرِ واضحًا عليها:
_هتطلعي شغل العوالم، هطلعلك شغل العربجية، اخلصي يا روح أمك حاجة الواد فين، انــجزي.
تحركت نحو دُرج الطاولة الخاصة بزينتها ثم أخرجت منه الاشياء تمد يدها له بها، بينما هو خطفهم منها ثم تحقق منهم و وقف يسردهم حيث بطاقته الشخصية و بطاقته الائتمانية، ومفاتيح سيارته و نقوده.
وضعهم في جيبه ثم غمز لها وهو يقول:
_سلام يا….رقاصة.
تعمد اهانتها والتقليل من شأنها خاصةً وهو يرى نظراتها الجريئة نحوه وكأنها سلعة رخيصة تعلن عن نفسها، لذا خرج من الغرفة واغلق بابها وما إن التفت ليغادر الرواق، تفاجأ بلكمةٍ في وجهه من جسدٍ ضخمٍ كان ينتظر خروجه كما انتظار الصياد لفريسته.

تأوه “يوسف” وقد باغتته تلك اللكمة، حتى اصطدم بالحائط خلفه، لكنه أدرك الوضع سريعًا ثم أخرج المطواة الخاصة به جيب بنطاله ثم باغت الحارس بضربةٍ في كفه بها ثم ركض من المكان نحو الباب الأخر فتفاجأ بأخرٍ ينتظره، حينها سحب مطفأة الحريق ثم دفعها في وجهه حتى سقط أرضًا بينما هو استأنف ركضه نحوه الخارج و ذلك الذي أصابه في كفه يركض خلفه في محاولةٍ للامساك به، لكن “يوسف” لاحظ عدد البقية لذلك كان الأسرع حينما خطىٰ نحو الخارج بخطواتٍ أقرب للركض.
لاحظ وقوف “إسماعيل” بجانب السيارة فاندفع نحوه يقول بلهفةٍ:
_اطلع بسرعة يا “إسماعيل” بسرعة هيجروا ورانا.
تعجب الأخر من طريقته، وقبل أن يتحرك أيًا منهما اقترب منهما رجال حراسة هذا المكان عددهم تقريبًا ثلاثة، ظهرت الصدمة بوضوحٍ على وجه “إسماعيل” بينما “يوسف” التفت حتى يقرأ سبب صدمة الأخر ثم التفت من جديد يقول لـ “إسماعيل” بسخريةٍ:
_”إيهاب” كان قالنا نعمل إيه لو الحرب علينا قامت ؟؟.
ظهر الشر في نظرات “إسماعيل” وهو يردد تزامنًا مع اقتراب الاخرين:
_طلع سلاحك و خُش بقلب جامد.
بعد مرور ثانية تقريبًا اقترب منهما الرجال لكن الاخرين تعاملا كما تمت تربيتهم حيث أخرج كلٍ منهما سلاحه الأبيض باختلاف حجمه يلوح به و يشتت حركة الأخرين وقد أصابتهم خدوش في أجزاءٍ مُختلفة حتى ابتعدوا عنهم ما إن ادركوا خطورة تصرفاتهم.

ركض “إسماعيل” نحو السيارة، فيما ضرب “يوسف” الأخير في رأسه بوجهه ثم ركض نحو السيارة وهو يقول رافعًا صوته:
_يــلا بـسـرعة قبل ما يكون كمين وفيه حد تاني.
كان “مُـحي” إبان ذلك جالسًا في السيارةِ بخزيٍ لم تعجبه الأوضاع حوله، فالتفت له “يوسف” ينطق بتهكمٍ:
_زعلانة يا بيضة؟؟ تحب أرجعك تاني لحضن الرقاصة علشان تبقى اخرتك واحدة من اتنين معروفة ؟؟ يا مدمن بتجري ورا شَمة زي الكلب، يا مفلس مرمي على الطريق مش لاقي اللي يساعدك بتعريفة، كل دا حصلنا بسبب عيل زيك أنتَ !! بندخل على اتخن معلم في نزلة السمان يقوم يقفلنا باحترام واخرتها نتضرب في مكان زي دا !! كباريه ؟؟ رقاصة يا “مُحي” ؟؟
رفع “يوسف” صوته في نهاية حديثه، فيما انفعل “مُـحي” عليه وهو يقول مُغتاظًا من طريقته:
_ياعم وجيتوا علشاني ليه ؟؟ ما تسيبوني في حالي.
رفع “إسماعيل” رأسه يطالعه من المرآة وهو يقول بسخريةٍ:
_حالك دا اللي هو إيه إن شاء الله ؟؟ مع الرقاصة في كباريه ؟؟ وسط الشُرب وبنات الليل ؟؟ دي عيشة ميرضاش بيها الرجالة، يرضى بيها لامؤاخذة الخرفان أو الخنازير.
هتف “مُـحي” بلهفةٍ:
_أنا بحب “ليلة” و هتجوزها، ومحدش هيمنعني.
لاحظ “يوسف” مرورهم على منطقةٍ فارغة أشبه بالصحراء تخلو من الجميع عدا فقط بعض السيارات التي تمر بسرعةٍ كبرى، فرفع صوته يقول بنبرةٍ جامدة أثارت الرعب في نفوسهما:
_وقــف العربية يا “إسـمـاعـيل”.
انتبه له الأخر وقد عقد مابين حاجبيه، ليردد الأخر بنبرةٍ أعلى:

_بـــقولك وقـــف.
أوقف “إسماعيل” السيارة بينما “يوسف” تحرك من مكانه ثم توجه نحو مكان “مُـحي” بغضبٍ حاول بكامل طاقته أن يكتمه بداخله لكنه ظهر عليه وهو يفتح الباب ويسحبه من خصلاته ثم ألقاه على الطريق وهو يشير له بالعودة ناطقًا بقسوةٍ:
_روح…..يلا روح تاني هناك، غور في داهية تاخدك وتخلصنا وتخلص أبوك من همك، عيل زيك عنده 24 سنة مضيع نفسه ليه مش فاهم، تحكم على نفسك بالوساخة دي ليه ؟ سيبتلنا احنا إيه؟؟ أبوك عاش عمره كله بيحارب علشاننا، أخرتها تطلع زرعته خايبة كدا زيك ؟؟
تحدث “مُـحي” بصوتٍ هادرٍ أعرب عن نفاذ صبره:
_هو مش طايقني، عاوزني أكون زيه وأنا مش عاوز، خليكم أنتم شبهوا، إنما أنا مش هكون زيه، روحوله انتم هو بيحبكم وعاوز ابنه الكبير اللي ضاع منه، لكن أنا آخر اهتماماته، علشان كدا هتجوز اللي بحبها مش هسيبه يتحكم فيا.
نزل “إسـماعيل” وقد فاض به الكيل هو الأخر لذلك نزل بخطواتٍ واسعة يقول بنبرةٍ جامدة:
_عاوز تبقى جوز الست ؟؟ وياريتها أي ست دي رقاصة، يعني أخرتك هتبقى جوز الرقاصة وهتقف وراها تلم الفلوس، وتظبط المواعيد اللي هتقف تتفرج فيها على مراتك والعيون كلها بتفصصها، عاوز تبقى لامؤاخذة بقى، أومال لو مش عندك أب عمل علشانك كل حاجة، أومال لو أنتَ مع واحد زي أبويا، ولا أهلك زي أهل “يوسف” ؟؟ وعلى فكرة كنا زماننا مكانك بس أبوك الله يكرمه بقى، عِرف ينجدنا من اللي كنا فيه.
أخفض “مُـحي” رأسه أرضًا يحاول التماسك أمامهما، بينما “يوسف” أخرج من جيبه اشياءه وهو يقول بنفس الجمود:
_اسمع يالا علشان خُلقي ضيق، حاجتك معايا أهيه، هتقوم معايا زي الرجالة ؟؟ ولا ترجع تاني زي اللي كنت عندهم؟؟ بس لو دا حصل، أنا هروح أعمل فِراشة وانصب صوانك وأقول إن “مُحي الحُصري” مات واحنا بناخد عزاه، علشان مش هقبل إن واحد زيك يهد تعبنا وتعب أبوه بهبله، قولت إيه يا روح أمك؟.

هدر به بصوتٍ عالٍ جعل جسده يجفل ويرتعد من قوة نبرته، بينما “إسماعيل” اقترب منه يوقفه وهو يقول بنفس الجمود:
_للأسف أنا مبعرفش أسيب اختيارات، أنا هاخده لأبوه يقرر على الأقل لو مات يبقى بإيد أبوه أحسن.
أدخله “إسماعيل” السيارة ثم أخرج من جيبه علبة سجائره يُعطيها لـ “يوسف” الذي زفر بعمقٍ ثم اخذها منه وجلس على مقدمة السيارة، وهو يسأل بنبرةٍ هادئة:
_إيه العمل، هتقول لأبوه كان فين؟؟
حرك “إسماعيل ” رأسه سلبًا ينفي حديثه، ثم قال:
_دي حلها عندي، متقلقش يلا بس علشان وشك دا، هي البت باستك ولا إيه؟؟
سأله بخبثٍ جعل “يوسف” يبتسم رغمًا عنه ثم قال بنبرةٍ لعوبة:
_هي حاولت بس أخوك أسد برضه.
ربت “إسماعيل” على كتفه ثم نطق باستخفافٍ:
_طب يلا يا أسد، خلينا نشوف حيلة أمه دا.
_______________________
وصل “عبدالقادر” بيته برفقة رجال أسرته، وكان “أياد” نائمًا على كتف “أيوب” بعدما سكن الأمان قلبه بجلوسه في المسجد ليثبت لهم أن الجميع في حضرة الله آمنين، اخذه “أيهم” من على ذراع أخيه ثم قال بنبرةٍ هادئة:
_هاته عنك بقى علشان أنام أنا كمان.
اوقفه “عبدالقادر” بقوله:
_عامل إيه يا “أيهم” ؟؟ بقيت أحسن ؟؟.

التفت لوالده ثم ابتسم ابتسامة باهتة وهو يقول بقلة حيلة:
_الحمد لله على كل حال يا حج، صدقني زي الفل.
حرك رأسه موافقًا وهو يبتسم له، بينما “أيوب” وقف يتابعهما حتى أوشك أخاه على التحرك فأوقفه بقوله:
_ افتكر كويس يا “أيهم”
“تَظن أنكَ حُرمت لكن في الحقيقة أنكَ رُحمت”
اللي بييجي كله خير بس احنا مش عارفين، علشان كدا احمد ربنا وانتظر منه العوض.
تنهد “أيهم” وقد أثلج حديث أخيه روحه، لذلك ابتسم ثم قال بنبرةٍ هادئة:
_الحمد لله على كل حال، راضي بالمقسوم.
تحرك بعد جملته نحو الأعلى وقبل أن يتحرك “أيوب” أوقفه “عبدالقادر” بقوله ساخرً:
_بتهرب ليه يا “أيوب” ؟؟ إيه اللي حصل مع “سعد” دا؟؟
رفع عينيه لأبيه يهتف ببراءةٍ:
_إيه اللي حصل مع “سعد” ؟؟ أنا كنت في محل المُعز.
رفع “عبدالقادر” حاجبيه ساخرًا ثم نطق مُستنكرًا:
_يا جدع ؟؟ على بابا برضه؟؟ ملكش دعوة بيه يا “أيوب” خرجه وخرج مشاكله من دماغك، أنا مش مستغني عنك، أبوس إيدك كفاية لحد كدا بقى أنسى اللي حصل خلاص.
تحدث “أيوب” بنبرةٍ جامدة:

_مش هنسى يا حج، لو طلع هو اللي عمل فيا كدا أنا مش هنسى ومش هسيبه، الشهرين دول مبيروحوش من بالي، هنسى أني اتقال عليا أرهابي ؟؟، ولا أنسى أني اترميت في معتقل شهرين في عيشة زي عيشة الكلاب ؟؟ بتضرب بس؟
اقترب “عبدالقادر” منه يربت على كتفه وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_انسى ووكل ربك يجيبلك حقك، الحمد لله إنك قصادي ومعايا من تاني بعد كل حاجة حصلت، صدقني يابني وجودك سليم قصاد عيني بالدنيا كلها عندي.
تنهد “أيوب” مُطولًا ثم نطق بنبرةٍ هادئة:
_اللي أنا بعمله دا مش علشان حقي ودا لأني مجرد شاكك فيه بس ومش عاوز اسوء الظن فيه، رغم إن جوايا حاجة بتقولي إن هو المستفيد الوحيد من دا، بس اللي أنا بعمله معاه دا حق الناس اللي عماله ييجي عليهم، حق الستات و البنات اللي مش سايبهم وسايب سمعتهم في حالها، واحد زي دا لو موقفتلوش بالمرصاد هيسوء فيها، وأنا مش هسكت زي الشيطان الأخرس عن الحق.
يعلم “عبدالقادر” أن ابنه مُحقٌ فيما يتحدث عنه، فمثل هؤلاء لا يمكنك ترك الحُريةِ لهم بدون رادع أو مانع، لذلك يجب أن تقف لهم بالمرصاد حتى لا يظنون أنفسهم كما الطيور يحق لهم التحليق كيفما أرادوا، لكن يجب أن تذكرهم بحدود سقفهم حتى لا تزداد حريتهم وتتسبب في إيذاء الأخرين، لذلك قبل رأس ابنه ثم نطق بعدما ابتتسم له:
_ربنا ينصرك ويحفظك و يجبرك قدام كل عدو.
ابتسم “أيوب” له ثم قال بنبرةٍ مرحة:
_هو دا الكلام بقى، ادعيلي كدا ربنا ينصرني.
تحرك “عبدالقادر” من أمامه بعدما ربت على كتفه، بينما “أيوب” انتظر حركة والده من أمامه ثم تنهد بعمقٍ وجلس محله على الأريكةِ الموضوعة في بهو البيت الواسع ثم تذكر أمر صفحته الاجتماعية عبر مواقع التواصل الاجتماعي فأخرج هاتفه مُسرعًا قبل أن ينام من جديد ثم فتحها في تطبيق “الفيسبوك” ابتسم بصفاءٍ ثم سحب زفيرًا قويًا يكتب بيده عبر هاتفه:
_عبادات بدون مجهود وبدون وضوء:

1_عبادة الرضا
الرضا بما قسمه الله لك أيًا كان لأنه هو الأنسب لك في كل الحلول.
2_ عبادة جبر الخواطر
عبادة سهلة أن يكون المرء حسن اللسان مع الآخرين في نيته أن يجبر بخاطرهم ويخفف عنهم.
3_ عبادة قضاء حوائج الناس
عن البني ﷺ قال:
مَن مَشىٰ مع أخيه في حاجةٍ حتى يقضيها له ثبت الله قدميه يوم نزول الاقدام.
صدق رسول ﷺ
4_الكلمة الطيبة صدقة.
كلمةٌ حلوة ينطقها اللسان يُشهد لك بها يوم القيامة.
5_عبادة حسن الظن.
اترك البواطن لله وانشغل بتحسين نفسك والتزم بالسعي متفائلًا بحضور الخير لك من المولىٰ.
6_عبادة زكاة العلم.
هو أنك إذا سألك أحدهم عن معلومةٍ تعرفها اتقن إيصالها له كاملةً مثلما ساقها لك رب العالمين عن طريق أحدهم.
7_ التفاؤل، تذكر قوله تعالى:
“أنا عند ظن عبدي بي”
فتفائل بما تهوى يكن خيرًا بإذن الله.

8_عبادة ترك مالا يعنيك.
وهو عدم التدخل في أي شيءٍ لا يعنيك وتترك تحليلاته واستنتجاته التي تؤدي إلى سوء الظن.
قال تعالى:
“يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياءٍ إن تبد لكم تسؤكم”
9_عبادة الصبر.
أن تسلم أمرك كله لله فهو أرحم بك من والدتك وتصبر على قساوة الظروف والأحوال وتذكر قوله تعالى:
“وبشر الصابرين”.
10_ عبادة التبسم.
اقتداءٌ بخير الأنام ﷺ (تبسمك في وجه اخليك صدقة).
11_ ادخال السرور على قلب المسلم.
سواء بلين المعاملة أو التبسم أو المعونة في أمرٍ عسير أو كلمة طيبة وغيرها مما يجعل القلوب تشعر بالسعادة، والله إنها من أطيب العبادات التي تُحيي القلوب وتزكي النفس.
_اللهم أهدنا وأهدي بنا وأجعلنا سببًا لمن اهتدى.
_‏اللَّهُم صلِّ وسلم وبارك على نبينا ‏مُحمد ﷺ.

ختم كتابته بالصلاة على سيدنا “مُحمد” ﷺ ثم ضغط على أيقونة النشر بوجهٍ مبتسمٍ وهو يرسل ما تعلمه للأخرين بعدما منَّ الله عليه بذلك العلم، كانت الصفحة تحمل اسم “غـــوث” بمعنى الإنقاذ، تلك الصحفة التي أنشأها وقرر أن يشارك علمه مع الآخرين دون أن يعلم احدٌ ماهيته الحقيقية حيث أخفى نفسه تمامًا ولم يعلم بهويته سوى شقيقته التي تختص بالرد على رسائل النساء و الفتيات وتخصص هو في الرد على الشباب و الرجال وقد كتب ذلك على صفحته الشخصية أن الصحفة مسئولٌ عن رسائلها فتاةٌ خاصة بالرد على رسائل الفتيات و ذكرٌ يرد على رسائل الرجال.
ابتسم “أيوب” برضا وهو يرى دعاء الناس له و ثنائهم على ما يقدمه لهم بخلاف ما ينتشر في الواقع من هزلٍ ومرحٍ ممن يدعون الالتزام بالدين وكل هدفهم هو استغلاله للحصول على الشُهرة بين الناس دون تقديم ما ينفعهم.
أغلق هاتفه ثم تنهد بعمقٍ وقال:
_اللهم اغفرلي مالا يعلمون واجعلني خيرًا مما يظنون.
_____________________
في نزلة السمان مع شروق الشمس وبداية إشراقة النهار في صباحٍ جديد يبعث الأمل في النفوس، يأمل الناس في إصلاح ما أفسدته البارحة، توقفت السيارة أمام البيت وقد نزل “يوسف” وسحب “مُـحي” من السيارة و “إسماعيل” خلفه بعدما رمىٰ المفاتيح لأحد الشباب يقوم بصف السيارةِ.
تحدث “مُـحي” بنبرةٍ جامدة:
_سيبني يا عم أنا همشي لوحدي، عرفنا إنك بطل.
استشاط منه “يوسف” لذلك دفعه أمامه وهو يقول بتهكمٍ:
_ طب أصلب طولك عِدل وأمشي رافع راسك لو دكر تعملها.

نكس رأسه للأسفل يهرب من النظرات التي توجهت نحوه، بينما “إسماعيل” وقف يُفكر في حيلةٍ تنطوي على”نَعيم” حتى وجدها أخيرًا لذلك اقترب بخطواتٍ واسعة يلحقهما نحو البيت من الداخل فوجد “سمارة” تقف بجوار الدرج وما إن وقع بصرها عليهم وخاصةً “مُـحي” شهقت بتلقائيةٍ ثم اقتربت منهما تقول بلهفةٍ:
_أستاذ “مُـحي” ؟؟ فينك كل الغيبة دي؟! صحيح بيقولوا إنك دخلت كلية الشرطة وهتبقى ظابط ؟؟.
تحدث “يوسف” بسخريةٍ وهو يرمقه باستخفافٍ يُقلل من شأنه:
_طبعًا ومش أي ظابط، دا ظابط إيقاع.
ضحك “إسماعيل” على سخريته فيما رمقه “مُـحي” بغضبٍ مكتومٍ وهو يهتف من بين أسنانه:
_أنا بكرهك يا “يوسف”.
رد عليه الأخر بلامبالاةٍ على الرغم أن الكلمة أثارت حفيظته:
_مش عاوزك تحبني، مش على الأخر الزمن هستنى الحب من البهايم اللي زيك.
نزل “نَـعيم” في تلك اللحظة من على الدرج بهيبةٍ كعادته يرتدي حلةٍ سوداء اللون وفوقها عباءته السوداء و عصاه في يده، فتفاجأ بوقوفهم في ردهة البيت وقبل أن يُبدي تعجبه من وجودهم وقع بصره على “مُـحي” يقف وسطهم.
رمش ببلاهةٍ عدة مراتٍ لا يُصدق أنه يقف أمامه حقًا، ربما هي أحلامٌ أو أوهامٌ باتت مُتعلقةً بذهنه، فهل بعد مرور عامين وأكثر يقف أمامه بتلك السهولة؟؟ نزل مُنصاعًا لرغبة قدمه وجسده بالكامل بعدما قاده الشوق لصغيره، حتى وقف أمامه يُملي عينيه منه مُمررًا بصره على كل تفصيلةٍ به لذا ازدرد لُعابه وقد جف حلقه، وهو يراه أمامه حقًا، لمعت العبرات في عينيه وحرك رأسه للشباب يستفسر منهما، فرد عليه “إسماعيل” مُبتسمًا:

_حلفت إن فرحتك برجوع “إيهاب” تكمل بفرحتك برجوع “مُـحي” كمان، اتطمن كان عند شوية ناس صحابه وعرفت مكانه بالصدفة، الغبي كان فاكر إنه لو رجعلك تاني أنتَ مش هتوافق.
خطفه “نَـعيم” في عناقٍ بفطرةٍ أبوية وهو يقول بصوتٍ غلفه الحماس الذي بدا خانقًا له:
_ علشان عبيط، دا أنا بعد الساعات علشان اللحظة اللي هيرجعلي فيها، دا أنا كنت هموت علشان أشوفه بس مش أخده في حضني، وحشتني يا “مُـحي”.
حنان والده ونبرته الباكية وشوقه البائن في نبرة صوته جعلته يرفع ذراعيه يحتضن والده وهو يبكي بخجلٍ من فعلته، بينما “سمارة” أطلقت زغرودة عالية تفاجأ الشباب بها و تحركت اجسادهم على أثرها، بينما هي قالت بمرحٍ:
_دا النهاردة يوم السعد ويوم الهنا، رجوع الأستاذ “مُـحي” و رجوع “إيهاب”.
ابتسم “نَـعيم” ثم ابتعد عن ابنه يضمه إليه أسفل ذراعه وهو يقول بنبرةٍ ضاحكة:
_ولسه دا أنا عاملك مفاجأة حلوة أوي.
انتبهت له فأتت من خلفها “تحية” تلك المرأة التي تتولى إدارة شئون البيت وهي تقول بنبرةٍ ضاحكة:
_صباح الخير يا حج، ها نمشي دلوقتي؟؟.
حرك رأسه موافقًا ثم قال للفتاةٍ:
_يلا يا “سمارة” معاهم.
سألته بلهفةٍ:

_هروح فين يا حج ؟؟ أنا بجهز الحاجة علشان “إيهاب”
تحدث بوجهٍ مبتسمٍ وهو يقول:
_أنا برضه بجهز الحاجة علشان فرح “إيهاب” وزي ماهو اتاخد من هنا ليلة فرحه، هيرجع برضه على فرحه وكأن اللي حصل دا محصلش من الأساس.
حديثه أثلج نيران شوقها لذلك اقتربت منه تقول بغير تصديق وهي تضع كفيها على ذراعيه:
_بجد والنبي يا حج ؟؟ فرحنا الليلة دي؟؟.
حرك رأسه موافقًا فارتفع صوتها بالزغاريد عاليًا من جديد حتى ضحكوا عليها جميعًا، فركضت هي نحو “تحية” تقول بلهفةٍ وهي تسحبها خلفها:
_يلا يا ست “تحية” أنتِ هتقفي، يلا بسرعة.
ضحكت “تحية” ثم استأذنت منهم وتحركت من المكان بينما “يوسف” تحدث بنبرةٍ ضاحكة:
_بت غريبة و ردود أفعالها أغرب، أموت وأشوف انتاجها هي و “إيهاب” هيبقى عامل إزاي ؟؟.
ارتفعت الضحكات على حديثه، بينما “نَـعيم” التفت لابنه يقول بنبرةٍ هادئة و عيناه تتفحص وجهه:
_هروح للمحامي علشان نخلص ورق “إيهاب”، هرجع الاقيك ولا هتمشي تاني ؟؟ قولي قبل ما أعشم نفسي.
نظر في وجه الشباب بخوفٍ فوجد نظراتهما مُهددةً له، حينها التفت يقول لوالده بخنوعٍ سكن بداخله نتيجة تلك النظرات:
_متخافش….مش راجع.
ربت “نَـعيم” على كتفه مُستحسنًا ثم تحرك من مكانه يقف أمام الشباب يقول بإصرارٍ:
_تطلعوا تناموا و ترتاحوا علشان لسه يومنا طويل وكله دوشة وصداع، مفهوم ؟؟ محدش فيكم يعمل أي حاجة، الرجالة برة هتجهز كل حاجة.
حرك كلاهما رأسه موافقًا، فالتفت هو لابنه يقول:

_نورت بيتك يا “مُـحي”.
ابتسم له “مُـحي” بارتباكٍ حتى بدت ابتسامته باهتةً فتحرك “نَـعيم” بنفس الشموخ بعدما رفع رأسه كعادته بثباتٍ.
_”مُـحي نَعيم الحُصري”
الابن الثاني لـ “نعيم الحصري” في العام الرابع والعشرون من عمره، توفت والدته بعد ولادته، فُقِدَ شقيقه الأكبر في صِغر عمره كان عمره فقط شهورًا، خيم الحزن على البيت بفقدانه ليعود من جديد على يد “مُـحي” الذي توفت والدته بعد مرور يومان فقط من ولادته ليعود الحزن يُخيم على ذلك البيت للأبد.
شابٌ طائش لا يبالي كثيرًا بأمور الحياة، يركض خلف أهوائه وعلاقاته و ملاذات الحياة، وسامته جعلته مَغرورًا حيث أخذ الكثير من ملامح والده بعينيه الرماديتين الداكنتين، وخصلاته السوداء الكثيفة اللامعة، دومًا يبدو عليه الغرور والطيش خاصةً الركض خلف ما يريد دون التفكير في العواقب المُلحقة لذلك.
تحرك “نَـعيم” من المكان بينما “يوسف” اقترب منه يقف مقابلًا لـ “مُـحي” وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_متزعلش مني بس أنا عملت كدا من خوفي عليك، الطريق دا أخرته زفت وأسأل مجرب، اللي جربوه كتير معرفوش يرجعوا منه، أبوك يوم ما عرف إننا روحنا مكان زي دا قاطعنا، لو عرف هيجراله حاجة، فوق لنفسك.
رمقه “مُـحي” باستخفافٍ ثم تحرك نحو الأعلى، بينما “إسماعيل” قال بقلة حيلة:
_مفيش فايدة منه، بس خليه أنا فوقتله خلاص.
نظر “يوسف” في أثره بتعجبٍ ثم زفر مطولًا يعبر عن مدى استياءه وحنقه ثم أضاف بانهاكٍ:
_يلا نطلع ننام، لسه ورانا كتير، يلا.
تحرك أولًا وخلفه “إسماعيل” ليخلد كلٍ منهما إلى النوم بعد ليلةٍ عصيبة مرت عليهما زارهما بها القلق والتوتر، وقارنهم الخوف حتى نجا كلاهما بحياته من براثن هؤلاء ليلحقا بيومٍ تملئه الحركة يتطلب منهما النشاط.
________________________

في نهار نفس اليوم جلست “قمر” بجوار “ضحى” في غرفتها تحاول معها حتى تتناول الطعام، لكن الأخرى أبت ذلك، فيكفيها ما تذوقته من الخذلان، لم تتوقع أن يكون كاذبًا بتلك الطريقة بعدما أوهمها بصلاحه وتقويم نفسه لأجلها هي فقط، لكنه خدعها واتضخ كذبه من خلال كشف والدتها له، ربتت “قمر” على كتفها وهي تسألها بغلبٍ:
_يا بنتي بتعيطي ليه طيب ؟؟ دا بدل ما تحمدي ربنا أنه كشفهولك قبل الفرح ؟؟ اللي زي دا ميتزعلش عليه ولا حتى علشانه، دا نفرح أنه غار في داهية من حياتك.
ازداد نحيب الأخرى وهي تقول بنبرةٍ أدلت بكل وجعها الكامن بين جنبات صدرها:
_علشان قلبي اللي حبه يا “قمر” لما فهمني أنه بيحاول علشاني، علشان كل حاجة اتفقنا عليها سوا في بيتنا واننا هنكون سوا مع بعض، نبني حياتنا من جديد، إنما هو فاجئني بيه كأنه واحد معرفهوش أصلًا، ازاي عرف يكون بوشين كدا، دا خلاني اصدق أنه اتغير بجد.
جلست أمامها تحتضن وجهها بكفيها وهي تقول بثبات:
_علشان هو شاطر أوي يا “ضحى” عرف ازاي يقنعك بحاجة عارف إنك محتاجاها، استغل حبه ليكي علشان يوصل لكل دا، يبقى اسمك مراته وفيه علاقة في حياته رسمية يطلع فيها عقده، و برة براحته بقى، اللي زي دا مش راجل أصلًا، دا ناقص رجولة، أوعي تزعلي نفسك علشانه وافرحي أنه خرج من حياتك، وشوفي حياتك وأنتِ مستنية ابن الحلال اللي بجد، مش واحد زي دا مترباش أصلًا.
حركت رأسها موافقةً بقلة حيلة، فقبلت “قمر” رأسها ثم ضمتها لها وهي تقول بنبرةٍ هادئة تحاول إخفاء تأثرها بحزن رفيقتها:
_ربنا يفرح قلبك يا “ضُحىٰ” ويجبر بخاطرك وبكرة تشوفي عوض ربنا ليكي عامل ازاي، أكيد هتاخدي واحد يشوفك كل حاجة في دنيته.

بكت “ضحى” من جديد وهي تقول بنبرةٍ مزقت نياط قلب الأخرى من وجعها:
_كنت فكراه بيحبني كدا، كنت فكراه مش شايف غيري طلع فيه مني كتير عنده، واحدة من وسط كتير الفرق بس أني لابسة دبلته.
ربتت “قمر” عليها تؤازرها في محنتها، ثم قالت بنبرةٍ هادئة:
_دا مش راجل أصلًا، مشوفتيش أنتِ “أيوب” ابن الحج “عبدالقادر” عمره ما رفع عينه في واحدة ولو مرة، ولما بيكلم واحدة أو حتى بيكلمني عينه بتلف في كل مكان إلا مكاني، هما دول الرجالة بجد، إنما اللي زي “علاء” دول رجالة أونطة بالاسم.
انتبهت “ضُحى” لها لذلك نَحت حزنها جانبًا ثم رفعت رأسها تسألها باهتمامٍ قصدته خبيثًا:
_الله ؟؟ دا أنتِ مركزة بقى، مش دا اللي كسرتي الزير بتاعه
وكزتها “قمر” في ذراعها، فابتسمت “ضُحى” بخبثٍ ثم قالت بنبرةٍ ضاحكة:
_شكلنا وقعنا بقى، أنا قولت والله تبطيرك على الناس دا ورفضك للعرسان أكيد وراه حاجة كبيرة.
تنهدت بعمقٍ ثم قالت بسخريةٍ تستخف بحالها وتنفي حديث رفيقتها:
_هيبصلي إزاي يا “ضحى” ؟؟ دا واحد حارة “العطار” كلها بتاعته، وميعرفنيش أصلًا علشان يفكر فيا، وكفاية اللي أنا عملته فيه، كل اللي في أيدي أني اتمنى ربنا يكرمني براجل زيه كدا يراعي ربنا فيا.
تبدلت الأدوار و احتضنتها تلك المرة “ضُحى” تُربت على ظهرها وكلٍ منهما تؤازر الأخرى في وجعها، فيبدو أنه شغل تفكير”قمر” بصفاته المحمودة وسمعته التي وصلت لخارج منطقته حتى وصلت لكل من حوله من صفاته الهادئة الطيبة ومحاولته في الوصول للمثالية على الرغم من كونه بشريًا، لكنه يطمع في تربية نفسه كما يُريد أن يحب نفسه.
______________________

نزل “أيهم” من شقته التي أصبح يكرهها ويبغض تواجده بها حيث ذكرياته السيئة التي باتت في كل ركنٍ بها، لم يذهب اليوم إلى عمله بل طلب من والده أن يبقى في البيت يأخذ قسطًا من الراحة لعله يرتاح من كل الضغوطات التي عايشها وذلك الألم النفسي الذي رأه في وجه صغيره وكأنه انتقل منه ليتجسد في نظرات الصغير.
اقترب من الحديقة فوجد “آيات” تجلس بجواره تُطعمه في فمه وهو يتناول الطعام بضحكةٍ واسعة وهو يشاكسها، حتى قالت بضجرٍ زائفٍ:
_يلا بقى خلص أكلك أنتَ اتسخط ؟؟.
حرك رأسه موافقًا وهو يضحك لها ثم قال بنبرةٍ ضاحكة:
_طب ما أنتِ كنتي قاعدة على المُرجيحة من شوية، اتسخطي؟؟.
رمقته بسخطٍ فيما ضحك “أيهم” رغمًا عنه ثم اقترب منهما يقول بنبرةٍ جامدة لكنها زائفة:
_احترم نفسك ياض أنتَ، هتزعل أختي هزعلك.
ركض نحوه “إياد” يفتح ذراعيه له في دعوةً صريحة ليحمله، فأمتثل “أيهم” لما يريد وحمله ثم قبل وجنته وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_فطرت خلاص ؟؟.
حرك رأسه موافقًا فاقترب به من الطاولة يجلس بجوار شقيقته وهو يقول:
_صباح الخير، عاملة إيه يا “آيات” ؟؟
ردت عليه بوجهٍ مبتسمٍ:

_زي الفل الحمد لله، أنتَ إيه أخبارك طمني عليك.
حرك رأسه موافقًا ثم نظر في وجه ابنه فوجده شاردًا في اللاشيء حينها تنهد بعمقٍ ثم قال:
_زي الفل الحمد لله وهبقى أحسن أكتر لما ننزل سوا احنا التلاتة، أنا وأنتِ و المعلم أهو نخرج من حالة اكتئابنا دي، ها قولتوا إيه ؟؟.
هلل “إياد” وبدت السعادة تتراقص على ملامحه لتزيل حزنه الذي حاول جاهدًا وأده ليستمتع في بيته بذلك الحنان الذي يحصل عليه من عمته وعمه وأفراد البيت بأكمله ناهيك عن تلك المساة والدته _اسمًا فقط_ لا تمتها كلمة الأمومة بصلةٍ من الأساس.
تحدثت “آيات” بخجلٍ من أخيها:
_مش مهم يا “أيهم” روحوا أنتم وخلاص، خليني قاعدة هنا مش عاوزة أخرج معلش.
رد عليها بنبرةٍ جامدة:
_هو إيه اللي مش عاوزة تخرجي هتفضلي دافنة نفسك هنا بالحيا كدا ؟؟ الناس برة بقت تستغرب لما تشوفك يا “آيات” تعالي هنخرج سوا مش كنتي عاوزة تجيبي خمار جديد ؟؟ هاخدكم شوية قولتوا إيه.
تحدث “إياد” بلهفةٍ:
_هنيجي طبعًا، لو هي مش هتيجي أنا كمان مش هاجي.
تنهدت باستسلامٍ ثم وزعت نظراتها بينهما وقالت بنبرةٍ هادئة:
_عيني ليكم هرفضلكم طلب يعني؟؟.
اقترب منها “إياد” يُقبلها ثم احتضنها حتى ضحكت هي أيضًا ثم احتضنته، فيما وزع “أيهم” نظراته عليهما ليجد أن كلٍ منهما يحتمي بالآخر من قسوة الخذلان الذي تعرض لها.
_______________________

في محل “بيشوي” الذي يحمل اسم العطار بإدارة “بيشوي” كان واقفًا بجوار العُمال يتابع حركتهم أثناء نقل الرخام ومواد البناء في سيارات النقل، فمر من أمامه “جابر” والد “مهرائيل” عن قصدٍ متعمدًا ذلك حتى يرى معاملة الأخر معه، فتجاهله “بيشوي” عن قصد وهو يُملي للعمال أوامره، فاقترب منه “جابر” يقول بسخطٍ:
_المفروض أني معدي عليك يعني تسيب كل حاجة وتسلم عليا.
انتبه له “بيشوي” لذلك التفت له يقول بنبرةٍ جامدة:
_والأصول بتقول إنك أنتَ اللي جاي ناحيتي، يعني الأصول بتقول إنك ترمي السلام عليا، ومع ذلك نورت يا عم “جابر”
ابتسم له “جابر” باستفزازٍ ثم قال:
_دا نورك يا “بيشوي” خليك كدا لازقلي في عيلة العطار زي أبوك تمام، ابقى وريني هتنول مُرادك إزاي بقى.
رفع “بيشوي” حاجبه وهو يتابع انسحاب الأخر من أمامه بعدما أتى يثير استفزازه عن عمدٍ كعادته يقف حائلًا بينه وبين “مهرائيل” بسبب قربه الشديد من عائلة “العطار” كما أن والده كان العدو اللدود لـ “جابر” يقف أمامه بالمرصاد في كل شيءٍ يقوم به.
شعر “بيشوي” بالضيق منه لذلك رف صوته للعُمال بقوله:
_شَــهل شوية يابني منك ليه، يلا خلينا نشوف اخرتها.
ضاق صدره واعتلى الضيق ملامحه بسبب مرور الأخر من أمامه، لقد ذاق “بيشوي” بعد وفاة أبيه الكثير حتى بنى اسمه بمساعدة عائلة العطار، حتى أصبح له مكانةً وسط التجار باسمه لكنه قرر إخضاع ذلك الاسم تحت وكالة العطار حتى يصبح تحت كافة شئونهم و يعتبر شريكًا في عمل العائلة حتى ولو بنسبةٍ ضئيلة.
______________________

في منطقة نزلة السمان وصلت السيارات تشق الطريق أسفلها على الرمال في لحظات غروب الشمس، وفي تلك اللحظة كان “يوسف” و “إسماعيل” يقفان بجوار بعضهما البعض وعند اقتراب السيارت منهما أخرج “إسماعيل” سلاحه يطلق الأعيرة النارية في الهواء ترحيبًا بشقيقه.
وقف “يوسف” بجواره يبتسم بخفةٍ حتى وصلت لهما السيارات و نزل منها “إيهاب” أولًا يركض لأخيه الذي وضع سلاحه في جيبه ثم فتح ذراعيه لأخيه يعانقه في شوقٍ دام لسنين، فرغمًا عنه لمعت العبرات في مُقلتيه وهو يقول بنبرةٍ مُحشرجة:
_وحشتني يا “إيهاب” حضنك وحشني أوي.
حرر “إيهاب” أنفاسه المكتومة وهو يقول بلوعةٍ:
_أنتَ اللي وحشتني أوي يا “إسماعيل” ورب العزة أنا ما كان واجعني في غيبتي غيرك أنتَ، طمني عليك.
ابتسم له ثم ابتعد عنه نسبيًا حتى يتسنى له رؤيته وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_كفاية أني شوفتك تاني قصاد عيني، نورت الدنيا كلها.
اقترب منهما “نَـعيم” يقف بجوار “يوسف” وهو يقول:
_شوفت وجودك حلو ازاي وعزوة لبعض، بلاش سفر بقى تاني وخليك معانا، دي الدنيا مبتنورش غير بوجودك فيها.
رد عليه بنبرةٍ هادئة:
_مليش حاجة أفضل علشانها، كل حاجة بايخة اوي لما بتزيد عن حدها، خليني كدا أجيلكم كل فترة أحسن اشبع بشوية الونس اللي هنا.
طالعه “نَـعـيم” بيأسٍ وقلة حيلة، فيما اقترب “إيهاب” منه يقول بمرحٍ لكي يشاكسه:
_منور الدنيا يا غريب، ليك شوقة يا عمنا.
اقترب منه “يوسف” يعانقه مُربتًا على ظهره هو يقول:

_حمدًا لله على سلامتك يا معلم، دا الدنيا نورها زاد بوجودك على الأسفلت من تاني.
احتضنه “إيهاب” بشوقٍ يربت عليه، ثم ابتعد عنه يقول بنبرةٍ ضاحكة يقصد تذكيره بما مر:
_قولي ياض، لسه فاكر اللي علمتهولك ؟؟ ولا اتبخر؟؟
غمز له “يوسف” ثم فاجئه حينما فتح مطوته وهو يقول مُقلدًا طريقة “إيهاب”:
_بص يا شبح ضربة المطوة دي ليها أصول، عاوزها عرقبة ولا خربشة ولا قاضية، ولا زيارة عشماوي ؟؟.
ضحك “إيهاب” وهو يقول بفرحةٍ وفخرٍ يشبه فخر المُعلم بطالبه الممتاز:
_طمرت فيك الرباية ياض، قولي زفرتها كام مرة؟؟
رد عليه “يوسف” بفخرٍ وزهوٍ في نفسه:
_وغلاوتك عندي، لسه الفجر مصبح على واحد بيها.
ربت على كتفه، بينما “نَـعيم” قال بنبرةٍ ضاحكة:
_الليلة ليلة فرحك يا “إيهاب” زي ما اتاخدت قبل فرحك، رجوعك يبقى على الفرح برضه، يلا روح جهز نفسك.
التفت له يقول بلهفةٍ:
_”سمارة” فين يا حج ؟؟ عاوز أشوفها.
حرك رأسه موافقًا ثم قال:

_حقك، هتلاقيها جوة ماهي مراتك بقى، يلا منه لله اللي كان السبب وبوظ فرحتنا بيك، مراتك جوة مستنياك قبل ما تروح تجهز نفسها وتلبس فستان الفرح.
ركض من أمامهم جميعًا بلهفةٍ تشبه لهفة الطفل التائه حين عودته لأمه، لقد حُكِمَ عليهما بالفراق لمدة أربعة سنوات بعدما كادا أن يتلاقيا ويصبحا بمثابة فردًا واحدًا، لكن الحياة أبت اجتماعهما لتحكم عليهما في نفس الليلة التي أصبحت فيها على اسمه.
ركض بلهفةٍ نحو الداخل حيث غرفتها وهو يعلم أنها في انتظاره، طرق باب غرفتها ففتحته له دون أن تعرف أنه الطارق، وقف كلاهما يطالع الاخر بغير تصديق، فرغ فاهها ولمعت العبرات في عينيها وفرت دون أن تعي هي لذلك، بينما هو وقف يُشبع نظراته منها ففي فترة سجنه لم يراها سوى مرتين فقط، لم يصدق أنها تقف أمامه حرة بدون قيودٍ مفروضة عليهما أو حتى موعد ينتهي بعد قليل، بكت وهي تتعلق بعنقه، فيما ابتسم هو الأخر بحزنٍ ثم قال بوجعٍ:
_صدق اللي سماها دنيا، كل ما أجي أفرح فيها تلطشني بالقلم تفوقني، عاوز حد يقولي إن المرة دي بجد مش هسيبك.
شددت عناقها له وهي تقول ببكاءٍ:
_متمشيش تاني يا “إيهاب”، أنا ماصدقت ربنا يكرمني بيك.
لم يتفوه بكلمةٍ واحدة فقط احتواها بين ذراعيه يبكي رغمًا عنه وهي كذلك تبكي بعدة مشاعر مختلطة لقد عاد من أبصرت فيه دُنياها، هو الوحيد الذي قدم لها الحماية و الأمان منذ أول مرةً رأته بها تحولت من مجرد فتاةٍ يتيمة مشردة بالشوارع إلى أخرى مصونة في ذلك البيت بعدما أتى بها هو إلى هنا.
أنزلها تقف أمامه ثم ابتسم لها وهو يقول بنبرةٍ رخيمة وعيناه تجول في ملامحها يروي عطش غيباه وفراقه عنها:
_مش عارفة هقولها أزاي الكلمة الملزقة دي، بس أنا بحبك يا بت، و الحبسة دي خلتني عاوز أفضل معاكي علطول، أقسم بالله كنت بعد الأيام علشان أخرج وأطل في ملامحك يا “سمارة”.

ابتسمت من بين دموعها ثم احتضنته من جديد، فابتسم هو رغمًا عنه ثم ربت على رأسها وظهرها وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_يلا يا عروسة روحي جهزي نفسك.
حركت رأسها موافقةً ثم رفعت رأسها تقول بشوقٍ:
_مش هتأخر عليك، استناني يا “إيهاب”
حرك رأسه موافقًا ثم قبل رأسها وتحرك من أمامها بينما هي ركضت تحتضن فستان زفافها وتدور به في الغرفة وكأنها طيرٌ لم تساع الغرفة أجنحته التي يحلق بها من فرط سعادته بعدما تذوق طعم الحُرية.
لم يختلف حال “إسماعيل” كثيرًا عن حالها بل كان طيرًا بحقٍ منذ أربعة أعوامٍ وهو يعيش في السجن كما الطير الموضوع بالقفص، كُسرت فرحته، وتذوق العذاب وها هو ينول الحريةِ ليحلق في الآفاق كما أراد وأول شيءٍ يفعله هو التواجد مع المرأة الوحيدة التي استطاعت تحريك قلبه بعدما حرم العشق على نفسه كما يحرم المرء الخمور على جوفه، لكنها في النهاية فتنته لِيُصبَح في نهاية الأمر من سحر عينيها مخمورًا سكرانًا.
________________________
نزلت “قمر” من شقتهم تقوم بشراء طلبات البيت بعدما رفضت “ضُحى” معاونتها أو مشاركتها في ذلك الأمر مُتعللةً بتعبها الجسدي، وفي نهاية الأمر نزلت هي بمفردها تجلب مُشتريات البيت من عدة أماكن مُتفرقة، حتى شعرت بالتعب فوقفت تلتقط أنفاسها ثم اقتربت نحو محل البقالة تشتري منه زجاجة مياه وعلبة عصير تُرطب على قلبها من ذلك الحر على الرغم من الليل الذي ظهر ومن المفترض أن تظهر نسماته الباردة.
وقفت على الطريق ترتشف المياه ثم العصير بعدها ثم أجمعت الأشياء التي قامت بشرائها غافلةً عن زوج الأعين التي تراقبها خلسةٍ.
مرت بجوار زُقاقٍ ضيق المساحة لتعبر منه للجهةِ الأخرى فتفاجئت بمن يخطفها من ذراعها و يُكمم فمها في ذلك الزُقاق حينها اتسعت عيناها بغير تصديق وباتت مُتيقنة أنها أوشكت على لفظ أنفاسها الأخيرة لا محالة، وقد ازداد خوفها حينما نطقت باستنكارٍ:

_أنــتَ.
________________________
في منطقة الزمالك جلست “شهد” تتصفح هاتفها وخاصةً صفحاته هو الشخصية فلازالت تراقبه وهو يعلم ذلك، فتحت موقع “انستجرام” فتفاجئت بصورته على الخيل كما المعتاد منه في كل مرّةٍ يزرو فيها القاهرة، وفي كل مرةٍ تزداد الصور عُمقًا من حيث الطبيعة، ووسامةً منه.
كانت الصورة الأولىٰ من ظهره وهو يعتلي الحصان باللون الأبيض و الأسود، و الصورة التالية مع غروب الشمس برفقة الخيل وهو يرفع قدمين الخيل وقد كتب فوقها بزهوٍ لنفسه:
_”مليش شبيه ومبعرفش أقف في وسط الصف،
دماغي عالية وطموحي لسه ملهوش سقف”.
أبتسمت رغمًا عنها فوجدت “مادلين” تقترب منها وهي تقول بنبرةٍ خبيثة لكنها صبغتها بالضحك:
_أوه، “شاهي” قاعدة هنا عادي؟؟ غريبة إنك مخرجتيش زي كل يوم أو حتى روحتي النادي.
أغلقت هاتفها على الفور ثم تصنعت الثبات الذي يُنافي توترها الداخلي وهي تقول:
_عادي يعني يا طنط، مش بيتي برضه؟؟.
حركت رأسها موافقةً وهي تبتسم لها ثم قالت بخبثٍ:
_بيتك وبيت حبيبك طبعًا.
نظرت لها “شهد” بخوفٍ بدا واضحًا عليها من خلال حُمرة وجهها التي أعربت عن خوفها و توترها، بينما “مادلين” أضافت بنفس الخبث:
_أنتِ و “نادر” طبعًا، ربنا يكرمكم إن شاء الله مع بعض و نشوف بيبي صغير يملى البيت بشقاوته.
حركت رأسها موافقةً ثم مسحت وجهها الذي ارتفعت درجة حرارته على الرغم من المكيف، بينما الأخرى وضعت قدمًا فوق الأخرى وهي ترمقها بثقةٍ أن ما تفكر به صحيحًا.
______________________

في مكتب “عاصم” جلس برفقة “سامي” و “نادر”، فتحدث الأخير بجمودٍ:
_هو مش كان بييجي يروح عند اللي اسمه “نَـعيم” دا ؟؟ إيه اللي جابه هنا أنا مش فاهم ؟؟ غاويين يعني كل شوية حد يسمع صوت مشاكلنا ؟؟.
رد عليه “عاصم” بغموضٍ:
_وجوده هنا في الوقت دا مع تعب أمي، ميبشرش بأي خير أبدًا، لازم “يوسف” رجله تبعد عن هنا لحد ما نشوف امي هيحصلها إيه، لو كدا ننقلها في شقة “سامي” أفضل.
تحدث “نادر” بلهفةٍ:
_بقولك إيه يا خالو ؟؟ سيب موضوع”يوسف” دا عليا أنا هعرف أخلصك منه خلال يومين بالكتير، تيتة مش هينفع تتنقل من هنا لأن دا فيه خطورة كبيرة عليها، اديني بس الموافقة وأنا هظبط الدنيا.
تحدث “سامي” بقلقٍ على ابنه:
_يابني بلاش !! اسمع مني وسيبك منه ولو كدا ننقل جدتك شقتك أنتَ أسهل وخلاص بعربية إسعاف مجهزة أحسن.
رد عليه “عاصم” بثباتٍ:
_كدا كدا وجوده هنا غلط، لازم يكون فيه حل يمنعه ويوقفه عند حده، لازم “يوسف” ودانه تتقرص.
كان حديثه يُقطر بالحقد و الغِل تجاه ابن أخيه، ونظراته تنطق بمقتٍ، على الرغم من المفترض أن يكون هو أحب الناس إلى قلبه، إلا أنه أكره الناس لديه ويضعه في خانة عدوه اللدود.
______________________

جلس “بيشوي” في محله يتابع أعماله وهو يمرر بصره على الأوراق التجارية الموجود أمامه يراجعها قبل أن يُغلق الدفتر اليومي، فتفاجأ بـ “مارينا” شقيقة “مهرائيل” تركض نحوه بخوفٍ وهي تقول بنبرةٍ متخبطة:
_”بيشوي”، الحقنا بسرعة.
رفع رأسه من على الأوراق الموضوعة أمامه وهو يقول بلهفة بعدما حدثته بتلك الطريقة:
_مالك يا “مارينا” انتوا كويسين؟؟ حد حصله حاجة؟؟.
حركت رأسها نفيًا ثم قالت بخوفٍ:
_بابا جاب عريس مفاجأة لـ “مهرائيل” وهو موجود معاه في البيت.

يتبع….

“يــا صـبـر أيـوب”
_____________________
عند السماع لإبتهال ” النقشبندي ” وهو يتضرع للمولىٰ حينما يضيق الحال فيقول ” قصدتك من كل الجهات مناديًا” ويُكمل ويوصف ما نشعر به قائلًا:
” أجرني من القيد الذي شد معصمي ” أجرني من حُزني ، وخوفي ، وقلقي” وينهي بقوله للمولىٰ عز وجل
” أعدني لنفسي كم تغربتُ حائرًا”
فاللهم أجرنا من غُربة النفسِ.
________________________
لقد كُتِبَتْ علىَّ الغُربة وتم بها وسمي وكأنها اسمي، غريبٌ عاش في دنياه حتى عن نفسهِ، ووحيدٌ يسير في دربهِ، أشبه في حالي وكأنني مُرشدٌ في الصحراء يُرشد الجميع وفي اليوم الذي احتاجت فيه رؤية الطريق، غابت النجوم عن السماء ليقف مَحله تائهًا بدون طريق، فكيف لي أن أصل لِـسُبل النجاة وأنا هنا الغريق؟.
استمع “بيشوي” لجملة “مارينا” بعينين مُتسعتين وقد تملك منه الضيق لذلك ضغط على قبضتيه ثم هدر بنبرةٍ جامدة قاسية من يستمع لها يظنه بلا رحمةٍ:
_حُــسـني !! يا حُـــسني.
اقترب منه مساعده يسأله بلهفةٍ من غلظة صوته حتى تقطع صوته و تفرفت حروفه:
_نـ…نـعم يا أستاذ بيشوي..

نظر أمامه بغيظٍ وكأنه سُجِنَ في عالمٍ أخر وهو يقول:
_تقفل المحل، وتدخل كل حاجة جوة مكانها، أنا ماشي.
التفت يُغلق الدفتر و يضعه في خزينته ثم أخذ المفاتيح وتحرك من المكان بخطواتٍ واسعة يضرب الأرض بقوةٍ تعبر عن جَمَّ غضبه، و الأخرى تركض خلفه في محاولة منها للِحاق به لكنها باءت بالفشل، خاصةً وهو يسير بلا هوادة نحو بيت “مهرائيل”.
دلف البيت بدون أن يخطر بباله استخدام المصعد فاستخدم الدرج و خلفه “مارينا” بأنفاسٍ مُتقطعة لاهثة حتى وصل هو الطابق السادس وهي خلفه، وقف أمام الشقة يضرب الجرس بكفٍ و بالآخر يَطرق باب الشقة حتى فتحه له “جابر” الذي وقف مدهوشًا برؤيته أمامه.
تحدث “بيشوي” بنبرةٍ جامدة وهو يطالعه بنظراتٍ ثاقبة:
_هو إحنا مش كنا اتكلمنا كلمة رجالة قبل كدا ؟؟ بتخونها ليه؟؟ عريس مين دا اللي جايبه لبنتك ؟؟ مش مالي عينك؟؟
رفع “جابر” حاجبه ووقف يرمقه بغيظٍ فيما تحرك “بيشوي” نحو الداخل يتحدث بنبرةٍ جامدة لذلك المزعوم المُلقب بعريسها:
_أنتَ يا جدع أنتَ اتكل من هنا يلا، لو خايف على كرامتك.
رفع الشاب رأسه نحوه يسأله بأدبٍ:
_مين حضرتك، وبصفتك إيه بتكلمني كدا؟؟
لاحظ “بيشوي” أسلوبه المحترم لذلك تنفس بعمقٍ ثم آثر طريقةً أخرى وهي التفاهم فتحدث بنبرةٍ هادئة:
_أنا خطيب الآنسة اللي حضرتك جاي تخطبها دي، كل الحكاية إن فيه شوية خلافات عائلية هنحلها سوا، اتفضل.
أشار نحو باب الشقة كإشارةٍ منه للخروج من هنا، فقاطعه “جابر” مُتدخلًا بقوله:
_محصلش، مش خطيبها، وأنا مش موافق.

رفع “بيشوي” حاجبه وحدجه بشررٍ و قست نظراته نحوهما، فأغلق الشاب زر سترته ثم أخذ يقول بأدبٍ:
_ربنا يتمم بخير، عن اذنك وآسف لو حصل أي لَبس في الموضوع، أكيد بدون قصد.
تنهد “بيشوي” ثم نطق بجمودٍ:
_تُشكر، وكويس إنك طلعت مجدع وابن أصول قدرت الموقف صح، علشان معملش أنا معاك الصح.
كانت “مهرائيل” تتابع ما يحدث في الخارج من خلف باب غرفتها الذي واربته لكي تستطيع مراقبة ما يحدث خارجًا بعينين متورمتين من كثرة البكاء، فيما انتظر “بيشوي” حركة الأخر وقبل أن يقترب من باب الشقة أوقفه بنبرةٍ قوية غَلِظة
_استنى يا أستاذ !! خُد حاجتك دي معاك، ملهومش لزوم.
التفت الشاب عائدًا نحو الطاولة يحمل باقة الزهور و علبة الشكولاتة المُغلفة ثم تحرك من المكان بأكمله محاولًا الحفاظ على هيئته التي بعثر “بيشوي” ثباتها، راقبه “بيشوي” بحاجبٍ مرفوعٍ ثم التفت لـ “جابر” الذي هدر من خلفه بقوله:
_ لو فاكر انك هتلوي دراعي كدا وإني هعديلك اللي عملته تبقى غلطان أوي يا “بيشوي” بس لو ليك كبير كان اترد عليه.
تعمد إهانته والتقليل من شأنه و ذويه، فيما اقترب “بيشوي” منه ينطق بخشونةٍ جَزع منها “جابر” و تراخت أعصابه بشكلٍ ملحوظٍ:
_لو أنتَ فاكر إني هسكتلك عن اللي بتعمله دا تبقى غلطان أصلًا، ولو فاكر إني مليش كبير وكدا بتقلل مِني، احب أقولك إن كدا غلطك أكبر، علشان أنا كبيري لما مات اشتريت لنفسي كبير وقدرته اسمه “عبدالقادر العطار” الاسم اللي هيفضل كبيري طول العُمر، تقدر تروحله تقول يا كبير ابنك غلط.
تعمد “بيشوي” نعت نفسه بكلمة ابنه لكي يحفز تلك الصفة لدى الأخر الذي يكره تلك العلاقة على الرغم من أن ابنته تجمعها صلة وطيدة بابنة “عبدالقادر”، تنهد “بيشوي” بضجرٍ ثم حذره قبل أن يخرج من الشقة بقوله:
_لو حصل دا تاني، ساعتها أنا هَخرَج العريس بنقالة من هنا، ومن غير حلفان أو حتى تأكيد كلام، “مهرائيل” خط أحمر عندي.
تحرك من الشقة بعد حديثه الغليظ بنبرته القاسية، فابتسمت هي في الداخل بفرحةٍ كبرى انعكست على نظراتها وردود أفعالها التالية حينما ضمت كفيها معًا تضعهما على صدرها تُهديء من ضربات تلك المَضخة التي أوشكت على الاقلاع من محلها بسبب حديثه وطريقته التي رغم خشونتها إلا أنها أعربت عن صدق ما تفوه به.

انتبه “جابر” لوقوف ابنته الأخرى فاقترب منها يسألها بقسوةٍ وعيناه تنطق بسهام الشرِ:
_أنتِ اللي نزلتي عرفتيه صح ؟؟ انطقي.
ردت عليه بخوفٍ بعدما انكمشت في نفسها بسبب نظراته التي أوشكت على وأدها في محلها:
_ماهو….ماهو أنا خوفت يعرف ويحصل مشاكل، علشان كدا روحت أعرفه، صدقني مكانش قصدي غير كل خير.
ضحك بتهكمٍ ثم قال بسخريةٍ:
_وأنا برضه قصدي كل خير، علشان كدا مفيش نزول من البيت تاني ليكي، حلو كدا ؟؟ اشربي بقى علشان تفتني كويس.
تحرك من أمامها فزفرت “مارينا” بقوةٍ وهي تضرب الأرض بقدميها من فرط غيظها ثم قالت بثباتٍ بعدما رفعت رأسها بشموخٍ:
_برضه مش مهم، عادي.
اقتربت منها والدتها تقول بتعجبٍ من تحدثها لنفسها:
_اتجننتي خلاص ؟؟ كلكم بتكلموا نفسكم هنا ؟؟.
نظرت لها “مارينا” بقلة حيلة ثم رفعت كتفيها، فتنهدت والدتها ثم اقتربت منها تضم كتفيها بذراعيها وهي تقول:
_جدعة إنك عملتي اللي قولتلك عليه، أنا مش هأمن عليها مع حد تاني غير “بيشوي”.
حركت رأسها فتنهدت والدتها ثم نطقت بنبرةٍ خافتة:
_تعالي يلا ندخل نقعد معاها علشان متزعلش.
________________________

_أنَـــتَ !!.
تفوهت بها “قمر” بدهشةٍ يخالطها الاستنكار فلم تتوقع جرئته في فعل هذا التصرف المُشين، فيما ارتفعت زاوية فم “علاء” بتهكمٍ ثم نطق بسخريةٍ:
_جرى إيه يا “قمر” ؟؟ فكراني هسيبك وأعدي اللي حصل دا، تبقي عبيطة، وديني هتشوفي إزاي هاخد حقي منك، حتة بت زيك تلعب بيا أنا ؟؟ لا عاشت ولا كانت.
كان لازال مُمسكًا بذراعها يقبض عليه بكفه وحينما حاولت الإفلات منه ضغط أكثر على مرفقها وهو يقول بنبرةٍ جامدة:
_اقفي يا حلوة علشان لسه اللي جاي كتير، واللي أنتِ عملتيه أنا مش هعديهولك، بكرة هتشوفي بنفسك لما مكالماتك بصوتك الحلو دا تنزل على النت وتبقى تريند وتبقي البت اللي بوظت فرح بنت خالها علشان بتحب عريسها.
اتسعت عيناها بهلعٍ وحركت رأسها نفيًا بغير تصديق كمن سُكبَ دلو الماء البارد فوقه، فازدادت نظراته شرًا وهو يضغط على ذراعها أكثر بانتشاءٍ حينما رأىٰ خوفها جليًا على ملامح وجهها وهمس لها بنبرةٍ خافتة بثت جَمَّ الرُعب في أوصالها:
_وقابلي اللي جاي مني علشان كتير أوي، بكرة اخليكي تتكسفي ترفعي عينك في وش حد.
تحدثت ببكاءٍ تحاول معه بطريقةٍ أخرى تستعطفه:
_حرام عليك تبوظ سمعة بنت وأنتَ عارف أني معملتش حاجة من دي، لو سمحت سيبنا في حالنا، مش هتستفاد حاجة لما تعمل كدا، بالله عليك متعملش كدا.
استوحشت نظراته أكثر ليبدو كما المُضطرب أو كمن يعاني مِن انفصامٍ حاد وهو يقول:
_هشوفك مذلولة قدامي وعينك مكسورة مش قادرة ترفعيها، ريكورداتك بتجهز وكلها أيام إن شاء الله وتبقي أشهر تريند في مصر.
زاد اتساع عينيها وسالت العبرات المُنهمرة وهي ترى تهديده الصريح بها دون أن يرف له جفنٌ ودون أن يشعر بالذنب تجاه سُمعة فتاةٍ يتعدى على شرفها بالباطل مُستغلًا عدة أقاويلٍ وأحاديثٍ مرت بينهما ليقوم بستغلالها أبشع الاستغلال.
على الجهة الأخرى أوقف “أيوب” سيارته عند مقدمة هذا الزُُقاق الضيق فأخرج هاتفه يطلب رقم شقيقه حتى جاوب “أيهم” على اتصاله فسأله هو بهدوءٍ:
_ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، لسه مروحتوش؟؟
جاوبه الأخر بنبرةٍ ساخرة وهو يطالع ابنه في الملاهي:
_لسه يا أخويا، الواد زي ما يكون خد إفراج من تأبيدة، مش قادر عليه يرجع علشان كدا سايبه لحد ما يهبط خالص وينام، رغم أني شاكك بصراحة في دا.

ابتسم “أيوب” بخفةٍ ثم نطق بهدوءٍ:
_طب خلي بالك منه وحطه في عينيك، وأسأل “آيات” كدا لو عاوزة حاجة أجيبهالها وأنا مروح قبل ما أروح البيت.
سأل الأخر شقيقته فنفت وهي تشكره، فأخبره “أيهم” بجوابها ثم ودعه وأغلق معه المكالمة، فيما وضع “أيوب” هاتفه في جيبه ثم أخرج الظرف الأبيض من تابلوه السيارةِ ليصل تلك الأمانة إلى ذويها.
ترجل من السيارة يسير على قدميهِ كعادته لا يحب التفاخر خصيصًا عند تلك الزيارات التي تطلب من الإنسان تواضعه وتعامله بكل طبيعته.
رفعت “قمر” كفها لتهبط على صفحة وجه “علاء” بعدما استعادت رابطة جأشها من جديد وتسلحت بقوةٍ واهية، فقبض على رسغها وهو يقول بنبرةٍ جامدة:
_لو إيدك فكرت تتمد عليا أنا هفضحك في كل حتة ودلوقتي.
_إيـــه الـلـي بــيـحـصل هنا ؟؟.
كان ذلك قول “أيوب” مُستفسرًا بنبرةٍ جامدة حينما رآى الاثنين مع بعضهما متواريين عن الأنظار في ذلك الزقاق الذي قلما عبر منه أشخاصٌ، فيما حركت “قمر” رأسها نحو صاحب الصوت بفزعٍ ازداد حينما وجدت “أيوب” أمامها، بينما قال هو بدهشةٍ:
_أنــــتِ !!!

ازدردت لُعابها وعلى الفور هبطت دمعاتها، فضغط “علاء” على يدها أكثر في تحذيرٍ مُبطنٍ منه إذا تحدثت هي، لينطق هو بثباتٍ:
_واحد وخطيبته واقفين يتكلموا سوا، فيه حاجة؟؟.
نظرت له بدهشةٍ ثم التفتت تقول بنبرةٍ باكية:
_لأ مش خطيبته، دا كداب والله.
لم يجد “أيوب” بُدًا من وقوفهِ محله لذا تحرك نحوهما ثم وقف أمامها كما الدرع الواقي حتى شعرت هي بالأمان من مجرد وقوفه أمامها، فرفع “أيوب” كفه يضغط على قف “علاء” حتى فصله عن ذراعها الذي لازال يمسكه، ثم قال بنبرةٍ جامدة:
_سواء خطيبتك أو لأ ميحقش ليك تمسكها أو حتى تلمسها كدا، ولو هي خطيبتك فعلًا فمينفعش يا أبو الرجولة تقف معاها في مكان زي دا علشان سُمعتها، لو غير كل دا فأنتَ كدا محتاج إعادة تأهيل لرجولتك، اتفضل وأعرف إن المكان دا ليه أصوله مينفعش حد يتعداها.
رمقها “علاء” بتوعدٍ يحذرها وهي تقف خلف “أيوب” وكأنها أعلنته حاميًا لها فتحرك من المكان بخطواتٍ واسعة، فبكت “قمر” بخوفٍ وهي تشعر بالقهر، التفت لها “أيوب” يطالعها بتعجبٍ ثم ابتعد عنها بمسافةٍ كافية وتحدث بنفس الجمود:
_أظن إنك مش محتاجة نفس الكلام اللي قولتهوله، مينفعش تقفي مع واحد في مكان زي دا حتى لو كان خطيبك، اتفضلي يا آنسة وخلي بالك من نفسك.
أزدادت دموعها وقد أوجعتها طريقته في الحديث وزادت عليها الضغوطات لذلك انتحبت وهي تقف أمامه، هعقد ما بين حاجبيه وقد ظن أن كل ذلك من شعورها بالذنب، لذا تنهد بعمقٍ ثم سألها بنبرةٍ أكثر هدوءًا عن ذي قبل:
_مالك ؟؟ أنتِ كويسة ؟؟

حركت رأسها موافقةً فسحب نفسًا عميقًا ثم أشار لها تتقدمه وقبل أن تحمل الأشياء حملها هو عنها حتى سارت أمامه كما الإنسان الآلي في خنوعٍ للحركة وكأن أحدهم يملك السيطرة عليها في الحركة، فأوقف هو أول وسيلة قابلته لتوصيلها وهي تلك المواصلة الدارجة وسط الأحياء الشعبية وما يُطلق عليها “توكتوك”.
أشار لها فدلفت للداخل فسألها بنبرةٍ هادئة:
_العنوان فين ؟؟.
مسحت دموعها ثم أملته العنوان بنبرةٍ مُحشرجة، فتحدث السائق بقوله:
_عارفه يا أستاذ “أيوب” وعارفك أنتَ كمان، متقلقش هوصلها لحد هناك إن شاء الله.
ابتسم له “أيوب” ثم أخرج ورقة مالية يُعطيها له فئة العشرين جُنيه، وقبل أن يعطيه السائق باقي النقود اوقفه بقوله:
_خلاص بقى، يلا سلام عليكم مش هوصيك دي تبع الحج.
حرك رأسه ثم أشار إلى عينيه وهو يقول:
_في عينيا يا شيخنا، اتفضل.
ابتعد “أيوب” عنه ليترك له مساحة التحرك فأخرجت هي رأسها تطالعه بعينين دامعتين وكأنها تعبر عن امتنانها ولربما آسفها ولربما هناك شيءٌ أخر لم يفهمه، لذا حرك رأسه للجهةِ الأخرى حينما اختفى أثر المواصلة المتواضعة ثم عاد أدراجه إلى مكانه الذي قصده منذ البداية لكن مع اختلاف عودته عند الذهاب.
_____________________

في منطقة نزلة السمان.
وقف “إيهاب” في غرفته يتجهز لتلك المناسبة التي طال انتظارها، في باديء الأمر ظنه حلمًا من ضمن أحلامه الكثيرة التي حَلُم بها في مَحبسه، خصيصًا بعد نال على محاكمةٍ قضت على أحلامه و شبابه، ظن أن خروجه قبل خمسة عشر عامًا ماهو إلا أمر شبه مستحيلٍ، لكن إرادة الله فوق كل شيءٍ وأمامها تزول كلمة مستحيل.
ارتدى قميص حِلته الأسود وكذلك البنطال ثم وقف أمام المرآة يُصفف خصلات شعره لتمر أمامه وكأن طيفها أقسم أن يزوره حتى في حُريته، ابتسم بزاوية فمه وهو يفكر كيف لرجلٍ مثله أن تفعل تلك الفتاة ما فعلته به، كان كما الوحش أمام الجميع لم يُهاب أحدهم قط في حياته، إلا تلك يصبح أمامها شخصًا أخر وكأنها ألقت بسحرها على فؤاده ليصيبه كما اللعنة وما هو سوى مجذوبٌ خلف سحرها.
تنهد “إيهاب” بعمقٍ ثم جلس على طرف فراشه وشرد في أول لقاءٍ يجمعهما سويًا منذ عدة سنواتٍ كثيرة كانت هي فيها في بداية تفتح زهور شبابها
( منذ عدة سنواتٍ)
ركب “إيهاب” و معه “إسماعيل” شقيقه سيارة “نَـعيم” الذي ارسلهما إلى أحد التجار في منطقةٍ نائية تسمى بـ
“حي الاباجية” تلك المنطقة الشعبية الممتلئة بالعديد من أعمال الشغب و مشاغبة شبابها و ذاع سيط تجارها بقوتهم كما أنها اشتهرت بالأسلحة بكافة أنواعها، منطقةٌ في وسط مصر عبارة عن أزقة وحارات ضيقة المساحة.
وقف “إيهاب” بالسيارة وسط ذلك التكدس يزفر بضيقٍ وهو يضرب بكفه على تارة السيارة وقد أوشك على نفاذ صبره، فتحدث شقيقه بنبرةٍ هادئة:
_يا عم اهدا وترت أمي جنبك، مش كدا ياعم.
تحدث “إيهاب” بنبرةٍ جامدة:
_سيادتك شايف فيه وقت يعني عندنا ؟؟ الراجل جاي والحج بيجمع الفلوس علشان نخلص طالما اعتمد علينا، عاوزين نخلص.
رفع “إسماعيل” اصبعيه يَفرك جبينه بحيرةٍ فيما أخرج “إيهاب” رأسه من نافذة سيارته يتحدث مع يجاوره في السيارة الأخرى التي تصف بجوار سيارته:
_بقولك إيه يا ريس، هو فيه إيه ؟؟.
رد عليه الرجل بضجرٍ ونفاذ صبرٍ:
_خناقة يا سيدي، شوية عيال ملهمش أهل يوقفوا الطريق زي ما أنتَ شايف كدا، مفيش عند أهاليهم دم خالص.

حرك رأسه موافقًا ثم عاد لموضعه يشرأب برأسه للأمام يحاول التوصل لما يصير في الأمام وقد حسم أمره عند رؤيته لذلك الحشد من الناس مُتجمهرين دون أن يتدخل أحدهم في حل تلك المعضلة التي عرقلت سير مصالحهم، سأله شقيقه بلهفةٍ:
_رايح فين يا عم، يابني….متتهورش ياعمنا.
تجاهله وأغلق باب السيارة بعدما ترجل منها ثم سار بثباتٍ نحو هذا الحشد المُمتليء بالناس ثم رفع صوته بنبرته الخَشنة وهو يقول:
_فيه إيه منك ليه ؟؟ ما تخلصونا يا عمنا بقى.
التفتت الابصار نحوه من قوة نبرته فوقع بصره على تلك الفتاة التي تقف وسط كل هؤلاء ويجاورها شابٌ من نفس عمره تقريبًا في العشرينات، تحدث بنبرةٍ جامدة:
_فيه إيه ؟! هنوقف الطريق علشان لعب العيال دا؟؟
اندفعت “سمارة” توبخه على تدخله بقولها:
_وأنتَ مالك أنتَ يا عم ؟؟ حد طلب منك تتدخل ، بتحشر نفسك ليه ؟؟.
رمقها بنظرةٍ جامدة ظنًا منه أنه سَيُسكتها لكنه تفاجأ بها تقول بسخريةٍ:
_ياما ؟؟ أنتَ هتخوفني ولا إيه يا جدع أنتَ، بص على قدك.
اقترب منها يهدر من بين أسنانه بغيظٍ حاول كظمه:
_عظيم بيمين لو ما كنتي حُرمة لا كنت أدبتك مكانك.
شهقت بطريقةٍ سوقية جعلته يرمش ببلاهةٍ، فتدخل الشاب الذي يقف بجوارها ينطق بغضبٍ:
_أنا هربي اللي خلفوكي هنا علشان تتعلمي الأدب مادام فاكرة إنك ملكيش كبير يكسر عينك.
امسكها من ذراعها يلويه خلف جسدها في حركةٍ مُباغتةٍ لها جعلتها تبكي بقهرٍ لتزول قوتها الزائفة وهي تقول بصراخٍ:
_مش هرجع معاك، القعدة في الشارع هنا أرحم من القعدة مع واحد زيك شمام أنتَ وأمك الحرباية.
لاحظ “إيهاب” قهرها وهي تتحدث بضعفٍ وانكسارٍ لذلك اقترب منه يفصله عنها وهو يقول بنبرةٍ قوية:
_عيب كدا يا غالي، مفيش راجل يمد أيده على واحدة، عيب ياعم مش ماليين عينك احنا، سيبها بقولك.
عاند الشاب معه وهو يقول بنفس الغلظة:

_مش هسيبها، هاخدها أربيها بدل ما تدور على حل شعرها، هي ناقصة تفضحنا، قدامي يابت.
ازدادت نيران “إيهاب” المتأججة وهو يرى الشاب يُعانده، فاقترب منه يفصله عن “سمارة” التي بكت بقوةٍ فتحدث “إيهاب” بنبرةٍ جامدة:
_أنتَ تقربلها إيه ؟؟.
تحدثت هي ببكاءٍ تجاوب بدلًا عن الأخر:
_ميقربليش، دا ابن مرات أبويا، من ساعة ما مات وهي عمالة تطرد فيا والناقص دا بيتعرضلي، ومش سايبني في حالي، طفشت منهم وبرضه عاوز يرجعني بالعافية علشان ياخد غرضه وأمه ترميني بعدها.
اقترب “إيهاب” أكثر من الشاب ثم أمسك كفه يزيحه عنها ثم بحركةٍ خاطفة أوقفها خلف ظهره ثم قال بنبرةٍ جامدة:
_ابقى وريني هتلمسها إزاي يا دكر.
اقترب الشاب يحاول الإمساك بها من جديد ففاجئه “إيهاب” حينما أخرج سلاحه الأبيض “المطواة” يفتحها أمام وجهه ثم قال مُهددًا له:
_تعالى خطوة كمان علشان أشيعك متكيس.
عاد الشاب للخلف بخوفٍ لطالما امتازت شخصيته بالجُبن دون مواجهة وخاصةً في المواقف التي تطلب الشجاعة، فيما التفت نحو أخيه يرفع صوته بقوله:
_”إســمــاعــيل” !!.
ركض له أخيه من السيارة، فأشار نحو الفتاة وهو يقول:
_خدها العربية متنزلش منها لحد ما أجيلك، فاهم ؟؟
رغم التعجب الذي بدأ واضحًا على ملامح شقيقه إلا أنه لم يقوى على مجادلته لذلك أومأ له في اذعانٍ لأوامره، فتحدثت الفتاة بنفس أسلوبها الغريب:
_نــعم ؟؟ ياخدني فين ؟؟ هو أنا أخلص من نِصيبة تطلعلي بلوة مِسيحة ؟؟ مش رايحة في حتة أنا.
نظر لها “إيهاب” بجمودٍ بعدما لاحظ نظرات الرجال نحوها تتفحصها دون أي وجه حق في ذلك، ثم تحدث بنبرةٍ لم تقوى على مناقشتها:

_لو مروحتيش مع أخويا، أنا هسيبك لدا، قولتي إيه ؟.
ازدردت لُعابها ثم شخصت ببصرها نحو الشاب لتعود بتقهقرٍ نحو “إسماعيل” وكأنها تقارن بينهما لذلك قالت بقلة حيلة:
_لأ وعلى إيه، دي كلاب الشارع عندي أهون من “فتحي” وأمه.
نظر لها “إسماعيل” بتعجبٍ من إهانتها له ثم نطق باستنكارٍ يقول:
_دي بتشتمني يا “أيهاب” !!
زفر شقيقه ثم قال بنفاذ صبرٍ:
_خلص يا “إسماعيل” واتكل بيها على العربية.
تنهد شقيقه ثم أشار لها حتى سبقته مرفوعة الرأس وكأنها حصلت على ميدالية ذهبية في الأولمبياد الدولية وليس مجرد فتاةٍ مشاكسة تسببت في عطلة السير بعنادها.
انتظر “إيهاب” اختفائها ثم اقترب من الشاب يقول بثباتٍ:
_من اللحظة دي هي في حمايتي، لو عاوزها بالأصول تعالى نزلة السمان عند الحج “نَـعيم الحُصري” العنوان ميتوهش وألف مين يدلك عليه.
تحرك بعدها من أمامه يعود نحو السيارة وقد انفض للحشد بمجرد عودته للسيارة ليستأنفوا سيرهم من جديد، فدلف “إيهاب” سيارته بضجرٍ ليتفاجأ بها تقول بنبرةٍ جامدة:
_أنا مرضيتش أقل منك قصاده علشان ميشوفش نفسه عليك، لكن تمشي بيا شوية كدا ونزلني على الطريق أشوف حالي، الله يرضى عنك أنا غُلبت.
ابتسم “إسماعيل” ساخرًا على بساطة تفكيرها، فيما التفت لها “إيهاب” ينطق بسخريةٍ:
_ليه هو أنتِ فكراني هسيبك بجد ؟؟ أنسي.
اتسعت عيناها بهلعٍ فسألها بنبرةٍ اهدأ:
_بتعرفي تطبخي، تغسلي، تعملي أي حاجة من دي؟؟
سألته بسخريةٍ تهكمية بعدما تخصرت:

_ليه تكونش خاطبة وجايبلي عريس وأنا معرفش؟؟
ابتسم بزاوية فمه وهو يقول:
_ودي أنهي خاطبة تبلي نفسها بيكِ وتجيب لروحها الهم؟
طالعته بغيظٍ فكرر حديثه بقوله:
_ها جاوبي بتعرفي تشتغلي في الحاجات دي؟؟
ردت عليه بقهرٍ بات ملحوظًا عليها وهي تجاوبه:
_أيوا، مرات أبويا بتشغلني من وأنا بنت خمس سنين وساعات كنت بروح اخدم مكانها في البيوت.
لقد استرعاه حديثها لذلك شملها بنظرةٍ لم يستطع هو فهمها ثم حرك رأسه موافقًا وسألها بنبرةٍ جامدة:
_اسمك إيه طيب ؟؟
_سمارة، اسم ودلع وصفة، تلاتة في واحد.
حاولت صبغ حديثها بالمرح فضحك الاثنان على تبدلها في طرفة عينٍ وعلى ممازحتها، فيما قال “إيهاب” بنبرةٍ هادئة لينة لم يعلم من أين أتىٰ بها:
_بصي يا “سمارة” أنا “إيهاب” ودا “إسماعيل” أخويا الصغير، احنا عايشين مع عمي، هتيجي تشتغلي في البيت تساعدي الست اللي هناك وليكي مطرح تباتي فيه ولقمة وقرشين حلوين، قولتي إيه؟؟
رغم أن عرضه بدا مُغريًا لها ولظروفها خاصةً وهي تبيت ليلها في الشوارع والحدائق العامة، لكنها خشيت التهور وفعل مالم يُحمد عقباه لذلك ردت عليه بحيرةٍ:
_وهو عمك هيوافق يعني على كل دا ؟؟
تدخل “إسماعيل” يؤكد ذلك بقوله:
_أكيد طبعًا وبصراحة إحنا كنا بندور على واحدة تساعد الست اللي هناك، أظن بظروفك وحالك دا أنتِ أولى ولا إيه؟
حركت رأسها موافقةً ثم قالت بدموعٍ ظهرت في الحال:
_يابيه الله يرضى عليك لو نيتك شر ليا بلاها خالص، وسيبني أشوف حالي يمكن ربنا يبعتلي الفرج.
التفت لها “إيهاب” يقول بثباتٍ:
_احنا الفرج يا “سمارة” اعتبرينا نجدة ربنا بعتهالك، ها قولتي إيه ولا انزلك ترجعي لـ “فتحي” ؟؟
تنهدت بضيقٍ ثم قالت بغلبٍ على أمرها:
_حاضر يا بيه، اتكل على الله وربنا يسترها، بس حسبي الله ونعم الوكيل فيكم لو نيتكم شر.

رفعت صوتها في حديثها الأخير مما جعلهما ينظرا لبعضهما بتعجبٍ من تلك الفتاةِ الغريبة التي اوقعها القدر في طريقهما.
(عودة إلى الوقت الحالي)
خرج “إيهاب” من شروده على صوت طرقات الباب فزفر بقوةٍ ثم توجه نحو الباب يفتحه فوجد “يوسف” أمامه مُبتسمًا وهو يقول:
_عروستك وصلت، أنتَ جاهز ؟؟
حرك رأسه موافقًا وهو يبتسم له ثم أخذ سترته يرتديها فوق القميص الأسود فبدا وسيمًا بملامحه السمراء الشرقية و لحيته السوداء التي نمق شكلها، فوقف “يوسف” يُتمم على هيئته ثم قال بنبرةٍ هادئة:
_يلا علشان الحج مستنيك تستلم عروستك.
حمحم “إيهاب” بخشونةٍ يخفي تأثره ليبدو بلا مشاعر ثم سار خلف “يوسف” الذي نزل الدرج فوجد “إسماعيل” في انتظارهما وما إن رأى شقيقه قال بنبرةٍ عالية مرحة:
_مــبــروك يــا عَــريسنا.
وقف أمام أخيه ينطق بصوتٍ رخيم:
_الله يبارك فيك يا حبيب أخوك، عقبالك إن شاء الله.
صدح صوت الألعاب النارية في الخارج فقال “إسماعيل” بلهفةٍ:
_كدا الحج و “سمارة” وصلوا يلا.
خرج “إيهاب” أولًا من البيت وخلفه “إسماعيل” و “يوسف” بخطىٰ بطيئة وعينين ثاقبتين يراقب الأجواء في الخارج.
وقف “إيهاب” بجوار السيارة فنزل منها “مُـحي” ثم عانقه يبارك له، و “نعيم” الذي جلس بجوار ابنه ثم فتح الباب يأخذ “سمارة” ثم اقترب بها من “إيهاب” يقول بنبرةٍ ضاحكة:
_مبروك عليك يا حبيبي، مش هوصيك تحطها في عينك، صحيح أنا أعرفك من قبلها بس دي في غلاوة بنتي، لو زعلتهالي يا “إيهاب” أنا هقلب عليك.
اقترب منه يقبل رأسه ثم نطق بحنوٍ قلما ظهر عليه:
_في عيني يا حج، اتطمن.
ابتسمت بخجلٍ له فاقترب منها امام الجميع يقبل جبينها ثم شبك كفها حول ذراعه بعدما ابتسم لها بنظراتٍ استطاعت قراءتها بفصاحةٍ أعربت عما يشعر به من سعادةٍ وكأن نظرة العين أبلغ في التعبير عن ألف كتابٍ.
وقف “يوسف” بشموخٍ يدس كفيه في جيبي بنطاله الأسود القماشي فاقترب منه أحد الشباب يهمس له في أذنه حتى تبدلت ملامحه على الفور وحرك رأسه موافقًا وهو يشير للشاب.

تحرك “إيهاب” بزوجته على المقاعد المخصصةِ لهما وامامهما القواعد المُرتصة للحاضرين، على الرغم أن الفرح حديقة البيت إلا أنه كان أكثر فخامةً من الأفراح المُقامة في قاعات الزفاف.
والموسيقى الصاخبة ترتفع من حولهما ليبدأ الحاضرين في الرقصات الشعبيىة وخاصةً الشباب وبعد مرور دقائق حضرت الخيول بصهيلها المرتفع لتجذب الأنظار نحوها وهي تقف بشموخٍ، فضحك “نَـعيم” ثم أشار للشباب حتى اعتلىٰ كلٍ منهم خَيله وعلى رأسهم “يوسف” الذي بدأ في التحرك بالخيل بشكلٍ دائري وخلفه “إيهاب” و “إسماعيل” ومعهم “مُـحي” الذي ركب خيله هو الأخر لتبدأ رقصتهم المعتادة على قرع الطبول والأعين بأكملها تنصب عليهم وخصيصًا الفتيات التي نظرت لهم بإعجابٍ صريح.
استمرت رقصتم مع بعضهم حتى ضحك “يوسف” بصوتٍ عالٍ ليبدأ بينهم السباق كعادتهم فغيروا وجهتهم وركضوا بالخيول خلف بعضهم في مَعركةٍ زائفة نُشبت في خيالهم، ونظرًا لمهارتهما في ركوب الخيل كان “يوسف” و “إيهاب” في نفس المستوى تقريبًا حتى صفر “يوسف” له يلفت انتباهه ثم غمز وهو يقول بثقةٍ وشموخٍ:
_ابن الراوي مبيخسرش.
رفع الأخر حاجبه وهو يقول بنفس الزهو:
_وابن الموجي ميتقاوحش.
ركضا سويًا بالخيول في آنٍ واحدٍ فيما توقف “إسماعيل” وخلفه “مُحي” فالتفت له يقول بسخريةٍ:
_سيبك منهم دول دماغهم مطرقعة وفاضيين.
عادا الاثنان معًا من جديد فيما استمر الأخران في سباقهما حتى توقفا مع بعضهما في نفس النقطة ليصبحا متعادلين في النتيجة، فنطق “يوسف” مزهوًا بنفسه:
_مش قولتلك ابن الراوي مبيخسرش.
رد عليه الأخر بتهكمٍ يؤكد سالف حديثه:
_وأنا قولتلك ابن الموجي مبيتقاوحش، يلا ولا إيه ؟؟
سارا مع بعضهما نحو الفرح من جديد فيما وقف “يوسف” كما هو بِـ خيله ثم مال على “إسماعيل” يهمس له هو الأخر فحرك رأسه موافقًا ثم اعتلى خيله من جديد وأشار للرجال يلحقون بهم.
عادوا من جديد بالخيول وقد ظن الناس أنهم سيقومون بإعادتهم إلى مكانهم لكن في الحقيقة قصد “يوسف” ذلك حتى يلتقط ذلك الذي دخل البيت من الخلف ليدمر تلك الليلة فوق رؤوسهم، ركض “يوسف” بالخيل حتى سور البيت فوجد أحدهم يحاول الهروب بعدما لمح الخيول تقترب منه حينها لاحظه “يوسف” وبدون تفكيرٍ أخرج المطواة من حذاءه ثم فتحها وقفز بالخيل للأمام مما جعل الفرصة تسنح له وهو يضرب السكين في كتف ذلك الذي تعلق بالسور يحاول الهروب من عليه ويوسف يمسكه وهو يعتلي الخيل حتى وقع بين يديه.

اقترب منه الرجال فتحدث “يوسف” بأنفاسٍ لاهثة مُتقطعة:
_اشحنوه جوة لحد ما الليلة تخلص على خير وبعدها نفوقله وعاوزكم تغربلوا البيت كله أي حد غريب يتشحن جنبه، دي أصولها يا فتحي.
تألم الشاب حينما ضغط “يوسف” على كتفه المطعون فيما حمله الرجال نحو المكان الذي حدده “يوسف” فوقف “إسماعيل” يزفر بقوةٍ ثم قال:
_يلا نمشي يا “يوسف”
لاحظ “يوسف” تغيره فعلم على الفور بما بعتريه الأخر لذلك تراجعا من جديد نحو الفرح وتلك المرة بدون عودة بل لقضاء الليلة مع بعضهم.
_______________________
وصلت “قمر” لشقتها بتعبٍ اتضح عليها وبلغ أشده ثم طلبت من والدتها بنبرةٍ خافتة:
_معلش يا ماما ودي الحاجات عند مرات خالي علشان مصدعة مش قادرة، وقوليلها باقي الحاجة تجيبها هي.
لاحظت والدتها تعبها فاقتربت منها بلهفةٍ وهي تقول:
_مالك يا “قمر” فيكي إيه يا حبيبتي ؟؟
حركت رأسها نفيًا ثم أضافت بصوتٍ مختنقٍ:
_دماغي صدعت شوية بس معلش هدخل أغير وأنام.
تحركت من أمام والدتها لغرفتها فيما نظرت الأخرى في أثرها بيأسٍ ثم أطلقت زفيرًا مُطولًا يعبر عن يأسها ثم حملت الحقائب وتوجهت نحو شقة أخيها.
ارتمت “قمر” على الفراش تبكي بقوةٍ وحرقةٍ مما تتعرض له من آلامٍ نفسية تضغط عليها وازداد بكائها اكتر وهي تتذكر “أيوب” ونظرته لها وحديثه معها، فلم تتمالك نفسها بعدما ظنت أنه يُسيء الظن بها على الرغم من براءتها.
صدح صوت هاتفها برنةٍ فنظرت في الهاتف لتجده رقم ذلك البغيض “علاء” ازداد نحيب بكائها مع رؤية رقمه وكأنه أعاد بث الذعر لنفسها من جديد فلطمت على وجهها بخوفٍ مما ينتوي الاقدام عليه وكأن عقلها لم يُسعفها في اتخاذ القرار الأصوب، خشيت ابلاغ “عُدي” ابن خالها فيتهور ويُضيع نفسه فداءًا لها، وخشيت إبلاغ خالها حتى لا يطوله الأذى، ارتبكت في الحال ودب الرعب في أوصالها لتجد باب غرفتها يُطرق ودلفت منه “أسماء” تقول بمشاكسىةٍ:
_يا ضُرتي فينك، جايبالي نص الحاجـ…..
لاحظت حالتها تلك فأغلقت الباب وركضت لها تسألها بلهفةٍ:
_مالك يا حبيبتي، أمك قالت إنك تعبانة بس معرفش أنه للدرجة دي، مالك يا “قمر”.
احتضنتها الأخرى تتشبث بها وهي تقول بنبرةٍ باكية:
_وقفلي في الطريق وهددني…. الحيوان مسكني وقالي أنه هيفضحني، هينزل كل حاجة وكل الريكوردات، أنا ضيعت ومش هعرف اتصرف.

تطلعت إليها بحيرةٍ وهتفت بغير تصديق:
_مين ؟؟ “عــلاء” ؟؟
حركت رأسها موافقةً واعتصرت عينيها تضغط عليهما لتحد من البكاء الذي لا يتوقف، فمسحت الأخرى على رأسها وهي تقول بإصرارٍ:
_احكيلي كل حاجة، قوليلي عمل إيه فيكِ.
حركت رأسها موافقةً ثم مسحت وجهها، وقامت بسرد الموقف بأكمله بما فيه الجزء الخاص بـ “أيوب”، أنصتت لها الأخرى بكامل حدسها وحواسها، فأنهت “قمر” سرد الموقف ثم قالت بنبرةٍ باكية:
_معرفتش اتصرف ومشيت زي المخبوطة حتى مبرأتش نفسي قصاده، أنا كنت هموت من الخوف بس لما شوفته قصادي ونظرته ليا كأنه بيعاتبني أنه عارفني حسيت أني عاوزة اختفي من قصاده.
ربتت “اسماء” على يدها ثم تنهدت بضيقٍ وقالت:
_ربك يفرجها من عنده إن شاء الله، رغم إن عندي فكرة ممكن تساعدنا وتخلصك من كل دا.
انتبهت لها “قمر” فحركت رأسها موافقةً كأنها تخبرها بانصاتها لها، فرتبت الأخرىٰ الأحرف على طرف لسانها ثم تحدثت بكلماتٍ تُقطر الإصرار:
_”أيوب”….هو ابن الحج “عبدالقادر” مستحيل يتخلى عننا خصوصًا أنه عارف خالك، اسمعي مني أول ما يعرف أصل الحكاية ساعتها هو هيقف للزفت دا بنفسه، مش هيتخلى عننا، خصوصًا إنك على حق.
تحدثت “قمر” بتخبطٍ:
_مش عارفة، هخاف أروح أكلمه دا عمره ما كلم واحدة ولو حصل عينه مبتترفعش فيها، دا أنا لحد دلوقتي مش مصدقة موقفه معايا وعمالة أقول إن دا حد شبهه.
ردت عليها “اسماء” بلهفةٍ:
_يا عبيطة دا علشان هو عارفك وعارف خالك وأخوكِ، اسمعي مني والله هو الوحيد اللي هيقدر يقف في وشه.
حركت رأسها للأمام بشرودٍ تحاول الوصول إلى فكرةٍ تُرضيها وتنقذها مما ورطت نفسها به، فيما شعرت الأخرى بالذنب نحوها لذلك ربتت على كتفها ثم تحركت من أمامها وهي تلوم نفسها، فحتى تنقذ ابنتها ورطت غيرها في مُصيبةٍ تعج بجَمَّ الهموم فوق رأسها.
_________________________

جلست “أماني” في الشرفة تتابع المارة بشرودٍ بعد انفصالها عن ابنها وزوجها بندمٍ بلغ منها مَبلغه فلاحظتها والدتها فلوت فمها بتبرمٍ وجلست أمامها تقول بلومٍ:
_جرى إيه ؟؟ الزعل دلوقتي حضر؟؟ ولا لما اتأكدتي إنك خسرتي كل حاجة ؟؟ قولتلك طمعك مش هيفيدك يابنت بطني.
زفرت “أماني” بضجرٍ ثم قالت بتفسيرٍ:
_ياما ماكنتش عارفة ارتاح هناك، مكتفين حركتي، بعدين هو أنا كنت بطلب حاجة مستحيلة يعني؟؟ كنت بطلب حاجة من وسط الحاجات الكتير اللي عندهم، هو أستخسرها فيا، بس لو الست “آيات” طلبت الحاجة بتحضر لحد عندها.
ردت والدتها بنبرةٍ جامدة:
_علشان بنتهم، علشان ملهاش أم وهما كل حاجة عندها، والدنيا دي كلها عارفة إن اللي يقرب من بنت “العطار” يتداس برجليه، حاطة نفسك معاها في مكان واحد ليه؟؟
ردت بسخطٍ أوضح حقدها على “آيات”:
_علشان حظها ياما، واخدة كل حاجة حلوة بيت وأب بيخاف عليها وأخوات ياكلوا أي حد علشانها، وناس تحت طوعها متشيلش كوباية من مكانها، إنما إحنا يا حسرة، حظنا هباب.
دلف “شكري” في تلك اللحظة يقول بصوتٍ عالٍ:
_بت يا “أماني” يابت أنتِ فين ؟؟
ردت عليه من موضعها فعلمه على الفور واتجه لها يقول ببهجةٍ:
_افرحي يابت، ربك فرجها في وشك من وسع.
انتبهت له هي ووالدتها، فيما قال هو بلهفةٍ:
_الولية أم ولاء الكوافيرة هتمشي من الحتة وعارضة المحل بمستلزماته للبيع فضلت أماطل معاها لحد ما رسينا على مبلغ حلو، طالما اطلقتي محدش ليه عندك حاجة، مش كانوا مانعين إنك تفتحي محل ؟؟
سألته بتعجبٍ من حديثه:
_وهو أنا لما أفتح المحل هما هيسيبوني في حالي؟؟ أنتَ بتحلم يا “شكري”.
رد عليها بلهفةٍ:
_يابت فتحي مخك معايا، بقولك اتطلقتي خلاص يعني ملهمش حكم عليكِ وابنك بقى عندهم خلاص متهنن ومتستت وسطهم محدش يستجرى يزعلوا، ولا كنتي عاوزاه هنا نفضل نصرف عليه ومش هييجي ربع مصاريفهم عليه، واخرتها زي اللي رقصوا على السلم، لا اللي فوق سمعوها ولا اللي تحت شافوها.

ردت عليه بضجرٍ:
_شوف شغلانة تانية غير الكوافيرة دي، أنا نسيتها ونسيت كل حاجة فيها وشغلانة تجيب الهم، أنا هحاول أشوف مشروع تاني كدا بدل الفلوس ما تضيع مننا.
سألتها والدتها بتهكمٍ:
_فلوس بيع ابنك يا “أماني” ؟؟
زفرت بقوةٍ ثم أضافت بيأسٍ:
_ياما هو أنا بنفخ في إربة مخرومة؟؟ قولتلك الواد كدا أحسنله متهنن هناك وألف مين بيخدم عليه، هيعيش معانا هنا فين وعلى يدك كل اللي كان ليا ١٠٠ ألف جنيه عُمي، إنما دلوقتي أهم يسندوا شوية معايا.
وزعت نظراتها بينهما ثم قالت بضيقٍ:
_انتم أحرار بس أخرتها هتبقى سواد فوق دماغنا.
_______________________
انتهى “إياد” من إفراغ طاقته السلبية باللعب و الركض و قد شعر بالسعادة حينما شاركه “أيهم” تلك اللحظة ولعب معه في السيارات المُتصادمة و شراء الألعاب الذي أرادها بأكملها دون أن يماطله في ذلك.
شعرت “آيات” هي الأخرى بالسعادة معهما وهي تشارك في بعض الألعاب على الرغم من خوفها، وخاصةً حينما جلب لها “أيهم” مجموعة حديثة الألوان من خمار الرأس، أما”أيهم” فكان يُقنع نفسه أنه على ما يُرام لذلك كان يضحك معهما على الرغم من خيبة أمله وتحسره على عشرة عمره مع تلك التي اسماها زوجته وأم ولده.
خرجوا من مكانهم يركبون السيارة فسألهم بنبرةٍ ضاحكة:
_ها خرج الاكتئاب ولا لسه ؟؟ اوعوا تكونوا زعلانين؟؟

ردت “آيات” بنبرةٍ ضاحكة:
_بلاش نكون طماعين بقى، اليوم كان حلو اوي وأحنا سوا، المرة الجاية نجيب “أيوب” معانا بقى علشان يفرح هو كمان زينا كدا.
حرك رأسه موافقًا ثم التفت لابنه يسأله باهتمامٍ:
_ها يا “إياد” تمام ولا لسه زعلان ؟؟.
رد عليه الصغير بمشاكسىةٍ:
_كدا ١٠٠ فُل وعشرة، شوف هتوديني فين بعد كدا كل جمعة بقى، أنا قررت.
ضحكت “آيات” على حديثه، فيما التفت له “أيهم” يصفعه بخفةٍ ثم قال من بين أسنانه:
_هوأدك بعد كدا يا حبيب أبوك، قال كل جمعة قال.
التفت من جديد ينظر أمامه ثم قال بنبرةٍ هادئة:
_سموا الله كدا بدل ما تعملها فينا وتعطل، يلا.
تحرك بسيارته مُبتسمًا عاقد العزم في تخطي تلك الصفحة من حياته ليكتب قصةً جديدة يستحقها هو بدلًا من تلك التي باءت بالفشل وتركت له خيبة الأمل ولصغيره أيضًا الذي انتقلت له فكرة تخلي والده عنه كما تخلت والدته.
____________________
عاد “أيوب” من مشواره الذي يقضيه لوالده ثم ذهب للمحل الرئيسي فوجد والده يُتمم على اموره لكي يُغلقه عاونه في ذلك بملامح وجهٍ مُقتضبة جامدة لاحظها “عبدالقادر” فسأله بتعجبٍ:
_مالك يا “أيوب” ؟؟ فيه حاجة مزعلاك ؟؟
حرك رأسه نفيًا ثم أجبر شفتيه على التَبسم وقال:
_لأ أبدًا يمكن بس منمتش كويس يا حج بس أنا تمام الحمد لله، أطمن ابنك بخير الحمد لله.
ربت على كتفه مُبتسمًا ثم قال:
_يا رب دايمًا بخير هو أنا أكره يعني، ربنا يحفظك يا حبيبي.
أتى لهما “تَـيام” يقول بنبرةٍ هادئة:
_يا حج جهزت كل حاجة في المخزن وبكرة كل حاجة على التحميل والحركة تؤمرني بحاجة تانية ؟؟.
حرك رأسه نفيًا وهو يبتسم له، فتوقفت سيارة “أيهم” أمام المحل ونزل منها مع صغيره الذي ركض نحو جده مُهللًا فربت الأخر على رأسه ثم قال بنبرةٍ جامدة لكنها زائفة:
_قولي الواد دا عرف يفرحك ولا كروتك ؟؟ علشان أخليه يقعد في البيت بعد كدا ميروحش في حتة تانية.
رد عليه “إياد” بحماسٍ شديد:
_لأ فرحت أوي و “آيات” كمان كانت مبسوطة وهخليه كل يوم جمعة يخرجني كدا.
لكزه “أيهم” في كتفه وهو يقول بغيظٍ:
_ياض أنتَ معايا ولا عليا، متجودش من عندك.
نزلت “آيات” من السيارة ثم دلفت وهي تقول بنبرةٍ هادئة:
_السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وحشتني يا بابا.
فتح لها ذراعه فاقتربت منه بخطواتٍ أقرب للركض فضمها إليه قائلًا بنبرةٍ هادئة:
_حبيبة روح أبوكي أنتِ، اتبسطتي ؟؟

حركت رأسها موافقةً، فابتسم لهم “أيوب” وهو يقول بسخريةٍ:
_شكلكم هتخلوني أندم أني مجيتش معاكم.
تحدثت هي بلهفةٍ لأخيها:
_والله العظيم أول ما خرجنا قولت لـ “أيهم” نكررها وناخدك معانا، أكيد لازم تيجي معانا علشان اليوم يكمل.
تدخل “عبدالقادر” يقول بتلقائيةٍ خلطها بحضكاته:
_ وابقوا خدوا معاكم الواد “تـيام” كمان غلبان وأنا مطلع عينه هنا، هتروح معاهم يا واد ؟؟
انتبه له “تَـيام” فرفع عينيه يقول بنبرةٍ هادئة:
_شرف ليا يا حج طبعًا لو مش هزعجهم.
رد عليه “أيهم” بسخريةٍ:
_تزعجنا ليه هتقعد فوق راسنا ؟؟.
ضحكوا على طريقته بينما هو وقف يتابعها بعينيه حيث بدا كمن يراقب نجوم السماء في ليلها وهي لامعة وتلك الرغبة المُلحة في قلبه تحثه على مد كفه في محاولةٍ منه لالتقاط نجمةً بعينها، لكن كل السُـبل بينهما مقطوعة وهو لم يقوى على الإدلاء بطلبه.
_______________________

في منطقة نزلة السمان.
انتهى الفرح أخيرًا ورحل الغُرباء عن البيت بعد حصولهم على واجب الضيافة والطعام الذي أعده “نَـعيم” توزيعًا على المنطقةِ بالكامل، وبمعاونة الشباب تمت إعادة كافة الأشياء كما كانت من قبل.
تأكد “يوسف” من كل شيءٍ حوله وأطمئن على كافة الأمور ومعه “إسماعيل” و “مُـحي” أيضًا، بينما “إيهاب” أخذ زوجته وتوجه نحو شقته القريبة من بيت “نَـعيم” بل تعد معه في نفس البيت يفصلهم عن بعضهم عدة أمتارٍ قليلة حيث البيت المُلحق الذي أقامه “نَـعيم” وقد عاونه في استكماله الشباب ليعطي لكلٍ منهم شقة في ذلك البيت باعتبارهم هم من أسسوا له عمله ورفعوا من شأن تجارته.
صعد “إيهاب” شقته ثم وقف يفتح بابها وهو يقول بنبرةٍ عابثة:
_برجلك اليمين يا عروسة، ادخلي يلا.
وقفت بتذمرٍ وهي تقول:
_شيلني يا “إيهاب” أنا مستنية الليلة دي علشان اتشال.
ضرب كفيه ببعضهما ثم نطق بجمودٍ:
_ياستي ولازمتها إيه ؟؟ ما تدخلي وخلصينا.
ضمت ذراعيها أمام صدرها بمعاندةٍ وكأنها طفلة صغيرة تعاند والدها، فاستسلم لها ثم قال بخشونةٍ:
_أنتِ اللي طلبتي، خليكي فاكرة بقى.
حملها على كتفه حتى ارتفع صوت ضحكاتها عاليًا من حركته المُباغتة تلك، فيما أغلق هو الباب بقدمه، ثم أنزلها حتى وقفت أمامه تبتسم له ثم طوقت عنقه بذراعيها وهي تقول بدلالٍ تعمدته:
_مبسوط يا “إيهاب” ؟؟
ابتسم لها ثم قربها منه يضمها إليه حتى وضعت رأسها على كتفه، فيما قال هو بشرودٍ أعرب عن صدقه:
_لو أنتِ اتبسطي وقدرتي تكوني مرتاحة معايا و مسيبتنيش ساعتها أنا هرتاح وأكون مبسوط.
عادت برأسها تطالعه وهي تقول بلهفةٍ:
_أسيبك ؟؟ دا أنا معملتهاش لما اتحكم عليك وكنت مستنية في أي لحظة ترجعلي تاني تطمني، لما تبقى ليا وأكون معاك في بيتك أسيبك ؟؟ مين في الدنيا دي كلها عرف يطمني زيك ويحميني من الشارع والناس اللي مبترحمش.
ضمها إليه يشدد عناقه لها بعد حديثها الذي طمئنه وكأنه هو الذي يحتمي بها من قسوة الأيام، ذلك العناق الذي مَنَّ نفسه به طوال فترة حبسه وكأنه يوعد نفسه لالتقاء الراحة أخيرًا معها هي بعدما تعرض له من ظلمٍ على يد من غدر به.
في الأسفل أغلق “يوسف” أبواب البيت وكل سُـبـل النجاة ثم خلع سترته السوداء وبقيْ فقط بقميصه الأسود ثم شمر أكمامه حتى مرفقه ودلف لتلك الغرفة التي يظل بها الخيول المريضة وسط التِبن الذي يُغطي أرضيتها، خَلفهُ في السير “إسماعيل” نحو تلك الغرفة، فاقترب “يوسف” منه يتابعه من عِليته وهو يقول بنبرةٍ جامدة:
_ارفع راسك يالا وبصلي زي ما ببصلك.

رفع “فتحي” رأسه نحوه فجلس “يوسف” أمامه على إحدى رُكبتيه يقول بنبرةٍ جامدة:
_حظك الأسود إنك وقعت في أيدي أنا، لا بعتبر حد ولا بشوف حد، من الأخر غشيم، أنا رميتك هنا في الأوضة دي مخصوص علشان دي أوضة الخيول المريضة، اللي بيدخل هنا عنده حلين، يا يخرج صالب طوله ورافع راسه زي الخيل الأصيل، يا يخرج ميت من هنا على المدفن عِدل، أنتَ بقى إستثناء، لو خرجت من هنا سليم !! يبقى تعيش خدام تحت رجل الخيول، ولو خرجت ميت تبقى مكتوبالك موتة زي دي، في أوضة الخيول.
نطق “فتحي” بنبرةٍ مغلولة وهو ينطق من بين أسنانه:
_دا حقي، حقي اللي هو خده مني، قالي تعالى خدها بالأصول ولما جيت طردني، كل ما احاول أوصلها يقفلي.
اقترب “إسماعيل” يلكمه في وجهه بغضبٍ مكتومٍ وهو ينطق بنفاذ صبرٍ وقد فرط منه حبل التماسك الذي حاول أن يتصف به وهو يرى من تسبب في حبس شقيقه.
ظل “إسماعيل” يلكمه في وجهه حتى أبعده عنه “يوسف” أخيرًا ثم نطق بأنفاسٍ مُتقطعة:
_اهــدا يـا “إسـمـاعيــل” فيه إيه ؟؟ دا اللي اتفقنا عليه؟؟
رد عليه “إسماعيل” منفعلًا بنفاذ صبرٍ:
_مفيهاش هداوة دي، بسببه أخويا فضل أربع سنين مرمي في السجن، وبسببه كان هياخد ١٥ سنة وبسببه برضه كان هيموت “سمارة” عاوزني اسمي عليه؟؟.
رد عليه “يوسف” مؤكدًا بنظراتٍ قاتمة:
_آه، عارف ليه ؟؟ علشان نخلص منه الحق تالت ومتلت، وبكرة “إيهاب” ينزل يعرفه يعني إيه ضربة المطوة بحق.
في الخارج بجوار سيارة “يوسف” تلصص ذلك الخبيث مُستغلًا انشغال الرجال بالداخل وإن السيارات بمفردها في الخارج أمام بوابة البيت ثم اقترب منها يفتحها بتلك الأداة الماهرة عملًا وصغيرة حجمًا ثم وضع بداخلها شيئًا استطاع بمهارته أن يدسه بداخل السيارة ثم عاد كما دلف متخفيًا عن الأنظار متواريًا من بين الأعمدة الكبيرة التي تُخفي من يقف خلفها ببراعةٍ.
________________________
في اليوم التالي في حارة “العطار” تحديدًا، تحركت “قمر” نحو محل “أيوب” بخطىٰ مُترددة تخشى أن تلج للداخل بعد موقفها بالأمس أمامه، لكنها استجمعت شجاعتها ثم دلفت لداخل المحل وهي تبحث عنه بعينيها وحينما فشلت في العثور عليه سألت مساعده بقولها:
_معلش يا فندم، هو فين الأستاذ “أيوب”.

انبته لها ذلك الرجل فرفع رأسه يقول بأسفٍ:
_للأسف هو مش هنا النهاردة هو في محل المُعز وممكن ييجي أخر النهار، تؤمري بحاجة معينة يا آنسة ؟؟
حركت رأسها نفيًا وقد ارتسم الإحباط على ملامح وجهها، فيما أوقفها هو قبل أن تعود أدراجها للخارج من جديد بقوله:
_استني يا آنسة اتفضلي دا كارت فيه عنوان المحل في شارع المعز، لو حضرتك محتاجاه ضروري يعني.
أخذته منه بتوترٍ وكفٍ مُرتجفٍ فبالطبع لم تقوى على الذهاب إلى هناك وهي وصلت إلى هنا بأشد صعوبةٍ وكأنها في صراعٍ أوشكت على لفظ أنفاسها به، تحركت من المكان ثم رفعت رأسها تقول بتمني:
_يا رب…. ساعدني يا رب.
______________________
وقف “أيوب” أمام المحل في شارع المُعز وسط التُحف في ذلك المكان الذي خالط بين الزمنين مع بعضهما حيث القديم و الحديث معه، وقد وقف يراقب الآيات القرآنية و الأدوات الفخارية التي نقصت بشكلٍ ملحوظ مما دل على سير سوقها بين الناس على الرغم من عدم توقعه لذلك.
تنهد بعمقٍ ثم اقترب من التُحفة الموجودة يقوم بضبط مكانها لكي يتضح خطه المنقوش عليها، فوصله صوتٌ يعرفه عن ظهر قلب تردد في مسامعه كثيرًا:
_السلام عليكم يا شيخ “أيوب”
التتف يرد التحية وهو يظنها مجرد أوهامٍ بقوله مُتقطعًا:
_وعليكم السلام ورحمة الله….وبركاته…. آنسة “قمر” ؟؟
______________________
كان “يوسف” يسير بسيارته على الطريق ويجاوره “إسماعيل” حتى يقضيان مشوارًا هامًا طلبه منهما “نَـعيم” فأوقفهما الضابط في لجنة التفتيش المرورية على الطريق فتوقف “يوسف” يمد يده له بالرُخص الخاصة بالقيادة لكن الضابط أمره بقوله:
_لأ يا حلو انزلولي كدا علشان العربية دي تتفتش.
نظر كلاهما للأخر بتعجبٍ ثم ترجلا من السيارةِ ليقوم الضابط بتفتيشها وبعد مرور دقائق وقف امامهما الضابط يمسك في يده شيئًا يضعه نصب أعينهم وهو يسأل بجمودٍ:
_إيه دي ؟؟!.
نظر “يوسف” إلى “إسماعيل” وكلاهما يُبدي حيرته في ذلك الأمر.
____________________
في مقر عمل “عاصم الراوي”.
جلس في مكتبه مع “سامي” و “نادر” يتابع سير العمل، بينما “نادر” كان ينتظر تلك المكالمة بفارغ الصبر حتى صدح صوت هاتفه برنةٍ واحدةٍ فقط، فلم يفهم حقيقة الأمر لكنه أدرك نجاح المُهمة، حينها ابتسم بثقةٍ وأرجع ظهره للخلف وهو يقول:
_كدا اقدر أقولكم إن “يوسف” تقريبًا اتسجن، وفيها حوالي ١٠ سنين لحد ما نشوفه تاني، حلال عليه والله.
انتبه له كلاهما يمعنان كامل حواسهم فيما ضحك “سامي” بصوتٍ عالٍ وهو يقول بنبرةٍ مرتفعة من فرط حماسها:
_يبقى يوريني بقى ابن الراوي هيرد علينا إزاي ؟؟.
وصلهم صوت طرقات على باب المكتب عقبها فتح الباب بأخر من توقعوا تواجده أمامهم، فابتسم هو بثقةٍ ثم رفع كفه يُشير به على رقم ثلاثة قائلًا بزهوٍ بعدما استمع لحديث الأخر:
_أبويا الله يرحمه قالي:

ثلاثة لا تلتفت إليهم مهما علا صوتهم، الكلب إذا نبح، والحمار إذا نهق، والسفيه إذا تكلم.
كان يُشير بإصبعه على كلٍ منهم في مرةٍ، ثم أضاف بضحكةٍ مُتشفية وهو يرى علامات الصدمة جلية على وجوههم بوضوحٍ:
_وزيادة عليهم من عند “يوسف الراوي” متستناش من
ابن الرقاصة يفكر.
كعادته دومًا ينصبون له الفخ ويهرب منه بثباتٍ وكأن كل الظروف التي تأمرت ضده بمجرد علمها هويته تتراجع بقهرٍ خاضعةً له، ليعلن نفسه أنه الوحيد الذي أجبر الظروف على الانحناء له حتى وإن كانت وليدة الصُدف، فهو يمتلك من العِز الكثير مما يجعله قادرًا على تربيتها.

يتبع….

“يــا صـبـر أيـوب”
__________________
ياربِّ إِن عَظُمَت ذنوبي كَثرَةً
‏فَلَقَد عَلِمت بِأَنَّ عَفوَكَ أَعظَم
‏إِن كان لا يَرجوكَ إِلّا مُحسِنٌ
‏فَبِمَن يَلوذ ويَستَجيرُ المُجرِمُ
‏أَدعوكَ رَبِّ كَما أَمَرت تَضَرعاً
‏فَإِذا رَدَدت يَدي فَمَن ذا يَرحَمُ
‏ما لي إِلَيك وَسيلَةٌ إِلّا الرَجا
‏وَجَميل عَفوِكَ ثُمَّ أَنّي مُسلِمُ
_النقشبندي
__________________
مُحاربٌ فُرضت عليه الحرب وهو بدونِ سلاحِ لم يقوْ على النزالِ فَحُسِبَ جبانًا وماهو بِمُستسلمٍ، قُرعت فوق سمعه طبول الحرب وهو يصرخ بينهم لكنه أمامهم كأنه ليس بِمُتكلمٍ، وُضِعَ في متاهات الدُنيا وطُلبَ منه أن ينجو بنفسه وحينما خارت قواه تم إيلامه علىٰ جُرمه وماهو بمجرمٍ، بدت له الحياةِ مدرسةً وهو بها كان وحيدًا ولم يجد من يرشده أو حتى لم يكن بمُعلمٍ، أتترك الدنيا الجاني وتحكم على المَجني عليه، فما جُرم المجني عليه وهو ليس بمجرمٍ؟.
وصلهم صوت طرقات على باب المكتب عقبها فتح الباب بأخر من توقعوا تواجده أمامهم، فابتسم هو بثقةٍ ثم رفع كفه يُشير به على رقم ثلاثة قائلًا بزهوٍ بعدما استمع لحديث الأخر قبل أن يلج لداخل المكتب:
_أبويا الله يرحمه قالي:
ثلاثة لا تلتفت إليهم مهما علا صوتهم، الكلب إذا نبح، والحمار إذا نهق، والسفيه إذا تكلم.
كان يُشير بإصبعه على كلٍ منهم في مرةٍ، ثم أضاف بضحكةٍ مُتشفية وهو يرى علامات الصدمة جليةً على وجوههم بوضوحٍ:
_وزيادة عليهم من عند “يوسف الراوي” متستناش من ابن الرقاصة يفكر.
كعادته دومًا ينصبون له الفخ ويهرب منه بثباتٍ وكأن كل الظروف التي تأمرت ضده بمجرد علمها هويته تتراجع بقهرٍ خاضعةً له، ليعلن نفسه أنه الوحيد الذي أجبر الظروف على الانحناء له حتى وإن كانت وليدة الصُدف، فهو يمتلك من العِز الكثير مما يجعله قادرًا على تربيتها، لذلك خطى نحوهم ثم سحب المقعد الجلدي المُلاصق للعمود وجلس عليه بوضعٍ مُعاكس في تسليةٍ واضحة أظهرتها مُقلتاه؛ خاصةً وهو يتنهد بيأسٍ زائفٍ ثم قال بعبثٍ:
_الحقيقة مش قادر أحدد إذا كان دا تفكير ابن الرقاصة ولا حفيدها، بس عمومًا فيه شغل عوالم في الموضوع، نجيبها دوغري بقى ؟؟ بصراحة كانت حلوة بس نسيتوا تفصيلة صغيرة كانت هتفرق معاكم.
انتبهوا له بصمتٍ تام وكأن الطير يُحلق فوق رؤوسهم وقد بدت علامات الارتباك جليةً بوضوحٍ على أوجههم، لذا لمسته غُمرة انتشاء جعلته ينفخ أوداجه ثم أضاف مُتكئًا على أحرف كلماته:
_نسيتوا أني تربية نزلة السمان، يعني زي ما بيقولوا كدا لامؤاخذة في الكلمة، جايبها من تحت أوي لحد سقفها، بس العيب مش عليكم، العيب على البيه المحترم اللي سمح لتربية العوالم تعمل كدا.
كان يقصد بحديثه “عاصم” تحديدًا وهو يشير عليه برأسه، فابتسم “عاصم” بزاوية فمه ثم أضاف بتهكمٍ:
_أنا معرفش بتتكلم عن إيه أصلًا، والحقيقة وقتي مفيهوش جزء حتى أضيعه عليك ولو لمجرد التفكير فيك، فـ قَصر وهات من الأخر وقول اللي عندك.
ابتسم “يوسف” بخفةٍ ثم تحرك من المقعد ليقترب من مكتب “عاصم” ينحني عليه ليصبح في مستوى جلوس الأخر مُستندًا بكفيه على سطح المكتب وهو يُضيف:
_لأ أنتَ عارف كويس فـمتحورش عليا، ومع ذلك برضه مش هريحك وأقولك حصل إيه، هسيبك تفتخر إنك اعتمدت على “نادر” وهسيبك تتأمل ملامحي اللي كلها صورة منه بس بنسخة أصعب.

أشار بحديثه على والده المتوفي لتتجمد ملامح الأخر بنظراتٍ حاقدة في الحال من مجرد ذكر أخيه، فلاحظ “يوسف” نظراته لذلك اقترب منه أكثر يَنطق بنبرةٍ أقرب إلى فحيح الأفعى بقوله مَغلولًا:
_وش “مُصطفى الراوي” اللي عشت عمرك كله بتكرهه وبتكره نجاحه وكل حاجة وصلها، يوم ما مات سابلك نسخة تانية منه تفكرك إنك معرفتش تعمل حاجة من اللي هو عملها، ربنا اداك إشارة تتعظ بيها لما جيتلك يتيم بدل حرمانك من الخِلفة، وكانت النتيجة إنك قهرتني، مستني الكاس يدور علشان أشوف قهرتك أنتَ كمان، وإن مدارش الكاس دا، أنا بنفسي هطفحهولكم.
لم ينكر “عاصم” خوفه من توعده وحديثه الذي بدا مُخيفًا ونظراته التي توعدت بأشد انتقام، لكنه تصنع الثبات ورسم ابتسامة باردة على شفتيه لينطق بنبرةٍ فاترة:
_لو خلصت شوف وراك إيه وخُد الباب في إيدك.
أبتسم له “يوسف” بنفس البرود الذي رسمه الأخر على وجهه ثم اعتدل في وقفته ليصبح شامخًا كما الخيل الجامح لم يُخفض عِليته مهما عاندته الظروف، ثم وزع نظراته على الاثنين الأخرين ليبتسم بزاوية فمه مُتهكمًا ثم قال بنبرةٍ ساخرة:
_صحيح يا “نادر” يا حبيبي بما إنك قبطان بحري وعاملي فيها أمير البحار، قولي جيبت الحشيش منين ؟؟.
بَهُتَ وجه “نادر” أكثر من ذي قبل ووزع نظراته بارتباكِ ملحوظ على أوجه البقية، فمال عليه “يوسف” ينطق بخبثٍ أعرب عن ثقته التي لم تتزعزع من محلها:
_اللي جابهالك غشك، لما تعوز قولي أعرفك يتجاب منين.
ثم التفت بعد حديثه ينظر لـ “سامي” ليرتسم على وجهه المرح الخبيث خاصةً والأخر يحاول الهروب بنظراته منه ليقول ساخرًا:
_لأ بجد مش معقول، قاعد ساكت كدا ؟؟ يا راجل دا أنا كنت هاخدك غياب، بس نقول إيه بقى، ابقى علم إبنك الرجولة وقوله يبطل يجيب أي هبل وخلاص، وياريت تهتم بأخلاقه شوية، ربـيه.
رفع كتفيه وهو ينطق كلمته الأخيرة وكأنها الحل الأمثل والأخير أمامه، ثم التفت مُغادرًا للمكانِ لكنه عاد من جديد يهتف مُتذكرًا:
_آاه صح كنت هنسى، أصل أنا اتربيت على الأصول ومن ضمن الأصول دي إن اللي يبصلي بعين ابصله باتنين، علشان كدا دي تحية مني ليكم.

فور انتهاء حديثه أخرج من جيبه سجائر عددهم ثلاثة، ملفوفة يدويًا تحتوي على مُخدر “الحشيش” وقد اتضح ذلك من شكلها المختلف عن الأخرى الطبيعية كما أن حجمها بدا أكبر من الأخرى بشكلٍ ملحوظ، انتاب القلق قلوبهم من تهوره الغير محدود، فيما اتسعت ابتسامته وهو يقول:
_انتوا جيبتوهالي خضرا، ومحسوبكم جابهالكم بني، معلش بقى بس معرفتش ادخل بالمَزة علشان عيب، سلام عليكم.
ألقى لهم السجائر على سطح المكتب ثم تحرك عائدًا للخارج من جديد كما دلف واثقًا وشامخًا وكأنه أسدٌ لم تهزمه الضِباع.
وزع “عاصم” نظراته المُهينة لهما ثم قال بسخريةٍ:
_كنا ناقصين احنا حوارات معاه؟؟ نفسي مرة اعتمد عليكم وتفيدوني بس هقول إيه، نسخة من أبوه كل الظروف بتتفق معاه هو وكأنه مراودها، ربنا يستر بس وميتهورش تاني.
نظر كلٌ مِن للأخر بتوترٍ وكأنه يخشىٰ الإدلاء بخوفه، لكنه حتمًا كُتب عليهم وهذا ما اتضح لهم في نظراته، ليرسل لهم أن القادم ليس بيسيرٍ.
______________________
“في شارع المُعز”
التفت “أيوب” لصاحبة الصوت الذي حفظه هو منذ الوهلةِ الأولىٰ لكنه ظنه مجرد خيالات تعصف في ذهنه من كثرة تفكيره بها، لكنها بتواجده أمامه ضربت بخيالاته عرض الحائط ليردد هو مُستنكرًا حينما أبصرها أمامه:
_آنسة “قـمـر” ؟؟
بدا التوتر على وجهها صريحًا فحاولت هي حفظ ماء وجهها وهي تتقدم خطوةً للأمام تهتف بصوتٍ مُهتز الوتيرة:
_أنا…أنا آسفة أني جيت بدون مناسبة بس أنا محتاجة مساعدة حضرتك وعشمانة متردنيش خايبة الرجا، ممكن؟؟.
لاحظ ارتجافة صوتها ونظراتها الزائغة وكأنها تهرب منه، فسحب هو نفسًا عميقًا ثم أشار لها بصوته الرخيم قائلًا:
_طب اتفضلي يا آنسة “قـمر” تعالي.
توجهت ببصرها نحو موضع إشارته حيث المقعد المُقابل لمكتبه ثم حركت رأسها موافقةً وتقدمته بخجلٍ تقدم قدمًا وتؤخر الأخرىٰ تود الهروب على أخر لحظةٍ وكأنها سَتلقىٰ حتفها هُنا، وقد لاحظ هو توترها فدعمها بصوته الدافيء يقول:
_اتفضلي متقلقيش.

تحدثت بتوترٍ أخرج حروفها مُتقطعة:
_ها !! لأ أنا مش قلقانة، بس…بس.
توقفت عن الحديث حينما وقفت بجوار المقعد فأشار لها من جديد بالجلوس لتجلس على المقعد، فجلست هي أخيرًا بعدما وجدت أن هذا هو الحل الأمثل ليجلس هو مُقابلًا لها مرفوع الرأس يحاول بقدر الإمكان أن يغض بصره عنها وفي تفس الآن يحاول أن يمعن لها بكامل تركيزه فبدت تلك المهمة صعبةً عليه لذلك توسل للمولىٰ أن تنتهي تلك المقابلة بأقل الأثام عليه.
لاحظ طيلة صمتها فبادر بسؤالها مُتلهفًا:
_خير يا آنسة ؟؟ فيه حاجة مُهمة، أنا سامعك.
رفعت عينيها المُرتبكتين نحوه وهي تقبض بكفيها على حقيبتها بكفيها تتلمس منها قوةً زائفةً ثم سحبت نفسًا عميقًا داخل رئتيها وقالت بثباتٍ:
_بخصوص امبارح واللي حضرتك شوفته دا أنا كنتـ…
بتر هو حديثها حينما تذكر وعاد الضيق يُخيم عليه من جديد وهو يتذكر لمسة الأخر لها ليهتف بخشونةٍ لم يقصدها وقد ظنها آتيةً لتعتذر منه:
_مش عاوزك تعتذري، دا شيء مفروغ منه خلاص وأكيد أنـ…
اندفعت هي تقول بلهفةٍ تقاطع استرسال حديثه:
_اسمعني من فضلك، اللي حضرتك شوفته امبارح دا يبقى “علاء” كان خطيب بنت خالي “فضل” وسابها بس للأسف هو عاوز ينتقم مني وياخد حقه علشان أنا كشفته قدامهم، صدقني أنا مش وحشة والله وعمري ما أعمل حاجة غلط زي دي، بس هو بيهددني.
اتسعت عيناه بدهشةٍ وردد خلفها مُستنكرًا:
_بيهددك ؟؟ ليه هي سويقة ملهاش حد يقفله؟؟
حركت رأسها نفيًا وهي تقول بصوتٍ مُحشرجٍ وقد داهم البُكاء عينيها:
_هو عارف أني مش هعرف اتصرف، هخاف أقول لخالي، وهخاف على “عدي” علشان متهور وممكن يروح يموته ويضيع نفسه، وأنا مليش حد غير ماما، ممكن أكون اتسرعت بس أنا كنت خايفة على بنت خالي، صدقني أنا متخلبطة ومش عارفة أعمل إيه.
لاحظ هو تخبط حديثها وتشوشها، لذلك حاول أن يتخذ طريق الهدوء وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_طب بالراحة وقوليلي حصل إيه، واحدة واحدة كدا وكل حاجة اسمعها منك بالهداوة بس قبلها تشربي إيه؟؟
انتبهت له فحركت رأسها نفيًا تهتف بنبرةٍ خافتة:
_متشكرة لحضرتك، مش عاوزة حاجة.
رد عليها بنبرةٍ هادئة ووجهٍ مُبتسمٍ:
_لا إزاي، حضرتك ضيفة هنا لازم تشربي حاجة، تشربي ليمون بالنعناع ؟؟ أنا اللي عامله بنفسي.
عقدت ما بين حاحبيها من تحويله بتلك الطريقة فتحرك هو نحو الثلاجة الصغيرة الموضوعة بمحله ثم أخذ زجاجةً منها وعاد لها من جديد يقوم بسكب ما حاوته بداخلها في كأسين من الفخار من صناعة يده ثم جلس أمامها من جديد يقدمه لها وهو يقول بنبرةٍ هادئة:

_دا حلو و هيهدي أعصابك علشان تقدري تتكلمي.
أشار لها على كأسها فأمسكته وقد جف حلقها حقًا فيما تتبع هو المكان بنظراته هروبًا من سلطة تواجدها أمامه التي تجبره على النظر لها بشخصيتها التي دومًا شكلت له محض اهتمام.
ارتشفت من الكأس رشفة صغيرة ثم بدأت في سرد الحكاية حينما وجدته مُمعنًا لها بكامل تركيزه حتى أدق التفاصيل التي دارت بينها وبين “أسماء” زوجة خالها، كان تارةً يشعر بالضيق وتارةً أخرىٰ بالغضب حتى أنهت هي السرد فتكلم هو بنبرةٍ أقرب للانفعال:
_يعني أنتِ كنتي بتكلميه في التليفون ؟؟ و بتمثلي عليه علشان تسحبي منه الكلام ؟؟.
حركت رأسها موافقةً بخزيٍ جعله يزفر بضيقٍ وهو يقول:
_يـا صـبر أيـوب !!
انتبهت هي لنبرته الجامدة فأضاف هو بنفس الخشونة:
_ما هو طريقتك نفسها غلط، مينفعش ست تتكلم مع راجل غريب عنها بتودد مهما كان الغرض، أصلًا قعدتنا هنا دي موضع خطأ، بس علشان أنتِ هنا ضيفة ومضطرين، رغم إن سيدنا عمر بن الخطاب قال:
“لا تُجالس إمرأةٍ بمفردها حتى وإن كنت تعملها القُرآن”
مابالك بواحدة تعمدت تتكلم مع واحد زي دا، ليه تديله فرصة زي دي يستغلها ضدك.
تفاخم شعور الذنب لديها لذلك هتفت بانزعاجٍ تحاول كبح جماح دموعها التي هددت بالفضح عن نفسها:
_كنت مُضطرة والله العظيم، هو سمعته زفت وهي متعلقة بيه وفكراه اتغير، أنا كنت بلحقها بس متخيلتش أنه يوصل للدرجة دي بتفكيره، نيتي مكانتش شر والله العظيم أنا كنت بجيب دليل ضده.
هتف باستخافٍ بعد حديثها الأخير:
_الغاية تُبرر الوسيلة !! برضه غلط، إحنا بعدنا عن الدين علشان كدا بقى الحرام قصادنا مُتاح وسهل في أننا نروحله وصعب في نتيجته، بس ياريت تحافظي على نفسك وأي حاجة زي دي تدخلي فيها الرجالة أفضل بكتير.
هتفت بلهفةٍ تُدلي أمامه بمخاوفها:
_صدقني خوفت والله، ملناش غير خالي وابنه.
رد عليها بثباتٍ يؤكد لها صدق حديثه:
_طب أهيه الأمور راحت في حتة تانية خالص، بقى فيها سُمعة وشرف، يعني تطير فيها رقاب بجد، بس متخافيش طالما ربنا دلك على طريقي إن شاء الله هساعدك.

سألته بلهفةٍ وقد عاد لها الأمل من جديد:
_بجد !! يعني مش علشان زعلان مني هترفض تساعدني؟
انتبه لتلقائيتها في الحديث حينما رفع عينيه نحوها، فتحدثت هي بصوتٍ مُرتبكٍ:
_اقصد يعني أنا بالنسبة ليك غلطانة وأكيد هتقول تستاهل.
حرك رأسه نفيًا ثم نطق بثباتٍ:
_لأ يا آنسة، يبقى حضرتك كدا متعرفيش أنا مين، لا يمكن أقبل بالغلط لو على رقبتي، طريق الحق أنا أمشي فيه لو على رقبتي حتى، الإمام علي بن أبي طالب قال:
“لا تستوحشوا طريق الحقّ لقلة سالكيه”
لو كل الناس مشيت في طريق الباطل وأنا أمشي في طريق الحق ومتأكد أنه بموتي يبقى مستحيل أرجع منه، هديكي ورقة تكتبي فيها كل المعلومات عنه، اسمه، أفراد أسرته، رقمه مكان شغله حتى، كل شيء يخصه، تمام ؟؟
حركت رأسها موافقةً فسحب هو القلم والورقة يضعهما أمامها على المكتب ثم انتظرها حتى تكتب له كل المعلومات التي بصددها قد يستطيع التعامل مع ذلك المدعو “علاء”.
في تلك اللحظة دلفت فتاةٌ تهتف بحماسٍ شديد:
_أنا جيت يا “أيوب” يلا علشان توصلني معاك.
رفع رأسه نحو مصدر الصوت و “قمر” أيضًا لتجد فتاةً تقاربها في العمر ترتدي الملابس الشرعية وخمار رأسها يُغطي جسدها من أعلى رأسها حتى منطقة الكتفين، فيما انتبهت لها الفتاة فرمقتها باهتمامٍ كأنها تتفحصها، بينما “أيوب” تنهد بعمقٍ ثم قال بنبرةٍ متحفظة:
_أهلًا يا آنسة “جنة” اتفضلي.
اقتربت منه تقول بنبرةٍ حاولت صبغها بالهدء رغم حدتها:
_لو وراك شغل أو مش فاضي ممكن اروح أنا عادي.
تنهد بعمقٍ ثم قال بقلة حيلة:
_اتفضلي اقعدي يا آنسة، شوية وهنمشي.
حركت رأسها موافقةً ثم جلست أمام “قمر” التي خجلت من تواجدها فيما تحرك “أيوب” يجلس على مقعد مكتبه يوزع نظراته بينهما حتى قدمت له “قمر” الورقة ثم هبت واقفةً تقول بحرجٍ:
_أنا همشي دلوقتي وهكلم حضرتك من عند خالي.

انتبه لما تتفوه به فرمقتها الفتاةُ بتعجبٍ من حديثها أنها ستهاتفه مرةً أخرىٰ، فهب “أيوب” يحل عُقدة موقفه بقوله لِكلتيهما:
_مش حضرتك قريبة من حارة العطار ؟؟ وحضرتك يا آنسة “جنة” ساكنة في حارة العطار ؟؟ أنا هوصلكم في طريقي، اتفضلوا.
قبل أن تهم أيًا منهما بالرفضِ وابداء اعتراضها على ما يقول، كان هو الاسرع في التحدث حينما نطق:
_من غير مناقشة، أكيد مش هأمن أنكم تمشوا لوحدكم وأنا موجود ورايح نفس المكان، نسيت اعرفكم صحيح، دي الآنسة “قمر” خالها يبقى صاحب والدي وليه غلاوة عندنا، ودي الآنسة “جنة” جارتنا من حارة العطار و والدها يبقى صاحب والدي برضه.
نظرت لها “قمر” بوجهٍ مبتسمٍ فيما رمقتها الأخرى بفتورٍ لتمد “قمر” كفها لها تقول بوجهٍ بشوشٍ:
_اتشرفت بمعرفتك يا آنسة “جـنة”
مدت الأخرى كفها تبتسم لها بسماجةٍ بدت واضحة وقد لاحظها “أيوب” لذلك أشار لهما بالتقدم أمامه.
وقف بجانب سيارته وقبل أن تقترب “جنة” وتجلس بجوار مقعد القيادة أشار لها وهو ينطق بنبرةٍ خشنة:
_حضرتك هتقعدي ورا يا آنسة، جنب الآنسة “قمر”.
رمقته بغيظٍ ثم اقتربت من الفتاةِ تجاورها، بينما “قمر” بدت مُتحيرة وهي تتابع الفتاة التي تصرفاتها تتنافىٰ مع هيئتها التي تدل على التزامها، وبالطبع صفاتها تنعكس على صفات “آيات” تلك الفتاة التي اتضح عليها الإلتزام بحق.
جلس “أيوب” على مقعد القيادة ثم حمحم بخشونةٍ وهتف:
_قولوا ورايا دعاء الركوب، ربنا يديم ستره علينا إن شاء الله، ونوصل بالسلامة.
ابتسمت “قمر” وانتبهت له الأخرى، فقال هو بنبرةٍ هادئة:
_سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له بمقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون، الحمد لله الحمد لله، الله أكبر الله أكبر، اللهم إني ظلمتُ نفسي ظلمًا كثيرًا فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، بسم الله الرحمن الرحيم.
بدأ في القيادة بعدما رددت كلتاهما خلفه الدعاء، وقد استحوذ بشخصيته تلك على تفكير “قمر” التي ابتسمت بفخرٍ وهي ترى شخصيته أمامها، فيما رمقتها “جنة” من طرف عينها تحاول ربط الأمور ببعضها لتفهم طبيعة وجود تلك الفتاة معه.
_”جنة بهجت”

فتاة في العام العشرون من عمرها لازالت في فترة الدراسة الجامعية، عيناها باللون الأخضر الزيتوني وبشرتها بيضاء اللون، تسكن بحارة العطار وجارة “أيوب” وتحاول دومًا التقرب من العائلة لتصل إلى هدفها وهو “أيوب”، مدللة أبيها الوحيدة لذلك حصلت على جم الإهتمام من أفراد أسرتها.
زفر “أيوب” مطولًا وظل يستغفر طوال طريق سيره فيبدو أن كل الظروف تعارضه، ألم يحق له أن يبقى زاهدًا بنفسه دون أن يتورط فيما يقع على عاتقه؟؟ تنهد بعمقٍ ثم نطق بنبرةٍ هادئة يرجو بث الصبر لنفسه قبل أن تنفلت أعصابه:
_يـا صـبـر أيـوب.
________________________
في منطقة نزلة السمان.
وصل “يوسف” ومعه “إسماعيل” إلى حديقة البيت ليجدا “نَـعيم” جالسًا على أريكته الخشبية عتيقة الطراز وما إن ابصرهما يقتربان منه هتف ساخرًا يُقلل منهما:
_لأ جامدين بحق، قال إيه ساعة زمن وهنكون عندك والبهوات بقالهم فوق الأربع ساعات بيقضوا مشوار، العريس فطر مرتين وأنتم لسه برة !!.
اقترب “يوسف” يجلس بجواره و “إسماعيل” مقابلًا له وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_والله لو على الجمدان فاحنا جامدين فعلًا ومشوارك ماخدش مننا ساعة، الراجل عرف إننا من طرفك طلع الفلوس وجاب ورا، إنما “يوسف” بقى كان هيتعمل معاه السليمة.
انتبه “نَـعيم” لِما يُقال في نفس الآن الذي اقترب به “إيهاب” يهتف بتعجبٍ غلفه الاستنكار:
_سليمة !! مين دا اللي فكر يعمل معاه حاجة.
تحدث “يوسف” بتهكمٍ:
_هيكون مين غيرهم يعني ؟؟ بس مش عليا.
سأله “نَـعيم” بغضبٍ تفاخم لديه حتى بدت نبرته مُحتدة:
_عملوا إيه خلصوا هتنقطوني بالكلام !!.
نظر له “يوسف” بقلة حيلة ثم بدأ في السرد بقوله:
_الصبح أنا و “إسماعيل” جهزنا علشان نروح المشوار دا زي ما قولت، وأول ما ركبنا العربية.
(عودة إلى الصباح)
ركب كلاهما السيارةِ وبدأ “يوسف” في القيادة ثم أخرج علبة سجائره يضع واحدةً منهم بين شفتيه ثم بحث عن قداحته ليشعلها لكنه نساها، فتح دُرج التابلوه يبحث فيه عن قداحةٍ أخرى دون أن تنتبه عيناه لذلك، فرفع “إسماعيل” أنفه يُشمشم في السيارة ثم التفت لـ “يوسف” يسأله بتكهنٍ:

_يوسف أنتَ بتعك من ورايا ؟؟.
انتبه له الأخر فكرر مُستنكرًا:
_بعك !! إيه يا “إسماعيل” أنتَ هتخيب ولا إيه؟؟
رد عليه الأخر مُفسرًا:
_العربية ريحتها حاجة مش مظبوطة، حاجة كدا لامؤاخذة زي الحشيش، من ورايا يا “يوسف”.
عقد “يوسف” مابين حاجبيه وهو يقول بتعجبٍ:
_حشيش !! ما أنتَ عارف الزفت دا مبيدخلش بوقي، هي مرة شربتها معاك الحج عرف محصلتش تاني لحد ما كلمنا هو، أخري السجاير وخلاص.
أرهف “إسماعيل” حاسة الشم لديه ثم قام بالبحث بنفسه حتى فتح الدُرج وحصل على مُبتغاه فابتسم بسخريةٍ وهو يقول:
_ودي إيه بقى ؟؟ حلاوة طحينية ؟؟.
انتبه له “يوسف” فأوقف السيارة ثم سأله بنبرةٍ جامدة:
_إيه دي ؟؟ مش بتاعتي، بتاعة مين دي؟؟
قام “إسماعيل” بنزع الكيس من على القطعة البُنية ثم قربها من أنفه فابعد وجهه سريعًا يقول متأفأفًا:
_إيه دي، دي حتة مضروبة يابا متعملش حاجة.
حرك “يوسف” رأسه مستنكرًا بعد حديث الأخر، فضغط عليها “إسماعيل” بيده يقوم بفركها ثم نطق بسخريةٍ:
_دي حتة مضروبة، طالما متفركتش معايا وجت بالناعم، يعني من الأخر دي محطوطة كمين ليك.
سأله “يوسف” مُنفعلًا بغضبٍ جام:
_يا “إسماعيل” مش فاهم منك حاجة.
أخرج “إسماعيل” قداحته ثم أشعلها ومررها على قطعة الحشيش فخرجت منها رائحة زكية ضربت في أنفه كما ضربة الهواء البارد، فسعل بخفةٍ ثم نطق مُردفًا:
_بص حتة الحشيش الأصلي تتفرك معاك من غير ولاعة، إنما دي لامؤاخذة مضروبة كتامين، يعني ريحة عالية على الفاضي اللي يشمها يعرف أنها موجودة، بيدربوا بيها الكلاب، دي خشنة كدا وكل الغرض منها بس إنك تلبس.
فهم “يوسف” على الفور من المُتسبب في ذلك لذا أظلمت عيناه بغضبٍ ونطق بإيجازٍ يتنافى مع سؤاله:
_معاك ورق تلفها ؟؟
نظر له الأخر بتعجبٍ أظهر استنكاره حينما أرجع رأسه للخلف، فيما ضغط “يوسف” على قبضته فتحدث “إسماعيل” بنبرةٍ هادئة:
_بقولك إيه الطريق الجديد فيه كمين، أنا هخفي الحتة دي وأنتَ ولع سيجارة تخفي الريحة دي.
نظر له “يوسف” فوجده يضعها في حذاءه الرياضي الأبيض ثم نطق بزهوٍ بعدما أخفى أثرها:
_كدا تمام، متقلقش كله تحت السيطرة.
بعد مرور ربع ساعة من القيادة أوقفهما ضابط المرور وأمر بتفتيش السيارة حتى لفت نظره قطعة غريبة من الأحجار الكريمة فسألهما بتعجبٍ:
_دي إيه دي إن شاء الله ؟؟

نظر كلٌ منهما للأخر بتعجبٍ يُبديان حيرتهما، فيما ابتسم “يوسف” بتكلفٍ ثم نطق مُردفًا:
_دا حجر كريم من شمال سينا، حاجة كدا أصلي واخدها ذكرى من على الشط.
ابتسم الضابط ثم قلبها بين أنامله يتفحص لونها الأزرق ثم نطق بنبرةٍ لينة يحاول إضفاء المرح لهما:
_طب ابقى افتكر حبيبك بواحدة كدا، أصل حبيبك غاوي.
ابتسم له “يوسف” ثم اقترب من السيارة يفتحها وقدم له واحدةً أخرى كان يضعها في مرآة السيارة ثم قال بنبرةٍ هادئة ووجهٍ مُبتسمٍ:
_دي هدية مني ليك لحد ما نتقابل تاني.
نظر له الضابط بترددٍ، فتحدث “إسماعيل” يمازحه:
_إيه يا باشا خايف يعتبروها رشوة وينقلوك؟؟.
ابتسم له الضابط بسخريةٍ وهتف يزيد من تلك السخرية:
_هينقولني أكتر من كدا هروح فين يعني ؟؟ شرطة الموسيقى ؟؟ بس هدية مقبولة منك.
اخذها من بين أنامل “يوسف” ثم أشار لهما بالتحرك بعدما تم تفتيش السيارة كمجرد اجراءات روتينية على الطريق الجديد، فتحركت السيارة بسرعةٍ كبرى خاصةً أن السيارة كانت غالية وهيئتهما النظيفة لم تثير الشكوك نحوهما.
( عودة إلى تلك اللحظة)
سرد “يوسف” ماحدث معهما صباحًا بكافة تفاصيله فتحدث “إيهاب” بنبرةٍ جامدة يعبر عن غضبه مُنفعلًا:
_مكسرتش المكتب على دماغ أبوهم ليه يا عمنا ؟؟ ممسكتش الواد الملزق دا جيبته هنا يترمي جنب فتحي اطلع غُلب السنين فيهم.
تحدث “نَـعيم” بثباتٍ:
_خلاص يا “إيهاب” اللي حصل حصل، إيه عاوزه يضيع نفسه علشانهم؟؟ كويس أنه متهورش وضيع نفسه.
هدأت ثورة “إيهاب” حينما اقتنع بحديث “نَـعيم” فيما قرر هو مشاكستهما بقوله:
_بس إيه يا “إسماعيل” الصياعة دي كلها، عرفت كل دا منين ؟؟
تحدث “إيهاب” بتهكمٍ يجاوب نيابةً عن أخيه:
_البركة في “اشرف الموجي” بقى.
تحدث “إسماعيل” بنبرةٍ خافتة:
_الله يرحمه بقى، متجوزش عليه غير الرحمة.
اتقدت عينا “إيهاب” بشررٍ وهو يقول بغضبٍ:
_الله يرحمه !! بتترحم على دا ؟! لأ يا حبيبي متجوزش عليه الرحمة، اللي زي دا مرحمش حد علشان اتمناله الرحمة.
غضب “إسماعيل” من حديث أخيه عن والده لذلك تأهب يرد عليه بنفس الغضب المشتعل:
_غصب عننا أبونا يا “إيهاب” مش بإيدنا نغير الحقيقة دي، يا جدع اترحم عليه يمكن ربنا يجعلنا سبب في تخفيف عذابه.
انتفض “إيهاب” ووقف أمامه ينطق بنبرةٍ جامدة من بين أسنانه يذكره بماضيهما:

_لو نسيت اللي حصل زمان أنا مش ناسي يا “إسماعيل” لو نسيت أنه كان بيأجرك للشيوخ علشان يسخروك وتنزل تجيب الآثار من تحت الأرض من غير شفقة عليك أنا مش ناسي، لو ناسي إن بسببه الحَنش لف على جسمك تحت الأرض وأنتَ بتصرخ من الخوف وهو سابنا وجري و أنا اللي نزلت أجيبك أنا مش ناسي، لو ناسي أني جريت بيك على كتفي بعد ما الحَنش عضك لحد ما جيت هنا قدام بيت الحج بعدما ربنا قفل كل الطرق في وشي أنا مش ناسي، لو ناسي إنك بسببه الكل بيخاف منك علشان البيه من غير رحمة سلمك للدجالين يطلعوا بيك الآثار من غير ذرة ندم واحدة وأنك فضلت عمرك كله تتعاير إنك ملبوس رغم إن دا مش بإيدك، لو ناسي يا ابن أمي فأخوك مش ناسي ومبينساش، فــاهم !! مش هــنـسـى إنك كنت هتضيع مني بسببه هو.
ركل الأريكة بقدمه ثم تحرك نحو الداخل بجم غضبه بعدما أشعلت تلك الذكريات لهيب الحقد داخل صدره، فيما جلس “إسماعيل” بعينين زائغتين يحاول الهروب من الماضي الأليم الذي عايشه كلاهما، فاقترب منه “يوسف” يربت على كتفه وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_متزعلش نفسك، أكيد هيروق ويفهم إنه زعلك، دا “إيهاب” يعني مستحيل يزعلك أصلًا دي روحه فيك أنتَ، هو حقه مينساش كل دا وحقك أنتَ أكتر منه يا “إسماعيل”.
تنهد “إسماعيل” بضجرٍ ثم مسح وجهه وتحرك من مكانه ورافق حركته تلك قوله بحديثٍ مُقتضبٍ:
_عن اذنكم هلف شوية بالخيل.
تحرك بدون أن يرد أيًا منهما فيما تنهد “نَـعيم” بضجرٍ ورمق “يوسف” بيأسٍ من تلك الحالة التي زارت بيته تقضي على مرحهم وتُنافي فرحتهم بالأمس.
دلف “إيهاب” شقته بغضبٍ مكتومٍ وصدره يعلو ويهبط، فلاحظت “سمارة” حالته لذا اقتربت منه تسأله بلهفةٍ:
_مالك يا “إيهاب” ؟؟ أنتَ روحت عند “فتحي” تاني؟؟
رفع صوته أمامها بقوله:
_متجبيش سيرة الزفت دا على لسانك قصادي، أنا دماغي مش فيا وكلمة زيادة هنزل أجيب رقبته اعلقها على باب البيت.
اتسعت عيناها بهلعٍ لذلك رفعت جسدها وهي تقف على أناملها ثم اقتربت من أذنه تهمس بنبرةٍ خافتة:
_الله أكبر الله أكبر، انصرف، انصرف.
لاحظ ما تهمس به فحرك رأسه نحوها يسألها بتعجبٍ:
_أنتِ بتعملي إيه يا “سمارة” ؟ هو أنا ملبوس قصادك؟
ردت عليه بلهفةٍ:
_بعد الشر عليك يا حبيبي، أنتَ محسود، عين النسوان اللي تتعمي كانت هتاكلك امبارح، ربنا يحرسك منهم، ابقى فكرني ابخرك قبل ما تنزل.
رفع حاجبيه مستنكرًا تصرفاتها الغريبة، فيما قالت هي بنبرةٍ خافتة وكأنها تتردد في سؤاله:
_اتخانقت مع أخوك ليه؟؟ دا ملهوش غيرك أنتَ.

رد عليها بنبرةٍ خشنة وجمودٍ:
_علشان غبي، لسه بيقول عليه أبوه بعد كل اللي حصل، مش مستوعب أنه كان هيموت وإن بسببه الناس كلها كرهته وبقت تخاف منه، طب بلاش نسي أني كنت بموت علشانه لما كان هيموت من القرصة ؟؟.
سألها بصوتٍ دل على هزيمته فقالت هي بتأثرٍ:
_”إسماعيل” عمره ما كان قليل الأصل، اللي يحافظ على أمانة أخوه ويحميها بروحه مستحيل يكون قليل الأصل، بس هو قلبه طيب غصب عنه بيحن، يمكن عامل زيي لما بفتكر أبويا وهو ساكت على عمايل مراته فيا، رغم أني بكرهه وبدعي ربنا يجحمه، برجع تاني وأقول بس أهو كنت مستورة في بيته تحت ضله، مشوفتش المرمطة غير لما مات ونزلت الشارع.
سألها باهتمامٍ حينما أبصر دموعها تترقرق في مقلتيها:
_وبعـديـن ؟؟
مسحت دموعها بظهر كفها ثم أجبرت شفتيها على الابتسام وهي تقول:
_بعدها قابلتك أنتَ في الشارع، علشان تحميني من القرب قبل الأغراب، مليش غيرك أنا يا “إيهاب” والله العظيم ماليا غيرك، بالله عليك روق على نفسك.
بكت وهي تحدثه فضمها إليه يربت على رأسها بكفه دون أن يتفوه بكلمةٍ واحدة كعادته الصامتة دومًا، فاستكانت بين ذراعه وصدره وهي تتلمس من حضوره المهيب الأمان المتسلل إليها من تواجده، فارتسم الخبث على ملامحه وهو يهتف بخشونةٍ كعادته:
_بت يا “سمارة” !!
رفعت عينيها له تطالعه باستفسارٍ فابتسم بخبثٍ وهو يقول:
_مفيش واحدة سي “إيهاب” من بتوع زمان، بتكيفني.
ابتسمت بدلالٍ وهي تقول:
_نعم، نعم يا سي “إيهاب”.
اتسعت ابتسامته أكثر ثم حملها على ذراعيه يقول بنبرةٍ عابثة تشكلت على ملامحه يحاول تقليد طريقتها:
_تعالى بقى بخريني من عيون النسوان اللي تتعمي.
ضحكت بصوتٍ عالٍ ثم استغلت استرخاءه وسألته:
_هتراضي أخوك ؟؟.
حرك رأسه موافقًا بقلة حيلة ثم هتف بصدقٍ:
_مليش غيره دا.
شهقت بطريقةٍ سوقية وهي تسأله بتبرمٍ:
_نـعم ؟؟ أومال أنا إيه ياخويا ؟؟ نيش هنا ولا إيه؟؟
ابتسم بيأسٍ منها ثم قال بصوتٍ رخيم:

_أنتِ البيت كله بكل حاجة فيه.
حركت قدميها بدلالٍ وهو يحملها وقد بدت شامخةً أمامه فلفت نظره ذلك السوار الذي ترتديه في قدمها فسألها بتعجبٍ وهو يسير بها:
_بت !! هو فيه مُهرة هربانة هنا ؟؟ إيه الصوت دا؟؟
ردت عليه بتعالٍ أعرب عن ثقتها في نفسها اللامحدودة ودلالها الأنثوي الفطري:
_دا خُلخال، لبساه علشانك، وماليك عليا حلفان الحِزن الأسود اللي شوفته في حياتك دا آخره معايا أسبوع واحد وهخليك تنساه خالص يا سي “إيهاب”
ابتسم لها وكأنه يؤكد صدق ما تفوهت به، فهاهي البداية واستطاعت امتصاص غضبه الذي لو كان في ماضيه بدونها لأحرق الوديان العامة وكأن الصبي يعود لينتقم من المدينة التي حرقت فؤاده.
_____________________
قام “أيوب” بتوصيل “قمر” أولًا إلى حيث بيتها أولًا قبل أن تلج من السيارة أوقفها بقوله:
_متقلقيش يا آنسة، إن شاء الله كل حاجة هتكون بخير.
حركت رأسها موافقةً ثم وزعت بصرها بينهما وقالت بنبرةٍ خافتة:
_إن شاء الله أنا عشمي في ربنا كبير.
تحركت من السيارة وهو يراقبها، بينما الأخرى قبل أن تتحرك من محلها أوقفها بقوله:
_خليكي مكانك يا آنسة، أكيد مش هتيجي تقعدي جنبي.
بررت موقفها بتوترٍ وهي تقول:
_أنا بس قولت علشان عيب اقعد ورا وأنتَ تسوق يا “أيوب” مش قصدي حاجة يعني.
تنهد بعمقٍ ثم هتف بنبرةٍ هادئة وهو يشخص ببصره للجهةِ الأخرى يهرب من تركيزها معه:
_آنسة “جنة” أنا مراعي إن إحنا جيران وإن من صغرنا سوا مع بعض، بس فيه حدود مينفعش تتشال مابينا، “إذا رُفعت الكُلفة حَلت الأُلفة” ودا كله احنا في غِنا عنه، اتمنى تكوني فهمتيني.
حركت رأسها موافقةً ثم نظرت من النافذة فيما أخرج هو الورقة التي أعطتها له “قمر” يُمعن تركيزه بها ثم توجه نحو حارة العطار.
أوصل الفتاة على بعدٍ من بيتها ثم عاد إلى محل أبيه بضجرٍ تفاخم لديه وهو يقول بنبرةٍ جامدة دلت على ضيقه:
_السلام عليكم ورحمة الله وبركاته يا حج.
انتبه له والده، فترك الدفتر الذي يمسكه ثم قال بتعجبٍ:
_وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، مالك ؟؟
رد عليه مندفعًا بدون تعقل:
_حج أنا مش هوصل حد معايا تاني، بلاش تدبسني في مشاوير زي دي، أنا أخدم برموش عينيا بس من غير ما أخد في الخدمة دي ذنوب أنا مش حملها.
عقد “عبدالقادر” حاجبيه مستنكرًا ما يُقال له، فيما أضاف “أيوب” مُفسرًا:
_وياريت لما حد يطلب حاجة من النوع دا ترفضها.
تنهد والده ثم تحدث بنبرةٍ هادئة:
_ابوها اللي طلب وقال إن بنته عاوزة تجيب حاجة من شارع المعز وإنك أولى من الغريب، وأنا سكت علشان هو عارف إنك هتأمن عليها كأنها منك، يعني مش بكيفي يابن “عبدالقادر” وخف شوية عليا أنا ملييش ذنب.
حرك رأسه موافقًا بتفهمٍ ثم تذكر أمر “قمر” لذلك تحرك من مكانه ثم عدل سترته السوداء وهو يقول:
_أنا هعدي على “أيهم” ورايح مشوار مهم بعدها، عن اذنك.

حرك رأسه موافقًا وهو يتابعه، فيما تحرك الأخر بسيارته نحو محل أخيه فوجده يجلس مع “بيشوي” ألقى عليهما التحية، ثم جلس بضيقٍ ظهر لهما، فتحدث “أيهم” بسخريةٍ يقول:
_طب البيه و”جابر” منكد عليه حضرتك مالك ؟؟
حرك رأسه نفيًا ثم قال بنبرةٍ فاترة:
_مفيش حاجة مضغوط شوية، ماله أستاذ “بيشوي” ؟؟
اندفع الأخر بسخطٍ يقول:
_”جابر” بيستهبل يا “أيوب” بيلاعبني، ابقى متفق معاه وألاقيه رايح يجيبلها عريس ؟؟ كأني مش مالي عينه ؟؟ أنا اللي مسكتني كلمة الحج “عبدالقادر” وأنه كبيري، غير كدا كان زماني خربت الدنيا فوق دماغه.
تنهد “أيوب” ثم نطق بثباتٍ يُعبر عن تفكيره:
_مفيش حد مش عارف إن “جابر” بيكرهنا، والناس كلها عارفة إن أنتَ بالنسبة لينا أخ تالت، لكن هو خايف معرفش ليه، وكرهه ليا أنا تحديدًا بلا سبب، الحقيقة مش قادر استوعب اللي بيكرهوني دول سبب كرههم ليا إيه.
نظر كلاهما له، فيما تنهد هو بعمقٍ ثم قال:
_أنا هتحرك بقى علشان عندي طالعة مهمة، عاوزين حاجة؟؟
تحدث “أيهم” بسخريةٍ:
_اتفضل يا حبيبي، بس ابقى خلي بالك مش هنجري وراك كتير، ورانا عيال يا حبيبي.
ابتسم لهما ثم تحرك من مكانه، فيما شرد الأخر أمامه، فسأله “أيهم” باهتمامٍ:
_سرحت فين يا عمنا ؟؟ واد يا “بيشوي” ؟؟
رد عليه ولازال نظره مُثبتًا على اللاشيء أمامه:
_بفكر أخطف “مهرائيل” الأول ولا أخلص على “جابر”؟
لوى “أيهم” فمه يُمنةً ويسرى بتهكمٍ مما آل إليه تفكير الأخر.
_______________________
ركب “إسماعيل” خيله يركض به وسط الرمال في سكون الليل وما يصل لسمعه فقط صوت قدم الخيل على الأرض وهو يركض بخيلاءٍ كما صاحبه، والأخر شاردًا في ماضيه وهو يلهث بقوةٍ لتلوح في أفق عقله ذكرةً ستظل خالدة مادام حيًا طوال عمره.
(منذ زمنٍ بعيد)
كان “إسماعيل” في الحادية عشر من عمره يقف مذعورًا أمام ذلك البيت القديم الذي بدا اثريًا أو ما شابه ذلك بمفرده والرجال خلفه يكبلون أخيه “إيهاب” الذي حاول التملص من بين أيديهم لكن قوته البدنية التي بدأت لتوها في الظهور مقارنةٍ بهم تخسر بل تُفنى بالكامل.
وقف ذلك الرجل الذي زعم أنه شيخٌ له كرمات في العالم الأخر مُستغلًا الحالة التي يُعاني منها “إسماعيل” حينما يُكشف عنه الحجاب الحاجز بين العالم الأخر، ثم نطق يستدرج ذلك الصغير بقوله:
_يلا يا “إسماعيل” يلا يا حبيبي أنا مجهزك، متخافش.

تلك المرة كان “إسماعيل” يشعر بالخوف حقًا حيث أنه كان يشعر بكل ما حوله على عكس عادته، وذلك إن دل على شيءٍ فهو يدل على عدم قدرة الأخر في التعامل معه، فتحدث بنبرةٍ أعربت عن ارتجافة صوته:
_بس … بس أنا خايف
اتقدت عينا والده بشررٍ وهو ينطق بفظاظةٍ:
_نعم يا حيلة أمك ؟؟ أنزل يالا بدل ارميك أنا.
صرخ “إيهاب” بنبرةٍ عالية يردع أخيه عن ذلك الفعل:
_بلاش يا “إسماعيل” أجري ياض وأنا هحصلك.
قبل أن يتخذ “إسماعيل” قراره اقترب والده منه يمسكه من عضده يضغط عليه ثم هدر من بين أسنانه:
_لو منزلتش أنا هاخدك البيت أعلقك على الحيطة لحد ما تخرج روحك، أنزل يا روح أمك، أنا هعلف فيك ؟؟.
دفعه لداخل البيت فوجد قدميه تنزلقان في حُفرةٍ عميقة ازداد الظلام من حوله وازدرد لُعابه وبدلًا من أن يتغيب عقله عن واقعه، تبعه للأسفل هذا الشيخ المزعوم وحينما لاحظ خوف الصغير دعمه بقوله:
_متخافش أنا معاك هنا، يلا يا “إسماعيل”
ازدرد لُعابه فوجد الشيخ يدفعه نحو الداخل حتى دلف لتلك الحُفرة العميقة مر بمررٍ ضيق تحت الأرض والظلام يحاوطه لتصله أصواتٌ مُرعبة علمها على الفور، فازدادت ضربات قلبه بينما الأخر رأى تلك الحشرات التي تقوم بحراسة المقبرة الأثرية ترك الصغير بمفرده وركض للخارج بخوفٍ حتى لم يلحظه الأخر من فرط خوفه، فيما تسمر “إسماعيل” محله حينما رأى ذلك الحيوان الغريب رفع صوته بصراخٍ يستنجد بأخيه صارخًا:
_يــــا “إيــهاب” الــحـــقــني، هـيعـضـنـي.
انتبه شقيقه في الخارج لصوته، فوجد الرجال البقية يهربون بأنفسهم، بينما “أشرف” رفع صوته يسأل بغلظةٍ:
_يعني إيه ؟؟ والفلوس اللي صرفناها ؟؟؟
رد عليه الشيخ بقلقٍ وسط صدى صرخات الأخر الذي تيبس جسده:
_يعني المقبرة عليها رصد بالتعابين، ودي عاوزة تحضيرات تانية، أجروا قبل ما اللي جوة يطلعوا علينا.
ركض الشيخ وخلفه “أشرف” بينما “إيهاب” اندفع وقرر التضحية بنفسه فإذا نجا بحياته مع شقيقه كان ذلك من حظهما، وإذا مات فهو إذًا مات مع أخيه، لذلك بدون ذرة تعقل اندفع لشقيقه الذي يستغيث به تزامنًا مع اختفاء صدى صوت أخيه، ليكتشف أن ذلك المُلقب بالحنش قام بلدغه من ذراعه، حينها أمسك قالب الطوب يضربه به في وجهه ببسالةٍ اكتسبها من بيئته التي فرضت عليه المخاطر ثم حمل أخيه وخرج به من ذلك البيت والآخر أوشك على لفظ أنفاسه الأخيرة بين يديه.
ركض به “إيهاب” بعد خروجه من البيت في منطقة نزلة السمان وقد شُل عقله عن العمل فلم يتذكر سوى بيت “نَـعـيم” الذي عُرف عنه بأنه يد العون للجميع.
(عودة لتلك اللحظة الحالية)
توقف “إسماعيل” عن الركض بالخيل ليبقى أخر ما بذهنه يربط المواضيع ببعضها استيقاظه بعد عدة أيامٍ في بيت “نَـعـيم” بعدما قُدمت له الرعاية المطلوبة ولحسن حظه قرب ذلك البيت من الأخر الذي حوى بداخله مقبرةً.
نزل من على الخيل يلهث بقوةٍ من فرط المجهود ثم أشعل سيجارته لعلها تعاونه قليلًا فيما يشعر به من نيرانٍ متأججة بداخل صدره، اقترب منه “يوسف” يقول بسخريةٍ:
_قلود أوي أنتَ يا سُمعة، كدا ارتاحت يعني ؟؟
التفت له الأخر فابتسم بخفةٍ وقال بصوتٍ رخيم:

_المصيبة أني كل مرة أزعله مني كدا وبعدها افتكر اللي التاني عمله فيا، ابقى مكسوف اروحله بعدما رمى نفسه في النار علشاني، فاكرني ناسي وأنا مراحش عن بالي الليلة دي ولا عمرها هتروح، “إيهاب” فاكرني زعلان علشان أبويا، بس ماخدش باله إن هو أبويا.
ربت “يوسف” على كتفه ثم نطق بنبرةٍ هادئة:
_ربنا يخليكم لبعض، أنا مروح، هروح قبل ما يعملولي مصيبة تانية اديك شايف، خلي بالك من نفسك ومتزعلش أخوك منك، سلام.
رحل من المكان يتوجه إلى بيت الزمالك لكي يلحق ما يمكن إلحاقة قبل أن تنهار الأمور فوق رأسه.
______________________
وصل “أيوب” لمقر تلك الشركة الخاصة بتوريد العطور وتصديره، التفت حوله فوجده يقف مع إحدى الفتيات يتوددان لبعضهما، زفر بقوةٍ ثم اقترب منه بخطى ثابتة يحمحم بخشونةٍ يُجلي حنجرته لفتت أنظار الأخر الذي نظر له بدهشةٍ، فيما ابتسم “أيوب” بثقةٍ وهو يقول:
_ السلام عليكم يا أستاذ “علاء” مفاجأة حلوة مش كدا؟؟
انتبه له الأخر فأظلمت نظراته، بينما “أيوب” قال بثباتٍ:
_ياريت تتفضل معايا برة نتكلم على إنفراد، علشان منظرك.
تحرك هو أولًا وخلفه “علاء” حتى وقفا في الخارج فتنفس “أيوب” بعمقٍ ثم نطق بنبرةٍ جامدة:
_اسمع يا أخينا علشان أنا مش جاي أهزر، أنا جاي أقولك كفاية لحد كدا وياريت نخلص من الصداع، وعيلة أستاذ “فضل” كلها برة دماغك، لأني مش هقف مسالم زي ما شكلي باين، أنا هفاجئك برد فعل يفاجئنا إحنا الاتنين، فاسمع مني بقى المفيد، الكلام اللي هددت بيه الآنسة “قمر” تنساه خالص ودا حفاظًا على سمعتك أنتَ وسمعة حُرمة بيتك.
ابتسم الأخر باستفزازٍ وعقب ببرودٍ آثار حفيظته:
_لو خلصت عاوز اقولك أعلى مافي خيلك أركبه، وملكش فيه أنتَ طلع نفسك من الحوار دا، علشان كدا كدا هاخد حقي، وكلها ساعات وكل حاجة هتنزل وتنور على النت، ولو مصمم تدخل يبقى أهلًا بيك يا أخويا في الفضيحة، ويبقى الشيخ الفاضل ماشي مع بنت لامؤاخذة بقى.
ضُربت أسنان “أيوب” ببعضهما من شدة ضغطه عليهما، لذلك رفع سبابته يحذره بقوله:
_أنا كدا جيت مرة بالحُسنى، الباقي بقى متزعلش منه.
التفت يغادر المكان فرفع الأخر صوته يثير استفزازه بنبرةٍ أوضحت قدر استفزازه:
_نورت يا شيخنا، معلش بقى معندناش مسك.
التفت له “أيوب” يقول بثقةٍ:
_طبيعي، أنتَ هتبيع حاجة طاهرة زي دي إزاي يعني؟؟

التفت من جديد يغادر المكان بعدما تفاخم شعور المقت لديه تجاه ذلك السمج البغيض، فلولا ما سوف يعانيه بسبب هيئته لكان قضى على وقاحته تلك، لكنه فضل التعقل في التعامل متوكلًا على المولىٰ.
_______________________
وصل “يوسف” لبيت الزمالك فوجده على عكس المعتاد شاغرًا من سكانه، وعمته تجلس على الأريكة أسفل الإضاءة الخافتة، فلم يُحجم فضوله واقترب منها يسألها بنبرةٍ بدت جامدة له ومهتمة لها:
_مالك ؟؟ حصل حاجة ؟؟
انتبهت له فرفعت عينيها نحوه تقول بلهفةٍ:
_لأ يا حبيبي، أنا بس قاعدة مخنوقة شوية وسرحت.
حرك رأسه موافقًا ثم التفت حوله يبحث عن سكان البيت وهو يقول بنبرةٍ ساخرة:
_اومال فين عفاريت الدار ؟؟ متقوليش ناموا !!
ازدردت لُعابها وهي تقول بنبرةٍ هادئة لكنها مُضطربة:
_النهاردة عيد ميلاد “شاهي” علشان كدا كلهم خرجوا يحتفلوا بيه، بس أنا مرضيتش أروح معاهم علشـ….
بترت حديثها حينما قاطعها هو بقوله:
_أنا مسألتكيش، علشان دي حاجة متخصنيش.
لمعت العبرات في مُقلتيها فورًا وسألته باهتمامٍ:
_تاكل طيب ؟؟ أنا عاملة أكل حلو أوي.

رد عليها يرفض بثباتٍ:
_لو على موتي مش هاكل حاجة من هنا، وفري عروضك السخية دي وجهزي العشا لابنك لحد ما ييجي.
قبل أن ترد على طريقته الباردة، خرجت الممرضة من الغرفة تهتف بلهفةٍ:
_يا مدام “فاتن”… المدام “حكمت” فاقت وندهت على اسم واحد اسمه “يوسف” فاقت والله.
نظر كلاهما للأخر بدهشةٍ وخاصةً هو، فهل من الممكن أن تذكر تلك البغيضة اسمه هو، وهو عدوها وابن عدوها وحفيد عدوتها كما سبق وأخبرته، هل هي ماتت حقًا لكي تفيق على ذكر اسمه هو ؟؟

يتبع….

الفصل التاسع”
“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“يــا صـبـر أيـوب”
__________________
تبتلتُ مشتاقًا إلى الله بالقلبِ
إلى من يغيث الضارعين من الكربِ
اغث ربي ملهوفًا بعين عناية
وانقذ الهي المسلمين من الخطب
ايا ربي إن اذنبت عفوًا فادركن
عبيدك بالإحسان والصفح يا ربي
الهي اعني بالعطايا علي الذي تحب
وألهمني المتاب من الذنب
وصلي علي طه الشفيع محمد
وسلم علي الاحباب والآل والصحبِ.
_النقشبندي.
____________________
غدوتُ غريبًا وكأن كل الأماكن لا تُشبهني، فلا حُزني يهدأ ولا صمتي يُريحني، يؤسفني أنني لا أستطع الإفصاح عما يجول بخاطري لكنه يفيضُ من عيناي، لا استطعت التخطي وما أنا بِـ نساي، تأملت في وجودهم الأمان وظننتُ نفسي سأجد الحنان بدارهم، وفي حقيقة الأمر ولا لمرةٍ واحدة فيها الأمان زارهم، وكأنني في صحبتهم وجدت الخذلان جارهم، فياليتنا ما تقابلنا وياليتني ما كنت بجوارهم.
ركضت “فاتن” بعد حديث الممرضة عن إفاقة والدتها من غيبوبتها المؤقتة، فيما نحى “يوسف” صراعه جانبًا ليتبعها نحو الأعلىٰ لكن بخطواتٍ أهدأ وكأنه لا يكترث لهما من الأساس، تلك المرأة التي يكرهها كما تكرهه هي وأكثر لكن الفارق بينهما أنها استطاعت إخضاعه وقهره على الرغم من كونه يتيمًا لم يتذوق الحنان منها ولو لمرةٍ واحدة.
وقف على أعتاب الغرفة يراقب الوضع بعينيه، فيما وقفت “فاتن” بجانب الفراش تمسح على رأسها وهي تقول بنبرةٍ مختنقة من فرط البكاء المداهم لها:
_قولي عاوزة إيه يا ماما، “يوسف” هنا أهو.
عند ذكر اسمه حركت رأسها للجهةِ الأخرى، فوجدته يرمقها بقسوةٍ وعلى الرغم من تلك النظرة إلا أنها استطاعت رؤية نظرةً أخرى في عينيه وكأنه يُشفق عليها، التفتت له “فاتن” تقول بلهفةٍ:
_تعالى يا “يوسف”، تعالى يا حبيبي.
دلف الغرفة بترددٍ يقدم قدمًا ويؤخر الاخرىٰ لكنه دلف في نهاية الأمر، وقف بجوار الفراش يدس كفيه في جيبي بنطاله الجينز ثم نطق بجمودٍ:
_هي عاملة إيه ؟؟.
تحدثت “حكمت” بنبرةٍ واهنة وكأن صوتها يخرج رغمًا عنها، حتى خرج مبحوحًا وهي تسأله بنبرةٍ متقطعة:
_طمـ….طمني عليك، عامل إيه؟؟
ابتسم بسخريةٍ وهو يقول بوقاحته المعتادة:
_والله خايف أقولك بخير تروحي فيها، بس اتطمني أنا كويس أوي فوق ما تتخيلي.
حركت رأسها موافقةً بوهنٍ ثم أغمضت جفونها من جديد فعاد الإحباط يرتسم على وجه عمته من جديد وتهدل كتفاها بخيبة أملٍ وهي تُنبس بترددٍ وكأنها تخشى محادثته:
_هي كدا تصحى تنادي عليك، أو تسأل عليك وبعدها تنام.
حرك رأسه موافقًا بدون اكتراث ثم نطق بلامبالاةٍ:
_ربنا يريحها من اللي هي فيه دا.
خرج من الغرفة بعد جملته وتحركت خلفه “فاتن” التي جاهدت لتنطق بثباتٍ زائفٍ من التحدث معه أمام الغرفة قبل أن يتحرك من أمامها:
_على فكرة هي شكل روحها متعلقة بيك، دي مبتسألش عن حد غيرك، هي أكيد عاوزاك تسامحها قبل أي ما يجرالها حاجة.
عاد يقف مقابلًا لها وهو يقول بتهكمٍ:
_لأ انسوا، محدش منكم هيطول مني مسامحة، مش بعد كل دا هعدي وانسى بالساهل، أنا بس سايب الأيام تلعب معاكم شوية، لحد ما أفوق وأعرف أخد حقي.
نزلت دموعها وهي تقول بضعفٍ بعد حديثه:
_حقك، بس لو ناسي أنا طول عمري كنت بحاول علشانك، أنا طول عمري كنت ضدها وضدهم كلهم، أنا….
بترت حديثها حينما اقترب منها ينطق من بين أسنانه بعدما أطبق فكيه على بعضهما:
_محدش فيكم هنا بيجبي عليا، دا حقي وحق أبويا اللي أخوكي وجوزك كلوه عليا، حق الأيام اللي اتبهدلت فيها وهو وصي عليا لحد ما سحب مني كل حاجة، أمك اللي نايمة جوة دي وعملالي فيها بنت ذوات كل اللي هي فيه دا بفلوس جدتي أنا وحق أبويا، بس متقبلتش إن ضرتها تكون أغنى منها علشان كدا شربت أخوكي الغِل، أمك دي كانت بتخبي الأكل مني علشان ماكلش وكنت بسرقه زي الحرامية، لو كنتي عرفتي تنسي، أنا مش هنسى، وهاخد حقي من عينيكم نفسها، بس الصبر مطلوب.
تحرك من أمامها تاركًا الرواق بأكمله ثم صعد نحو الأعلى حيث سطح البيت بعدما اشتعل لهيب الحقد بداخله من جديد، تلك النيران المتأججة كلما حاول اخمادها بمجرد لمحة من الذكريات تعود له لتنذره بأنها فقط خُمدت بمفعول الوقت، لكنها لم تنطفيء بعد.
تنفس بعمقٍ ثم مسح وجهه بكفيه وأقترب من دراجته الهوائية يَحل أوصادها الحديدية ثم اقترب يأخذ منشفة قماشية يُزيل الغُبار العالق بها ثم حملها ونزل بها من البيت، فقابلته “فاتن” تقول بقلقٍ عليه:
_بلاش دلوقتي طيب، الوقت متأخر وأنتَ بتلف بيها كتير، خليها بكرة الصبح أحسن.
رفع عينيه لها ينطق بجمودٍ:
_ أنا حُـر، عن إذنك.
خرج بدون كلمةٍ أخرى مما جعلها تنظر في أثره بخيبة أملٍ، تود معانقته واحتضانه لكن الوقت تأخر كثيرًا، سلبيتها أمام قسوة تلك العائلة ونفوذ أخيها و الجبروت الذي اتضح في شخصية والدتها لم يُسعفها لو لمرةٍ أن تقف رادعًا لهم في حماية ذلك الصغير، ترى دومًا في ملامحه وجه أخيها المتوفي، لكن الطِباع شتان ما بينهما، خصال أخيها المحمودة ولين طباعه لم يتصف بها ابنه.
خرج من البيت يركب تلك الدراجة التي يُحبها حد الهوس، كانت من الأساس لوالده وقام بتغييرها لأجله حتى يكبر ويستخدمها هو بدلًا منه، لذلك تشكل في قلبه حيزًا كبيرًا وقد أصر على نقلها من البيت الأخر لهنا.
تنفس بعمقٍ ثم وضع في أذنيه سماعات هاتفه ووضع الهاتف في جيبه ليتجه كما اعتاد ليهرب من مآساته وذكرياته في التجول بها وسط شوارع منطقة الزمالك التي اتسمت بالهدوء لعله يهرب من ضجيج رأسه، ضربت نسمات الهواء الباردة المُفعمة بروائح المدينة في وجهه وأنفه ليشعر بالانتشاء وارتخاء أعصابه ثم قرر الاستمرار في التجول حتى وصل تقريبًا لمنطقة وسط البلد.
انتبه لنفسه أين هو فأدرك أن جسده ترك لسلطة الهواء العنان لتتحكم في تحركاته حتى وقف هنا في تلك المنطقة التي يعشق أدق تفاصيلها، استمر في السير بالدراجة وهو يتابع ما حوله بنظراته مُبتسمًا بصفاءٍ كما الطفل الصغير، توقف أمام واحدةٍ من المقاهي القدمية شبه الطرازية فأوقف الدراجة ثم دلف للداخل يجلس على المقاعد الخشبية القديمة و طلب كوب الشاي وهو يشاهد تلك الاجواء القديمة التي وقع أسيرًا بها، سحب نفسًا عميقًا وعاد للخلف برأسه يتذكر تلك الذكرى التي لوحت في أفق عقله لتثبت له شقاوته منذ صغر عمره.
(منذ عدة سنواتٍ)
بعد مرور عامان من وفاة والده “مصطفى الراوي” وانتقاله مع أفراد عائلته إلي ذلك البيت قررت العائلة الذهاب إلى نزهة صيفية يبدلون بها حالة الحزن التي خيمت عليهم.
كان حينها “يوسف” يعاني من ازمات نفسية بعد رحيل أسرته عنه وتواجده مع تلك العائلة التي منذ أول أيام جمعته بهم، ظهرت القسوة في معاملتهم له وكأنه وسطهم نكرة غير محسوبة، في شقة المصيف تجهزوا جميعهم للنزول على الشاطيء بعد تناول الطعام، لكنه لم يأكل معهم بل انشغل في رؤية البحر من الشرفة.
شعر بالجوع فجأةً فدلف المطبخ يبحث عن الطعام وجد “حكمت” زوجة جده تقوم بتخبئة الطعام منه، فاقترب منها يسألها بعدما أخفت الطعام تمامًا:
_أنا جوعت وعاوز آكل، الأكل فين ؟؟
التفتت له بعينين نظرتهما جامدة وهي تنطق:
_مفيش أكل خلاص، قولتلك تعالى كل قولت شبعت، اعملك إيه يعني ؟؟ “نادر” أكله وخلصه، استنى لما نرجع بقى.
هم بالنطق ليخبرها أنه رأىٰ الطعام الذي أخفته هي منه، لكنه صمت ونكس رأسه للأسفل بحزنٍ وخرج معهم من البيت نحو الشاطيء، جلس وسطهم بصمتٍ ثم انتفض واقفًا يقول بإصرارٍ:
_أنا هنزل المياه.
لم يرد عليه أيًا منهما سوى “فاتن” التي قالت له تحذره بنبرةٍ هادئة:
_طب خلي بالك من نفسك، ومتدخلش جوة أوي.
حرك رأسه موافقًا ثم قفز في المياه بمهارةٍ حيث دربه والده على ذلك، كان بين الحين والأخر يطمئنهم وهو يقترب من الشاطئ ويعود لهم من جديد حتى سحب نفسه أخيرًا وخرج من المياه متوجهًا نحو الشاليه.
فتح النافذة المطلة على ردهة الشاليه ثم دلف على أطراف قدميه وماساعده على ذلك صغر جسده ثم توجه نحو المطبخ يسحب صينية الطعام فنظر لها باشتهاءٍ تفاقم عن سالفه من الوقت خصيصًا بعدما نزل البحر، كانت صينية وجبته المحببة “مكرونة بالبشاميل” ازدرد لُعابه ثم أمسك السكين يقطع بها وتناول من الطعام قدرًا كافيًا جعله يشعر بالراحة ثم خطرت بباله فكرةٌ أكثر خبثًا فحدث نفسه مُفسرًا:
_دلوقتي هيبان أني أنا اللي عملت كدا، يبقى نخليها كأن قطة دخلت ولعبت في الأكل.
قام باللعب في الطعام بأصابعه ليبدو وكأن قطة دلفت من نافذة المطبخ ثم فتح النافذة ووقف يتأكد من كل شيءٍ كما القاتل يطمئن على ارتكاب جريمته، تنهد مطولًا ثم خرج كما دلف بعدما أخفى أثر تواجده، عزة نفسه وكرامته منذ صغره ترفض الإلحاح على أي فردٍ مهما كانت قرابته، لذا فضل استخدام تلك الحيل.
خرج من الشاليه بنفس الطريقة ثم توجه نحو الشاطيء وقفز في المياه من على بعدٍ من تواجدهم ثم اقترب منهم يقول ببراءةٍ:
_معلش اتأخرت شوية جوة علشان مشيت لحد قدام.
انتبهوا له فتحدث “عاصم” بجمودٍ كعادته:
_خلي بالك مش ناقصين مصايب.
حرك رأسه موافقًا ثم عاد من جديد للمياه يبتسم بمشاكسىةٍ، بعدها عادوا للشاليه من جديد فدلفت “حكمت” المطبخ تقوم بالاطمئنان على الطعام حتى صرخت بملء صوتها فاجتمعوا نحو الداخل ومعهم “يوسف” أيضًا، بينما الأخرى استمرت في العويل وهي تقول:
_مين اللي عمل كدا !! الأكل باظ خالص.
تحدث “عاصم” بعدما تفحص المكان بنظراته:
_عادي يعني يا ماما، شكلها قطة أو حاجة، الشباك مفتوح أهو، يعني مشيت ورا الريحة، حد برضه يحط الأكل هنا.
زاد نهيج صدرها ثم دفعت الصينية على الطاولة وهي تقول بغضبٍ عارمٍ اتضح من انفعالات جسدها:
_حد فيكم ياخدها يرميها للقطط برة، أنا خلاص قرفت.
اقترب “يوسف” يقول بلهفةٍ:
_أنا بحب آكل القطط، هاتيها آكلهم أنا.
سحب الصينية ثم خرج لحديقة الشاليه يجلس بها على الدرجات الصغيرة ثم أكل بقية الطعام بمفرده وهو يبتسم بسعادةٍ فاقتربت منه القطة تنظر له، حينها قال بقلة حيلة:
_تعالي كلي معايا، أنا وديتك في داهية.
رمى للقطة طعامًا تأكله ليثبت أن كل شيءٍ تم كما أراد فيما أنهى هو بقية الطعام ثم دلف للبيت من جديد يقول بهدوء:
_أكلت القطة اللي برة وباقي القطط معاها شبعوا الحمد لله.
نظروا له بدون اكتراث فيما انسحب هو نحو المرحاض يتحمم ويهرب بجريمته النكراء قبل أن يتم اكتشاف ذلك الصغير.
( عودة إلى الوقت الحالي)
خرج من شروده مبتسمًا على شقاوته التي ظهرت مُبكرًا على الرغم من عدم توقعه أن يكون يومًا ما على ما هو عليه، لكن للضرورةِ أحكام وهو حُكمَ عليه أن يغدو عن نفسه غريبًا.
_____________________
انتظر “أيوب” في سيارته أمام مقر شركة العطور لحين موعد خروج المدعو “علاء”، شعر بالملل والضُجرِ لكنه انتظر وصبر حتى يحصل على نتيجةً مُرضية لضميره الحي قبل الجميع، خرج “علاء” من الشركة يحمل حقيبة يده، فاعتدل “أيوب” في جلسته ثم قاد السيارة يقترب من تواجد الأخر الذي نظر له بدهشةٍ فخرج “أيوب” من السيارة ينطق بخشونةٍ تتنافى مع طباعه:
_ها تحب نتكلم بأنهي طريقة ؟؟ جربت معاك اللين، تحب تشوف القسوة ؟؟.
ردد الأخر مُستخفًا به نتيجةً لهيئته الغير منذرة بأن شخصٌ مثله قد يتجه للقسوةِ والعنف:
_عامل نفسك جامد وخلاص، خرج نفسك من الحوار دا.
ابتسم “أيوب” بشرٍ ثم رفع كفيه يقول باستسلامٍ:
_يا رب، اللهم إني وكلتك وأنتَ شاهد إن دا الحل الأخير.
اقترب فور انتهاء جملته يضغط على عنق الأخر بقبضته القوية حتى صَعُبت عملية التنفس على الأخر، بينما “أيوب” هدر من بين أسنانه:
_متراهنش على طاقتي كتير علشان مش هتهاون في سمعة بنت، إذا كنت صحيح “أيوب” بس أنا معنديش “صبر أيوب” هات تليفونك يالا.
عانده الأخر وحرك رأسه نفيًا فأرخى “أيوب” قبضته ثم سحبه من ياقة قميصه يرمقه بشررٍ:
_هات التليفون أحسنلك بدل ما أخدك أنتَ وأعيد تأهيل لرجولتك المعدومة دي، ها ؟؟ هتسمع الكلام ولا لأ ؟؟
حرك الأخر رأسه موافقًا فانتشل “أيوب” الهاتف من جيبه ثم دفعه للخلف وهو ينطق بثباتٍ يمتزج بالسخريةِ:
_لو عاوزه هات ولي أمرك وتعالى خده، ويفضل يكون راجل بجد مش عينتك.
التفت حتى يتحرك من محله فأوقفه الأخر بقوله:
_أنتَ رايح فين؟؟ صدقني هتندم وأنا مش هسكت، أنا مبعرفش أسيب حقي.
التفت له “أيوب” برأسه ينطق بشموخٍ:
_أنا رايح حارة العطار، إنما حقك اللي مبتعرفش تسيبه
دا، أملكه الأول وابقى صاحب حق بعدها اتكلم يا…يا علاء.
ركب “أيوب” سيارته وعاد من جديد فيما وقف الأخر يزفر بقوةٍ ثم نطق من بين أسنانه متوعدًا:
_ماشي، والله ما هسيبك ولا هسسيبها.
____________________
في شقة “فضل” اجتمع بأفراد أسرته يتناولون الطعام سويًا فتحدث هو يسأل ابنته باهتمامٍ:
_وأنتِ إيه أخبارك دلوقتي يا “ضحى” ؟؟ وأخبار شغلك إيه؟
حركت رأسها موافقةً ثم نطقت بنبرةٍ طبيعية:
_الحمد لله يا بابا ماشية، متقلقش.
حرك رأسه موافقًا وهو يبتسم لها وقد وجه حديثه لابنه يسأله بنبرةٍ حاول صبغها بالمرح قائلًا:
_وأنتَ يا نحس ؟؟ أخبارك إيه ؟؟.
ابتسم له “عُدي” بمجاملةٍ ثم أردف:
_الحمد لله زي الفل، اشتغلت في شركة اتصالات كدا، لحد ما الاقي حاجة بشهادتي، أحسن من قعدتي ديه.
سألته عمته “غالية” باهتمامٍ:
_طب مفيش أخبار من عروستك ؟؟ يمكن يابني ؟؟
تركت حديثها مفتوحًا له بإشارةٍ مجهولة فهمها هو على الحال لذلك رد بدون اكتراث بعدما تخطاها:
_والله يا عمتو خلاص، هي من الأول معترضة أني مش عندي شقة والمبلغ بتاع الشغل دا مش عاجبها، وبتقولي هرد عليك، كل همها الفلوس وعاوزة طلبات أكبر من مقدرتي، محدش عارف الخير فين.
ربتت على كتفه وهي تبتسم له ثم تنهدت مُطولًا فيما تحدث “فضل” يسأل ابنة شقيقته باهتمامٍ:
_وحبيبة خالو عاملة إيه، روحتي مشوارك بتاع الصبح؟؟ كنتي فين صحيح؟؟
بدا الارتباك واضحًا على وجهها وهي تبتلع مافي فمها من الطعام وسكتت كعادتها حينما تتلجلج، فتدخلت “أسماء” تقول بلهفةٍ حينما وجدت نظرات زوجها مُمعنة في وجه الاخرى:
_دي بت عبيطة كنت بعتاها مشوار ليا، وكان نفسها في حاجات ليها برضه راحت تجيبها، بما أنها قاعدة هنا لا شُغلة ولا مشغلة قولت اشغلها، مش هي قالتلي اعتبريني ضرتك ؟؟ أنا موجودة خلاص.
ضحك البقية على حديث “أسماء” وطريقتها التي بدت انتقامية من الحديث، فيما تنهدت “قمر” وأجبرت شفتيها على التبسم، فتنهد “فضل” ثم قال بنبرةٍ هادئة:
_ربنا يحفظكم، لو حد فيكم عاوز حاجة يقول.
ردت شقيقته بدلًا عن البقية بودٍ:
_هو أنتَ مخلي وراك حاجة؟؟ الله يكرمك عامل اللي عليك وزيادة كمان، بعدين قولتلك من بدري هشتغل مش راضي و رافض “قمر” تشتغل كمان، أخرتها إيه يا “فضل” ؟؟
سألته بنبرةٍ يائسة من موافقته، فزفر هو بضيقٍ ثم أردف بنبرةٍ أقرب للانفعال مُعقبًا:
_مبتزهقيش يا “غالية” ؟؟ خلاص الموضوع انتهى من بدري، قولتلك من هنا لأخر يوم في عمري في رقبتي أنتِ وبنتك، بعدين “قمر” جربت تشتغل معرفتش تسد برة، خليها هنا ياستي لحد ابن الحلال ما يجيلها يقدرها، مش كل شوية هتنكدي عليا كدا، الله يرضى عليكي بلاش تنكدي عليا.
ربتت على كتفه بقلة حيلة ثم تنهدت بعمقٍ وهي تتذكر ما مر عليها في سالف الزمان وكان هو جيشها الوحيد ولابنتها الوحيدة التي رأت بها كل ما امتلكته ذات يومٍ.
تحركوا تباعًا كلٍ منهم حيث مرقده ليخلد لنومه، فيما جلست “قمر” أمام التلفاز تبتسم مع نفسها بشرودٍ فاقتربت منها “اسماء” تقول بنبرةٍ هامسة:
_ما تحكيلي عملتي إيه ؟؟ الفضول مموتني.
ابتسمت “قمر” بيأسٍ ثم نطقت بنبرةٍ خافتة:
_طب هعمل شاي وتعالي نقعد في البلكونة، طالما كلهم ناموا خلاص، اسبقيني.
تحركت “قمر” نحو الداخل فيما ابتسمت “أسماء” وهي تنظر في أثرها مرددةً بنبرةٍ خافتة:
_البت دي عبيطة أوي، بس جدعة.
بعد مرور دقائق جلست كلتاهما مقابلةً للاخرى في الشرفة فمدت “قمر” يدها بكوب الشاي وهي تقول بنبرةٍ ضاحكة:
_روحتله شارع المُعز وأول مرة أخد بالي من حلاوته.
سألتها “أسماء” بفزعٍ من حديثها:
_هو مين دا يا عين أمك ؟؟
ردت عليها الأخرى بلهفةٍ تلحق ما يمكن إلحاقة من تفكير الأخرى:
_المُعز يا ستي مخك راح فين ؟؟ لفيته بالعربية وطلع حلو أوي، بس ما علينا !!
رمشت الأخرى ببلاهةٍ ثم تحستت جبينها تتفحص حراراته وهي تنطق بتهكمٍ بعدما نفذ صبرها:
_أنتِ قاصدة تموتيني ؟؟ يابت احكيلي كل حاجة خلصي.
تنهدت “قمر” مُطولًا ثم بدأت في سرد التفاصيل منذ التقاءها به صباحًا حتى تم توصيلها لهُنا على مقربةٍ من بيتها، بكامل الحوار الدائر بينهما، حتى اختتمت قولها بنبرةٍ هادئة تُثني على أخلاقه:
_بصراحة متوقعتش إنه يقف معايا ويصر كدا إنه يقفله، اختيارك كان صح، قولت هيرفض بس هو خالف توقعاتي، للأسف حسيت بحاجة غريبة خلتني اخاف أوي.
انتبهت لها “اسماء” فسألتها باهتمامٍ:
_حسيتي بإيه ؟؟ هو قالك حاجة ضايقتك؟؟ زعلك؟؟
حركت رأسها نفيًا ثم رفعت ابهامها تمسح تلك الدموع التي تعلقت بمقدمة أهدابها ونطقت بصوتٍ مختنقٍ:
_حسيت أني مطمنة أوي وأنا بعتمد عليه، معرفش ليه حاجة جوايا كدا قالتلي إن دا عادي وحقي، معرفش ليه حسيت إني مش عاوزة الموضوع يخلص كدا وخلاص، يعني عاوزاه يكون موجود تاني، المشكلة إن شكله هو بيحب واحدة تانية أو فيه بينهم حاجة، كويس إنها ظهرت علشان أفوق لنفسي.
سألتها “أسماء” بلمحة حزنٍ ظهرت في نبرتها:
_أنتِ حبتيه يا “قمر” صح ؟؟
رفعت عينيها اللامعتين وهي تقول بقلة حيلة:
_مش عارفة، بس والله مكانش بمزاجي، حسيته مختلف كدا وغيرهم كلهم، فيه حاجة بتخليني أتمنى أكون معاه، بحس نفسي مطمنة لما بفتكر إن فيه ناس زيه موجودة، بس أنا مش شبهه، لبسي عادي ومعلوماتي في الدين كلها متجيبش ربع اللي عنده، يعني مستحيل هو يفكر فيا، اللي زي “أيوب” كدا مستحيل يفكر في بنت ولو فكر أكيد هتكون بنت شبهه وشبه أخلاقه.
شهقت “أسماء” بطريقةٍ سوقية وهي تقول مؤازرةً لها:
_نعم !! وهو هيلاقي زيك فين ؟؟ لا في أخلاقك ولا أدبك ولا حتى رقتك وجمالك، أنتِ و “ضحى” تربيتي ومصروف عليكم أصول، ياكش بس هي البت “ضحى” اللي عبيطة حبتين تلاتة كدا وبتصدق أي حد، بس مفيش منكم.
حركت كتفيها بقلة حيلة ثم تنهدت بعمقٍ، فربتت الأخرى على كفها حتى انتبهت لها “قمر” فسألتها وكأنها تذكرت لتوها:
_بقولك صح ؟؟ ليه كدبتي على خالو ؟؟ لو عرف هيزعل وهيبهدلنا، أنا كنت هقوله أني روحت المعز وعديت على محل الشيخ “أيوب” بلاش نزود مصايبنا بالكدب.
لوحت لها الأخرى بدون إكتراث وهي تتشدق بطريقةٍ لامبالية للموضوع من أساسهِ:
_ياختي بلاش وجع دماغ، هو يعني لو عرف هيسمي علينا ؟؟ دا مش بعيد يطردنا سوا، المهم أنتِ هتعرفي ازاي الباقي؟؟ خدتي رقمه ؟؟
اتسعت عيناها بهلعٍ وهي تردد باستنكارٍ لحديث الآخرى:
_أخد رقمه ؟؟ بقولك كنت قاعدة كاشة في نفسي، بس أنا معايا الفيسبوك بتاعه، آه والكارت….الكارت بتاع شغله بس أكيد هخاف أكلمه، أنا حاسة أنه شايفني مش كويسة.
ابتسمت “أسماء” بخبثٍ وهي تطلب منها:
_بقولك إيه ؟! ما توريني كدا شكله ؟؟ عاوزة أشوفه.
تنهدت “قمر” بقلة حيلة وهي تعلم تمام العلم أن إذا ألحت عليها زوجة خالها نفذ الأمر وحال تحقيقه، لذا أخرجت هاتفها تبحث عن صفحته الشخصية ثم أعطتها الهاتف بقلة حيلة وكأنها لا تُبالي، فيما ابتسمت “أسماء” وهي تقول بنبرةٍ مرحة:
_ياختي على السكر، عسل اوي وتحسيه وشه سِمح كدا، ومين العسل اللي هو شايله دا ؟؟ أوعي يكون ابنه ؟؟
حركت رأسها نفيًا وهي تقول بوجهٍ مبتسمٍ:
_دا أبن أخوه الكبير، شوفته مرة مع أختهم.
رفعت “أسماء” حاجبها بخبثٍ وهي تنطق بتكهنٍ ودهاءٍ:
_يا سوسة !! أنتِ مركزة بقى ؟؟
حركت رأسها نفيًا وقالت بغلبٍ على أمرها:
_والله أبدًا، بس أختهم جميلة أوي وعلطول وشها بيضحك كدا وغلبانة أوي، لابسة خمار وعسولة، لما شوفتها حسيت نفسي أكون زيها، بس عرفت يعني هي عايشة معاه.
ابتسمت الأخرى وهي تقول بتمني وكأنها تواسيها بتلك الطريقة:
_عقبالك ياختي لما تعيشي معاه أنتَ كمان.
ارتسمت على شفتيها إبتسامة ساخرة وكأنها تستخف بحديث الأخرى أو تستخف بأحلامها هي، فمنذ ما يقرب العامين وأكثر وهي تتبعه وتتبع صفحاته، لم تصادف ولو لمرةٍ يتحدثان بها سويًا، لكن ثمة شيءٍ في قلبها يزداد مع مرور الوقت تجاهه، وهي فقط لا تملك سوى الدعاء أن يلطف الله بقلبها وأن لا تتعلق بما هو ليس لها.
_____________________
في منطقة نزلة السمان.
جلس “إيهاب” على الأرض الرملية أسفله الوسائد الجلدية المُستديرة بأنماطٍ فرعونية قديمة وأمامه الموقد الحديدي القديم ويعتليه الفحم المُشتعل وفوقه ابريق الشاي المعدني حيث يقوم بصناعة الشاي على طريقته المُفضلة، كان شارد الذهن وهو يقوم بإعداده خاصةً بعد حديثه مع شقيقه وانفعاله عليه، وتلك الذكرى التي طال أثرها القلب.
شعر بطيفها يقترب منه بتذمرٍ وعبيرها يسري على أنفه، فابتسم وهو يعلم ما القادم معها حتى وجدها تجلس أمامه وهي تنطق بتبرمٍ وتحدجه بسخطٍ:
_أنتَ خرجت وسيبتني لوحدي ليه؟؟ مش مالية عينك؟؟
رد عليها مؤكدًا بإيجازٍ:
_لأ
شهقت باستنكارٍ تظنه تعمد جرح أنوثتها وقبل أن تثور في وجهه، استطاع هو إخماد ثورتها بقوله الرزين المُدل على خبثه:
_مالية قلبي.
حسنًا لقد نجح في إخماد ثورتها تمامًا وقد ابتسمت بخبثٍ واقتربت تجلس بجواره تلتصق به وهي تقول بميوعةٍ تعمدتها وهي تتدلل عليه:
_يوه يا سي “إيهاب” ؟؟ ما أنتَ حلو أهو…أومال مصدرلي الوش الخشب ليه يا جدع أنتَ !!
تحولت كُليًا في جملتها الثانية وقد ارتفع صوتها وهي تلومه على تذمره واقتضاب ملامحه، حتى ضرب كفيه ببعضهما وهو ينطق بضجرٍ:
_لا حول ولا قوة إلا بالله، أنتِ مجنونة يابت ؟؟ ماطول اليوم سوا مسبتكيش ونمتي في حضني، خرجت لما صحيت ولقيتك نايمة، لو كنت صحيتك كنتي كلتي دماغ اللي جابوني.
لم تقو على إنكار ماتفوه به خصيصًا أنه كان مُحقًا، لذا دست نفسها أسفل ذراعه وهي تقول بسخطٍ منه:
_طب أوعى يا أخويا خدني في حنانك كدا.
ضحك رغمًا عنه ثم ضمها إليه يقربها منه وربت على ذراعها وسألها بصوتٍ رخيمٍ:
_مبسوط يا عمنا ؟؟
رفعت عينيها له تهتف بصدقٍ وهي تحرك رأسها موافقةً:
_آه…علشان معاك أنتَ.
لَثم قمة رأسها بقبلةٍ حانية جعلت ضربات قلبها تتزايد خلف بعضها وهي تستشعر حنانه الذي قلما رآته بحياتها، فيما سألها هو بثباتٍ من نبرة صوته الخَشِنة:
_تشربي معايا شاي ؟؟ هعملهولك أنا.
حركت رأسها موافقةً بحماسٍ، فيما تحرك هو يجهز لها الكوب الخاص بها وهي تراقبه بوجهٍ مبتسمٍ من عينيها المُتلألأتين كما نجوم السماء في سمائها ساطعة، راقبها بطرف عينه فسألها بخبثٍ:
_سرحت في إيه يا عمهم ؟؟
كررت خلفه باستنكارٍ كلمته تلك:
_عمهم !! عم مين ؟؟
أراد أن يثبت لها أنه يستطع التحدث كما تريد لذا اقترب منها يجلس على إحدى رُكبتيه هاتفًا بخبثٍ وثباتٍ يتنافى مع طبيعته المُتسمة بالجمود:
_مسمعتيش عمك “عبدالباسط حموده” لما قال يا عمي وعم قلبي ؟؟ أهو أنتِ بقى عمهم هما الاتنين، يا…عمهم.
ابتسمت بعذوبةٍ وكأنها تعزف على أوتار فؤاده معزوفةً نادرة الوصف فيما يشعر به، خاصةً بملامحها السمراء الساحرة وعينيها المُتكحلتين، فوجد نفسه يغرق في أدق تفاصيل ملامحها وهي تبتسم له وتسأله برقةٍ قلما تتواجد في شخصيتها العفوية:
_سرحت في إيه يا عمهم ؟؟
_فيكي
كانت تلك الكلمة هي جوابه الأمثل الذي جعلها تطالعه بغير تصديق، فتنهد هو مُطولًا ثم نطق بنبرةٍ رخيمة أسرتها في اللحظة بقوله:
_بصي، أنا طبعي خشن وناشف آه بس غصب عني أنا بعمل كدا علشان اللي شوفته مش شوية، كنت بصحى بالضرب كل يوم علشان انزل القط لقمة عيش أنا وأخويا، جو الحُب بقى و العواطف الجياشة دي مركونة عندي على جنب، وكنت حالف يمين أني ما أدخل السِكة الشؤم دي، بس أنتِ بقى غير، أول مرة أهلك وصلوا هنا علشان ياخدوكي لقيتك مسكتي أيدي علشان متمشيش، وطلبتي مني ماسبكيش، ساعتها حسيت أني مُجبر أوفرلك الحماية، مش هتكلم كتير آه ومش هعرف اعبرلك كتير، بس والله لو حد فكر يبصلك بعين أنا افقعهم الاتنين، أمان كدا يا عمنا ؟؟.
ضحك وهو يسألها بجملته الأخيرة مما جعلها تبتسم له ثم ارتمت عليه تعانقه وهتفت بفرحةٍ أخرجت صوتها مختنقًا:
_مش عاوزة منك غير كدا، إنك تكون جنبي وخلاص يا سي “إيهاب”، وأنا والله هحاول مزعلكش مني، بس استحملني يا أخويا ينوبك ثواب بس.
تنهد بعمقٍ ثم رفع ذراعه يُربت على خصلاتها الغجرية اللامعة، ثم ابتعد عنها نسبيًا وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_عاوزك كمان تتحجبي يا “سمارة” شعرك الحلو دا لازم يتدارى عن العيون زي ما خليتك تلبسي واسع داري شعرك، قولتي إيه ؟؟.
نظرت إليه بتوترٍ وهي تقول بقلة حيلة:
_ أنا عاوزة حد يقولي وياخد بأيدي معاه، زي ما أنتَ شايف أنا معرفش حاجة خالص، أنتَ اللي علمتني القراية والكتابة، لولاك كان زماني لسه معرفش أي حاجة، أنا مش ممانعة والله بس ساعدني.
أبتسم لها بصفاءٍ وحرك رأسه موافقًا ليهتف عن ثقةٍ:
_و أنا معاك يا عمنا مش هسيبك.
تنهدت بعمقٍ فوصلهما صوت حمحمة خَشنة على قربٍ منهما، فرفع “إيهاب” عينيه نحوه يطالعه بسهامهما، وقد ازداد الشر في نظراته نحو الأخر الذي رأى تلك النظرات فهتف مُتلجلجًا:
_أ…أنا كنت جاي أقولك يعني متزعلش مني، أكيد ماكنتش اقصد أزعلك، بس برضه مش عاوزك تجيب سيرة واحد مات بقى ليه حُرمته، يمكن هو ميستاهلش دا، بس أنتَ تستاهل كل خير يا أبويا، علشان أنت! أبويا اللي بحق.
اعتدل “إيهاب” واقترب منه يقول بنبرةٍ رخيمة دافئة:
_شوف علشان منكررش الموضوع دا تاني، سيرته لا تيجي بخير ولا تيجي بشر، عديه زي ما طول عمرنا معديين كل حاجة، دي أصولها وكدا برجولة معايا، عاوزني ابقى حلو معاك يا عمنا، يبقى تنسى اسمه، وإذا كنت أبوك بصحيح زي قولك، يبقى تراضي أبوك، جاي معاك الكلام سِكة ؟؟
أبتسم “إسماعيل” وهو يؤكد ماهتف به الأخر:
_جاي معايا سِكة، متزعلش من أخوك بقى.
رد مُعلقًا يتكيء على أحرفه:
_ابــنـي، مش هزعل من ابني.
تأثر “إسماعيل” من كلمته تلك التي حقًا يعرف شعورها الأصلي معه هو، لذا اقترب منه يحتضنه وهو يهتف بصوتٍ مختنقٍ من فرط التأثر:
_ربنا يخليك ليا وميحرمنيش منك تاني، أنا كنت يتيم من غيرك، والله ما بكيفي ازعلك بس أنا عاوز ننسى اللي فات كأنه محصلش.
انتفضت “سمارة” تقول بلهفةٍ امتزجت بعفويتها:
_قوله يا أخويا بالله عليك، ويركز معايا شوية كدا أنا خللت وأنا مستنياه، وكنت هستنى ١٥ سنة بحالهم، بس ربك رحيم بيا وخرجهولي بقى، يبقى يفوقلي كدا ويعوضني.
ضحك “إسماعيل” رغمًا عنه بيأسٍ من طريقتها، فيما حدجها “إيهاب” مُحذرًا لها بنظراته، فحركت كفيها معًا وهي تتشدق بنذقٍ:
_يوه ؟؟ هو أنا قولت حاجة غلط ؟؟ إيه المصيبة دي.
أشار “إيهاب” لشقيقه يجلس معهما وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_تعالى أقعد أشرب معايا شاي على الفحم، قرب أهو.
جلس “إسماعيل” على مقربةٍ منهما فاتبعته “سمارة” تُمعن كامل نظرها له حتى هتفت فجأةً دون أن تُكبد لنفسها عناء التحكم في فضولها:
_متأخذنيش بقى يا “إسماعيل” أنا من حقي أعرف فيك إيه، أنا مش غريبة هنا، أنا مرات أخوك يعني في مقام أختك، عاوزة أفهم حكايتكم كلها.
زفر “إيهاب” بيأسٍ فيما ابتسم “إسماعيل” بزاوية فمه وأخرج سيجارةً من علبته وقام باشعالها، فلاحظت هي تجاهله لها، لذا هتفت من جديد بنبرةٍ أعلى:
_يوه !! هو أنا بكلم نفسي يا جدع أنتَ وهو ؟؟ احكولي أنا مش فاهمة حاجة وهموت لو معرفتش، فهموني الله يرضى عنكم.
تحدث “إيهاب” بنفاذ صبرٍ لأخيه:
_احكي ياعم دي هتاكل دماغي ومش هتسكت غير لما تعرف كل حاجة عن اللي حصل، ممكن منامش بسببها.
أخرج “إسماعيل” زفيرًا قويًا ثم نظر أمامه يَسرد عليها الماضي الذي وُلد برحمه ليعيش أكبد انواع العذاب النفسي والجسدي قائلًا:
_أنا و “إيهاب” ولاد “أشرف الموجي” راجل بقى الله يسامحه كان بتاع كيفه وجيبه مع بعض، بدأ شغله زمان واحنا عيال صغيرة سمسار عقارات فيها أثار، وبدأ يبقى وسيط بين الناس صحاب البيوت اللي فيها أثار وبين التجار اللي عاملين نفسهم مُشتريين، لما بدأوا يمشوا أكتر في الحكاية لقوا إن فيه مقابر عليها رصد، سواء رصد بالجن، أو رصد بحيوانات زي التعابين والأحناش كدا.
اتسعت عيناها بهلعٍ وتمسكت في ذراع “إيهاب” تزدرد لُعابها بخوفٍ فأضاف هو مُتابعًا:
_فيه شيخ منهم وصل مصر سِيطه كان مسمع، ساعتها طلب عيل صغير يقدر يسخر عليه جن ينزله المقابر الاثرية تحت البيوت، أبويا حسبها صح، قالك بس دا كنز، راح مسلمني للشيخ وساعتها عرف يسخرني صح، ونزلت أول مرة وأنا عندي ٦ سنين، بعدها بقى بقيت اتأجر بالساعة زي العجلة كدا، كل واحد عاوز يعرف ياخدني وينزلني تحت الأرض ويجيب شيخ يجهزني، أطلع اقولهم على اللي شوفته والطريق تحت عامل إزاي، بدأ سيطي يعلىٰ، والناس كلها تقول أني ملبوس والعيال تخاف مني، وابويا كان بيقبض من ورايا كتير وبرضه مشوفتش حاجة منه ولا حتى اتهنيت.
مصمصت شفتيها بشفقةٍ وكأنها تُرثي حال ذلك المسكين، فسحب نفسًا عميقًا داخل رئتيه ثم أضاف من جديد بنبرةٍ مُهتزة بعدما جالت بخاطره تلك الذكريات المُشينة لطفولته:
_بعدها بقى بدأ الموضوع يزيد في الخطورة وبقى جن وتعابين مع بعض، أخر مرة فيهم واحد كان نصاب معتمد عليا أنا من غير ما يجهزني أني أنزل تحت الأرض، ساعتها كانت أول مرة اخاف وأول مرة أحس بكل اللي حواليا، أبويا حدفني في البيت غصب عني، و “إيهاب” متكتف علشان ميلحقنيش، اليوم دا أنا كنت سامع و واعي بكل اللي حواليا، لحد ما الشيخ سابني وطلع يجري و التعبان وقف في وشي، من الخوف معرفتش اتصرف والأرض مليانة حشرات غريبة، لحد ما صرخت باسم “إيهاب” كلهم طلعوا يجروا وساعتها هو لحقني، صحيت بعدها لقيت نفسي في بيت الحج هنا.
زادت شفقتها عليه خاصةً حينما ظهر الأسى في نبرة صوته مُهتزة الوتيرة، فيما تنهد هو بعمقٍ ثم أضاف بنبرةٍ رخيمة:
_بس خلاص يعني الحمد لله كله عدى بفضل ربنا وبعدها الحج نعيم، لولاه كان زمانا يا مقتولين زي أشرف يا محبوسين في قضية زي اللي كانوا معاه.
اندفعت بدون تعقل تسأله بعفويةٍ نتجت عن الجلبة التي أحدثها في عقلها بحديثه:
_ متأخذنيش يا أخويا، هو عدم المؤاخذة يعني لو خلفت عيالك هيورثوا اللي عندك دا ؟؟.
نظر لها كلاهما بدهشةٍ غلفتها البلاهة، فأضافت هي بتفسيرٍ بعدما حركت بؤبؤيها نحوهما، فاستطردت:
_اصل يعني عدم المؤاخذة ممكن أخلف عيال يلعبوا مع عيالك مش ناقصة لَبس هي يا أخويا، الواحد جِتته ملبشة خِلقة الله لا يسيئك.
لم يستطع “إيهاب” التحكم في ضحكاته فانفجر ضاحكًا على تفكيرها وطريقتها في التعبير عما تفكر وتشعر به، فيما ضرب “إسماعيل” كفيه ببعضهما ينطق بضجرٍ مما تفوهت به:
_ ياستي يورثوا إيه ؟؟! هو أنا بقولك عندي السكر ؟؟ ما تشوف جمعتك يا أخينا !! مش حِمل جلطة أنا بدري بدري.
ضمها “إيهاب” أسفل ذراعه يهمس لها بنبرةٍ بها أثر ضحكاته التي لازال أثرها عالقًا بملامحه:
_اسكتي وأنا هفهمك كل حاجة بس جوة، وركزي في حوار عيالك اللي خايفة عليهم دا، عجبني.
تصنعت اللامبالاة حتى تهرب من خجلها فيما ربت هو على كتفها يدعم قلقها وخجلها بتواجده بجوارها وكأنه يثبت لها أنه الوحيد القادر أن يحميها ويحافظ عليها.
_________________________
في الأعلى في غرفة “مُـحي” جلس بها بعدما فُرض عليه حصارٌ غير صريحٍ الهوية، زفر بقوةٍ فوجد أحدهم يطرق باب غرفته فرفع صوته من الداخل صائحًا:
_أدخل…
ترك عبارته مفتوحة دون أن يعلم هوية الطارق فدلف “نَـعيم” له بهيبةٍ مرفوع الرأسِ يستند على عصاه الخشبية، فانتفض “مُـحي” مُعتدلًا في جلسته ليقترب منه والده يسأله بنبرةٍ هادئة:
_عامل إيه ؟؟ أتمنى تكون القعدة هنا عجباك.
حرك رأسه موافقًا فتنهد “نَـعيم” ثم اقترب منه يجلس بجواره على طرف الفراش ثم رفع رأسه يواجهه وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_شوف يابني أنا راجل دوغري طول عمري محبش اللوع، بحب الصراحة، حالك من ساعة ما جيت هنا مش عاجبني، بس أنا مكبر وبقول إنك بعدت عني ياما، لكن وضعك كدا غلط، ثانيًا طريقتك مع الشباب مش عجباني.
هَمَّ “مُـحي” بالتحدث فقاطعه والده بقوله بنبرةٍ جامدة:
_استناني أخلص كلامي، معاملتك ليهم وحشة، ودول هنا زيهم زيي ومش ببالغ، أنا خليت أكبر معلم فيكي يا جيزة يقف احترام ليهم لما يظهروا قصاده، أوعى تكون فاكر إن اللي أنا فيه دا بسببي أنا ؟؟ لأ دا بفضلهم هنا، ربنا جعلهم سبب يديروا أملاكي علشان تبقى كدا زي ما أنتَ شايف، لولاهم كان زماني خسران كل حاجة، بس هما مشيوا مع الزمن وكل ما حاجة تتطور هما يتطورا معاها، لما عمك خطف أخوك الكبير وعمل اللي عمله، أنا حزنت واتكسرت، بس رجعت عرفت أنه نصيب ومكتوب، علشان كدا حمدت ربنا فعوضني بيك، أمك ماتت بعد الولادة بمفيش، ساعتها دلعتك بزيادة بس ماخدتش بالي إنك زي عمك غاوي سهر وشرب وبنات، كنت خيل أصيل، خيبت نفسك لما عاشرت الهجين، علشان كدا حافظ على نفسك لأن الخيل اللي بيتعوج عليا ديته طلقة، فاهم ؟؟.
كان حديثه مُنذرًا بكل شرٍ لما هو قادم وكأنه يحذره من التهور في التعامل، لذا حرك “مُـحي” رأسه موافقًا بخوفٍ من طريقة والده الذي ربت على كتفه ثم التفت يغادر الغرفة وقبل أن يفتح الباب التفت برأسه ينطق بحبٍ خالصٍ:
_على فكرة يا زفت أنتَ، كنت واحشني ووحشني ريحتك في البيت.
خرج من الغرفة على الفور قبل أن تتلاشى صرامته ويحل محلها الحب وهذا ما يرفضه هو بينما الأخر لاحت على شفتيه ابتسامة طفيفة وأدها مُسرعًا ثم عاد للفراش من جديد يضع كلا ذراعيه خلف عنقه يحاول الخروج من حُفرة مراهقته تلك.
_________________________
تأخر الوقت كثيرًا على “يوسف” وهو يدور بدراجته في شوارع منطقة وسط البلد حتى وقف يرتاح قليلًا ثم أخرج هاتفه يتفحصه لعل أحدهم ربما يكون هاتفه لأمرٍ ما، فتح تطبيق “تويتر” بعدما جلس في واحدةٍ من المقاهي القديمة، ثم التقط صورة لدراجته الهوائية مع منطقته المفضلة ثم قام بتنزيلها وكتب فوقها شرحًا توضيحيًا:
_أهيه دي عَجلة مبتفهمش قادرة تصلح اللي البشر كسروه، وهما بشر للأسف بعقل بيكسروا اللي كان متصلح.
قام بإرسال الصورة والشرح التوضيحي معها فوجد أحد أصدقائه على نفس التطبيق باسم “وليد الرشيد” يكتب له:
_فكك ياض مجربتش طبق المكرونة بحتة بانية.
ضحك “يوسف” فأرسل له بسخريةٍ:
_ورق العنب يكسب يا صاحبي.
لاحظ حساب “شهد” الشخصي على نفس التطبيق بعدما كتبت تغريدة اليوم بمناسبة يوم مولدها:
_ سألوني الناس عنك يا حبيبي كتبوا المكاتيب وأخدها الهوا، بيعز عليِّ غني يا حبيبي لأول مرة ما بنكون سوا.
“فيروز”
تلك هي أغنيته المُفضلة لديه ومطربته المُفضلة أيضًا أبتسم بسخريةٍ حينما فهم مقصدها ثم أضاف تلك الجملة التي سبق وقالها في مكتب “عاصم” يكبتها على نفس الموقع:
_ثلاثة لا تلفت إليهم مهما عَلا صوتهم؛ الكلب إذا نبح، الحمار إذا نهق، السفيه إذا تكلم.
بدا وكأنه يرسل لها رسالةً يعلم أنها ستراها لذلك تعمد كتابتها لتفهم إنها بالنسبة لديه الثلاثة مع بعضهم، لم تهمه لمجرد شخصها، لكن جرحها له هو ما ألمه بشدة، لم تؤلمه الصفعة بقدر ما ألمه رؤية صاحب الكف نفسه.
تحرك بدراجته بعدما ارتاح قليلًا ليعود نحو البيت من جديد فتوقف أمام البيت محل وقوف سيارة زوجة عمه، فصدح صوت هاتفه عاليًا برقم “نَـعيم” يطمئن عليه فأخرج الهاتف و جاوب على المكالمة ولازال يعتلي الدراجة وهو يتحدث في الهاتف.
توقفت السيارات خلف وقوفه وعمه يضغط على بوق السيارة لعله يتحرك من محله لكنه لم ينتبه لهم، فنزلت “مادلين” من جواره ثم صاحت بصوتٍ عالٍ لعله ينتبه لها:
_أنتَ يابني أدم !! مش سامع ؟؟
زفر بعمقٍ ثم أغلق الهاتف والتفت ينطق بتبجحٍ:
_سامع وعامل نفسي مش واخد بالي.
اقتربت منه تقف مقابلةً له وهي تقول بنبرةٍ جامدة:
_مش وقت استفزازك دا !! اتحرك خلينا نركن العربية.
تنفس بعمقٍ ثم تحرك يترك لهم المساحة ليصفون السيارة فيما انتظر هو خروجهم من السيارات بعدما صفوهم خلف بعضهم، فنطقت زوجة عمه بغيظٍ منه:
_أنا في حياتي دي كلها مشوفتش حد في برودك واستفزازك.
ابتسم ببرودٍ آثار حفيظتها وهو يُعقب بنبرةٍ آثارت استفزازها أكثر:
_وماله، طب أفرحي أهو خليتك تشوفي، دا إنجاز ليا.
بدلًا من أن يثور ويغتاظ منها رد عليها ببرودٍ ثلجي جعلها تلتفت لتهرب من استفزازه لها نحو بوابة البيت والبقية خلفها بينما وقفت “شهد” أمامه تطالعه بأملٍ وأده هو حينما حمل دراجته بيديه ينتظر دخولهم ثم دلف هو بمقدمتهم وكأن ليس لوجودهم أثرًا بالبيت.
اقترب “عاصم” من “سامي” يسأله بسخطٍ:
_هو هيقعد هنا !! احنا ناقصين ؟؟
تدخل “نادر” ينطق بلامبالاةٍ:
_ما تفككوا منه ؟؟ بجد ليه مركزين معاه ؟!
رد عليه “سامي” بتهكمٍ يستخف بحديث ابنه:
_دا من يومنا يا حبيبي، الحرب بينا والعة وبسبب غبائك بقى هو جاي يحطنا تحت عينيه، أنا عن نفسي مش هعمل أي حاجة خلاص، لحد ميعاد شغله وسفره.
نظر “عاصم” أمامه بنظراتٍ ثاقبة يحاول ربط الأمور ببعضها فإذا فاقت والدته وحدثته عما سبق من الطبيعي أن تُهدم تلك الحياة فوق رؤوسهم.
_______________________
في صبيحة اليوم الموالي لذلك كان “عبدالقادر” في محله يتابع العمل حتى دلف له أحد الشباب الغُرباء عن سكان المنطقةِ يهتف بنبرةٍ جامدة:
_مساء الخير، حضرتك الحج “عبدالقادر” ؟؟
رفع رأسه له وحركها مومئًا بالايجاب، فاقترب من الشاب ينطق بطريقةٍ تمثيلية وكأنه المظلوم في روايةٍ كتبها أحد الظالمين ليروي معاناته ملئًا:
_طب أنا جاي أشتكيلك من ابنك يا حج.
انتبه له “عبدالقادر” وأرهف حواسه بكل أذانٍ صاغية وهو ينطق بثباتٍ:
_اتفضل بابني خير ؟؟ ابني مين ؟؟
اقترب الشاب يقف أمام مكتبه وهو يقول بثباتٍ:
_ابنك “أيوب” افترى عليا وجه على حقي، وأنا سألت عنك قبل ما أجيلك هنا وقالولي إنك عمرك ما ترد حد مكسور الخاطر ولا خايب الرجا.
وقف “عبدالقادر” أمامه يطالعه بتفحصٍ ثم نطق بثباتٍ:
_طب الكلام مينفعش هنا، تعالى معايا علشان نعرف نتفاهم.
تحرك “عبدالقادر” والأخر خلفه يسير مُذعنًا له بعدما صدق أنه استطاع رسم الجدية واقنعه بشخصيته تلك، فيما تحرك الأخر بثباتٍ وخطى واثقة إلى حيث بيته ثم توجه به نحو المندرةِ يجلس معه وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_ها احكيلي بقى “أيوب” عمل إيه ؟؟
______________________
في الأعلى جلس “أيوب” في غرفته وخاصةً في ذلك الجزء الكبير وليس الأخر الذي يُخرج به موهبته وقد شرد في لقاءهما بالأمس، و لم ينكر فرحته ببراءتها وأنها لم تجمعها علاقة بذلك البغيض، لذا وجد شفتيه تنفلجان بابتسامةٍ صافية حينما لاح طيف ملامحها الهادئة بعقله، وخصوصًا وهي تبتسم بتوترٍ.
تنهد بعمقٍ ثم أخرج هاتفه يتابع صفحته الاجتماعية “غـوث” فشعر بالضيق حينما وجد نفسه أهملها لذلك بدأ الكتابة فيها بالآتي:
_ إنّمَا الأَعْمَالُ بالنِّيّاتِ
قال رَسُولَ اللهِ ﷺ : إنّمَا الأَعْمَالُ بالنِّيّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصيبُهَا، أَوْ امْرَأَةٍ يَنْكَحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلى مَا هَاجَرَ إِلَيْه [ متفق عليه ]
● فمَنْ قصَدَ بعَملِه مَنفعةً دُنيويَّةً لم يَنلْ إلَّا تلكَ المَنفعةَ ولو كان عِبادةً، فَلا ثَوابَ له عليها
● ومَن قصَدَ بعَملِه التَّقرُّبَ إلى اللهِ تعالَى وابتغاءَ مَرضاتِه، نالَ مِن عَملِه المَثوبةَ والأجرَ ولو كان عمَلًا عاديًّا، كالأكلِ والشُّربِ
أنهى كتابة ذلك المنشور ثم أضاف من جديد مُفسرًا باللغةِ الدارجة لعل الكلام يصل للجميع إذا وجد أحدهم صعوبةً في فهم المنشور:
_تعالوا نفكر كدا لو كل حاجة بنعملها قصدنا منها نية الخير، هيكون إيه العمل ؟؟ يعني مثلًا اللي بيذاكر، ممكن يكون بيعمل كدا علشان يعدي الامتحان وخلاص، بس ممكن ياخد نية تانية وهي إن بيطلب العلم اللي ربنا عظم طالبيه، ممكن ياخد نية أنه يجتهد ويوصل للي هو عاوزه وينفع الأمة سواء كان دكتور أو مدرس أو أيًا كانت مهنته.
_ممكن كمان الناس اللي في البيوت ومسئولة عن البيوت زي النساء والفتيات ممكن يكون ليهم حسنات كتير بالنية اللي هياخدوها في العمل دا، زي إن المكان يكون نضيف لأن ربنا أمرنا بالنظافة و التطهر، وإن المكان يكون مناسب لأداء الفروض و الصلوات، وإن دا من باب البر لأهل الدار و الطاعة للوالدين.
_حتى كوباية المياه ممكن تاخد فيها خير، وهي إنك تحافظ على عمرك وصحتك علشان تعبد ربنا بجسد سليم مُعافى من الأمراض، وإنك تقدر تواظب على العبادات، حتى النوم تاخد فيه نية خير، وهي إنك تحافظ على جسمك وصحتك وتبدأ يوم جديد بطاعات أكتر ونوايا خير أكتر، خليك دايمًا فاكر إن نيتك لازم تكون خير….ومتنساش تدعي لنفسك و للغير.
_اللهم اهدنا واهدى بنا واجعلنا سببًا لمن اهتدى
_اللهم صلَّ وسلم على سيدنا مُحمد ﷺ
اختتم منشوره كعادته بالصلاة على الحبيب ثم ضغط على أيقونة النشر وهو يقول بنبرةٍ خافتة:
_اللهم أغفرلي مالا يعلمون واجعلني خيرًا مما يظنون.
وصله صوت طرقاتٍ على باب غرفته يتبعها صوت “وداد” تقول بنبرةٍ هادئة:
“الحج عاوزك تحت يا أستاذ “أيوب”.
تنهد بعمقٍ ثم نطق بنبرةٍ هادئة لكنها مرتفعة قليلًا:
_حاضر يا ست “وداد” جاي وراكي.
بعد مرور دقائق قليلة نزل “أيوب” لوالده فتفاجأ بـ “علاء” يجلس مع والده، لكنه أخفى دهشته تلك وهو يردد بأدبٍ:
_السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، اؤمر يا حج.
رد والده التحية ثم نطق مُستفسرًا:
_تعالى يا “أيوب” الأستاذ جاي بيشتكي منك انك اتهجمت عليه وخدت من موبايله، أنا سمعت منه وعاوز اسمع منك.
جلس “أيوب” مقابلًا له يفرد مُنكبيه مرفوع الرأسِ وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_اللي حصل إن فيه آنسة محترمة قالتلي إن الأستاذ دا بيتعرض ليها وإنها مش قادرة تقف قصاده، علشان كدا طلبت مني أني اقفله، الفكرة إن الاستاذ المحترم عاوز يتبلى على البنت بكلام و مكالمات غلط، نصحته مرضاش يسمعني، نصحته تاني مهتمش، سحبت منه الموبايل ومقفول معايا مفتحتوش ولا جيت جنبه، لو هترضى بدا يا حج قولي، وأنا واثق فيك.
سأله والده بنظراتٍ مُتفرسة وهو يُدقق النظر في ملامحه:
_مين البنت دي ؟؟ وجاتلك فين ؟؟
تنهد “أيوب” ثم نطق بثباتٍ:
_آنسة معرفة، جاتلي شارع المعز.
نظر له “علاء” بخبثٍ ثم قال مُدعيًا البراءة:
_يا حج أنا مش فاهم بيتدخل بصفته إيه ؟؟.
حدجه “عبدالقادر” مُحذرًا من التكملة فسكت الأخر مُتقهقرًا عن الحديث، فيما نطق “عبدالقادر” يأمر ابنه بقوله:
_اطلع يا “أيوب” هات التليفون.
نظر له “أيوب” بتعجبٍ، فكرر الأخر طلبه بنبرةٍ أعلى واضاف:
_زي ما سمعت وكلم “بيشوي” قوله يجيلي.
تحرك “أيوب” من أمام والده بعدما فهم عليه، بينما “علاء” ابتسم بسماجةٍ وهو يقول:
_أنا قولت برضه حضرتك مش هتكسفني.
تجاهله “عبدالقادر” ناظرًا أمامه فتلاشت بسمة الأخر واعتدل في جلسته بخجلٍ من احراجه بتلك الطريقة.
____________________
في حديقة البيت جلست “آيات” بجوار “مهرائيل” تتحدثان في شتى الأمور المختلفة حتى نطقت “آيات” بحماسٍ:
_بس بصراحة أنا فرحت في أبوكي بعد موقف “بيشوي”، طالما هو كلمه والناس كلها عارفة دا عامل حوار ليه ؟؟ ما يوافق وخلاص عليه.
تنهدت “مهرائيل” مطولًا ثم نطقت بنبرةٍ مستاءة:
_أنا قلبي وقع في رجلي لما عرفت أنه جايب عريس بجد، خوفت الموضوع يتم وبصراحة أنا مش مقتنعة بحد غير”بيشوي”.
ابتسمت لها “آيات” ثم هتفت تغير مجرى الحديث:
_بقولك إيه روحي هاتي العصير من المطبخ متنكديش علينا، يلا وأبوكي دا أخره قعدة مع أبويا وكل حاجة هتبقى تمام.
حركت رأسها موافقةً ثم تحركت من جوارها بحماسٍ فيما نظرت “آيات” في أثرها مُبتسمة حتى أمسكت هاتفها تجاوب على استفسارات النساء عبر الصفحة الخاصة بشقيقها.
خرجت “مهرائيل” من الحديقة مرورًا بردهة البيت لتصطدم بجسده في وجهها وقبل أن تنزلق للخلف أمسكها “بيشوي” وهو يقول بلهفةٍ:
_حـــاسبي.
رمشت ببلاهةٍ لا تصدق الموقف وأنها حقًا تقف هكذا وهو يمسكها لذا انتفضت كمن لدغتها الحية، لترتسم بسمة عذبة على ملامحه الرجولية هاتفًا بصوتٍ رخيم:
_وقعتي وأشجار الزيتون اتهزت.
رفعت عينيها نحوه باستفسارٍ لم تنطقه، فأشار برأسه نحو عينيها الخضراوتين ناطقًا بخبثٍ يشاكسها:
_عِـيـونِـك الحِـلوين.
ارتبكت من حضوره كعادتها وصمتت تمامًا، وقبل أن يدلف هو للداخل اوقفته بصوتها المضطرب قائلةً:
_أنا كنت عاوزة أشكرك على موقفك، أنتَ نجدتني.
ابتسم لها وهو يقول بثباتٍ ممتزجٍ بثقته اللامتناهية:
_مش عاوز شكر، دا حقي وبدافع عنه.
ارتفعت ضربات قلبها بعد جملته تلك حينما أشار لها في صراحةٍ متوارية خلف ثقته أنها حقه، فيما ابتسم هو لها ثم تحرك من أمامها، وضعت كفيها على فمها تكتم ضحكة عالية كادت أن تخرج وتفضح أمرها، وحينما مرت الجملة من جديد على سمعها وكأنها أدركتها للتو، قفزت من جديد وهي تقول بحماسٍ خنق صوتها:
_أنا حقه…. Yes، Yes.
دلف “بيشوي” المندرة ثم نطق بعدما اعتاد منهم:
_السلام عليكم يا حج، خير.
أشار له بالجلوس فيما اقترب “أيوب” من أبيه يعطيه الهاتف فارتسم التشفي على وجه “علاء” شامتًا بالاخر وكأنهما طالبان في مدرسةٍ وكلٌ منهما يقدم شكواه ضد الأخر، أمسك “عبدالقادر” الهاتف ينطق بتقريرٍ:
_أنتَ جيت وأنا سمعتك، وهو اتكلم وأنا سمعته، ابني مش هجام علشان يثبتك في نص الليالي ومش حرامي علشان يسرقك، بس أنا هعتبرك متعرفهوش علشان كدا قولت كلام خايب زيك، إنما بقى الموضوع التاني، فقراري هتشوفه دلوقتي…..”بــيـشوي”
التفت له الأخر يقول بلهفةٍ:
_تحت أمرك يا حج.
مد يده له بالهاتف وهو يقول بنبرةٍ جامدة:
_شوف شغلك.
اقترب “بيشوي” يأخذ الهاتف من “عبدالقادر” ثم وقف أمام “علاء” يضع الهاتف نصب عينيه حتى فُتح والآخر يطالعه بتعجبٍ لم يدرك ما يصير حوله، فوقف “بيشوي” يتصفح معرض الصور لينطق بتهكمٍ:
_التليفون كله صور بنات عريانة ومسخرة وقلة أدب، حاجة تقرف، بصراحة عاوز الحرق هو والتليفون بتاعه كمان.
ابتسم “عبدالقادر” ثم نطق بشرٍ:
_مستني إيه ؟؟ شوف شغلك، مش دي دراستك؟؟
ابتسم “بيشوي” ثم أخرج هاتفه من جيبه ليفعل ما يحلو له ، فانتفض “علاء” يتحدث بنبرةٍ أقرب للصراخ:
_أنـــتَ يـــا عــم !! بتعمل إيه ؟؟ خلاص يا عمنا !!.
ضرب “عبدالقادر” الأرض بعصاه وهو يهتف بخشونةٍ:
_ولا كلمة !! السُمعة والشرف عندنا مفيهمش تهاون، علشان تفكر مليون مرة قبل ما تأذي أي بنت، فاكرها زريبة ؟! طب يا أخي خاف من ربنا، خاف على حُرمة بيتك، إنما أنتَ ربنا ياخد أشكالك بس مش قبل ما يتعظوا.
أبتسم “أيوب” بتشفٍ خاصةً وهو يجلس بجوار “بيشوي” الذي قام بمسح كل الأشياء من هاتف الأخر ثم قام بتوصيل الجهازين ببعضهما، فسأله “عبدالقادر” باهتمامٍ جلي:
_ها !! بتعمل إيه ؟؟
فسر “بيشوي” عمله بقوله:
_بظبطه علشان لو عقله وزه وفكر يروح يرجع الحاجة يلاقيها مقفولة ضَبة ومفتاح، مش مضمون دا برضه يا حج، الصنف العِرة دا ورد عليا كتير.
شعر “علاء” بالإهانة حتى فارت الدماء إلى عروقه واحتقنت ملامحه، خاصةً وهو يرى نفسه كما الكُرة كلٍ منهم يُركلها للأخر يتسلىٰ بها، انتظر بعد الدقائق شعر بها وكأن روحه تنسحب، وبعدها ألقى “بيشوي” الهاتف عليه وهو يقول بمرحٍ خبيث:
_يلا يا حمام طير.
قبض على الهاتف ثم وقف وهو يهدر من بين أسنانه:
_ماشي….تُشكر أوي يا حج.
تحرك من المكان فنظر “عبدالقادر” في أثره بغضبٍ ثم نطق بقلة حيلة:
_لا حول ولا قوة إلا بالله، ربنا يهدي.
خرج “علاء” من بيت العطار كما المضروب على وجهه بصفعةٍ أهانت كرامته أمام الجميع، وكل ذلك بسبب فتاةٍ !! لذا قرر الانتقام لحقه فبدل وجهته إلى أخرى يعلمها هو جيدًا فقصدها متوجهًا إلى هناك بشرٍ تفاقم داخل صدره منها هي تحديدًا “قمر” لذلك أصر على اتخاذ تلك الخطوة.
وصل إلى ورشة الحدادة الخاصة بـ عمل “فضل”، فوجده يقف أمام إحدى البوابات الحديدية يقوم بطلاء أجزائها، حينها قال بنبرةٍ قصدها جامدة:
_مساء الخير يا عم فضل ؟؟
التفت له “فضل” بعدما علم صوته في الحال، وما إن ابصره أمامه سأله بسخطٍ جمَّ ازداد برؤيته أمامه:
_أنتَ بتعمل إيه هنا ؟؟ خير ؟؟
رد عليه مُدعيًا الانكسار:
_أنا جاي أشهدك يا أستاذ “فضل” ينفع بنت أختك المحترمة اللي اتكلمت في حقي وعلمت عليا لعبة، تبعتلي الجدع اللي هي ماشية معاه يهددني ؟؟
اتسعت عيناه بدهشةٍ لا يصدق ما يسمعه، فأمسك تلابيبه يهزه بعنفٍ وهدر بصوتٍ عالٍ:
_أنتَ بتقول إيه مجنون أنتَ !! باين عليك خرفان ولا شارب حاجة.
بنفس الإدعاء الكاذب هتف بصوتٍ منكسر:
_الله يسامحك يا عمي، لو مش صدقني أنا هقولك على اسمه، “أيوب عبدالقادر العطار” بالإمارة الآنسة المحترمة بتروحله شارع المعز تقابله هناك.
ارتخت قبضة “فضل” عليه وزاغ بصره فيما لاح على شفتي الأخر ابتسامة خبيثة جعلته يشعر بالانتشاء وهو يثأر لحق كرامته المهدورة متوقعًا رد فعل الأخر.
_______________________
جلست تلك الفتاةِ فوق سطح البيت تدندن بصوتها العذب وهي تروي زرعاتها الصغيرة التي ترعاها هي، حتى مرت كتلة هواء دافئة داعبت حجابها المُرتخي فوق خصلاتها السوداء ليعلو صوتها في الغناء بعذوبةٍ:
_غمضت عيوني خوفي للناس يشوفوك مخبا بعيوني، هَبَّ الهوا، بكاني الهوا لأول مرة ما بنكون سوا.
وصلها صوتٌ من خلفها ينطق بتوعدٍ:
_ما احنا كنا هنكون سوا وأنتِ اللي اتمنعتي، اشربي بقى.
التفتت تلك الفتاة بعينين مُتسعتين بعدما وصلها صوته المقزز الذي يجعلها تشعر بالاشمئزاز، بينما هو اقترب يهدر من بين أسنانه وهو يقترب منها تزامنًا مع تراجعها للخلف:
_خلي “عبدالقادر العطار” ينفعك يا حلوة، بقى بتهدديني ؟؟ طب أنا هنفذ وعدي ومية النار هتغرق وشك الحلو دا، ولو على عيال “عبدالقادر” خليهم ينفعوكي بقى، واعرفي إن “سعد” ملهوش كبير يوقفه، سلام يا حلوة.
لكزها في كتفها وهي تقف مستمرةً أمامه حتى رحل هو فارتمت تلك الفتاة تضم ركتبيها تجلس القرفصاء وهي تبكي بخوفٍ خاصةً حينما يظهر أمامها ذلك الوغد
________________________
جلس “يوسف” في غرفته مُتذمرًا يشعر بالضيق بسبب جلوسه بتلك الطريقة فقام بفتح التلفاز وأشعل سيجارةً فوصله طرقاتٌ على باب غرفته فزفر بقوةٍ ثم توجه نحو الباب يفتحه فوجد “مادلين” أمامه رفع حاجبه لها وهو يقول بتهكمٍ:
_خير يا مرات عمي ؟؟ جاية لحد هنا ليه؟؟
ابتسمت بخبثٍ وهي تقول:
_محدش هنا، بلاش حوار مرات عمي دا.
ضحك رغمًا عنه وهو يقول بنبرةٍ ضاحكة:
_خير يا “مادلين” ؟؟ عاوزة إيه ؟؟
سألته بتعجبٍ قصدته وهي تتحدث بثقةٍ:
_جرى إيه يا عم ؟؟ نسيت إننا صحاب ؟؟.
حرك رأسه نفيًا ثم قال بنبرةٍ هادئة:
_طب اطلعي فوق السطح وأنا جايلك يا مرات عمي.
تحركت من أمامه فيما نظر في أثرها مُبتسمًا، خاصةً وهي ترسم الدور ببراعةٍ أمام الجميع في كرهها له وماخفى كان أعظم.

يتبع
“الفصل العاشر”
“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“يــا صـبـر أيـوب”
_____________________
أسلمت وجهي للذي أحياني
فهو الذي من طينةٍ سواني
سبحانه الله العظيم لنوره
برسالة القرآن فهو هداني
فلذاته خشع الوجود جميعه
وإليه يرجع سائر الأكوانِ
_محمد عمران
_____________________
فُرضت عليَّ شتىٰ الحروب لكنني مرءٌ كريمٌ اتمتع بحسن الخصالِ، وقفت في ساحة المعارك لأجلكِ برغم كوني زاهدًا عفيفًا عن النزالِ، فلو كان الزمان صالحًا لأتيت حيث مكانكِ وأنفقتُ لأجلكِ دمي ومالي، لكن السُـبل بيننا تفرقت وكأن لقاءنا بقي فقط في خيالي، فـ آهِ لو طاب لنا الزمانِ ورفقت الدنيا بقلبي وحالي.
_توجه “يوسف” لسطح البيت المزود بالزروع والورود فوجدها تجلس في انتظاره على الأريكة المتوسطة للسطح وما إن رأته يقترب منها ابتسمت له ثم نطقت بفخرٍ:
_جيبتلك عصير أنا اللي عملاه بنفسي، أنا كدا بضحي رسمي علشانك أهو.
ابتسم لها ثم سحب مقعدًا يجلس عليه مقابلًا لها وهو يسألها بثباتٍ:
_أنتِ نسيتي أني مباكلش ولا أشرب هنا ؟؟
رد عليه بتأكيدٍ تُصحح له الأمور:
_بس من أيدهم هما مش أيدي أنا، متكبرش الموضوع.
مال بجسده للأمام يُشبك كفيه ببعضهما وهو يقول:
_لأ اكبره، لما يذلوني على حقي وبعدها حد منهم يقولي أنا صرفت عليك ولا اديتك حتى تعريفة، دي ممكن تقتلني، وأنا عِزة نفسي عندي بالدنيا كلها، بعدين من ساعة حوار السم بتاع الأكل دا وخلاص أنا بخاف.
لفت نظرها بحديثه فسألته باهتمامٍ:
_سم إيه ؟؟ مش ساعتها كنت صغير وقالوا إن دا مبيد الحشرات وصل لأكلك غصب عنهم؟؟ ساعتها “فيصل” قال كدا أنهم كانوا راشين اليوم دا، دا اللي عرفته يعني.
ابتسم بسخريةٍ وهو يُصحح ما تفوهت به:
_هما قالولوا يقول كدا، إنما الحقيقة غير كدا، “سامي” الكلب هو اللي حطهولي في الأكل بالقصد، بس خليه أنا بفوقله أهو.
حركت رأسها موافقةً فتبدلت ملامحه إلى الخبث وهو يسألها:
_بس إيه قلبك مات خلاص؟؟ بقيتي بتكلميني هنا عادي؟؟
حركت كتفيها وهي تقول بتعالٍ:
_عادي، إبن أخو جوزي وبتكلم معاه، فيها حاجة؟؟
حرك رأسه نفيًا وهو يوأد ضحكته وقد ظهرت التسلية على ملامحه لتضيف هي موضحةً:
_أنا لما جيت هنا من خمس سنين، كنت مستغربة معاملتهم ليك، وبصراحة كنت بكرهك زيي زيهم، بس لما ساعدتني في مشكلتي، عرفت إنك أصيل، وساعتها قولتلي أنا معنديش مشكلة معاكي، مشكلتي مع جوزك، ومش هاخد حقي من ست، أنا ساعتها احترمتك أوي وبقيت عاوزة أساعدك خصوصًا إنك مقولتش لحد على الموضوع دا، بعدها اللي حصل معاك و “شهد” وموضوعكم اللي باظ حسسني إنك اتظلمت أكتر، علشان كدا قولتهالك صراحةً خلينا صحاب أحسن، وأضمن ولائي ليك هنا، وأنا لا يمكن أبيعك أبدًا، علشان دا مش طبعي.
حرك رأسه موافقًا وهو يرى الصدق مُتقطرًا من حروفها، ثم أخرج سيجارةً يُشعلها وسألها باهتمامٍ:
_المهم عاملة إيه؟؟ لسه حد منهم بيضايقك؟؟
حركت رأسها نفيًا ثم جاوبته مبتسمة:
_لأ خلاص، بعد اللي عملته معاهم ساعتها و وقوفك ليهم، نسيوا كل حاجة، بس دا حقي والله ودي شقتي، هي أختي بس اللي مفيش في قلبها رحمة علشان كدا كانت عاوزة ترميني في الشارع عيني عينك كدا.
اعتدل واقفًا وهو يقول بسخريةٍ:
_الورث والفلوس جننوا الناس، بقى كل غرضهم يعضوا في بعض علشان الورث، أختك دي جبروت هي وجوزها، عارفة إن ملكيش مكان تاني وإن دا حقك وعاوزة تطردك منه، تقولك ماهي متجوزة.
قلد طريفة شقيقتها في الحديث بطريقةٍ مائعة جعلتها تضحك بصوتٍ عالٍ فيما استمر هو مقلدًا بقوله:
_وترجع تتمسكن وتقولك هو أنا يعني همنعها من بيتها ؟؟ ليه قلبي جاحد ؟؟ دي قلبها حجر مش عارف عيشتي معاها ازاي دي.؟؟.
تنهدت مُطولًا بحزنٍ ثم أضافت مُستطردة:
_زي ما أنتَ استحملت وعيشت معاهم هنا، مكانش ليا مكان تاني أروحه غير أني استحمل عمايلها هي وجوزها، بس لما عرفت أنها هتبيع البيت اللي باقيلي اتجننت علشان كدا طلبت المساعدة من أي حد، وعلى حظي كان أنتَ.
حرك رأسه موافقًا ثم اقترب يمسك كوب العصير يرتشف منها مما جعلها تبتسم وهي تسأله ممازحةً له:
_أهو شربت يعني في الأخر ؟؟
رد عليها بلطفٍ مُردفًا:
_أكيد مش هكسفك يعني وأنتِ عملاه علشاني، غير كدا أنا عطشان فعلًا وجعان ونازل آكل برة وألف شوية بالعجلة، عاوزة حاجة ؟؟
حركت رأسها نفيًا ثم نطقت بودٍ:
_لأ، بس خلي بالك من نفسك، وأنا لو عرفت أي حاجة جديدة هعرفك، خصوصًا عن حبيبك ابن الغالية.
كرر موضحًا حديثها بقوله:
_ابن الرقاصة ؟؟ أكيد هيقع تحت أيدي هو وابنه.
بعد حديثه ارتسم الخبث على وجهها وهي تسأله:
_ومرات ابنه ؟؟ هتسيبها !!
انبته لها فزوى ما بين حاجبيه لتضيف هي:
_”شهد” !! مش ناوي تاخد حقك على اللي عملته؟؟
ابتسم بسخريةٍ يستخف من حديثها، ثم أضاف بنبرةٍ رخيمة:
_هي مش في دماغي أصلًا، بعدين كفاية أوي أنها مرات “نادر” أظن دا عقاب كبير أوي مفيش حد يتحمله، بصراحة هي برة حسبتي من كل حاجة، هي افتكرتني فرصة ضايعة، بس نسيت أني فرصة العُمر.
ضحكت “مادلين” وهي تقول بحماسٍ:
_نفسي أشوف شكلها لما تدخل علينا كدا بحبيبتك، أصل بصراحة أنا مبحبهاش، بحسها طماعة وسلبية، مكانتش لايقة عليك خالص.
حرك رأسه موافقًا ثم قال بسخريةٍ:
_متحطيش أمل أوي في موضوع أني أحب تاني دا علشان قفلت الباب دا من زمان، اللي زيي ملهوش في الحوارات دي، بايخة ومملة، مظنش أني اتهطل و أعمل كدا تاني.
وضعت قدمًا فوق الأخرىٰ تنطق بثباتٍ:
_ أبقى فكرني اجيبلك هدية بمناسبة إنك اتهطلت، أصل أنا واثقة إنك مش هتاخد وقت لحد ما تلاقيها، وهتقول “مادلين” قالت.
_هنشوف، بس خليكِ فاكرة أني قاطع مع نفسي عهد، واتقل حاجة بتمر على القلوب هي الوفاء بالعهد.
التفت من أمامها بخطىٰ ثابتة بعدما رد عليها بذلك الحديث فيما نظرت في أثره هي بشفقةٍ حاولت قدر الإمكان التحكم فيها، ثم نطقت بقلة حيلة:
_ربنا يعوضك بالخير.
_________________________
في شقة “غالية” شقيقة “فضل”
دلفها بخطواتٍ واسعة بعد مقابلته مع ذلك الوغد الذي تجرأ على ابنة شقيقته وعلى الرغم من ثقته بها، إلا أن الشيطان عصف بذهنه وخيالاته، وظلت الأسئلة تتراوح في عقله روحةً وجيئة وفي كل مرةٍ يقف عقله عند نقطة جديدة من منعطف أفكاره تجعله عاجزًا عن استكمال التفكير، رفع صوته ما إن وطأت قدماه الشقة باسم “قمر” التي خرجت له من غرفتها بتعجبٍ فوجدته يقترب منها يحاول النطق بثباتٍ قبل أن ينهال لرجولته المهدورة على يد “علاء” بحديثه عن أخلاق “قمر”:
_إيه اللي بينك وبين ابن “عبدالقادر العطار” يخليكي تقابليه وتروحيله شارع المعز ؟؟ ومش عاوز كدب ولف ودوران.
خرجت “غالية” من غرفتها على صوت شقيقها تسأله بقلقٍ من فرط انفعاله الذي بدا واضحًا من خلال تنفسه وصدره الذي يعلو ويهبط وكأنه في سباقٍ، فيما ألجمت الصدمة لسان “قمر” ولم تقو على التحدث فيما اقتربت منه شقيقته تقف حائلًا بينهما وهي تقول:
_حصل إيه بس يا “فضل” ؟؟ خير يا أخويا ؟؟
ضغط على ذراع “قمر” يحركها في يده وهو يقول بنبرةٍ جامدة:
_انطقي متسكتيش كدا !! فيه إيه بينك وبينه و”علاء” عرف منين باللي حصل ؟؟.
نزلت دموعها على الفور وهي تتحدث بنبرةٍ باكية بعدما صدمها الخوف كما الصفعة تنزل على صفحة وجهها بدون إنذار:
_والله مافيه بيني وبينه أي حاجة….ودي كانت أول مرة أروحله فيها لحد هناك والله.
سألها بغير تصديق بعد حديثها الذي أكد ما تفوه به الأخر ولأخر لحظةٍ تمنى أن تكون أوهام:
_يعني روحتيله لحد هناك ؟؟ يعني “علاء” مكدبش !!
دلفت “أسماء” في تلك اللحظة على الأصوات العالية وهي تسأله بلهفةٍ قلقة بعدما رأت وضع الفتاة وهو يمسكها بيده و “غالية” تقف بصدمةٍ لم تبدي أي رد فعل:
_فيه إيه يا “فضل” ؟؟ صوتك عالي ليه وماسك البت كدا ليه ؟؟ سيبها ورد عليا!!
التفت لها يقول منفعلًا بنبرةٍ عالية:
_الهانم راحت شارع المعز لابن “عبدالقادر العطار” ومش بس كدا، لأ كمان خليته يروح يهدد “علاء”، مخبية إيه تاني يا “قمر” ؟؟ ها ؟؟ فيه إيه تاني عنك معرفهوش؟؟
ازداد بكاؤها، فيما اندفعت “أسماء” بجم غضبها وهي تنطق من بين أسنانها:
_لو فاكر إنها عملت حاجة غلط تبقى غلطان، ولو كلام عيل خايب زي دا هيخليك تصدقه وتشك في بنتك اللي مربيها يبقى فوق لنفسك يا “فضل” علشان مش هسحملك.
صرخ في وجهها منفعلًا بغضبٍ عارمٍ سكن ثنايا الروح بأدق ذراتها الصغيرة:
_ أومـــال إيــــه ؟؟ عرف منين الزفت دا !! وهي بنفسها قالت إنها كانت أول مرة تروحله، راحـــت لــيه !!
صرخت “أسماء” هي الأخرى وقد ارتفع صوتها قائلةً:
_أنا اللي خليتها تروحله، ودي كانت أول مرة تتكلم معاه أصلًا ويحصل بينهم كلام في أي موضوع، لو مش مصدق روحله اسأله مش هو برضه ابن صاحبك ؟؟.
تهكمت في حديثها بينما هو ترك “قمر” ثم عاد لباب الشقة باندفاعٍ دون أن يتفوه بكلمةٍ واحدة، فيما ارتمت “قمر” على زوجة خالها تتشبث بها وهي تبكي بصوتٍ عالٍ وعلا صوت نحيبها، لتربت الأخرى عليها حتى تحدثت “غالية” بحيرةٍ وصوتٍ باكٍ:
_أنا مش فاهمة حاجة، “فضل” ماله بـ “قمر” ومين والحج “عبدالقادر” ماله هو وابنه بينا ؟؟ فهموني متسكتوش كدا!!
نظرت لها “أسماء” بقلة حيلة وكأنها غُلبت على أمرها وما في يدها حيلة لذا تبدلت نظرتها إلى الأسىٰ على تلك المسكينة التي عصفت بها الظروف كما تُدهس ورقة شجرة في الخريف الذي وأد روحها الخضراء وأحياها بأخرى ذابلة.
____________________
في منطقة نزلة السمان.
كان الأخير يجلس مرتعدًا على الأرض مُكبل الأطراف بحبالٍ خشنة تحديدًا تلك التي يُعقد بها الخيل القديم، فيما وقف “إيهاب” أمامه يرمقه بسهامٍ قاتلة اخترقت ثباته الكاذب ليزدرد لُعابه بخوفٍ، فجلس “إيهاب” على إحدى رُكبتيه يهدر من بين أسنانه بغضبٍ مشحونٍ بصدره لو أخرجه؛ لمات الأخر قتيلًا في الحال:
_مش هاين عليا أموتك كدا بالساهل، عاوزلك موتة تانية تشفي غليلي منك، عاوزك تتعذب شوية شوية وأنا اتكيف، أربع سنين من عمري ضاعوا بسببك ومرضيتش أجيب سيرتك علشان اعرف أخد حقي منك، كنت هموتها بسببك بايدي دي، ودي أكتر حاجة وجعاني، بس بشوقك يا “فتحي” برضه بقت مراتي في الأخر وكلها شهور وتبقى أم عيالي كمان، واللي عيشت عمرك كله هتموت عليه، أنا خدته بالرضا كمان، قلبها ليا أنا.
ظهر الغِل في نظرات الأخر فرفع قدميه بحركةٍ مُباغتة يضربه دون تحديد وجهةً مُعينة، فصدمه في عضلات صدره و تلطخ قميصه الأبيض بأثر قدميه، وبدلًا من أن يسقط “إيهاب” تماسك محله أكثر ثم سحب الأخر من تلابيبه يقول بنفاذ صبرٍ:
_طب وشرف أمي أنا هوريك مقامك كويس..”دوشــــة” !!
رفع صوته عاليًا ينادي ذاك الصبي الذي يعمل معهم ليركض له بلهفةٍ وهو يقول بأنفاسٍ لاهثة من فرط الحركة:
_اؤمرني يا عمهم.
هدر بصوتٍ عالٍ ولازالت عيناه مُثبتةً على الأخر:
_الواد دا ميتفكش خالص، يفضل مربوط كدا يتفك بس عند الأكل ولو عاوز يدخل يعمل زي الناس يبقى معاه اتنين ملازمينه ويرجعوه تاني ولو كَتر يترمي في أوضة الخيول الجامحة، أهو يعلموا بعض الأدب.
حرك الصبي رأسه موافقًا فيما ابتسم “إيهاب” وهو يقول بخبثٍ:
_لامؤاخذة بقى أنتَ ضيفنا وإكرام الضيف واجب عندنا.
اعتدل “إيهاب” واقفًا فتحدث “فتحي” بحقدٍ وغلٍ أظهرته عيناه:
_طب ولما أنا ضيفك وإكرامي واجب، مكرمتنيش ليه أول مرة جيت هنا أخد حقي فيها ؟؟ خدته أنتَ ليه ؟؟
أخفض “إيهاب” نفسه له يهمس في أذنه بقوله:
_علشان كنت ضيف لئيم، ملكش كرم ضيافة عندنا، جاي تتلاوع عليا، وبعدين ساعتها هي اللي اختارت قدام الكل، وقالت إن الحج “نَـعيم” بنفسه أبوها، يبقى برة عني بقى، من رأيي تلم نفسك قبل ما تتكل وخليك فاكر الجملة دي كويس.
توقف عن الحديث ثم رفع سبابته يشير على رأس الأخر متكئًا على أحرف كلماته:
_فانية وهتروح منها في ثانية.
ازدرد “فتحي” لُعابه فتحرك “إيهاب” للخارج ثم أوصد الباب عليه ورفع صوته من الخارج وهو يقول بنبرةٍ ضاحكة مُتشفيًا به:
_اتحكم عليا بـ 15 سنة سجن، قضيت منهم 4 يبقى فاضل 11 سنة، هتقضيهم أنتَ هنا وكدا نبقى خالصين.
تحرك “إيهاب” للخارج تاركًا الأخر خلفه مُتحسرًا يفكر في الانتقام لنفسه وكرامته المهدورة لكنه ابتسم بخبثٍ حينما تذكر اقتراب الموعد الذي سبق وبلغ به رجاله.
وصل “إيهاب” للفناء المحاوط للبيت بضيقٍ من تلك المقابلة وتعجب من نفسه كيف تحمل كل هذا وتركه دون أن يفتك به ويثأر لنفسه قبلها هي، وعلى ذكرها يبدو أنها أبت الرحيل حتى من ذكرياته فوجدها تقف أمام أحد الخيول الصغيرة أبيض اللون وهي تُربت على خصلاته البيضاء اللامعة فتذكر هيئتها القديمة تحديدًا في ذلك اليوم الذي أعلن نفسه حاميًا لها.
(منذ عدة سنوات)
كانت تقف “سمارة” مع مُهرة صغيرة الحجم بدت لتوها في التحرك بحريةٍ لتعداد على الحركة هنا، وقد لاحظ “إيهاب” اندماجها معها وكأنها طفلة صغيرة تكتشف عالمًا جديدًا عليها كُليًا، وجدها تلمس على خصلات المُهرة وتحدثت بتلقائيةٍ تقول:
_هو بيسرح شعرك دا إزاي ؟؟ شوف الحظوظ !! لاقية اللي يسرحلك وأنا محدش عبرني من يومي وقالي شعرك حلو حتى، دنيا إيه دي ياختي اللي تخليني ابص لمهرة في رزقها؟؟
ابتسم “إيهاب” في الخلف بيأسٍ من طريقتها وحديثها فاقترب منه “إسماعيل” يقول بنبرةٍ خافتة:
_”إيهاب” قرايب “سمارة” برة عند الحج وعاوزين ياخدوها، عمها هنا مع الجدع اللي شوفناه معاها.
سقط قلبه من موضعه عند ذكر رحيلها من هنا دون أن يدري سببًا لهذا، لكنه فسر هذا بخوفه عليها، لذا تحرك نحو الداخل في غرفة الجلوس فقال “نَـعيم” بثباتٍ أمام الرجال:
_دا “إيهاب” يعتبر ابني الكبير و دا أخوه “إسماعيل” ابني الصغير هما دول الرجالة اللي قاصدينهم ؟؟
تحدث عمها بحيرةٍ:
_معرفهمش أنا، اللي عارفهم “فتحي”، بس يا حج أكيد أنتَ فاهم في الأصول، مينفعش بنتنا تبقى في مكان غريب فيه رجالة هنا، علشان كدا هترجع معانا و “فتحي” هيكتب عليها.
أظلمت نظرات “إيهاب” بشرٍ لاحظه “نَـعيم” عندما يخص الموضوع أحبته، لذا قال بنبرةٍ هادئة:
_هي بتشتغل هنا ويعلم ربنا إنها زي بنتي تمام، بقالها هنا شهرين أهو مشوفتش منها حاجة وحشة، بت بمية راجل في بعض، وهي هنا في الحفظ والصون.
تحدث “فتحي” بلهفةٍ مستغلًا إذعان “نَعـيم” لهما:
_يا حج الراجل المحترم دا ساعتها قالي على مكانك ولما ابقى جاهز أجي اخدها وأنا جهزت وجيت أهو أخدها.
تحدث “نَـعيم” بوقارٍ يقدر حديث الأخر:
_عين العقل يابني، روح يا “إيهاب” هاتها لأهلها.
نظر له “إيهاب” بنظراتٍ خاوية وكأن الحديث لم يمر على عقله، فتحدث “نَـعيم” من جديد بنبرةٍ جامدة:
_روح يا “إيهاب” هاتها بقولك.
لم يقو معارضته خاصةً أمام الرجال، مهما حدث منه يبقى احترامه لـ “نَـعيم” أمرًا محتومًا ولو وضِع السيف على عنقه، لذا التفت دون أن ينبس حتى بكلمةٍ لكن الوضع بأكمله آثار حفيظتها حنقه وأشعل غيظه بدون سببٍ ولا تفسيرٍ، اقترب من مكان وقوفها سابقًا فوجده خاويًا منها، لذا توجه نحو المطبخ على الفور ينطق بنبرةٍ جامدة:
_سلام عليكم، “سمارة” تعالي الحج عاوزك.
انتبهت “تحية” له لذا سألته بتعجبٍ:
_الحج عاوزها ؟؟ عاوزها ليه خير كفا الله الشر.
رد بمنتهى الثبات وكأنه يُجبر عقله على تقبل تلك الحقيقة:
_أهلها وصلوا برة وعاوزين ياخدوها.
اتسعت عيناها بهلعٍ وسقط قلبها من الخوف وتزايدت ضرباته عن السابق وبات الحديث مفقودًا من طرف لسانها فيما قالت “تحية” باستنكارٍ:
_أهلها !! وهو الحج هيديها ليهم بعد اللي قالته؟؟
زفر بضجرٍ ثم رفع صوته يقول بانفعالٍ:
_أنا مالي بقى ؟؟ هما هنا وهي لازم تمشي علشان قعدتها كدا متنفعش، مش هنكتر كتير في الكلام بقى !!
اقتربت منه “سمارة” ببكاءٍ تتوسله وهي تقول:
_ابوس رجلك لأ، أعمل أي حاجة بس مروحش معاهم، احبسني هنا وقولهم هربت، بس بلاش ترميني ليهم.
نظر لها بقلة حيلة وشفقةٍ فوجدها تحاول تقبيل كفه لكي يقبل بتواجدها هنا وحينما سحب كفها قالت بنفس البكاء تهزي بكلماتٍ غير مفهومة:
_أبوس إيدك، أقولك هفضل هنا خدامة طول عمري إن شاء الله حتى اكنس الصحرا دي كل يوم وانضف تحت الخيول بس متردنيش ليهم تاني، والله ما هزعل حد منكم تاني.
تحدثت “تحية” تشفق على تلك المسكينة:
_لا حول ولا قوة إلا بالله، يابنتي دول أهلك.
ردت عليها بنبرةٍ أقرب للصراخ:
_هيموتوني، عمي دا لو شرب سيجارة من زفت الطين هينساني أصلًا والتاني هيموتني علشان سيبته ومشيت، لو اتجوزني أمه هتموتني وهو كمان.
اقتربت “تحية” منها تحتضنها فيما انتفخت أوداج “إيهاب” وبات قراره محسومًا بدون رجعةْ أو جدالٍ لذا سحبها من كفها نحو الداخل وأظلمت نظراته ليصبح الشر مُتجسدًا في نظراته وهي تبكي خلفه كما تُساق البهائم، بينما هو قبل أن يلج للغرفةِ التفت لها يقول بنبرةٍ قوية غَلِظة:
_اللي هتسمعيه جوة لو عارضتي فيه أنا بنفسي هسلمك ليهم، مفهوم ؟؟ اللهم بلغت.
حركت رأسها موافقةً وهي تبكي، فدلف هو للداخل عند الرجال وهي معه فنطق هو بثباتٍ وكفه يقبض على رسغها:
_”سمارة” أهيه بس مش هتروح معاكم، بقت ملزومة مني وأنا طلبت ايدها من الحج وبقى بينا فاتحة، وانا عند قراية الفاتحة عهد، ميرجعش فيه غير العيل، وهي بنفسها قصادكم تأكد اللي قولته.
نظر لها لكي تتحدث فمسحت دموعها ثم قالت بصوتٍ مختنقٍ من فرط البكاء:
_حصل، وأنا موافقة ومش هرجع وأسيبه، والحج “نَـعيم” بقى زي أبويا تمام وأنا مش هقدر أسيبه غير لو هو طردني.
لاحظ “نَـعيم” توريطهما له ورمي الكُرة في ملعبه ليركلها هو في الهدف الصائب من وجهة نظره، لذا قال بثباتٍ بعدما رآى تمسك “إيهاب” بها و ثقتها بها وهي تشدد قبضتها على كفه:
_أنا قولت تسمعوا بنفسكم، هي خلاص بقت دلوقتي خطيبة “إيهاب” وهو اللي هيقرر لكن أنا معنديش حاجة أقولها تاني غير أنها بنتي وهتبقى مرات ابني.
اندفع “فتحي” يُهلل بصراخٍ وكلمات نابية سوقية تعبر عن سخطه حتى اندفع “إسماعيل” يهدده بقوله:
_احترم نفسك يا جدع أنتَ !! أعرف أنتَ بتتكلم مع مين في بيت مين بدل ما نربيك إحنا.
وقف عمها يقول بلامبالاةٍ:
_يعني يا حج كدا بقيت ملزوم منها ؟؟ مش هتجيبلي مشاكل تاني ؟؟ دي بت زي أبوها غاوية مشاكل و هم.
تحدث “عبدالقادر” مُقررًا بقوله:
_آه….بقت ملزومة مني، وأنا بطلبها منك رسمي أهو.
وافق عمها على الفور يُخلي مسئوليته وينزع يديه عنها ويزيح مسئوليتها عن كاهله فيما استشاط “فتحي” غضبًا وتقدم منها يحاول الإمساك بها فقبض “إيهاب” على عنقه ينطق من بين أسنانه:
_لتاني مرة هقولك فكر تقرب منها يا دكر!! متخليش شيطانك يوزك علشان مش هحِلك، فاهم يا حيلتها!!.
تقدم عمها يسحبه من أمام “إيهاب” متقهقرًا بعدما لاحظ قوتهم في أرضهم مما دلَّ على حتمية إخضاعهما لهم، لذا بذل مجهودًا وصل لذروته حتى سحب الأخر ورحل به وهو يرمقهما بغيظٍ، حتى زال أثرهما من الغُرفة فوقف “نَـعيم” ينطق بجمودٍ:
_لعب العيال اللي حصل دا مش هيتكرر تاني.
تحدث “إيهاب” بلهفةٍ يلحق ما يمكن إلحاقه بسبب تهوره:
_بس أنا قولت الحق، أنا بطلبها منك وهتبقى ملزومة مني وفي حمايتي ولحد أخر يوم في عمري، وكلامي دا يشهد عليه ربنا، “سمارة” ملزومة مني ولو حد فكر يقرب منها أنا هشيل روحه من جسمه وابعتها للي خلقها.
شخصت ببصرها نحوه ونزلت دموعها فترك هو يدها ثم التفت لها يقول بنبرةٍ جامدة:
_لو حد فكر بس يبصلك أنا هعمي عيونه، ومن الساعة دي أنتِ ملزومة من “إيهاب الموجي”.
(عودة لتلك اللحظة)
تنهد “إيهاب” مطولًا ثم سار بخطواتٍ ثابتة يقف خلفها وهي تمسد على ظهر المُهر وخصلاته فمرر بصره على خصلاتها السوداء المموجة كما الشعر الغجري فابتسم بحماسٍ ثم وقف خلفها مباشرةً ورفع كفيه يقوم بجمع خصلاتها للأعلى كما ذيل الحصان فابتسمت هي بسعادةٍ ليصلها صوته الرخيم قائلًا:
_بحبه مرفوع كدا زي ديل الحصان، بتبقي عاملة زي المُهرة الجامحة وعاوزة خيال يعرف يراوضك.
التفتت له برأسها وهي تقول بنبرةٍ ضاحكة:
_طب دي عيبة في حقك وأنتَ سيد الخيالين كلهم.
ضحك رغمًا عنه لها فسألته هي باهتمامٍ:
_مالك يا سي “إيهاب” حد زعلك ؟؟
حرك رأسه نفيًا وهتف بنبرةٍ هادئة على غير عادته:
_حد يقدر برضه يزعلني وأنتَ موجود يا عمنا ؟؟ المهم محدش يكون مزعلك أنتِ.
حركت رأسها نفيًا فقال هو بعدما فكر قليلًا:
_ادخلي غيري العباية دي علشان هنركب خيل سوا..
شهقت بفرحةٍ والتفتت تقول بعفويةٍ:
_بجد والنبي ؟؟ هتركب معايا خيل؟؟
حرك رأسه موافقًا وهو يبتسم لها فيما قبلت هي وجنته ثم تحركت من أمامه ركضًا نحو شقتها حتى تفعل كما طلب هو فيما وقف “إيهاب” ينظر في أثرها مُبتسم الوجه.
____________________
“في حارة العطار”
وصلها “فضل” وتحديدًا محل “أيوب” الذي وقف يسجل في دفتره الأدوات الموجودة والمنقوصة والشاغر محلها، فوصله صوتٌ خرجت نبرته جامدة:
_ممكن كلمتين على انفراد لو سمحت ؟؟
التفت “أيوب” بتعجبٍ وما إن أبصره تعرف عليه في الحال لذا نطق مُرحبًا بقوله:
_آه طبعًا، دا شرف ليا يا أستاذ “فضل”.
جلس “فضل” ومازال يرمقه بسخطٍ ونظرة ازدراءٍ لاحظها “أيوب” لكنه آثر تجاهلها حتى لا يُسيء الظنون بالأخر الذي نطق بنبرةٍ جامدة على عكس عادته:
_شوف يابني، أنتَ راجل محترم وطوب الأرض كله يشهد بأخلاقك ومحدش ممكن يصدق عليك كلمة وحشة تتقال في حقك، وسبحانه اللي مخليني أمسك نفسي بعد اللي عرفته، بس هسألك وتجاوبني بصراحة، إيه اللي بينك وبين “قمر” ؟؟ ومن غير لف ودوران ريحني بدل ما تخلي الشيطان يلعب في دماغي كدا.
تحدث “أيوب” بنبرةٍ هادئة بعدما استطاع رسم الثبات على ملامح وجهه:
_وحد الله و استعيذ بالله من الشيطان و وسوسته، وقبل أي حاجة بنت أخت حضرتك أشرف من الشرف نفسه، وأنا اللي فرضت نفسي عليها في محل مشكلتها، وهي من خوفها عليك وعلى إبنك كانت هتضيع نفسها، يعني تتشال فوق الراس ومن غير شك فيها.
لاحظ “فضل” تبدل محور حديثه لأخرٍ لم يفهم هويته أو جهاته لذا سأله مستنكرًا بقوله:
_مشكلتها !! مشكلة إيه ؟؟ وأنا وابني دخلنا إيه ؟؟
قرر “أيوب” العدول عن ذلك الطريق واتخاذ الصراحة سبيلًا للتحدث معه لعل المشاكل تخمد كما إخماد النيران بدلًا من تفاقم الأمور عن حدها الأقصى وتصبح حلولها مستحيلة، لذا قام بسرد الموقف منذ رؤيته لـ “علاء” وهو يهددها حتى اركبها وسيلة المواصلات بنفسه لتعود إلى البيت وعند هذه النقطة توقف عن السرد لسببٍ غير معلومٍ، لكنه تدراك الموقف سريعًا فأضاف متابعًا:
_أنا ساعتها طلبت منها تجيلي هناك علشان محدش يشوفها هنا ويتكلم خصوصًا أنهم عارفينك وعارفينا، وأكدلتها إنها لو مجاتش ممكن هو يتهور وفعلًا التاني قل أدبه جامد اوي، وممكن تروح تسأل الحج بنفسك هو عمل إيه و “بيشوي” كمان اتصرف ازاي في تليفونه، رغم إنها معملتش حاجة غلط بس هو شيطانه عرف إزاي يلعب عليه.
تنهد “فضل” مُطولًا بخزيٍ بسبب ما آل إليه تفكيره لذا بدت نظراته متأسفة للأخر على شكه به، فابتسم “أيوب” بتفهمٍ ونطق بنبرةٍ ودودة:
_بلاش النظرات دي وروح لبنت أختك هي أولى مني، وصدقني والله ربنا نجدها من واحد زي دا معدوم الأخلاق، بدليل إن بعد خروجه من هنا راحلك علشان يشوه صورتها.
تنهد “فضل” مطولًا بعمقٍ ثم نطق بقلة حيلة:
_دا أنا لسه كنت هروح أفرحها واقولها إن فيه عريس متقدملها وابن حلال يعتبر تربيتي، ألاقي الحيوان دا يقفل يومي كدا !!
انتبه “أيوب” لما تفوه به الأخر وكأن أذناه فقط التقتط هذه الكلمة تحديدًا فكررها مستنكرًا بتعجبٍ:
_عريس !! عريس لمين ؟؟
رد عليه “فضل” بنبرةٍ هادئة:
_عريس لـ “قمر” بنت أختي، أصلها نفسها في حد طيب ابن حلال يراعي ربنا فيها زي أبوها الله يرحمه من كتر ما كان بيحب أمها أوي، ومعلم “ربيع” بتاع الفراخ اللي جنب ورشتي فاتحني أنه عاوزها لابنه، بصراحة فرحت وقولت أنا اللي مربيه وأهو ابقى متطمن عليها، دي أمانة في رقبتي.
سأله “أيوب” بثباتٍ توارى خلفه حزنه:
_وهي الآنسة “قمر” موافقة عليه ؟؟
حرك كتفيه بقلة حيلة ثم نطق بمرحٍ:
_أنا هروح أصالحها وأقولها على موضوع العريس يمكن توافق وتفك شوية كدا، أنا زعلتها مني ودي عمرها ما حصلت أصلًا، وكنت هزعلك ودلوقتي أنا مديون ليك، ربنا يكرمك ويوقفلك ولاد الحلال زي ما وقفت لبناتي كدا، اللي زيك مش كتير، يحطوا نفسهم في مشاكل علشان غيرهم، بس دي مش جديدة على عيال “عبدالقادر العطار” ربنا يكرمك يابني، عاوز حاجة ؟؟
حرك “أيوب” رأسه نفيًا بعدما أجبر شفتيه على التَبسم فتحرك الأخر من أمامه وقد غرق “أيوب” في دوامة تفكيره هل بتلك السهولة انتهى تواجدها في حياته ؟؟ دونًا عن بقية الفتيات شغلته هي بهدوئها وردود أفعالها، موقفها مع ابنة خالها جعله يراها من منظورٍ أخر، احتلت تفكيره بدون إنذارٍ بعدما ظن نفسه عن سُـبل الهوىٰ عفيفًا زاهدًا، أتت بسهام عينيها ليصبح بها غارقًا بقدر ما بدا أمامها متماسكًا.
______________________
في محل “عبدالقادر”.
جلس وأمامه “بيشوي” و “أيهم” كلاهما يُملي عليه طلبات المخازن و الدفعات الجديدة من مواد البناء، حتى قاطع هو استرسال كليهما واضاف مُستفسرًا:
_قولي يا “بيشوي” عملت إيه مع “جابر” ؟؟
رد عليه بعدما تنهد بضجرٍ ويأسٍ:
_للأسف يا حج من ساعة أخر مرة وأنا مشوفتوش تاني وكدا أحسن علشان مغلطش فيه، بنته على عيني وراسي بس هو لو فكر يقل مني ومن رجولتي أنا هسكت، وهاخدها بالغصب أو بالرضا، بس أنا ساكت تقديرًا ليك.
حرك رأسه موافقًا مستحسنًا فعله، ثم نطق يوجه حديثه للأخر بقوله مُستفسرًا:
_وحضرتك ؟؟ عملت إيه مع “أماني”؟
حرك كتفيه ثم هتف ببساطةٍ:
_ورقتها وصلتها وكدا ملهاش علاقة بينا تاني حقها خدته تالت ومتلت مننا، تسيبني في حالي أنا وابني، يمكن أصلح الغلط اللي عملته في حقي وحق ابني دا.
حرك رأسه مومئًا ثم نطق بنبرةٍ خافتة:
_لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
أتى “تَـيام” في تلك اللحظة يلقي عليهم التحية ثم سحب مقعدًا وجلس بجوار الشباب ومقابلًا لـ “عبدالقادر” وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_يا حج أنا خلصت كل حاجة وظبطت الدنيا كلها، تؤمرني بحاجة تانية قبل ما أجهز الدفاتر وأبدأ المراجعة ؟؟
رد عليه بنبرةٍ هادئة لكنها ممتنة له:
_كتر خيرك يا “تَـيام” اللي عملته كان كتير أوي وكفاية تعبك لحد كدا معانا، لو عاوز تروح ترتاح اتفضل.
تحدث “بيشوي” بخبثٍ بعدما حرك بؤبؤيه على أوجه البقية:
_ياحج بقولك صحيح، “أيمن” كان بيحاول يتواصل معانا علشان خاطر “آيات” هتديله فرصة ؟؟
حرك “تَـيام” رأسه نحوه بسرعةٍ كبرى فأضاف الأخر:
_من رأيي توافق، خصوصًا أنه عرف غلطته وأكيد فهم أنها كدا هتضيع منه وغيره يلحق ياخدها، بس قولت أسألك قبل ما أرميله كلمة ويمسك فيها، ها ؟؟
تحدث “أيهم” بجمودٍ يقول:
_بعد كل دا !! لأ طبعًا أختي مش شوية علشان واحد زي دا يفتكرها لعبة يروح وييجي عليها زي ماهو عاوز، أنا مش موافق وهي مش موافقة وبكرة ييجي واحد يحطها في عينه.
انتفض “تَـيام” بدون تعقل وهو يقول:
_حــج !! أنا بطلب منك إيد الآنسة “آيات”.
وأد “بيشوي” ضحكته الخبيثة هذه ورمقه “عبدالقادر” بعينين مُتسعتين، فيما نطق “أيهم” بنبرةٍ جامدة:
_نــعم !!.
نظر له “تَـيام” نظرةً عابرة وكأنه لم يعبأ به ثم ثبت عينيه على “عبدالقادر” يسأله بلهفةٍ:
_قولت إيه يا حج ؟؟ موافق عليا ؟؟
تحدث “عبدالقادر” بلهجةٍ يأمر الاثنين الأخريْن بقوله:
_ برة انتم الاتنين وسيبولي “تَـيام” لوحده.
تحرك الاثنان مع بعضهما بهيبةٍ تتافى مع طرده لهما، فيما أشار هو لـ “تَـيام” على المقعد حتى جلس الأخر بتوترٍ وكأنه كتِبَ عليه الموت المحتوم، فيما قال الأخر:
_عاوز تطلبها ليه ؟؟ شفقة ولا قولت أنا أولى؟؟
رد بلهفةٍ وكأنه برمج حديثه في عقله أو كأنه يُدلي بما في قرارة نفسه:
_عاوز أطلبها علشان متضيعش مني، علشان متغباش وأنا شايفها بتروح لحد غيري وأنا مكاني ساكت، لو أنا مش قد المقام بقولك أهو سيبني امشي أعتمد على نفسي لحد ما ارجع وأنا قادر أطلبها.
سأله “عبدالقادر” بسخريةٍ:
_وهو دا اللي هيخليني اوافق عليك لبنتي ؟؟ أنا لو هختار راجل يبقى اختار اللي يصونها ويراعي ربنا فيها، لو على الفلوس يا أهبل، أنا مسلمك كل حاجة فلوسي ومفاتيحي و ورقي، لكن واثق فيك، تفتكر أنا مش شايفك قد المقام ؟! بس أنتَ جبان ومقلل من نفسك، وأنا مش هسمح لبنتي تحس في يوم إنها أعلى من جوزها غير لما هو بنفسه يقدرها، مش يقف يتفرج وغيره بيتقدم ليها ويسكت ؟؟
تشوش عقل “تَـيام” وبدا غير مُدركًا لما وقع على سمعه لذا سأل بحيرةٍ وقد توقف عقله عن التفكير:
_يعني إيه يا حج ؟؟ أنا مش فاهم منك حاجة ؟؟
وأد “عبدالقادر” ضحكته وتصنع الجمود قائلًا:
_يعني ابقى كتر من الجاتوه بالشكولاتة علشان “آيات” بتحبها هي والواد “إياد” كمان.
انفرجت شفتاه ببسمةٍ بلهاء جعلت “عبدالقادر” يضحك رغمًا عنه وهو يضرب كفيه ببعضهما حتى تحرك نحوه “تَـيام” يقبل رأسه، فربت على كتفه ثم قال بنبرةٍ هادئة:
_قبل ما أعشمك استنى مني الأول اسألها وأخد رأيها تمام؟؟
تلاشت بمسته في الحال وكأن عقله يقف بالمرصاد لما يعرقل راحته، فطمئنه “عبدالقادر” بقوله:
_متقلقش، أنا متفائل، متشغيلش بالك أنتَ.
______________________
وقفت “مهرائيل” أمام بوابة بيت “عبدالقادر” تتحدث في الهاتف مع شقيقتها وهي تقول بيأسٍ:
_حاضر يا “مارينا” هجيب اللي أنتِ عاوزاه بأمانة مش هنسى، ياستي خلاص متخافيش خارجة أهو رايحة أجيبه.
أغلقت مع شقيقتها فسألتها “آيات” بنبرةٍ ضاحكة:
_البت محبوسة بسببك وأنتِ مش عاوزة تعوضيها؟؟.
ابتسمت لها وهي تقول بسخريةٍ:
_ماهي هتفلسني بس مش مهم، يلا.
ركض لها “إياد” ومعه “ابانوب” و “كاترين” فتحدث الأول بلهفةٍ:
_هنيجي معاكي نجيب حاجة حلوة علشان بابا قال محدش يخرج من هنا لوحده، علشان خاطري يا “مُهرة”.
تنهدت بقلة حيلة ثم قالت:
_تعالوا بس هرجعكم هنا تاني.
تحدثت “آيات” للصغيرة تطلب منها:
_طب خليكي معايا يا “كاتي” بدل ما تسيبوني لوحدي
حركت رأسها موافقةً وهي تبتسم لها، فتحركت “مهرائيل” بالصغيرين فقط دون الفتاة التي توجهت نحو الحديقة مع “آيات” تجلس على الأرجوحة.
وقفت “مهرائيل” في محل البقالة الكبير تنتقي منه ما تريد لشقيقتها ولنفسها معها، فيما وقف الصغيران بعدما أختار كلٌ منهما مايريده فلفت نظر “إياد” والدته تقف بجوار إحدى فتيات المنطقة لذا ركض نحوها بدون تفكير وكأن شوقه لها تبخر فور رؤيتها، وقف خلفها يقول بلهفةٍ مُبتسمًا:
_مــامــا !!.
انتبهت لصوته فالتفتت له بشوقٍ أحجمته بدلًا من تركه يسوقها نحو صغيرها، فيما ركض هو واتخذ الخطوة الأولى يقف أمامها منتظرًا منها الآتي لعله عناقٌ يُطمئنه، وقبل أن تفعل ذلك وجدت شقيقها يمنعها ويقف حائلًا بينهما وهو يقول بنبرةٍ جامدة:
_أنتِ اتخبلتي يابت في نفوخك ؟؟ ناسية يا عين أمك إنك مضيتي على ورقة إنك ملكيش دعوة بيه ؟؟.
رفعت عينيها المغرورقتين بالدموع وهي تقول بصوتٍ متهدجٍ:
_دا ابني يا “شكري”.
رد عليها بغلظةٍ دون رحمة بقلب ذلك الصغير:
_حفيد العطار يا عيون “شكري” يعني لو عرف بموتك.
التفت فور انتهاء حديثه لذلك الصغير يحدثه بقوله:
_روح يا حبيبي عند بابا، ماما مش هينفع تكلمك.
نزلت دموع “إياد” على الفور لم يتوقع أن مقابلته معها بتلك الصعوبة، لذا نكس رأسه للأسفل وتحرك نحو محل البقالة من جديد بحالٍ غير الحال، دموعه تسبقه في الخطوات وتشوشت رؤيته لاحظته “مهرائيل” فركضت نحوه بلهفةٍ تسأله:
_أنتَ روحت فين خضتني عليك، إيه دا ؟؟ أنتَ بتعيط؟؟
رفعت صوتها تستفسر منه حينما لاحظت بكاءه فحرك رأسه موافقًا وهو ينطق بحروفٍ مُتقطعة كما قلبه الذي أصبح أشلاءًا:
_ماما مرضيتش تسلم عليا وخالو قالي إنها مش بتكلمني.
اتسعت عيناها حتى مرحلة الجحوظ وبغضبٍ عارمٍ وبتصرفٍ أهوج أخذت الصغير من يده و معه “أبانوب” ثم ذهبت إليها تقول بنبرةٍ جامدة:
_هو أنتِ معندكيش رحمة خالص ؟؟ إبنك واقف قصادك مش هاين عليكي تحضنيه ؟؟ العيل دا يفهم إيه في الحسابات واللي بينكم ؟؟ مصعبش عليكي؟؟
تدخل “شكري” يقول بنبرةٍ جامدة:
_ملكيش دعوة أنتِ يا عروسة، خليكي في حالك.
نظرت له شزرًا تقلل منه بتقززٍ، فيما قالت “أماني” بثباتٍ:
_أبوه اللي طلب مني دا هو وجده، أني ماليش دعوة بيه.
رمقها “إياد” بغير تصديق فلازال عقله غير مُدركًا لكل ما يصير حوله حتى يمنع أمه أن تعانقه؟؟ ألم يكن هذا هو مكانه المفضل ؟؟ كيف يصبح كما الغريب عن وطنه ؟؟ اقتربت “مهرائيل” تقول من بين أسنانها:
_يعني أنتِ شايفة إن كلام أبوه وجده يمشي عليكي لدرجة تخليكي حتى متبينيش أنه طفل صغير وحشك ؟؟
حركت رأسها موافقةً واضافت بتأكيدٍ:
_آه…. أنا ماضية ورق بكدا.
رفعت “مهرائيل” كفها بدون تعقل تهبط على وجهها بصفعةٍ تطفيء نيرانها ونيران الصغير الذي أصبح قلبه مكلومًا على يد والدته، فيما صرخت “أماني” في وجهها بقولها:
_أنــتِ بتصربيني ؟؟ بتمدي إيدك عليا ؟؟ مش هسيبك.
اندفعت “أماني” تحاول إمساك خصلاتها فيما ركض أحد الصبية الصغار نحو محل “بيشوي” بخطواتٍ واسعة وكأنه يأخذ الواحدة في أربعةٍ مثلها، حتى وصل أخيرًا وتحدث بأنفاسٍ لاهثة:
_أستاذ “بيشوي” !! الآنسة “مهرائيل” بتتخانق مع الست “أماني” أم “إياد” في دَخلة السوق والليلة شكلها كبير أوي.
نظر كلاهما للأخر ثم ركضا بخطواتٍ واسعة نحو المكان الذي أخبرهما به الصبي وبالطبع هناك كارثة لا يمكن إلحاقها طالما الأمر طال الاثنتين.
______________________
كانت تجلس بشرودٍ ناظرةً أمامها منذ التقاءها به والخوف يُخيم عليها فاقتربت منها والدتها تجلس بجوارها وهي تسألها بلهفةٍ:
_مالك يا حبيبتي، روحتي شغلك ورجعتي بنفس الحال، حد زعلك تاني ؟! الكوابيس رجعتلك تاني طيب ؟؟
ردت عليها بقلة حيلة قائلةً:
_هي من إمتى مشيت يعني ؟؟ أنا بس مشغولة شوية.
حركت رأسها موافقةً ثم قالت بلهفةٍ:
_عاوزة أكلم الحج “عبدالقادر” أشكره هو وابنه على وقفته معانا، الزفت اللي اسمه “سعد” دا احترم نفسه خلاص من ساعة من اتهزء قدام الحارة كلها هنا.
عند ذكر اسمه أجفل جسدها ودب الرعب في أوصالها يذكرها بحديثه معها صباحًا لذا زاغت أبصارها تحاول التفكير في مهربٍ أخر غير “عبدالقادر” وأبنائه حتى لا تتسبب في أذية أيٍ منهم، فيكفيها ما فعله لأجلها ولأجل والدتها منذ أن لجأت له لكي يوفر لهما الحماية.
تلك الفتاة البائسة التي تقع المصائب على رأسها جُملةً وليس فُرادة لتخرج من مأزقٍ تنحدر في أخرٍ وكأن بينها وبين الحزن عهد، ألا يترك أحدهما الأخر أو يهوى الرحيل.
_______________________
خرج “يوسف” بدراجته الهوائية من البيت يدور بها في الشوارع كعادته طوال فترة جلوسه في تلك المنطقة، وقد تناول الطعام وجلب ما يكفيه لقضاء تلك الليلة في بيته دون حاجةٍ إليهم.
اقترب من الشارع الذي يسكن فيه بدراجته فأوشك على التصادم بدراجته في دراجةٍ أخرى علم صاحبتها على الفور من صوت ضحكتها فرفع حاجبه ينطق بتهكمٍ:
_دا أنتِ قاصدة بقى !! من يومك غاوية الحركة دي.
هتفت “رهف” بحماسٍ وهي تضحك:
_بصراحة آه، لمحتك جاي من الشارع التاني علشان كدا قولت أصد الطريق عليك، مش هكدب يعني.
حرك رأسه موافقًا ثم سألها بتعجبٍ:
_بس غريبة إنك نزلتي تاني، قولت هتاخدي وقت تاني لحد ما تفوقي، أو قولت هتنزلي شغلك تاني اللي وقفتيه دا.
تنهدت بضجرٍ ثم قالت بقلة حيلة:
_كل الحكاية بس أني بحاول ارجع واحدة واحدة لحياتي تاني وأسد فراغ “حمزة” بحاول أرجع للحاجات اللي كنت بحبها يمكن شغفي يتجدد تاني، بس أهو نقول إيه؟؟
اتسعت ابتسامته وهو يقول:
_نقول الحمد لله، علشان نعدي كله.
أبتسمت له وكأنها بذلك تؤيد حديثه، فأضاف هو بنبرةٍ هادئة:
_أنا هروح أنام وابقى اصحى بليل لو عرفت هاجي أقعد معاكم، معرفتش يبقى نمت أو الأشكال اللي هناك دي سدت نفسي.
ردت عليه بوجه مبتسمٍ وبنبرةٍ ضاحكة قالت:
_محدش هناك خالص، سألت عمو “فيصل” عليك علشان ماما كانت بعتالك حاجة حلوة أوي، بس مالكش نصيب.
ضيق جفنيه وهو يقول بلهفةٍ:
_لأ !! ورق عنب ؟؟
أضافت بتأكيدٍ ولازال وجهها مُبتسمًا بمرحٍ:
_و معاه بليلة كمان، أبسط يا عمنا.
تحرك بالدراجة وهو يقول بغيظٍ منها:
_و واقفة ترغي معايا يا باردة؟؟ غوري يابت.
ضحكت على رد فعله فيما تحرك هو نحو بيت جارته ثم وقف بجوار الدراجة وحينما فتحت له الباب قال بلهفةٍ:
_هاتي ورق العنب بعدين سلمي عليا، هاتي يا ستي.
تحركت نحو الداخل بيأسٍ ثم عادت له بالمعلبات البلاستيكية وهي تقول بقلة حيلة من طريقته المعتادة:
_عملاه علشانك أهو، دا أنا هعتبر نفسي استثناء بقى طالما جيت لحد هنا تطلبه مني، كدا أنا حاجة تانية غير الكل.
حرك رأسه موافقًا ثم قال بلطفٍ على عكس عادته:
_أنتِ فعلًا عندي حاجة تانية، ألف شكر.
حركت رأسها موافقةً فيما تحرك هو بعدما وضع الطعام في القفص المزود في الدراجة وتوجه نحو بيته، دلفه بخطواتٍ هادئة من حالة الصمت المُخيمة عليه ثم جلس على الأريكة بعدما فتح الطعام يتناوله باشتهاءٍ حتى أنهى تناول طعام وجبته المفضلة أولًا وأخيرًا ليتذكر جملة والدته وهي تقول بنبرةٍ ضاحكة في صغره:
_لو عمايل ورق العنب كانت بفلوس كان زماني سيدة أعمال، بس أقول إيه، كفاية محبتك عندي.
ابتسم باتساعٍ أكثر حينما تذكر طريقته وهو يرتمي عليها قائلًا:
_لما أكبر ويكون معايا فلوس هدفعلك فلوسه.
حينها كانت تحتضنه وتقبله وهي تقول بمرحٍ:
_بس أنا مش عاوزة فلوس عاوزاك تكون معايا.
شدد مسكته لها وهو يقول بنبرةٍ ضاحكة:
_أنتِ حبيبتي يا ماما، مش هسيبك.
ردت عليه بقلة حيلة:
_يعني أنا اللي هسيبك ؟؟ دا أنتَ حبيب عيوني.
خرج من شروده ثم مسح وجهه ونطق بصوتٍ مختنقٍ:
_بس أنتِ سيبتيني، سيبتي حبيب عيونك.
اقتربت منه الممرضة تركض نحوه تقول:
_أستاذ “يوسف” المدام فاقت ومصممة تشوفك وبتتكلم كويس، تعالى بسرعة.
على الرغم من ضيقه منها في العموم لكنه تحرك بخطواتٍ وئيدة إلى غرفتها بثباتٍ وبرودٍ لا متناهييْن حتى وقف أمامها فوجدها على الفراش تنتظر قدومه وتحدثت تلك المرة بصوتٍ طبيعيٍ وليس كأنها تحتضرعلى فراش الموت:
_تعالى يا “يوسف”.
انتبه لصوتها البائن و ملامحها الواضحة وكأن المرض ترك جسدها ولم يكن يعلم أنها مجرد لويحظات قبل أن تفارق روحها الجسد وتعود إلى خالقها، فجلس بجوار الفراش ليجد ملامحها مرتبكة ثم سحبت نفسًا عميقًا وقالت بصوتٍ مختنقٍ:
_اسمعني كويس علشان مش فاضل كتير، ركز علشان تعرف تجيب حقك كويس.
عقد ما بين حاجبيه وبدا الاهتمام واضحًا عليه ومقروءًا في نظراته التي تتفرسها لتبدأ حديثها بدون تفكيرٍ تلقي أمامه مصائب وليس مجرد كلماتٍ، تأهب بجسده وهو يستمع لما تفوهت به ولازالت مستمرة في استطراد حديثها وجسده امامها مُتيبسًا لمدة ساعة تقريبًا تطعن في روحه بالحقائق كما الخناجر المسمومة حتى شهقت بتقطع شهقة الموت أوشكت روحها على المغادرة ليقترب منها دون مراعاةٍ لحالتها يصرخ فيها بقوله:
_اســــمــه إيـــه ؟؟ الـــراجل دا اســـمه إيـــه ؟؟
خرجت حروفها مُتقطعة وهي تقول:
_عـ….عبد…. عبدالقادر….العطـ…ار….سامحني…يا “يوسف”.
اتسعت عيناه بهلعٍ بعدما فقدت روحها على يده هو في أكثر الأوقات التي يريد منها التواجد معه، تلك التي بغضها وكرهها الآن يتمنى فقط منها الافاقة لو لحظاتٍ تُثلج نيران روحه لذا صرخ بها وهو يهز جسدها بعنفٍ وقد رحل التفكير عن عقله:
_قـــومــي….مش هتمشي دلوقتي، قومي بقولك.
انتبهت الممرضة في الخارج لصوت صرخاته فركضت له لتراه بتلك الوضعية حينها ابعدته عنها في محاولةٍ واهية مقارنةٍ بثقل جسده وهي تنطق بانهاكٍ:
_حاسب كدا حرام هي ماتت خلاص، حرام بقولك.
دفعته بكل ما أوتيت من قوةٍ حتى خارت قواه وتردد حديثها على مسمعه من جديد ليرتمي على أقرب مقعد وهو يردد لنفسه بنبرةٍ خافتة وكأنه وقع أسيرًا في عالمٍ أخر:
_يعني إيه…يعني إيه حقي عنده هو؟؟
نظر أمامه بشرودٍ ونزلت دموعه لأول مرةٍ منذ عدة سنواتٍ، فهل موتها يأتي بهذه السهولة بعدما تمناه لسنواتٍ كثيرة مضت، هل هذا من حظه السيء أم حظه الجيد ؟؟ أم أنه نصيبها وموتها في تلك اللحظة كان محتومًا ؟؟.

يتبع….

أين هو عُمري قبل تلك الليلة ؟ أين أيام حياتي وأين أحلامي ؟ أين ما حفظته في قلبي وبنيت به أيامي؟ كل ما مر عليَّ ورقة فارغة بدون هويةٍ معلومة، بقيت لي فقط حياة شاغرة و عزيمة مكلومة، فقدت أسمىٰ ما فيا من معاني و وباتت أحلامي مهدومة، لأتفاجأ في نهاية الأمر بي وأنا الصادق الذي كذبته الحياة، أنا الحُر الذي كبلته دنياه، أنا الطير الذي غادره جناحاه.
بدا وكأن الصفعات تتوالى على وجهه، حياته الماضية بأكملها كذبة !! لم يرأفوا بحاله وطفولته ؟؟ حُكِمَ عليه باليُتم والقهر وكأنه يحلم بالمرسىٰ وهو الغريق في وسط البحر، وكأن الدنيا تخبره أن ما يطلبه أكثر بكثير مما يستحقه هو، نزلت دموعه على وجنتيه وهو ينظر في اللاشيء أمامه حتى اخترق صوت صرخات عمته لأذنه وهي تنادي على أُمها، حينها حرك رأسه جهتها وتكرر أمامه موت والديه وصرخاته وكأنه وقع أسير الماضي، لم يكن في تلك اللحظة “يوسف” الرجل الذي أشتد عوده وتصلب جسده، إنما هو طفلٌ صغير العمر، خرج من الغرفة كما الإنسان الآلي وصوت صرخات عمته خلفه يخالطه البكاء وهي تكرر:
_مــامــا….لأ.
دلف غرفته ودموعه كما هي تسيل بدون هوادة وكأنها انتظرت الانفجار لتخرج كما البركان، لم يكن البكاء لأجلها فهي لا تعنيه من الأساس، لكن البكاء لأجله هو، لأجل حياته ولأجل حزنه الذي عاشه وسطهم، خشى أن يتصرف بدون تعقل لذا دلف غرفته وأغلق بابها على نفسه يحاول فهم إن كان في يقظةٍ أم أن ما أخبرته به ماهو إلا كابوسًا وسيفيق منه.
ارتمى خلف الباب ينفجر في البكاء كما الطفل الصغير وصوت بكائه يتردد في أذنه حينما فاق على خبر وفاة أسرته بالكامل ليبقى معهم يعاني الويلات، ازداد صوت نحيبه بقدر كتمانه لعمرٍ بأكمله مضىٰ عليه صامتًا، وحينما أدرك وضعه انتفض واقفًا يخرج غضبه كما الوحش المسجون على الغرفة بأثاثها، وركل كل ما قابله بل كسره بالكامل، لم يرتاح بل ازداد الأمر سوءًا حينما قابلته صورته مع أسرته، حينها ركض نحوها يجلس على ركبتيه يتلمسها بأطراف أصابعه ونطق بصوتٍ مختنقٍ ودموعه تنهمر على وجهه وهو يمرر أنامله على زجاج الصورة:
_ليه؟؟ مخدتنيش معاكي ليه؟؟ صممتي ليه أفضل معاهم؟ لـــيـــه ؟؟ هـــا !! سيبتيني معاهم ليه؟! طلعوا مبيحبونيش، والله طلعوا مبيحبونيش، حتى هي طلعت زيهم وألعن منهم، داسوا عليا كلهم….والله داسوا عليا…
احتضن الصورة وهو يبكي جالسًا على ركبتيه وكأنه خيلٌ ضُرب في مقتلٍ ليذهب شموخه سدىٰ وتُنكس رأسه بعدما اعتاد على الاعتزاز بالنفس، فهل سيقف من جديد كما الخيل الأصيل أم أنه هجين وأصله مختلط بأخرٍ ليس له أساس.
_______________________
“في حارة العطار”
ركض “بيشوي” وخلفه “أيهم” بعدما أخبرهم الصبي بمشاجرة “مهرائيل” مع “أماني” فوصل الأول عند أكثر المشاهد المستفزة لرجولته وهو يرى “شكرى” يحاول الاقتراب منها ليصفعها و “أماني” تحاول الانقضاض عليها لكن نساء الحارة وقفن كما الرادع لها وقبل أن تطل يد “شكري” لها رفع “بيشوي” صوته بنبرةٍ جامدة:
_إيــدك عندك يا روح أمك !! هتخيب ولا إيه ؟؟
بمجرد وصول صوته حل الصمت محل همهماتهم، بينما “مهرائيل” حينما وجدته أمامها بدت وكأنها وجدت الملاذ الآمن لها فركضت نحوه بلهفةٍ وهي تقول بنبرةٍ باكية:
_”بيشوي” الحقني علشان خاطري.
نظر لها بدهشةٍ من خوفها، فيما اقترب “أيهم” بنبرةٍ جامدة:
_مين اللي جه جنبك ؟؟ وبتعيطي ليه؟؟
تدخل أحد رجال الحارة ينطق بنبرةٍ هادئة في محاولةٍ منه للملمة شتات الأمور التي تفاقمت عن حدها:
_مفيش حاجة يابني خلاص حصل خير، الحمد لله سوء تفاهم وعدىٰ على خير.
تحدث “بيشوي” بنبرةٍ جامدة بعدما حرك رأسه له:
_أنتَ بتقول إيه ياعم “هاني” ؟؟ واحد عاوز يمد أيده على واحدة عيني عينك وتقولي سوء تفاهم ؟؟ اصرفها منين دي؟؟.
رد عليه “شكري” بتبجحٍ وكأنه صاحب الحق:
_وهي المحروسة تضرب أختي دا حلو ليها يعني ؟؟ ملهاش دكر يحميها ؟؟ اللي ييجي جنب أختي أنا أقطع وش أمه.
اقترب “أيهم” يسحبه من تلابيبه وهو ينطق من بين أسنانه:
_تقطع وش مين بروح أمك ؟؟ لو سيرتها جت على لسانك أنا هقطعه، مش كان ربنا تاب علينا من النسب العِرة دا ؟؟ مالكم بينا بقى ؟؟
تحدث “شكري” بتهكمٍ:
_ابنك يا حبيبي هو اللي جه يتمسح فينا، احنا احترمنا الكلمة اللي بيننا وخرجنا إيدينا منه خالص، هو اللي جه لحد هنا وأنا علشان راجل قد كلمتي خليته يمشي، عيط بقى وعمل حوار، مش بتاعتي دي يابا.
ارتخت قبضة “أيهم” والتفت لابنه الذي وقف يبكي بصمتٍ وكأنه شعر بالذنب بسبب فعله دون أن يفهم مجرى الأمور، فيما قالت “مهرائيل” مسرعة بعينين باكيتين:
_أنا الغلطانة مش هو، أنا اللي اندفعت وضربتها.
انتبه لها كلاهما، فتحدثت هي بصوتٍ باكٍ بدا عليه الارتباك:
_هو جه يسلم عليها بس هي والحيوان دا مرضيوش و….
قطع “شكري” حديثها حينما أصدر صوتًا من حنجرته يدل على استياءه وهو يقول بطريقةٍ سوقية:
_شوف برضك بتغلط إزاي ؟؟ طب واللي خلق الخلق أنا اللي مسكتني عليكي إنك بت.
اقترب منه “بيشوي” بُغتةً وهو يهدر في وجهه:
_ بت تلعب في مصارينك…طب فكر تقرب علشان أخليك مرحوم الليلة دي، شكلك متعرفش إنها تبعي، ولو عاوز تعرف أنا جاهز بس مترجعش تزعل.
تدخل الرجال يفصلون بينهما حتى تحدث “أيهم” بغلظةٍ:
_كملي يا “مهرائيل” ؟؟ حصل إيه تاني؟؟
مسحت وجهها ثم نطقت بنبرةٍ مُحشرجة:
_جيت اكلمها لما هو عيط لقيتها بتقولي انها ماضية على ورقة وأنها مش هينفع تقرب منه، محسيتش بنفسي غير وأنا بضربها، بس هي عصبتني و “إياد” كان صعبان عليا أوي.
أغمض جفونه وشدد قبضتي كفيه ثم اقترب من “أماني” يقول بتحسرٍ وهو ينظر لها بحزنٍ وانكسارٍ أظهرته مقلتاه بدون قصدٍ منه:
_لو كنتي حضنتيه عمري ما كنت هقولك عملتي كدا ليه، ولو كنتي فكرتي مرة واحدة تيجي تسألي عنه عمري ما كنت هردك من غير ما تشوفيه، بس كدا أنتِ جيبتي نهايتها، علشان لو شوفتك في مكان تاني أنا هموتك في أيدي، عارفة ليه ؟؟ علشان الغريب أحن عليه وعلى قلبه منك.
التفت يحمل صغيره ثم عاد يقف أمامها من جديد وهو يقول برأسٍ مرفوعٍ بشموخٍ وثقةٍ زائدة عن الحدِ:
_الفرصة الزبالة اللي جمعتنا سوا أنا عمري ما هندم عليها علشان “إياد” عندي بالدنيا، يلا يا “بيشوي” متوسخش إيدك بالعالم العرر دي، خلينا احنا أصلنا نضيف.
ابتسم “بيشوي” بتهكمٍ ثم نطق يقلل منهما بقوله:
_وعلى رأيك يا “أيهم” قليل الأصل لا يتعاتب ولا يتلام وفي أول بيعة تقابلك قوله سلام….
بتر حديثه ثم اقترب يربت على كتف “شكري” وهو يقول برسالةٍ مُبطنة حملها حديثه وأظهرتها طريقته:
_ســلام….يا “شُـكري”
تحرك “بيشوي” نحو “مهرائيل” يشير لها ناطقًا بجمودٍ:
_قدامي….يلا.
تحركت بعدما انتظمت أنفاسها وهدأت ثورة بكائها، بينما هو أخذ “أبانوب” ابن شقيقته ثم تحرك خلفها محاولًا تهدئة نفسه قبل أن يثور ويعود لذلك الوغد الذي تطاول عليها.
وصل “أيهم” بيته فدلف للمندرة أولًا وخلفه البقية فركضت لهم “آيات” تسأل بتعجبٍ من هيئتهم المريبة تلك:
_مالكم ؟؟ شكلكم عامل كدا ليه ؟؟ هي “مهرائيل” معيطة؟
حركت رأسها موافقةً فنزلت دموعها من جديد وفي تلك اللحظة دلف “عبدالقادر” بلهفةٍ بعدما وصله الخبر وانتشر في الحارة بأكملها كما انتشار النار في الهشيم ونطق بعدما وزع نظراته على البقية:
_إيه اللي حصل دا والناس بتقوله برة؟؟ فهموني.
وجهوا أنظارهم نحوه بصمتٍ فلحقه “أيوب” نحو الداخل وهو يسأل بقلقٍ:
_حصل إيه ؟؟ ومين اتخانق مع مين؟؟
تنهدت “مهرائيل” ثم نطقت بنبرةٍ مهتزة باكية:
_أنا السبب والله، أنا اللي اندفعت من غير تفكير ومديت أيدي عليها، بس أنا مفكرتش ثانية واحدة.
سألها “عبدالقادر” بثباتٍ:
_إيه اللي حصل ؟؟ احكيلي كله مرة واحدة.
قامت بسرد الموقف بأكمله لتنزل دموع “إياد” من جديد مُـرثيًا حاله على أمه التي نُزعت الرحمة من قلبها، فيما وقف “أيوب” مصدومًا بعينين مُتسعتين، حتى أضافت هي من جديد:
_أنا آسفة لو عملت مشكلة بس أنا عملت كدا علشانه.
رد عليها “بيشوي” بعدما فلت منه ذمام التحكم في صبره:
_نفسي مرة تبطلي تهور زي العيال الصغيرة، بتتصرفي من غير تفكير في الخطورة اللي حطيتي نفسك فيها، وأخرتها عمالة تعيطي وتتأسفي، طب كان ليه من الأول.
سألته بنبرةٍ باكية بعدما أحزنها حديثه:
_بتعاتبني ليه؟؟ أنا قولت إن دا كان غصب عني.
اقترب منها يقف مقابلًا لها وهو يقول بنبرةٍ جامدة:
_علشانك أنتِ، واحد صايع زي دا كان عاوز يمد أيده عليكي، تفتكري أنا كنت هسكت لو دا حصل؟ أكيد كنت هموته فيها، ودي أصولها، اللي يرفع أيده على ست تتقطع، واحدة زي دي واقفة عاوزة تمسكك من شعرك ؟؟ وأنتِ انضف من أصلهم كله، أنا ضيقتي علشانك مش منك.
على الرغم من جمود طريقته وقسوته في الأسلوب إلا أن مُجمل حديثه طمئنها وجعل ترتاح من تأنيب الضمير، فيما اقترب “أيوب” من الصغير يجلس أمامه على ركبتيه ثم نطق بنبرةٍ هادئة:
_طبعًا إحنا رجالة والعبط دا مياكلش معانا صح ؟؟ بابا عندك هنا أهو وأنا معاك وكلنا هنا رهن إشارة واحدة منك تطلب حاجة فيها ننفذهالك، أوعى تزعل نفسك، قولنا لما تحصل حاجة تزعلنا بنعمل إيه ؟؟.
مسح الصغير دموعه بظهر كفه ثم نبس بنبرةٍ مختنقة:
_نقول الحمد لله علشان ربنا يكرمنا بالأحسن.
ابتسم له “أيوب” ثم قربه منه يُلثم جبينه ثم نطق يفتخر به:
_صح، قولها من قلبك بقى علشان ربنا يكرمك بالأحسن ليك في كل حاجة وافتكر وعود ربنا ليك عارفهم ؟؟
أبتسم “إياد” وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_يلا نقولهم سوا إحنا الاتنين.
ارتسمت البسمة على وجه “أيوب” وضع كفه على كتف الصغير يشدد من أزره ثم نطق كلاهما مع الأخر:
_أربعة وعود ربانية :
‏الوعد الأول “ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ”.
‏الوعد الثاني “فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ”.
‏الوعد الثالث “لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ”.
‏الوعد الرابع “وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ”.
كُن مع الله يكون معك، أحفظ دينك يحرسك.
ارتمى “إياد” عليه يحتضنه ويشدد بذراعيه الصغيرين مسكته لعمه وهو يقول بنبرةٍ طفولية:
_أنا بحبك اوي يا “أيوب” كفاية إنك معايا.
ربت على خصلات رأسه وهو يقول بنبرةٍ هادئة بعدما لثم جبينه:
_أنا اللي بحبك أوي وروحي فيك كمان، أنتَ أحلى هدية ربنا كرمنا بيها نورت علينا البيت دا.
ابتسم البقية من موقفه مع الصغير، فيما نطق “بيشوي” بنبرةٍ هادئة:
_عن إذنك يا حج، هروح أوصلها قبل ما أبوها يتكلم.
حرك “عبدالقادر” رأسه موافقًا وما إن وقفت أمامه “مهرائيل” قال بنبرةٍ أظهرت امتنانه لها:
_ألف شُكر يابنتي، تسلمي، كدا أنتِ تربية بيت العطار بصحيح.
سألته بلهفةٍ تمحي الظنون التي سكنت عقلها:
_يعني حضرتك مش زعلان مني ؟؟.
ابتسم لها وهو يقول بنبرةٍ هادئة يُطمئنها:
_لأ طبعًا، أنا مقدر موقفك وحبك لـ “إياد” اللي عملتيه دا كان بدافع الحُب، أنا اللي بقولك حقك عليا لو حد زعلك، أنتِ مقامك عندنا كبير ومن مقام بنتي.
اتسعت ابتسامتها أكثر وهي تقول بفرحةٍ أظهرت صوتها مختنقًا:
_شكرًا لحضرتك بجد، أنا كنت فاكرة إنك هتزعل.
التفت بوجهٍ مبتسمٍ يقول لـ “بيشوي”:
_روح وصلها زمان أبوها عرف وهيعمل مشكلة.
أومأ له موافقًا ثم أشار لها ومعه “أبانوب” و “كاتي” ورحل بذويه من بيت “عبدالقادر” فيما وقف “أيوب” وهو يقول بنبرةٍ هادئة بعدما شبك كفه بكف الصغير “إياد”:
_أنا هاخده ونطلع نلعب دورين ملاكمة كدا وأعلمه شوية، إيه رأيك ؟؟
هتف الصغير بحماسٍ ومرحٍ وكأنه نسىٰ حزنه فور حديث عمه الحبيب الذي بخر ألامه:
_بجد ؟؟ هتعلمني ؟؟
حرك رأسه موافقًا ثم حمله و وضعه على كتفيه وهو يقول بزهوٍ:
_هعلمك وأربيك وأربي أبوك كمان.
أبتسم “أيهم” لهما فيما قال “عبدالقادر” مُغيرًا مجرى الحديث:
_المهم خلونا في الحاجة اللي تفرح وسيبوا الحزن دا على جنب، عاوز أعرف رأيكم في الموضوع دا علشان مهم.
انتبهوا له فيما توجه لابنته يسألها بنبرةٍ هادئة:
_فيه حاجة بخصوصك عاوز أعرف رأيك فيها.
انتبهت له وهي تقول بأدبٍ:
_أنا ؟؟ خير إن شاء الله يا بابا، اتفضل.
تابع حديثه بدون مقدمات للموضوع قائلًا:
_ “تَـيام” اتقدملك وعاوز يخطبك موافقة عليه ؟؟
اتسعت عيناها من هول الصدمة عليها لم تتوقع حدوث هذا ولو حتى بأحلامها، لاحظ “عبدالقادر” صمتها لذا هتف من جديد بنبرةٍ أقوىٰ:
_هـا !! قولتي إيه ؟؟.
تنهدت مُطولًا ثم اخفضت رأسها بخجلٍ لا تعرف سببه، فيما تشدق هو من جديد هاتفًا بثباتٍ:
_على العموم أخواتك معاكي أهم أنا عارف إنك بتثقي في رأيهم، اتكلموا سوا وقولولي القرار الأخير، عن اذنكم.
تحرك وترك لهم المكان لينظر كلٌ مِن “أيوب” و “أيهم” لها ثم نظرا لها وهي تفرك كفيها ببعضهما وتنكس رأسها للأسفل.
______________________
في منطقة الزمالك.
انقلبت أوضاع البيت وتم تجهيز الجثمان للدفن في حالةٍ غريبة وكأن البيت خاليًا من الأرواحِ، لاحظ “عاصم” اختفاء “يوسف” لذا اقترب من الممرضة يحدثها بتعالٍ:
_تعالي ورايا.
حركت رأسها موافقةً ثم سارت خلفه حتى وقف بها في حديقة البيت الصغيرة وسألها باهتمامٍ جليٍ اتضح على معالم وجهه:
_أمي قبل ما تموت، اتكلمت مع حد ؟؟ “يوسف” تحديدًا !!
ارتبكت وهي تقول بصوتٍ مهتزٍ:
_معـ….معرفش يا بيه، هي مكانتش قادرة تتكلم أصلًا، وملحقتش تقول حاجة، بس هي كانت عاوزة أستاذ “يوسف” وهو كان برة….ولما وصل وعرفته أنها فاقت كانت للأسف ماتت.
لاحظ هو اهتزاز وتيرة صوتها وارتباكها وحركة بؤبؤيها المهتزة وكأنها تهرب من نظراته لذا هتف بنبرةٍ جامدة:
_شوفي عاوزة كام وبزيادة كمان، بس افتكري إذا كانت كلمته ولا لأ، وايه اللي حصل خلاه يختفي كدا ؟؟
زاد خوفها وقالت بنبرةٍ متقطعة من فرط قلقها:
_مانا….مانا قولتلك يا “عاصم” بيه هي ملحقتش تكلمه أصلًا…. وباقي حسابي أنا خدته الصبح، وهمشي بعد العزا إن شاء الله، تؤمرني بأي حاجة ؟؟
أشار بعينيه نافيًا لتفهم هي مقصده وتحركت من أمامه بخنوعٍ وكأنها لاذت بالفرار من الموت المحتوم، فيما وقف هو يتابع أثرها بنظراتٍ غامضة جعلته يزفر بقوةٍ ثم دلف البيت من جديد.
دلفت الممرضة غرفتها فوجدت “فيصل” و زوجته بها، اقتربت منهما بلهفةٍ تنبس بخوفٍ:
_سألني يا عم “فيصل” وقولتله معرفش حاجة، خوفت لاحسن يصمم، بس كويس إنك حذرتني.
رد عليها مؤكدًا بقوله:
_الله يباركلك يا بنتي، الواد دا طلع عينه وسطهم هنا من صغره، وكويس إني سمعتهم بيتكلموا أنه مينفعش يتكلم معاها، يمكن تكون عملت حاجة كويسة علشانه قبل ما تموت، ربنا يكرمك إن شاء الله.
هتفت بلهفةٍ تُدلي أمامه بنيتها:
_والله ما عاوزة حاجة غير أني بس أبعد عن المشاكل وخلاص، هما عيلة يتصرفوا سوا لكن الغلابة اللي زيي بيروحوا في الرجلين.
حرك رأسه موافقًا وهو يوافقها الأمر فيما تحركت هي نحو الخارج وخلفها زوجته وعقبهم في الخروج هو الأخر ليقوم بتجهيز البيت لواجب العزاء.
وقف “سامي” أمام “عاصم” يسأله بخوفٍ:
_متأكد يا “عاصم” ؟؟ أمك لو كلمته قبلها هتبقى مصيبة وحلت على راسنا، مش بعيد ياكلنا بسنانه.
هتف “عاصم” باقتضابٍ:
_ما تبطل خوف بقى !! هتكلمه إزاي هي إذا كانت بتوه وبتنسى احنا مين ساعات، يبقى هتفتكر حاجة عدى عليها العمر دا ؟؟ بعدين هي مستحيل تعمل كدا لأنها عارفة إن دا هيفتح علينا باب احنا مش قده.
رد عليه الأخر بنفاذ صبرٍ ويأسٍ تمكن منه:
_مش يمكن مثلًا أمك قالت تعمل حاجة عدلة لأخرتها ؟؟ وساعتها تبقى لبستنا كلنا في الحيطة؟؟ لو دا حصل أنا ماليش دعوة بأي حاجة.
رمقه “عاصم” بسخطٍ ثم زفر بقوةٍ وتشدق بنذقٍ:
_بعدين…بعدين، خلينا بس نشوف العزا.
تحرك “عاصم” من أمامه فيما قال “سامي” بسخريةٍ:
_وهي أمك عمرها عملت حاجة كويسة علشان حد ييجي عزاها ؟؟ دي أمي كانت صاحبة واجب عنها.
أتاه من خلفه صوتٌ يقول:
_طول عمرها صاحبة واجب و مغرقة الكل بخيرها.
اتسعت عيناه بدهشةٍ والتفت فوجد “يوسف” يقف من جديد أمامه بشموخٍ لم يتوقعه فيما رفع “يوسف” حاجبه وهو يقول بسخريةٍ:
_كدبت أنا يعني ؟؟ مش أمك طول عمرها صاحبة واجب؟
سأله “سامي” باندفاعٍ لم يحسب له نتيجةً:
_أنتَ كويس ؟؟ أنا قولت حصلك حاجة!!
اقترب منه يرفع رأسه ثم نطق بزهوٍ:
_دا بعينك وعين تماسي أمك، أنا زي الفل بعدين واحدة ماتت الله يرحمها هزعل عليها ليه؟؟ دي حتى ملحقتش تقول كلمة سامحني.
ظهرت علامات الارتياح على وجه “سامي” وقد زالت بقايا ظنونه عن عقله خاصةً وهو يرىٰ “يوسف” أمامه بثباتٍ يرتدي حلةً سوداء اللون، فيما ابتسم الأخر وهو يقول بعدما لاحظ تفحصه له:
_دي علشان واجب العزا، هيبقى فيه بنات حلوة بصراحة أهو أي حاجة عدلة تيجي من المرحومة.
مزاحه وسخريته كلاهما يدل على عدم معرفته بأي شيءٍ يدينهما، لذا اقترب منه يقول بنبرةٍ آسية:
_البقاء لله يا “يوسف” المرحومة كانت والدتي بالظبط وليها فضل كبير عليا، ورغم طريقتها الصعبة بس قلبها كان طيب أوي.
رد “يوسف” مؤكدًا بطريقةٍ تهكمية:
_أنتَ هتقولي ؟؟ كانت متتخيرش عن المرحومة أمك.
تحرك “سامي” من أمامه بعدما رمقه بيأسٍ فيما تتبع “يوسف” أثره بنظراته ثم تنهد بعمقٍ وضغط على قبضته في محاولةٍ يائسة للتحكم في غضبه وانفعاله، فلولا علمه أن غيابه سيثير فضولهم لكان جلس في غرفته يعاني الويلات، لكنه كما عادته رجح الحل الأذكى في حل مشكلته حتى وإن كان على حساب قلبه المتألم.
__________________________
جلست “آيات” أمام أخويها بخجلٍ تشعر وكأن حرارة الغرفة أصبحت نيرانًا تحاوطها، فيما تصنع كلاهما الجمود والنظرات الغامضة لينطق “أيهم” بنبرةٍ جامدة:
_ما تخلصي يابت !! نقول للواد إيه ؟؟
زفرت بيأسٍ وضغطت على شفتها السفلى ثم نطقت بحيرةٍ ونفاذ صبرٍ:
_مش عارفة….مش عارفة والله، أنتم رأيكم إيه؟؟
رفع “أيهم” حاجبيه مستنكرًا فيما علق “أيوب” مُصححًا:
_لأ مش رأينا إحنا، رأيك أنتِ، دي حياتك وانتِ اللي هتعيشيها، اختيارنا إحنا ملكيش دعوة بيه.
زادت حيرتها أكثر فيما تحرك “أيهم” يجاورها وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_بصي أنا مش هقولك الجواز زفت ولا أي كلام ناتج عن تجربتي، لأننا مش واحد وكل واحد فينا بظروف خاصة مش هقدر أحكم على حد ولا تجربة تانية، بس هقولك لو احساسك مريحك من الأول أمشي وراه، وصلي استخارة، متعمليش زيي، عيل صغير فرح أنه بقى فيه واحدة في حياته قالك اتجوزها وخلاص، بس قوليلي احساسك إيه؟؟
ابتسمت بخجلٍ و زاد تورد وجهها وهي تقول:
_ انتوا صحابي مش هكدب عليكم يعني….بس أنا حاسة أني مرتاحة، المرة اللي فاتت ساعة “أيمن” كنت خايفة بس المرة دي أنا حاسة أني مبسوطة.
سألها “أيهم” بخبثٍ:
_يعني عينك كانت على الواد يا سوسة؟؟
رفعت عينيها المُرتبكتين له فقرأ هو ارتباكها لذا كتم ضحكته فيما تدخل “أيوب” يقول بهدوءٍ كعادته:
_على فكرة عارف من بدري أنه عاوزها، بدليل أنه محضرش الخطوبة وقعد في المحل، وبدليل أنه فضل أسبوع زعلان مننا، بس هو غبي حط اعتبارات ملهاش أي لازمة و وقف قدام السعي بنتيجة مشروطة، نسي أن دا نصيب ومكتوب.
تنفست “آيات” بعمقٍ ثم نطقت بتقريرٍ:
_مش هاخد أي خطوة غير لما أستخير ربنا الأول، أنا لسه خارجة من تجربة فاشلة وأكيد مش عاوزاها تتكرر تاني، غير كدا هو لو مش ملتزم دينيًا والخطوبة تكون شرعية أنا مش هوافق كفاية تهاون زي اللي حصل مع “أيمن”.
تحدث “أيهم” بسخريةٍ يقول:
_تهاون ؟؟ كدا كنتي متهاونة معاه ؟؟ الواد كلمك مرة الساعة ١٢ بليل فضحتيه أنتِ وفضيلة الشيخ، منكم لله يا بُعدا، هتبوري بسببه.
نطق “أيوب” بنبرةٍ جامدة بدلًا عنها:
_أيوا هي معاها حق، مفيش رابط شرعي بينهم، هو المفروض يفرح بيها ويحترمها، وهي كويس إنها عارضته في حاجة زي دي، هو نيته كانت شر علشان كدا ربنا بعده عنها، إنما “تَـيام” محترم، رغم حبه ليها بس محاولش حتى يعمل حاجة غلط ولو بنظرة عين.
تدخل “إياد” يقول بنبرةٍ مُلحة:
_وافقي عليه يا “آيات” أنا بحبه أوي وكلنا بنحبه.
تحدث “أيهم” بنبرةٍ ضاحكة:
_وافقي علشان الغلبان دا، بيقولك بحبه، الواد حلو و مسمسم أوي وأنتِ مسمسمة يعني هتبقوا جوز عصافير، طب والله هتكونوا عاملين زي نجوم السما بالقمر.
عند ذكر “القمر” انتبه له “أيوب” وحضر أمامه قمره متجسدًا بهيئتها هي، فلاحت على شفتيه ابتسامةٌ حزينة حينما تذكر أمر خطبتها، فقرر الاختلاء بنفسه قائلًا بنبرةٍ خافتة:
_عن اذنكم هطلع اوضتي اريح شوية كدا وهنزل ليكم تاني، استناني يا “إياد” هرجعلك ونقعد سوا.
حرك رأسه موافقًا فيما لاحظت شقيقته تغيره فسألت الأخر بقولها:
_هو ماله ؟؟ فيه حاجة مزعلاه؟
حرك “أيهم” كتفيه بحيرةٍ ثم أخذ صغيره وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_تلاقيه تعبان ماهو حاطط نفسه في مليون حاجة، هبقى أشوفه بس هاخد “إياد” أغيرله هدومه علشان ينام شوية.
حركت رأسها موافقةً وهي تبتسم لهما، فودعها الصغير ثم توجه مع والده للأعلى فيما تنهدت “آيات” مطولًا وهي تتذكر عرض والدها عليها لتتأكد أن ما ظنته هي وهمًا كان حقيقةً غير ملموسة لكنها موجودة بالفعل علم قلبها بوجودها.
_________________________
في شقة “فضل” بعد عودته وجلوسه بمفرده يفكر قليلًا طلب “قمر” له ومعها “أسماء” حتى دلفت كلتاهما له، فأجلسهما أمامه وهو يقول بنبرةٍ قصدها جامدةً:
_محدش فيكم ينكر إن اللي حصل دا كان غلط وغلط كبير كمان، غلطكم دا ورطكم في مصائب اكبر منكم، غير كدا كدبتوا عليا، مش مالي عينكم أنا؟؟ عويل مش هعرف احمي بيتي ؟؟ بتلجئوا للغريب في وجودي ؟؟ خالك مقصر معاكِ يا “قمر” ؟؟
حركت رأسها نفيًا ودموعها تنهمر على وجنتيها، فيما قالت “أسماء” بمعاندةٍ:
_لأ مغلطناش، أنا واحدة عرفت إن خطيب بنتي ابن ستين *** واطي ملهوش أصل، وبيرسم على “قمر” يبقى اتصرف ولا استنى المصيبة تقع؟؟ لو كنت قولتلك كنت هتعمل ايه ؟؟ مكانش معانا دليل وكان ممكن يكذبنا، وبنتك تشك فينا، ومتقوليش لأ، إحنا مش ملايكة يا “فضل” أحنا بشر بدليل إنك شكيت في “قمر” و “أيوب” لما الزفت دا جالك، بس أنتَ بقى سكت علشان صدقت ولا علشان كلام “أيوب” اقنعك ؟؟
أخفض رأسه للأسفل يهرب من الجواب _المعلوم أساسًا_ لكنه حاول التحدث بقوله:
_حطي نفسك مكاني، هو يعرف “أيوب” منين؟؟ يعرف محل المعز منين ؟؟ “قمر” كدبت ومقالتش ليا، ودا غلطها، وغلطي أنا أني موثقتش في تربيتي، بس الغلط الأكبر عليكِ يا “أسماء”.
رفعت “أسماء” حاجبها بشرٍ، فيما قال هو يغير مجرى الحديث الدائر بينهم:
_المهم “قمر” جالها عريس النهاردة وعريس أنا فرحان بيه أوي وكنت اتمناه ليها من زمان.
توترت “قمر” بسبب حديث خالها وقفزت لعقلها فورًا رؤيته تتعلق بأملٍ ربما يُحييها من جديد، فيما هتفت “أسماء” بحماسٍ وقد فكرت مثلها:
_مين يا “فضل” حد نعرفه؟؟
ابتسم لها وهو يقول:
_حد نعرفه كويس أوي أوي، وهو عارف “قمر” كويس أوي.
ابتسمت “قمر” وقد تزايد الأمل لها وبات تأكدها من هويته محتومًا، فتحدث هو يضرب بخيالها عرض الحائط ويُلكم وجهها بالحقيقة ناطقًا بفرحةٍ:
_العريس يبقى “محمد” ابن “ربيع” بتاع الفراخ اللي جنب ورشتي، فاتحني في الموضوع النهاردة وقالي عاوز “قمر”.
نظرت كلتاهما للاخرى وتلك المرة بدهشةٍ وملامح وجهٍ سكنها الوجوم، لينطق هو قائلًا بتفسيرٍ يحاول اقناعهما:
_الواد بصراحة طيب ومحترم وتحت طوع أبوه ويعتبر تربيتي، يعني ابن حلال وأكيد “قمر” عرفاه.
نظرت له بعينين باكيتين، فيما قالت “أسماء” بمعاندةٍ:
_بس أنا بقى مش موافقة.
تشدق “فضل” بنذقٍ مُعلقًا عليها:
_ليه إن شاء الله ؟؟ خير ياختي؟؟
ردت عليه بثباتٍ وإصرارٍ:
_أمه ولية رخمة وحشرية أوي، أنا مبحبهاش.
تحدث بتهكمٍ وهو يرمقها من أعلى لأسفل:
_هي برضه اللي حشرية ؟؟ حِكم والله.
زفرت بقوةٍ ثم نطقت من جديد بضجرٍ منه:
_دي واحدة مش عاوزة عروسة لابنها، دي عاوزة خدامة عندها، واحدة تصحى الصبح تفطر البيت كله وتطلع السطح تأكل طيور وتروق البيت كله، ما مرات ابنها الكبير طلعان عينها وغضبانة، قولت لأ ومش موافقة.
تحدث “فضل” بنبرةٍ جامدة وقد نفذ صبره من عنادها:
_بصفتك إيه بترفضي ؟؟ أنتِ يدوبك مرات خالها، الحكم ليها ولأمها وليا يا “أسماء”.
حديثه جعلها تنفجر في وجهه بقولها:
_غصب عنك وعن أمها بنتي يا “فضل”، أنا ربيتها من صغرها على أيدي، أمها أهيه برة متعرفش عنها اللي أنا أعرفه، غرقانة في زعلها على اللي حصل و”قمر” معايا أنا، حتى لو كنت مرات خالها، بس أنا صاحبتها، ومحدش ليه دعوة بعلاقتي بيها.
علم “فضل” أنه أخطأ في حديثه، لذا هتف بنبرةٍ هادئة:
_عارف إنك بتعتبريها زي “ضحى” بس برضه القرار مش لينا هي اللي تقرر وتقول عاوزاه ولا لأ، ها يا “قمر” ؟؟
ارتبكت بسبب سؤاله ثم نظرت لزوجة خالها تتلمس منها العون حتى فاجئتها الأخرى بقولها:
_مش هتوافق ومش موافقة، ريح نفسك علشان دا مش هيحصل، بقولك أمه ست صعب أوي، ارميلها البت؟؟.
تنهد بقلة حيلة ثم قال بأسفٍ:
_خلاص وعلى إيه، هقوله مش موافقة دلوقتي، بس هي تفكر وتحاول تحسبها صح، الواد طيب أوي، صحيح أنا مزعلها وهتاخد وقت تسامحني فيه، بس أنا طمعان في قلبها الكبير يسامحني.
ابتسمت له ثم مالت على كتفه تضع رأسها وهي تقول بشرودٍ باكيةً على أملها وحظها:
_مش زعلانة منك يا خالو، مقدرش ازعل منك.
ربت على ظهرها مبتسمًا ثم سأل زوجته بمشاكسىةٍ:
_وأنتِ يا ست “أسماء” ؟؟ زعلانة
_آه…ومش طايقاك
رد عليها بنبرةٍ ضاحكة:
_أحسن ياختي، أنا هاخدهم كلهم وأخرجهم، خليكي قاعدة هنا.
رمقته بغيظٍ وهي تقلد طريقته فاقترب منها يقبل رأسها حتى يكسب رضاها فابتسمت هي له رغمًا عنها.
__________________________
جلس “ايوب” في غرفته في ركن العبادة الذي صممه هو حيث سجادة الصلاة والإضاءة الخافتة و المصحف الشريف و بجواره كتب الدين الإسلامي، جلس يبتهل بصوته العذب الذي ملأ الغرفة يميت سكونها:
_ما في الوجود سواك رب يعبد كلا ولا مولى سواك فيقصد
يا من له عنت الوجوه بأسرها وله جميع الكائنات توحد
أنت المؤمن في الشدائد كلها يا سيدي ولك البقاء السرمد
يا منتهى سؤلي وغاية مطلبي من ذا الذي عن باب حبك يطرد
امنن على بتوبة يا من له قلب المحب مقدس وموحد.
تنهد بعمقٍ ولاح على ذاكرته ذكرى سيئة سظل ساكنة في عقله وأثره القاتل في روحه، تلك الفترة التي قُتل بها ألف مرة في اليوم الواحد.
(منذ عدة أعوامٍ)
جلس “أيوب” حبيسًا مكبل الأيادي في غرفةٍ مُظلمة مساحة الغرفة تتسع عن القبر بنسبة قليلة، الروائح الكريهة تملأ الغرفة و الظلام و الظلم كلاهما يحاوطه، وجهه ملئته الكدمات وكذلك جسده، عيناه مُغطاة بقماشة متسخة من المفترض أن يكون لونها أبيض، لكن أثر دماءه غطاها لتصبح طينية اللون.
في تلك الغرفة وُجِد صنبور مياه أسفله دلوٌ تقطر فيه المياه بقطراتٍ صغيرة لها أثرًا كبيرًا على أعصابه تجعله مُشتتًا دومًا وكأنه يلقى حتفه بذلك الصوت.
فتحت الغرفة ودلف أكثر الأشخاص الذي تسبب في إيذائه نفسيًا، شعر به يقترب منه و وجه كليهما ملاصقًا للأخر فنطق الضابط بتشفٍ:
_ها يا “أيوب” مش ناوي تحترم نفسك ؟؟
رفع “أيوب” رأسه بشموخٍ ناطقًا:
_مش هيحصل، أنا مبزلش نفسي غير للي خلقني، مفيش إنسان زيه زيي يستاهل أني اركلعه، ريح نفسك.
اقنرب منه الضابط يمسك خصلات شعره وهو ينطق من بين أسنانه قائلًا:
_أنتَ بروح أمك رافع راسك ليه ؟؟ اللي زيك ملهوش دية، هتفضل هنا لحد ما تموت وتعفن كمان ومحدش هيعرف عنك حاجة، بقالك هنا شهر ونص، ولسه بتكابر ؟؟
ابتسم “أيوب” بتهكمٍ ثم قال بثباتٍ:
_لو سيدنا محمد مكانش صبر على إيذاء الكُفار وسلم لأذاهم من غير ما يحاول مكانش زماننا دلوقتي مسلمين، أنا راجل مسلم قدوتي سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، أنتَ داخل جايبني من مسجد مش قابض عليا وأنا بقتل حد، أنا مش هما اللي بتدور عليهم، اللي عاوزهم دول الإسلام بريء منهم ليوم الدين، أي حد يستغل الإسلام وصورة المسلمين، الإسلام في براءة منه، ومع ذلك مش هترجاك برضه، أنا مسلم وعندي عبادة اسمها الدعاء، وربنا هيستجيب ليا إن شاء الله.
انتفخت أوداج الأخر بغضبٍ لذا اخفض رأس “أيوب” بيده يضعها على الأرض وكأنه يخبره أنه يقدر على اذلاله وإخضاعه مهما كانت قوته وإصراره، بينما الأخر كان قلبه يتضرع للمولىٰ طالبًا منه فك كربته واللُطف في قضاء أمره على الرغم من فرحته بابتلاء المولىٰ له، لكنه لازال بشريًا يحزن و ينكسر من أفعال الدنيا به.
خرج من شروده على تلك الدمعة الساخنة التي شعر بها على وجنته فتنهد بعمقٍ ثم مسح وجهه وقال بنبرةٍ خافتة:
_‏﴿إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾
ردد تلك الآية لنفسه ليذكرها أن كل شيءٍ بإرادة خالقها وهو فقط عليه حسن الظن بالله و التوكل عليه.
_________________________
في اليوم التالي بعد دفن “حكمت” صباحًا والعودة إلى البيت حينها اختفى “يوسف” عن الأنظار لكن هذا لم يثير فضولهم سوى فقط “شهد” تلك التي كانت تحاول رؤيته وسط البقية حتى دلفت “رهف” البيت فركضت لها تسألها بلهفةٍ:
_”رهف” !! مشوفتيش “يوسف” ؟؟
سألته بجمودٍ تقصده معها:
_وأنتِ مالك بيه ؟؟ سيبيه في حاله لو سمحتي.
تحدثت “شهد” بتوترٍ:
_على فكرة أنا كنت عاوزة اتطمن عليه…علشان…علشان هو اختفى مرة واحدة كدا، أكيد مش عاوزة حاجة يعني.
هتفت “رهف” بنفس الجمود وهي ترمقها بغيظٍ:
_أحسن، علشان هو مش شايفك أصلًا.
تحركت من أمامها “شهد” بغيظٍ فيما نظرت “رهف” في أثرها بضيقٍ بسبب ما فعلته في قلب رفيقها، أحزنته بقدر ما أحبها وضحىٰ لأجلها، أخبرها ذات يومٍ أنه يرى نفسه فيها وكأن كل الطرق أصبحت تأخذه إليها وأول ما خانته كانت عينيها.
بعد مرور ساعة تقريبًا في سيارة “نعيم” كان “إسماعيل” يقودها ويجواره “إيهاب” و في الخلف يجلس “نعيم” و معه “محي”، يذهبون بحجة تقديم واجب العزاء بعدما علم “إسماعيل” من مواقع التواصل الاجتماعي وخاصةً “شهد” تلك التي لازال يتابعها منذ أن تعرف عليها مع “يوسف”.
تحدث “إسماعيل” مستفسرًا بقوله:
_يا حج، هنروح نعمل إيه؟؟ أكيد هي مش فارقة مع “يوسف” مش كنا استنينا أحسن ؟؟
تحدث “نَـعيم” بنبرةٍ جامدة يقول:
_رايح علشانه هو، الاستاذ مش بيرد عليا من يومين، قلبي واكلني عليه حاسس أنه مش مرتاح، هو بس يعبرني، خايف يكون حصله حاجة، دي عيلة جرابيع كان انضفهم “مصطفى” الله يرحمه.
تدخل “إيهاب” يقول بنبرةٍ خشنة:
_ورب الخلق كلهم، لو لقيت فيه خدش صغير لأكون هادد البيت على دماغ كبيرهم قبل صغيرهم، أنا مش هسكتلهم يا حج، بس نطمن عليه ونبقى نشوف الحوار دا بعدين.
حرك “نَـعيم” رأسه موافقًا ثم نظر أمامه يقول بنبرةٍ خافتة:
_ربنا ميوجعش قلبي عليك يابني، ألطف بيه يا رب.
دلف “نَـعيم” أولًا وخلفه الشباب الثلاثة إلى وسط البيت فوجدوا “عاصم” و “سامي” و “نادر” ينتظرون قدوم الرجال لتقديم العزاء، عرفهم بنفسه فظهر الضجر على ملامحهم فيما نطق “عاصم” بتقديرٍ:
_نورت يا حج، اتفضل ارتاح من المشوار.
جلس وبجواره الشباب، فيما دار “إيهاب” في المكان بعينيه ثم نطق مستفسرًا بقوله:
_لامؤاخذة يعني “يوسف” فين ؟؟ احنا جايين هنا علشانه هو، أصل إحنا منعرفكمش علشان نيجي نعمل معاكم الواجب.
تدخل “نادر” ينطق بجمودٍ:
_مش هنا والله، أكيد اختفى زي ماهو متعود، لو زعلان اوي كدا اتفضل واجبك وصل وزيادة.
انتفض “إيهاب” بعدما استشف الإهانة في حديث الأخر:
_أنتَ قد كلامك دا ياض ؟؟ تحب أعرفك مقامك هنا ؟؟
وقف “سامي” يقول بتعالٍ:
_إيه شغل الهمج دا ؟؟ هما دول الناس اللي كان قاعد وسطهم ؟؟ طبيعي تكون دي أخلاقه.
تحدث “إيهاب” يهدده بقوله:
_تحب أوريك التربية و الأخلاق بحق ؟؟ طب أخويا لو مخرجش من هنا واطمنت عليه أنا ههد البيت على دماغكم، الواد فين بقاله يومين ؟؟
اقترب منه “نادر” يقول بثقةٍ:
_طردناه، ملهوش مكان بيننا، ارتحت ؟؟
أمسك “إيهاب” فكيه يضغط عليهما ثم قال من بين أسنانه:
_بلاش أنتَ علشان لو جت فيك مش هسمي عليك، احترم نفسك يا روح أمك وقولي أخويا فين بدل ما اقطع وشك.
كانت “فاتن” تجلس بمفردها تتابع ما يحدث يعينين باكيتين لا تريد التدخل أو التحدث، حتى وقف “نَـعيم” يقول بنبرةٍ جامدة:
_لو “يوسف” مخرجش أو اطمنت عليه أنا هولع فيكم كلكم.
نظرت له “فاتن” بعينين دامعتين ثم وقفت أمامه وهي تقول بنبرةٍ خافتة وكأنها تخشى التحدث:
_”يوسف” مش هنا، “يوسف” راح يزور قبر أبوه.
نظر لها “نَـعيم” بتفرسٍ ثم نطق يهددها بقوله:
_لو طلعتي بتقولي حاجة غير الصدق، متلوميش غير نفسك.
تنهدت بعمقٍ ثم تجاهلته وجلست على المقعد مرةٍ أخرىٰ، فيما دفع “إيهاب” ابنها وهو يقول بخشونةٍ في نبرته:
_الليلة دي لو أخويا مظهرش أنا هخليك تحصل ستك بدل ما تبقى لوحدها، واهو تاخدوا بونس بعض، واعتبره وعد مش تهديد، داير معاك الحوار سكة يا عمنا ؟؟ اللهم بلغت.
استمرت حرب النظرات بينهم جميعًا سائدة انهاها “نَـعيم” بتحركه خارج البيت ليتبعه الشباب فيما تحدث “نادر” بغضبٍ:
_كل المصايب من تحت راس الزفت دا، عمره ما هييجي من وراه حاجة عدلة أبدًا.
__________________________
غريبٌ، هو حقًا غريبٌ وطأت قدماه إلى هنا، لم يجد وصفًا مناسبًا لحاله وهو يصل لهُنا، يبدو وكأنه كما الغريب يزور مدينة لم تكن له ذات يومٍ، أو يشبه المحارب الذي فقدته قبيلته ليعود لهم من جديد، ربما ليثأر لهم أو يحرقهم كما سبق وتسببوا في إحراق قلبه، ربما يكون غريبًا عاد لموطنه وربما يكون عدوًا أتى لغريمه، ولم يبقى فقط أمامه سوى التمهل.
أوقف سيارته الحديثة عند مقدمة الحارة ثم نزل بشموخٍ مرفوع الرأسِ يرتدي حلِةً سوداء اللون، عيناه تشعان بالاحمرار وقد وارى محيطهما بنظارةٍ شمسية تخفي نظراته القاتلة حتى مر عند بداية مفترق طرق فسأل الجالس بنبرةٍ جامدة:
_لو سمحت، فين محل الحج “عبدالقادر العطار”
انتبه له الجالس صاحب المحل ولم يكن سوى “سـعد” صاحب محل الهواتف لذا سأله بتكهنٍ:
_خير عاوزه ليه ؟؟ فيه حاجة؟؟
هتف “يوسف” في وجهه بخشونةٍ:
_مش شغلك، عارف ولا لأ ؟؟
رد عليه مستسلمًا:
_خلاص يا باشا، امشي علطول واكسر يمين هتلاقي نفسك عنده، كل اللي جاي دا ملكه وبتاعه، ناس ليها الهنا وناس تلطم طول السنة.
تركه “يوسف” وتحرك حيث إشارات الأخر وقد تجاهله وتجاهل طريقته الغريبة ثم دلف أول زقاق قابله باسم “محلات العطار”.
كان “عبدالقادر” يسير وبجواره “أيهم” و “بيشوي” فسأل الاخر بقوله:
_عملت إيه امبارح مع “جابر” ؟؟ كلمك ؟؟
رد عليه بوجهٍ مبتسمٍ:
_كان برة الحارة محدش قاله حاجة، عدت على خير.
حرك “عبدالقادر” رأسه مستحسنًا ليسأله “بيشوي” بسخريةٍ:
_أنا عاوز أفهم مش عاوز تجوزني ليه؟؟ هي دي وصية “جرجس” ليك ؟؟ مش قالك عيالي أمانة في رقبتك؟؟ مش عاوز تجوزني ليه يا حج؟؟؟
رد عليه بنبرةٍ ضاحكة:
_مش أنتَ اترفضت ٥ مرات ؟؟ لسه قدامك مرة كمان نقفل نص دستة بعدها نخش في نص جديد، يلا ياض على شغلك امشي.
تحرك “بيشوي” وهو يحدث رفيقه يحذره بقوله:
_خليك شاهد على أبوك علشان لما اخطفها لو حد سألني هقول هو اللي سلطني، براحتكم بقى.
ضحك كلاهما عليه، فيما وضع “أيهم” ذراعه في ذراع والده وهو يقول بنبرةٍ ضاحكة:
_العيال دي إزاي مكرهتش الجواز لحد دلوقتي ؟؟ مش واخديني قدوة إزاي بس؟؟
ضحك “عبدالقادر” ولم يرد عليه حتى وصلا سويًا عند المحل الكبير الخاص بـ “عبدالقادر” وقبل أن يلج أيًا منهما وصلهما صوتٌ من الخلف يقول بنبرةٍ جامدة بدت غليظة:
_أنتَ الحج “عبدالقادر العطار” ؟؟
التفت كلاهما له فيما تحدث “أيهم” بنبرةٍ جامدة:
_ما تتكلم بالراحة يا عم أنتَ !! داخل خناقة؟؟
أمسك “عبدالقادر” يده يمنعه من التشابك معه ونطق بنبرةٍ هادئة مراعيًا غرابة هذا الشخص عن المكان:
_أيوا يابني أنا الحج “عبدالقادر العطار” اؤمر.
اندفع “بوسف” يسأله بنبرةٍ جامدة:
_أنا “يوسف مصطفى الراوي” ابن المرحوم “مصطفى الراوي” الأمانة اللي ليا عندك فين يا حج ؟؟
اتسعت عيناه حينما استمع لاسمه واسم والده، فابتسم “يوسف” بتهكمٍ وهو يقول بنفس الطريقة الجامدة:
_اقولهالك بصيغة الصراحة ؟؟ أمــي و اخـــتي فين يا حج “عبدالقادر” ؟؟؟
بجملته تلك يبدو وكأن أبواب الجحيم فتحت عليهم جميعًا وهو وحده من يملك مفاتيح الأبواب الموصدة.

يتبع….

“يــا صـبـر أيـوب”
__________________
من سُنن الحبيب:
_من المستحب احتضانُ الحزين، واستدلَّ العلماء على ذلك، بموقف الرسول ﷺ مع جذعِ الشَّجرة الذي بكى من حنينهِ إلى النَّبي ﷺ؛ فسمعه الرسول ﷺ فمسح عليه واحتضنه.
ثمَّ قال ﷺ: «لَوْ لَمْ أَحْتَضِنْهُ؛ لَحَنَّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»
_صلوا على حبيبنا الرسول ﷺ
____________________
_حينما نزلت الصفعة على وجهي لم تؤلمني هي بذاتها إنما ما ألمني بحق هو رؤية صاحب الكف الذي لطم وجهي بدون رأفةٍ، من ظننت في وجودهم النجاة هم نفسهم من ألقوني كما الغريق في المياه، تلك التي ظننتُ أنني مخلوق فقط لأجلها ومساراتي تقودني إليها كانت هي نفسها من قتلتني بنظرة قسوة من عينيها، أصبحت أسيرًا لحزني وبؤسي، أخبروني أين أجدني، أين أنا مني…أين نفسي ؟؟.
تلك الصدمة التي شلته وهو يراه أمامه بعد كل تلك السنين !! نسخة أخرى أقرب لوالده ناهيك عن جموده وقسوته وهو يقف أمامه ليثبت له أنه يختلف عن أبيه تمامًا، وقف “عبدالقادر” أمامه بعينين دامعتين فيما ظل الجمود ساكنًا في ملامح الأخر حتى نطق بنفس الطريقة الخشنة:
_هــمـا فـيـن يـا حــج ؟؟ اللي ليا هنا حياة كاملة، مش هتنازل عنها، قدر مشواري وموقفي وأظن إنك عارف كتير.
ضغط “عبدالقادر” على جفونه يخفي دموعه وتأثره فحقيقة كهذه تظهر أمامه بالطبع لها أثرًا كبيرًا عليه لذا اهتز جسده وعلا ضغط الدم في رأسه وقد لاحظه “أيهم” لذا أمسكه يقول بلهفةٍ وقلقٍ عليه:
_مالك يا بابا، أنتَ كويس ؟؟.
رد عليه بنبرةٍ خافتة أظهرت تيهه وضياعه:
_متقلقش…أنا بخير الحمد لله، وديني البيت بس أخد الدوا.
أسنده “أيهم” فيما وقف “يوسف” يتاعبهما باهتمامٍ حتى نظر له “عبدالقادر” بعينين لامعتين بصفاءٍ قلما وجده في أعين أحدهم له، فتحدث “عبدالقادر” بنبرةٍ واهنة يقول:
_تعالى معايا يابني البيت نورني، الكلام مش هينفع هنا.
هَمَّ “يوسف” ينطق مُعترضًا فقاطعه “عبدالقادر” بعدما قرأ الاعتراض في نظراته بلهجةٍ سلحها بالقوةِ رغم ارتجافة أوصاله:
_لو ابن المرحوم فعلًا زي ما بتقول، يبقى تيجي معايا علشان “مصطفى الراوي” عمره ما رفضلي طلب.
عند ذِكر والده لمعت عيناه بدموعٍ حارقة ونطق آملًا في الحصول على مبتغاه:
_يعني أنا جيت عنوان صح؟؟
ربت “عبدالقادر” على كتفه مُبتسمًا وقد تأثر هو الأخر وظهرت اللمعة البراقة في عينيه، ولولا الهيبة البادية على كليهما لكانا بكيا سويًا في ذلك اللقاء الغريب الغير مُرتب له من الأساس.
بعد مرور دقائق في مندرة “عبدالقادر” جلس “يوسف” في انتظاره يدخن السجائر بشراهةٍ ويُطفئها في منفضة السجائر بعدما اخذه “أيهم” للأعلى حتى يعطيه دوائه.
دلف “أيوب” بجوار المندرة فلاحظ رائحة السجائر التي عبقت في أرجاء البيت، حينها سعل بشدةٍ ثم رفع صوته ينادي على “وداد” بقوله:
_يا ست “وداد” !!
أتت له من الداخل تقول بلهفةٍ:
_أيوا يا أستاذ “أيوب” خير إن شاء الله!!
سألها بملامح وجه مشدودة وكأنه يُبدي تذمره:
_ إيه ريحة السجاير دي بس ؟؟ مين بيدخن هنا؟؟
همست له بنبرةٍ خافتة بعدما اقتربت منه:
_دا الضيف اللي عند الحج، قاعد جوة مستنيه لحد ما ينزله مع الأستاذ “أيهم” وزمانهم نازلين.
عقد ما بين حاجبيه وهو يقول:
_ضيف ؟؟ طب اتفضلي أنتِ وأنا هدخل أشوفه.
انصرفت من أمامه بخنوعٍ فيما تحرك هو نحو المندرة بخطواتٍ هادئة وإبان ذلك كان “يوسف” جالسًا على المقعد يهز قدميه بانفعالٍ وتشنجٍ، فدلف “أيوب” يقول بنبرةٍ هادئة:
_السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
انتبه له “يوسف” فرفع رأسه يسأله بجمودٍ:
_أنــتَ مــين ؟؟
تشكلت السخرية على وجه “أيوب” ورد بتهكمٍ:
_والله أول مرة أشوف غريب بيسأل واحد في بيته يقوله أنتَ مين، جديدة دي بصراحة.
انتفض “يوسف” على الفور من محله يتفرس ملامح وجهه فمد “أيوب” كفه وهو يقول بوجهٍ بشوشٍ كعادته:
_معاك “أيوب العطار” الابن الصغير للحج “عبدالقادر”
وزع “يوسف” أنظاره بين كفه الممدود وبين وجهه ثم مد كفه يعانق كف الأخر وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_وأنا “يوسف الراوي” الابن الكبير للمرحوم “مصطفى الراوي”
رد عليه “أيوب” بودٍ:
_اتشرفت بمعرفتك….البيت نور بيك.
قبل أن يرد عليه “يوسف” في تلك اللحظة تحديدًا دلف “عبدالقادر” وبجواره “أيهم” وقد لاحظ كلاهما وقوف الاثنين مقابل بعضهما، فتنهد “عبدالقادر” وتشدق بحبٍ:
_كويس أنكم اتعرفتوا على بعض.
قال حديثه ثم دلف يرحب بضيفه العزيز حتى جلسوا جميعًا وكل ذلك “يوسف” يجلس متعجبًا من ثباته لكل هذه المدة حتى وصل إلى هذه اللحظة ولازال متمسكًا بزمام أمور عقله، على الرغم من جنون نفسه وحالته الصعبة في السيطرة على نفسه قبل أن يظهر الوجه الآخر منه.
ابتسم “عبدالقادر” وهو يقول بتأثرٍ:
_البيت نور بوجودك فيه، أنتَ نسخة منه بالظبط.
تحدث “يوسف” بلهفةٍ:
_يا حج أنا مش جاي علشان أعرف شبهه ولا لأ، أنا عاوز أعرف فين أمي وأختي، اللي قالي عرفني إنهم عندك وإنك هتحافظ عليهم، صدقني مش عاوز غيرهم، هما فين ؟؟
سأله باهتمامٍ جليٍ وهو يتفرس ملامحه:
_وهو مين اللي حكالك عن اللي حصل؟؟
رد عليه بنبرةٍ جامدة عند ذكرها:
_”حكمت” مرات جدي، ريحت ضميرها قبل ما تموت، قالتلي على اللي حصل زمان، وإن حياتي كلها كدبة، فتحت عليهم أبواب جهنم اللي هيشوفوها مني قبل موتها علشان لما ابعتهم ليها، يبقوا يصفوا حسابهم صح سوا.
لاحظ حديثه الشباب و والدهم، فتنهد “عبدالقادر” مُطولًا ثم نطق بنبرةٍ حزينة:
_أمك فعلًا كانت هنا يابني، بس مشيت بأختك من بدري وسابت حارة العطار، بس أنا أقدر أوصلهم مع إن دا هياخد وقت.
اندفع “يوسف” يسأله بنبرةٍ خشنة:
_ازاي وهما أمانة عندك ؟؟ وازاي وهما عارفين أني عايش، يعني إيه مشيت يا حج؟.
رد “عبدالقادر” مُفسرًا بثباتٍ:
_علشان أمك مبطلتش تدوير عليك، أظن اللي حصل كله اتحكالك عليه و إزاي هما عرفوا يدوسوا عليها بعد المرحوم أبوك، مشيت لما تعبت من غيرك.
رفع كفيه يمسح وجهه ثم قال بنبرةٍ يائسة:
_طب أوصلهم إزاي ؟؟ أنا تعبت وماسك اعصابي بالعافية، واللي هيسكتني عليهم أني ألاقي أمي وأختي، علشان بعدها مش هرحم حد حتى لو بموتي، أنا ماسك نفسي قصادهم بالعافية، لو هو كان صاحبك بصحيح ساعدني اوصلهم.
رد عليه بنبرةٍ هادئة يُقدر حالته وسط نظرات الاستنكار من أبنيه:
_من غير ماتقول طالما ظهرت هقلب الدنيا لحد ما أوصلهم، أبوك كان أخويا وعمرنا ما سيبنا بعض، وإني أساعدك دي كأني بساعد ابني التالت، صحيح مصادفش ونتقابل وأنتَ صغير غير في أول عمرك بس ليا نصيب أشوفك وأنتَ كبير.
تنهد “يوسف” ثم مسح وجهه بعنفٍ فقال “عبدالقادر” يقترح عليه بدهاءٍ لعل وعسى يحدث مايريده هو:
_ممكن تيجي تقعد معانا هنا وتبقى معانا في حارة العطار، وأهو تكون معايا وأنا بدور عليهم يمكن نلاقيهم إن شاء الله.
نظر له “يوسف” بتخبطٍ اتضح في مقلتيه، فيما أشار “عبدالقادر بعينيه” لابنه الكبير “أيهم” فتحدث مُسرعًا:
_ اسمع مني حارة العطار كبيرة ولو زي ما بتقول عاوز تلاقي والدتك خليك معانا هنا، فكر فيها هتلاقي دا أنسب حل.
وقف “يوسف” ثم قال بنبرةٍ حازمة:
_هنشوف إن شاء الله، بس حتى لو من غيركم أنا هلاقي أمي وأختي، أنا عيشت عمري كله مبعرفش أسيب حقي، مابالك بروحي اللي غايبة عني ؟؟ عن إذنك يا حج.
أوقفه “عبدالقادر” قبل أن يلتفت ويغادر قائلًا:
_ وروحك دي علشان ترجع محدش هيعرف يعمل كدا غيري بس تكون قصادي ومعايا هنا، قولت إيه ؟؟
التفت يوزع نظراته عليهم ولم يدري لماذا تعلقت أنظاره بـ “أيوب” الذي رمقه بنظراتٍ ثاقبة فحرك عينيه نحو “عبدالقادر” يقول بزهوٍ:
_لما أقرر هرد عليك، بس أعمل حسابك أني مش هغيب عنك، أنا هكون هنا كل يوم و لو طلبت أني أقلب حارة العطار على دماغ الكل هنا علشان الاقيهم؛ هعمل كدا.
ابتسم “عبدالقادر” له بطيبةٍ وهتف:
_تحت أمرك يابني، الحارة بصحابها كلهم تحت أمرك.
تعجب من رده المُنافي لطريقته فيما أخرج “عبدالقادر” بطاقةٍ تعريفية بعمله وعليها رقمه ورقم أبناءه وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_أمسك يا “يوسف” دي ورقة فيها أرقامنا كلنا، خليها معاك، بس قولي مين عرفك طريقي؟؟ أكيد حد متأكد من مكاني.
رد عليه بإيجازٍ:
_”فاتن” أخت أبويا، مظنش إنك عارفها.
ابتسم “عبدالقادر” بسخريةٍ ثم نطق مؤكدًا:
_صح….أنا فعلًا معرفهاش…بس أكيد هي عرفاني.
أخذ منه البطاقة ثم نطق بجمودٍ:
_عن اذنكم….مؤقتًا لحد ما أرجع تاني.
عاد مُغادرًا _مؤقتًا_ كما أخبرهم، فيما نظر في أثره “عبدالقادر” بغموضٍ قرأه ابناه في الحال، فهتف “أيوب” مُستفسرًا:
_أنا مش فاهم أي حاجة خالص، أمه وأخته مين؟؟ دول عندنا هنا في حارة العطار؟؟ ومين دول الحارة مليانة ستات كتير ببنات.
تنهد “عبدالقادر” وضرب بعصاه الأرض بحركاتٍ خافتة ثم قال بنبرةٍ هادئة:
_أمه واخته مش هنا أصلًا، بس أنا عاوزه تحت عيني.
تحدث “أيهم” بحيرةٍ:
_ايه الفيلم دا كله، بتعشمه ليه طيب؟؟.
نظر له “عبدالقادر” بثباتٍ يحاول إخفاء شيءٍ ما وقد نجح في ذلك وهو يقول بضجرٍ من كثرة الثرثرة:
_خلاص مش مهم سيبوا الجاي على ربنا وتوكلوا عليه، هو لطيف بعباده وأكيد اللي جاي خير.
أذعن له الإثنان بعدما قررا التغاضي عن هذه المواضيع الغريبة والتي لم يعرفها كلاهما، فيما غرق “عبدالقادر” في ماضٍ لم يكن بالقريب لكن أثره على القلب لازال باقيًا وملموسًا حتى نتيجته الحالية تشبهت بأبواب الجحيم التي فتحت عليهم ستدمر كل ما يعترض طريقها.
_____________________
جلس “يوسف” في سيارته على مقعد القيادة يتنفس بعمقٍ وقد عاد بذاكرته للخلف حيث مقابلته مع “حكمت” قبل وفاتها، تلك المقابلة التي قتلت الباقي من روحه أو لربما أحيته من جديد، لا يعلم لكن هناك أشياءٌ تغيرت بداخله ولربما تدمرت وكل ما يملكه فقط الصبر على الرغم من نفاذه _أساسًا_ لكنه حاول التسلح به.
(في لقاءه مع “حكمت”)
جلس على المقعد بجوار الفراش بدون إكتراثٍ لها حتى قالت هي بنبرةٍ واهنة:
_اسمعني علشان الباقي مش كتير ومعرفش أنا فاضلي قد إيه، ومعرفش فوقت علشانك إزاي بس أكيد ربنا رايد إنك تعرف بالحقيقة.
تبدلت ملامحه على الفور ليظهر الفضول في مُقلتيه وهو يتتبع ملامحها منتظرًا منها التكملة لتقول هي جملتها الصادمة:
_الحادثة بتاعة أبوك الله يرحمه فاكرها!!
أبتسم بتهكمٍ ونطق بنبرةٍ موجوعة:
_فاكرها ؟؟ وهي دي حاجة تتنسي؟؟ اليوم اللي دمر حياتي كلها وخلاني هنا يتيم لا أب ولا أم، إيه اللي فكرك بيه؟؟
تنفست بعمقٍ ونطقت بخوفٍ من القادم:
_بس إحنا كدبنا لما قولنالك إن أمك ماتت هي واختك في الحادثة، أمك وأختك مماتوش يا “يوسف”، أبوك بس اللي مات.
نظر لها بدهشةٍ ونطق بطريقته المعهودة:
_بصراحة طول عمري أسمع عن تخاريف الميت، بس أول مرة أشوفها، دي حاجة غريبة أوي ربنا يجعلها في ميزان حسناتك.
نبست من جديد بنفس التردد:
_أنا…أنا واعية لكل حاجة بقولها…. مش بخرف، أمك مماتش وأختك حية مراحتش معاهم الليلة دي، بس لما المحامي قال إن أبوك كتب كل حاجة باسمك أنتَ، “عاصم” وأنا اتجننا، مقدرناش نقبل بحاجة زي دي، إن حتة عيل صغير يبقى عنده كل الحاجات دي، كانت ضربة لينا، علشان كدا “عاصم” خدنا كلنا وهرب وأنتَ معانا علشان كنت عند عمتك اليوم دا ومروحتش معاهم.
توقفت تزدرد لُعابها وهو يجلس أمامها جسدًا بلا روح، فتابعت من جديد ببكاءٍ:
أبوك مات بس أمك طلعت عايشة وليها عمر تاني، وعلى ما خرجت من المستشفى كان عمك خلص كل حاجة واستلم جثة أبوك ودفنها، وساعتها قولنالك إن كل واحد بيتدفن عند عيلته، ساعتها كنت عيل وصدقت….على مافاقت عمك كان خلص كل حاجة وداخت ورانا وكل ما نعرف إنها قربت توصل نمشي بيك، وبقى عمك وصي عليك والمحامي ظبطله الورق…. أنا كنت عارفة كل حاجة وساكتة علشان الفلوس، للأسف فيه تفاصيل كتير مش هقدر أقولها علشان الوقت، بس أمك راحت أخر حاجة عند راجل صاحب أبوك بعدما….بعدما ما “عاصم” سلط صاحب بيت أهلها وطردها منه، راحت للراجل دا تستنجد بيه…ودي أخر حاجة اعرفها، روح هات حقك من عنده…. أمك وأختك عنده….عند الراجل دا.
بدأت في مرحلة التيه منه وهي ترمش بوهنٍ، فاندفع نحوها يسألها بنبرةٍ جامدة:
_أنتِ بتقولي إيه ؟؟ أنتِ كدابة، أكيد دي تخاريف موت صح ؟؟ مستحيل يكون الجبروت في قلوبكم كدا، مستحيل تكونوا حكمتوا عليا بكدا….قولي إنك كدابة.
رفعت كفها تضعه على وجنته تحدثه بنبرةٍ حروفها متقطعة:
_ارحمني…ابقى سامحني….يمكن….دا يخفف حاجة عني.
هزها بعنفٍ في يده وهو يصرخ فيها بقوله:
_وأنـــتِ مــرحمتـنـيـش لــيه ؟؟ هـــا !! عارفة كلامك دا معناه إيه ؟؟ إنك حكمتي عليا طول حياتي باليُتم ودلوقتي بتحكمي عليا بالاعدام، ماهو أنا هقتلهم…. أكيد هقتلهم، كل دا علشان الورث !! كنتوا خدوه بس سيبوهالي هي، ربنا رحمني وسابلي أمي وأختي، وانتم عارضتوا ربنا في رحمته بعيل يتيم ؟؟.
كان يهزي مع نفسه وكأنه سُجن في بئر حديثها، فشهقت هي بتقطعٍ شهقة الموت لتعلن عن مفارقة الروح لجسدها، فأمسكها يهزها بعنفٍ وهو يسألها بخوفٍ من رحيلها قبل إخباره:
_اســــمــه إيـــه ؟؟ الـــراجل دا اســـمه إيـــه ؟؟
خرجت حروفها مُتقطعة وهي تقول:
_عـ….عبد…. عبدالقادر….العطـ…ار….سامحني…يا “يوسف”.
اتسعت عيناه بهلعٍ بعدما فقدت روحها على يده هو في أكثر الأوقات التي يريد منها التواجد معه، تلك التي بغضها وكرهها الآن يتمنى فقط منها الافاقة لو لحظاتٍ تُثلج نيران روحه لذا صرخ بها وهو يهز جسدها بعنفٍ وقد رحل التفكير عن عقله:
_قـــومــي….مش هتمشي دلوقتي، قومي
لقد كان موتها محتومًا في تلك اللحظة بعدما أخبرته باسم ذلك الرجل ليبقى أخر ما تعلق بذهنه وعلق بسمعه.
(عودة إلى هذه اللحظة)
خرج من شروده يمسح وجهه بعنفٍ ثم قام بتدوير محرك السيارة ليرحل من الحارة على الوعد بالعودة من جديد حتى يلتقي بأحبته، وقد قرر العودة إلى مكانٍ أخرٍ يعلم جيدًا أن تواجده به يساعده في تنفيذ القادم.
________________________
جلس “عبدالقادر” بشرودٍ في محله وجلس مقابلًا له “تَـيام” يسرد عليه تفاصيل العمل لكنه وقع أسير الشرود وسلطة الماضي أمام عينيه وكأن بظهور “يوسف” من جديد عودة آلام الماضي لهم جميعًا، لاحظ “تَـيام” شروده لذا هتف بنبرةٍ متعجبة:
_يا حج !! أنا بكلمك مش سامعني ؟؟
رد عليه بتيهٍ بعدما انتبه لصوته:
_ها !! بتقول حاجة يا “تَـيام” ؟؟
تحدث بتعجبٍ يجاوب على سؤاله بسؤالٍ أخر:
_أنتَ مش معايا خالص يا حج، بقولك الحج “حافظ” طالب رخام أسود ورمادي، علشان وجهة برجين كاملين، فيه طلب كبير على اللونين دول، اجمع الموجود من المخازن ولا اشوف المصنع بتاعنا ؟؟.
تنهد “عبدالقادر” ثم هتف بنبرةٍ خافتة وكأن الموضوع لا يُعنيه من الأساس:
_اللي تشوفوا صح أعمله، شوف الأحسن ليك هنا.
حرك رأسه موافقًا ثم أغلق دفتره واقترب منه يقول بنبرةٍ مهتمة من خلال دفعته في الحديث بقلقٍ:
_يا حج فيه حاجة مزعلاك؟؟ حد ضايقك؟؟
حرك رأسه نفيًا ثم قال بنبرةٍ هادئة:
_لأ يابني أنا بخير، متشغيلش بالك أنتَ.
لاحظ “تَـيام” اقتضاب ملامحه الضيق المُعتلي وجهه، ففهم أن الأمر يخصه ولربما تكون “آيات” رفضته لذا هتف بقلقٍ:
_هي الآنسة “آيات” رفضت أني أتقدم ؟؟
ابتسم “عبدالقادر” رغمًا عنه ونطق بسخريةٍ:
_وكلٌ يبكي على ليلاه ؟؟ لأ يا سيدي الموضوع ميخصكش، دي حاجة تخص واحد صاحبي من زمان، متقلقش.
حرك رأسه موافقًا وهو يجبر شفتيه على التَبسم فقال “عبدالقادر” له بعجالةٍ:
_بقولك إيه، روح البيت وقول لـ “وداد” تجيبلي الدوا علشان ضغطي مش مظبوط، يلا روح.
تحرك “تَـيام” من أمامه بلهفةٍ يتجه نحو البيت، فابتسم “عبدالقادر” وهو يعلم أنه سيستغل تلك الفرصة وقد قرر يثبت له أنه يثق به كما يثق بأبناءه، ثم عاد لشروده من جديد.
وصل “تَـيام” لبيت “عبدالقادر” ففتحت له “وداد” البيت وما إن ابصرته أمامها ابتسمت له وهي تقول بمرحٍ:
_البيت نور، خير يا حبيبي.
رد عليها بنبرةٍ ضاحكة:
_حبيبة قلبي يا “دودو” يا عسل، مبتجيش عندنا ليه؟؟
ردت عليه بنبرةٍ ضاحكة:
_هاجي واشرب عصير على حسابك كمان، حلو كدا؟؟
حرك رأسه موافقًا وهو يبتسم لها، ثم قال بنبرةٍ هادئة:
_طب هاتي علاج الحج، وهاتيلي حاجة اشربها وأنا قاعد في الجنينة مستني يلا يا “دودو”
حركت رأسها بيأسٍ وهي تضحك له ثم تحركت من أمامه فيما تحرك هو بخطواتٍ ثابتة نحو حديقة البيت يختلس النظرات كما السارق المُتمكن، يعلم أين هي تحديدًا لذا حرك رأسه نحو الأرجوحة فوجدها تجلس عليها بخمار رأسها كما عادتها حينما تجلس في حديقة البيت وذلك لانخفاض سور الحديقة مما يُسهل للمارةِ رؤية الجالس بالداخل.
ابتسم “تَـيام” بحبٍ وهو يراقبها تجلس على الأرجوحة وتمسك في يدها كتابًا اندمجت في قراءة صفحاته، فحمحم بخشونةٍ ثم اقترب منها يقول بنبرةٍ هادئة:
_السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
رفعت عينيها من على الكتاب وحينما رأته أمامها فرغ فاهها وارتبكت من حضوره، فيما استأذنها هو بقوله:
_ ممكن أقعد معاكِ شوية بس ؟؟
لم تعرف بما تُجيبه، بينما هو سحب المقعد وجلس مقابلًا لها وهو يقول بنبرةٍ هادئة وبدا الإحراج واضحًا عليه:
_أنا عارف إنك مش سمحالي أقعد هنا ولا حتى ينفع اقعد معاكِ من غير وجه حق، بس أنا لازم أتكلم معاكِ ضروري قبل أي حاجة وهروح أقول للحج أني قعدت معاكِ كمان.
اخفضت رأسها بخجلٍ تَغض بصرها عنه، فاندفع هو يسألها بدون تجميل للحديث أو برمجته في عقله:
_”آيات” أنتِ موافقة عليا ؟؟ يهمني أعرف رأيك منك.
تنهدت مُطولًا ثم رفعت رأسها تقول بخجلٍ:
_موافقة على إيه يعني مش فاهمة ؟؟
رد عليها بلهفةٍ بعدما حدثته وتنازلت عن صمتها:
_يعني الحج مقالش ليكي على طلبي، أكيد عرفتي.
تنهدت مُطولًا وقالت بنبرةٍ هادئة:
_قالي وأنا استخرت ربنا في الموضوع دا.
بدت ملامحه قلقة من القادم، لترد هي بسؤالٍ:
_بس أنا قبل ما أجاوب على طلبك، بس أنا عاوزة أعرف رأيك في الخطوبة الشرعية وفيا كبنت بتحاول تلتزم، موافق؟؟
رد عليها بوجهٍ مبتسمٍ:
_دا شرف ليا طبعًا إن ربنا يكرمني بيكي.
اتضح الخجل على ملامحها واخفضت رأسها بخجلٍ من جملته العفوية هذه، فتصنعت الجمود وقالت:
_لو سمحت الاجابات تكون من غير مراوغة، بعدين هل أنتَ ملتزم ؟؟
رد عليها مُسرعًا:
_والنعمة الشريفة اللي “وداد” بتحضرها جوة دي بصلي الفجر حاضر كل يوم ورا أخوكي “أيوب” عمري ما فوت مرة واحدة.
ابتسمت رغمًا عنها ثم قالت بنبرةٍ هادئة توضح له:
_ربنا يتقبل منك إن شاء الله ويثبتك على طاعته، بس حرام تحلف غير بـلفظ الجلالة، سيدنا محمد ﷺ قال:
“من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت”
وقال كمان ﷺ:
“لا تحلفوا بأبائكم ولا بأمهاتكم ولا بالأنداد، ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون”
وقال كمان ﷺ:
“من حلف بشيءٍ دون الله فقد أشرك”
سألها باهتمامٍ بعدما ذكرت قول النبي ﷺ أمامه:
_طب يعني إيه وضحي كدا ؟؟.
ردت عليه بوجهٍ مبتسمٍ:
_دا اسمه كدا حلف بغير الله والحلف بغير الله لا يجوز، ومينفعش تقول مرة وعديها لأن الحلف بالله عبادة والعبادة لا تصرف لغير الله.
سألها باندفاعٍ يحاول تبريء نفسه:
_بس أنا مش نيتي كدا أو حتى أني افكر أشرك بالله.
ردت عليه بنفس الوجه المُبتسم توضح له بإردافٍ أكثر:
_مش محتاجة نية للأسف، مجرد صرفها لغير الله لا يجوز، يعني ينفع تسجد لحد وتقول أنا مش نيتي عبادة ؟؟ لأ طبعًا لأن دي عبادة خاصة بربنا سبحانه وتعالى.
سألها من جديد باهتمامٍ:
_طب حتى لو بحلف حد وبقوله وحياة حبيبك النبي محمد؟؟ أصل علطول بقولها وبحلف الناس كلها بيها.
حركت رأسها موافقةً واضافت بتأكيدٍ مردفةً:
_ آه مينفعش، لأن سيدنا محمد ﷺ بنفسه هو اللي قال مينفعش تحلف بغير الله، ولو خدت على الكلمة حاول تغيرها، مش هتتعبك يعني درب لسانك على الحلف بلفظ الجلالة بدل ما يكون فيها إثم عليك، وربنا يقدرك إن شاء الله.
لم يعلم لماذا ارتفعت ضربات قلبه وشعر بنفسه قليلًا أمامها وأمام التزامها ومعلوماتها في الدين الإسلامي، فلاحظت هي نظرته تلك وتبدل ملامحه، لذا حاولت إصلاح الموقف وقالت بنبرةٍ هادئة:
_نرجع لموضوعنا تاني، هتقدر تتقبل إن الخطوبة تكون بالتزام شرعي نتعرف فيها على بعض ؟؟
أجبر شفتيه على التَبسم ثم قال بنبرةٍ بدا عليها الإضطراب:
_أنا لو عليا راسي مرفوعة بمجرد معرفتك من بعيد، مابالك لما ييجي يوم ونكون فيه سوا مع بعض؟؟ بس الفكرة أني مش في نفس التزامك، يعني بصلي الفروض كلها بصوم عادي، بحاول يعني بس مش بنفس القدر بتاعك، حاليًا حاسس أني مش هينفع أكون معاكي، أو متأكد من كدا وكأن الفروق بينا عمالة تزيد أوي.
تفهمت ما يشعر به لذا قالت هي بلطفٍ:
_لأ بالعكس، أنا يدوبك نقطة من بحر كبير لسه عاوزة أوصله، بس مشكلتي أني عاوزة حد يشجعني نكمل الطريق سوا، “أيوب” أكيد هييجي يوم ويكون عنده حياته وبيته، أنا عاوزة حد نمشي الطريق فيه سوا مع بعض، موافق؟؟
أبتسم لها وهو يسألها وقد عاد أمله من جديد:
_يعني أفهم إنك موافقة عليا ؟؟
ابتسمت هي الأخرى وقالت بنبرةٍ هادئة:
_أنا الحمد لله صليت استخارة وشوفت رؤية حلوة أوي.
سألها باهتمامٍ تخالطه اللهفة:
_بجد ؟؟ طب حلمتي بإيه؟.
أردفت توضح له بنفس الهدوء:
_حلمت إنك جيت ليا في الحلم ومديت ليا إيدك وأنتَ زعلان وأنا فضلت واقفة أفكر لحد ما في الأخر وافقت وحركت راسي لقيتك بتشاورلي على مكان بعيد وعاوزني اروحه معاك، رغم أني كنت خايفة بس في الأخر وافقت وروحت معاك، بس مش عارفة إحنا رايحين فين.
اتسعت ابتسامته وهو يقول:
_بس أنا عارف، أنا عاوزك تيجي العالم بتاعي، عاوزك تنوريه بوجودك فيه وعاوزك تكوني الزوجة الصالحة اللي اتقال عنها:
_”فاظفر بذات الدين تربت يداك”
شرف ليا وللعالم بتاعي إنك تنوريه بوجودك فيه.
حركت رأسها موافقةً ثم قالت بوجهٍ مبتسمٍ:
_ربنا يقدم اللي فيه الخير إن شاء الله.
اعتدل واقفًا وهو يقول بنبرةٍ هادئة رغم العبث الذي تشكل بنظراته وهو يتحدث:
_أمي علطول تقولي روح ربنا يلاقيك بالخير دايمًا، النهاردة أول مرة أخد بالي أني قابلت الخير كله وقعدت معاه كمان.
تحرك من أمامها فيما حاولت هي كتم بمستها الخجولة فوجدت ضربات قلبها تتصارع مع بعضها لتفوز هي في نهاية الأمر بضحكةٍ صافية جعلتها تسحب الهواء داخل رئتيها.
خرج “تَـيام” من الحديقة فقابلته “وداد” وهي تتصنع الأسف بقولها:
_يادي الكسوف، العصير خد وقت لحد ما جهزته.
رفع حاجبه بسخريةٍ وتحدث بتهكمٍ:
_يا شيخة؟؟ يعني مش الحج اللي قالك تقفي تراقبيني؟؟ بس شوفتي كنت مؤدب إزاي ؟؟ معملتش حاجة أهو، عاوزك تقوليله أني صليت هنا كمان.
لكزته في كتفه بغيظٍ منه وهي تقول بسخطٍ:
_عاوزني أكدب يا قليل الأصل ؟؟
علم أنها فعلت ذلك بحقٍ فارتفع صوت ضحكاته وقال بعدها بدهاءٍ:
_قفشتكم أنتِ وهو والله، عاوزك بقى تسيحيلي أني راجل متربي عشروميت مرة وعُمر العيبة ما تطلع من بوقي، ماشي يا “دودو” وابقى اتصلي بأمي عرفيها ها، خليها تفرح.
تحرك خطوتين ثم عاد لها بمشاكسىةٍ يأخذ الكوب من على الصينية وهو يقول بمعاندةٍ:
_هاتي دي أنا اولى بيها داخل على خطوبة ومواويل زرقا.
تحرك من أمامها خارج البيت بكوب العصير فقالت “وداد” بيأسٍ منه:
_الله يرحمه أبوك لو كان شاف خلفته بالهبل دا كان زمانه عملها من نفسه واتكل قبل شوفته للخلفة الهطلة دي.
______________________
عاد “يوسف” لبيت الزمالك من جديد فوجده متكدسًا بالناسِ لتقديم واجب العزاء من الجيران وعُمال الشركة، تنهد بضجرٍ يحاول كظم غيظه ثم وقف في الصف بجوار “نادر” للأسف لكنه قرر التصرف بطبيعته حتى لا يُثير شكوكهم، فيما تحدث “نادر” بسخريةٍ من وقوفه بجواره:
_غريبة يعني، إيه الحنية دي؟؟ واقف تاخد عزاها؟؟
تحدث “يوسف” وهو ينظر أمامه بضيقٍ:
_بس يا بابا، أسكت يا حبيبي واحترم عزا تيتة واسمعلك ربع يشفعلك شوية بدل ما أسمعه ليهم على روحك.
اغتاظ “نادر” من طريقته فهتف من بين أسنانه:
_هي كانت ستك ؟؟ واقف هنا ليه؟؟ ما تمشي.
نظر له “يوسف” بحاجبٍ مرفوعٍ فيما قال “نادر” من جديد:
_ولا واقف تاخد لقطة قدام الناس؟؟ الشغل دا هناك على الخيول بتوعك مش هنا، هنا أنا صاحب الليلة.
ابتسم “يوسف” وردد بسخريةٍ يقصد إهانة الأخر:
_ “قُل للحَمير وإن طالت معالفها
لن تسبق الخَيل في ركض الميادين”
رمقه “نادر” بغيظٍ تفاقم عن سالفه، فيما مال “يوسف” على أذنه يهمس بثباتٍ:
_رَيــح…ها رَيــح بدل ما أريحك أنا من الدنيا كلها.
تركه وتحرك للجهةِ الأخرى يقف مقابلًا له، فوجد “شهد” أمامه تجلس وسط النساء وتحديدًا بجوار عمته التي طالعته بخوفٍ تتذكر مقابلة الصباح بعد دفن والدتها.
(عودة إلى الصباح بعد مراسم الدفن)
أنتظر “يوسف” حتى دلفت “حكمت” قبرها وللحق لم ينكر فرحته وهو يراها داخل القبر لم يكن مجرد تشفٍ بها، لكنه تيقن أن ذلك هو الأفضل حتى لا يقتلها هو بنفسه، فيكفيه ما سُيقدم عليه لتحقيق انتقامه منهم جميعًا ليحرق قلوبهم كما تسببوا في إحراق قلبه منذ صغره.
وقفت “فاتن” في مدافن العائلة تتلقى العزاء من السيدات، حتى شعرت بكف أحدهم يسحبها من رسغها وقبل أن تسأل عن هويته أو تصرخ حتى وجدت نفسها أمام قبر “مُصطفى” أخيها في الأعين المخصصة بدفن الرجال بعدما اشترى “عاصم” تلك المدافن، فيما نطق “يوسف” بجمودٍ وعينيه قام بتخبئتهما خلف نظارته الشمسية السوداء:
_أنا جيبتك عنده هنا أهو علشان لو فكرتي تكدبي عليا أنا هخليكي تقعدي جنب أخوكي اللي جاي من عمرك كله، أمي وأختي فين ؟؟
اتسعت عيناها بصدمةٍ وكررت خلفه باستنكارٍ:
_أمك وأختك ؟؟ يعني إيه ؟؟
ضغط على رسغها حتى ألمها وقد تناسى تمامًا أنها عمته وكأنها واحدة من عابرات الطُرق يتصادم معها وهو يقول هادرًا من بين أسنانه:
_ يعني متحوريش عليا، أمك قالت كل حاجة قبل ما تموت وطلعت ناصحة، اعملي زيها أنتِ كمان وقولي أوصل لـ “عبدالقادر العطار” إزاي ؟؟
هتفت خلفه بعينين دامعتين:
_”عبدالقادر” !! إيه علاقته بأمك؟؟
نفذ صبره وقربها له أكثر وهو يقول بنبرةٍ جامدة ضاغطًا على رسغها:
_أنا صبري خلص ومفيش ذرة فيا فيها عقل، لو بايدي هموتك الليلة دي واخلص، بس أنا مستني اجيب اللي ليا، انطقي أجيب أمي منين ؟؟ أنتِ عارفة إنها عايشة.
حركت رأسها نفيًا وهي تذرف الدموع ثم نطقت بنبرةٍ موجوعة بعدما زادت قوة قبضته على يدها:
_يوسف….أنتَ بتوجعني…أيدي يا “يوسف”..
بكت وهي تترجاه حتى سألها هو بصوتٍ منكسرٍ وقد تلاشى جموده وظهر ضعفه أمامها وهو يقول بنبرةٍ متهدجة وقد أعلن البكاء عن نفسه:
_بوجعك ؟؟ وأنتِ موجعتنيش؟؟ مقهرتينيش ؟؟ حكمتي عليا معاهم أني يتيم وأنا ليا أم عايشة على وش الدنيا ؟؟ طب بلاش…أنا مصعيبتش عليكي ؟؟ مقولتيش مرة أني محتاجها ومحتاج حضنها، أنا عيشت عمري كله وسطكم مذلول مستني كلمة حلوة، ردي عليا، موجعتونيش وأنا وسطكم باخد بواقي ابنك ؟؟ موجعتونيش لما خدتوا مني كل حاجة حتى البنت الوحيدة اللي خلتني افكر استقر؟؟ مكسرتونيش لما اترميت في إصلاحية مرة وفي سجن مرة ؟؟ لو كدا بوجعك، اعتبريني بطبطب عليكي، علشان هوجعكم كلكم في اللي ليكم، وأنتِ أولهم علشان عداوتهم كانت صريحة، بس أنتِ كنتي زي الحية.
زاد بكائها وصرخت في وجهه وهي تلطم وجهها بكفها الحر:
_هددوني…والله هددوني إنهم هيرموك في الشارع، قولت تبقى قصاد عيني أحسن، قالولي إن عندهم مليون طريقة تخليك بعيد عني وكل مرة فضلتك على الكل، والله العظيم اختارتك أنتَ، كل مرة أجي أقولك اخاف أخسرك، أنا روحي فيك، أنا والله معرفش مكانها، و “عاصم” و “سامي” قالوا إنهم هيقولوا عليا اتجننت، كل الاختيارات قصادي كانت مقفولة.
نزلت دموعه وهو يصرخ في وجهها بانكسارٍ:
_أنـــتـوا إيــه؟؟ جَـــبابرة ؟؟ فاكرين نفسكم مين ؟؟ بتعارضوا رحمة ربنا ؟؟ أنا مش هرحم حد فيكم، الرحمة دي أبعد حاجة ممكن تشوفوها، قوليلي أوصله إزاي ؟؟ عنوانه فين ومتكدبيش عليا، أمك قالت إن أمي لجئت له بعد ما أخوكي قفل عليها السِكك كلها.
ردت عليه بنبرةٍ باكية وقد تيقنت أن الجحيم فُتحت أبوابه بيديه هو ليحرقهم بنيرانه:
_ساكن في حارة “العطار” اللي في ******* ماما و “عاصم” و “سامي” هما اللي عارفين مكانهم، أنا معرفش والله….علشان خاطري اديني فرصة وسامحني.
دفعها على الحائط خلفها ونطق بقسوةٍ تسلح بها ليقوى على مجابهاتهم:
_لما ربنا ياخدك زي أمك كدا أبقي قوليله يسامحك.
اقتربت منه راكضةً تصرخ باسمه فدفعها هو بيده ثم تحرك للخارج وقد اصطدم بـ “مادلين” وتجاهلها فيما لاحظت “مادلين” حالة الأخرى لذا اقتربت منها تحتضنها والأخرى تصرخ باسمه تود منه فرصةً لكن السيف قد سبق العزل وأنسالت الفرصة من بين يديها كما يَنسُل الخيط من النسيج المُتكامل ليصبح في نهاية المطاف أشلاءًا لم تنفع بشيءٍ،
لذا خرج من مقابر والده مرورًا بمقابر النساء خارجًا ليتجه إلى “حارة العطار” بحثًا عن ذويه.
(عودة لتلك اللحظة)
خرج من شروده بعدما اتصلت نظراته بها لتنكس رأسها للأسفل بخجلٍ و خزيٍ خاصةً وهو يرمقها بسهامٍ قاتلة من نظراته حتى أوشكت على الانصهار محلها بسبب قسوة نظرته.
انسحب هو من المكان وتوجه نحو حديقة البيت يدخن سيجارةً حتى وصله صوتها من الخلف تقول بلهفةٍ:
_أنتَ كويس ؟؟ كنت فين من الصبح ؟؟
التفت لها يقول بنبرةٍ هادئة بعدما أخرج دخان سيجارته:
_أنا كويس يا “رهف” متقلقيش.
اقتربت منه تقول بقلة حيلة:
_كداب، قبل كدا قولتلي إن لما حد بيموت أنتَ بتتعب وبتفتكر موت عيلتك، ادعيلهم ربنا يرحمهم وتشوفهم في الجنة كلهم.
هتف بسخريةٍ موجوعة:
_اشوفهم بس في الدنيا وبعدين نشوف الجنة.
رغم تعجبها من حديثه إلا أنها تغاضت عنه وقالت بلهفةٍ وكأنها تذكرت لتوها:
_بقولك صح، الحج “نَـعيم” جالك هنا ومعاه شباب كدا باين تلاتة، وشدوا قصاد بعض وفيهم واحد قال إنك لو مظهرتش الليلة دي هيقلب الدنيا عليهم، قولت أعرفك تطمنه طالما عمال تغيب عنهم كدا.
تنهد بعمقٍ ثم قال بامتنانٍ:
_شكرًا يا “رهف” كويس إنك عرفتيني، أهو هروحلهم الليلة دي اطمنهم أنا قافل تليفوني من امبارح.
حركت رأسها موافقةً ثم قالت بضيقٍ:
_ست الحُسن سألت عنك، بس أنا بصراحة هزقتها.
ابتسم رغمًا عنه ثم ألقى سيجارته وأخرج هوائها من رئتيه ونطق بعبثٍ وهو يبتسم لها:
_لو جت سألتك عني تاني، قوليلها “يوسف” بيقولك أنتِ مال أمك.
ضحكت “رهف” وقالت بمرحٍ:
_لأ دي بتاعتك أنتَ بقى، أخلاقي موصلتش لكدا.
حرك رأسه موافقًا فوجد “شهد” تأتي من خلف “رهف” فسألته بنبرةٍ مهتزة تحاول خلق الأحاديث معه:
_طنط “فاتن” عمالة تعيط وتنادي عليك، أنتَ كويس؟؟
اقترب منها يقف مقابلًا لها ناطقًا بلامبالاةٍ:
_أنـتِ مـال أمـك يـا “شـهد” ؟؟
اتسعت عيناها بدهشةٍ من هول المفاجأة وقد ضحكت “رهف” في الخلف بتشفٍ بينما هو تركها ورحل من المكان فوقفت بتبرمٍ تشعر بالنيران وليس بسبب كلمته إنما من إحراجه لها أمام “رهف” وخصيصًا أن كلتاهما تكره الأخرى، فاقتربت منها “رهف” تقول بأسفٍ:
_مُصممة تحرجي نفسك قصادك، وهو عمره ما هيعاملك زي الأول، أنسي يا “شهد”
هتفت الأخرى بثقةٍ لا تدري من أين اكتسبتها:
_وهو عمره ما هيحبك يا “رهف” انسيه.
ابتسمت “رهف” بسعادةٍ وهي تقول:
_والحمد لله إنه محبنيش علشان أفضل متأكدة أنه أخ ليا في ضهري بدل ما أخسره زي ناس كدا، ولو متعرفيش حاجة عني فأحب أقولك أني محبيتش حد زي “حمزة” الله يرحمه، ودي حاجة اسمها إخلاص و وفاء على ما أظن بعيد عنك إنك تفهمي معناهم.
تحركت “رهف” من أمامها مرفوعة الرأس بشموخٍ بعدما استطاعت الرد عليها خاصةً أنها حاولت تفصل بينهما سويًا مُحتجة بأنها تحاول سرقة “يوسف” منها، بينما الأخرى زفرت بقوةٍ ثم خرجت خلفهما.
________________________
في شقة “فضل” كانت “قمر” تجلس على الأريكة حتى اقتربت منها “ضُحى” تقول بضجرٍ منها:
_بت !! ما توافقي على العريس، هنفضل جنب بعض كدا كتير ؟ طب واحدة حظها زفت والتانية تتعدل شوية يمكن يطلع ابن حلال، وافقي عليه خلينا نزغرط.
زفرت “قمر” بضيقٍ ثم قالت:
_مش عاوزاه يا “ضحى” مش موافقة عليه ومش مرتاحة.
ردت عليها “ضحى” بنبرةٍ جامدة تريد أن لا تتعلق أكثر:
_لأ أنتِ عاوزة حد تاني بعيد عننا أوي يا “قمر” اللي عاوزاه دا صعب أوي أنه يحصل، هو صغير يعني علشان ييجي يتقدم ليكي ؟.
هتفت “قمر” باندفاعٍ تقول:
_هو يعرف منين يا بنتي ؟؟ واحد فضلت سنتين بفكر فيه وهو مش كدا طبعه وصفاته مش كدا، ولو فكر فيا حتى أكيد مش هيكون بطريقة غلط، وأنا مش عاوزة اتجوز خلاص جالي عقدة من كل العلاقات.
علقت “ضحى” بعد حديثها مُصححةً:
_لأ أنتِ علقتي نفسك بحبال دايبة، نصيحة مني احسبيها صح علشان اللي زينا ملهمش غير اللي شبهم، شوفتي أهو لما بصيت لفوق حصل إيه؟؟ طلع واحد قليل الأصل، واللي زي “أيوب” دا أكيد صعب أوي إنك تكوني معاه، هيقفلها عليكي.
تنفست “قمر” بحدة ثم تحركت من مكانها بعدما تمكن منها اليأس فنظرت الأخرى في أثرها بقلة حيلة وهتفت:
_ربنا يجبر بخاطرك إن كان هو ليكي.
توجهت “قمر” للمطبخ نحو “أسماء” التي كانت منشغلة في إعداد الطعام لهم، وحينما دلفت لها سألتها بسخريةٍ وهي تقوم بتقليب الطعام:
_خير يا ضُرتي؟؟ جاية ليه.
هتفت بضجرٍ من حديث الاخرى:
_بنتك عكننت عليا عيشتي، بتقولي أني بحلم أحلام بعيدة، بس أنا والله مش شايفة غيره وبدعي ربنا يجمعني بيه، هو حرام ؟؟ أنا عاوزة أكمل الطريق اللي جاي معاه هو مش مع حد غيره.
تنهدت “أسماء” بقلة حيلة ثم التفتت لها تقول بوجهٍ مبتسمٍ وهي تتذكر الماضي:
_عارفة يابت زمان كنت هموت على “فضل” والناس كلهم عرضوني علشان كان شقي ولبط من يومه، بس أنا صممت وقولت دا يعني دا، وشوف أخرتها إيه ؟؟
سألتها “قمر” باهتمامٍ وهي تتفرس ملامحها المبتسمة:
_أخرتها إيه ؟؟ طمنيني.
لوت فمها يمنةً ويسرى بتهكمٍ وهي تقول:
_واقفة أطبخلكم أنتِ وخالك ياختي بلا خيبة.
ابتسمت “قمر” رغمًا عنها وسألتها باهتمامٍ:
_يعني فيه أمل ؟؟ صح .
حركت رأسها موافقةً بوجهٍ مبتسمٍ وهي تقول:
_قولي يا رب، هو أحن على قلبك من أنه يحرمه من مراده إلا لو كان مش خير ليكي و هيأذيكي.
______________________
جلس “بيشوي” في محله يسجل بيانات العملاء بأرقام هواتفهم وقد بدا منخرطًا فيما يفعله حتى دلف له شابٌ يقول بنبرةٍ هادئة:
_مساء الخير يا “بيشوي”.
رفع رأسه عن الملفات الموجودة أمامه وهتف بحماسٍ:
_أهلًا “يوساب” باشا لسه فاكر إنك ليك ابن خالة تسأل عليه؟؟ دا الدم عندكم بقى مياه ساقعة مشبرة.
أبتسم “يوساب” رغمًا عنه وهتف مُردفًا باحراجٍ:
_مشاغل وأنتَ عارف كويس أوي، شغل الجامعة مش سهل وأنا مركز فيه علشان أكون دكتور، دلوقتي معيد صغير للسكاشن وبكرة أكون دكتور رسمي.
حرك رأسه موافقًا بإعجابٍ وهو يقول:
_طول عمرك طموح ودماغك حلوة، اقعد بقى أشرب معايا كوبايتين شاي حلوين كدا ونشوف سر زيارتك إيه ؟؟.
جلس الشاب بعدما أومأ له موافقًا فطلب “بيشوي” الشاي من مساعده وعاد يسأل قريبه بوجهٍ بشوشٍ:
_ها قولي خير حصل حاجة ؟؟ محتاج حاجة؟؟
حرك رأسه نفيًا ثم سأله باهتمامٍ:
_”مارينا” مش بتروح التدريب بتاع الجامعة، وفيه حاجات مهمة هتفوتها، أنا قلقان لا تكون مش مهتمة بحاجة زي دي رغم أنها بتفرق في الشهادة بتاعتها.
ابتسم له “بيشوي” وهو يقول بنبرةٍ ضاحكة:
_وإيه سر الاهتمام دا ؟؟ حضرتك كـ معيد بتهتم بكل الطلبة كدا يا “يوساب” ؟؟ ولا دي حالة خاصة بقى ؟؟
تنهد “يوساب” ثم نطق بنبرةٍ هادئة:
_هي أصلًا بتحب واحد زميلها يعني أنا مش في دماغها، بس اهتمامي علشان مستقبلها، إن كانت هي طايشة أظن المفروض حد عاقل يوعيها.
تنهد “بيشوي” بضجرٍ ثم قال بضيقٍ بدا واضحًا عليه:
_هي ممنوعة من النزول بسبب حوار كدا حصل أنا السبب فيه، المهم أنا هحاول مع أبوها وأخليها تنزل بس عاوزك تركز مع زميلها دا علشان حاسس كدا إني هحط عليه قريب.
حرك رأسه موافقًا ثم أشار على عينيه قائلًا:
_عيني الاتنين يا كبير، كدا كدا نفسي اضره أوي.
ابتسم “بيشوي” بخبثٍ وهو يقول مؤكدًا:
_يبقى نضره، هو يعني حد بيدور ورانا ؟؟ دا حتى المثل بيقولك أنا وابن خالتي على اللي يفكر يجي جنب حاجتي.
ضحك “يوساب” بصوتٍ عالٍ ثم وقف وهو يقول بنبرةٍ لازال بها أثر ضحكاته:
_طب يا ابن خالتي أنا هروح أجيب “كرستينا” من الكنيسة عندها اجتماع هناك، علشان خالتك متصدعناش، بوسلي خالتي لحد ما أجي ابوسها أنا بنفسي.
_”يوساب رأفت”
ابن خالة “بيشوي” يعمل معيد في كلية العلوم، متوسط القامة قوي البنية، يهتم بمظهره كثيرًا، هادئ الطباع والصفات، يعتبر “بيشوي” الأخ الأكبر له، كما أنه يرجع له في أدق تفاصيل حياته، في العام السادس والعشرين من عمره، تولى دور المُعيد نظرًا لتفوقه دراسيًا وارتفاع تقديراته.
حرك رأسه موافقًا ثم ودعه وهو يبتسم له ليرحل الأخر بعدما أدىٰ رسالته ورحل وهو يعلم أن “بِيشوي” سيحل عقدة معضلته لتنفك تمامًا.
في شقة “جابر” كانت “مهرائيل” تجلس بجوار شقيقتها فأتت والدتهما تقول بسخريةٍ:
_هتفضلوا قاعدين كدا زي برطمانات المخلل في المطاعم؟
ردت عليها “مهرائيل” بقلة حيلة:
_ما انا مخنوقة من ساعة اللي حصل امبارح، و الاخت اللي جنبي عليها حظر وكل ما أنزل تقعد تنبر في المشوار، خلينا نشوف أخرتها إيه بقى.
دلف والدهما الشقة وهو يقول بضيقٍ:
_مساء الخير عليكم.
ردت زوجته فقط بينما صمتت الفتيات، فجلس هو أمامهن يقول بتهكمٍ:
_يعني قاعدين هنا عادي، محدش منكم نزل ولا حد راح حتى بيت العطار ؟؟ من إمتى يعني؟؟.
ردت “مهرائيل” بضيقٍ:
_رايحة كمان شوية، بس الشمس تمشي.
نظر للاخرى وهو يقول بقلة حيلة:
_الحظر بتاعك اتفك خلاص، شوفي بقى وراكي إيه.
نظرت له بعينين مُتسعتين فصدح صوت جرس الباب وتحركت “مهرائيل” تفتح الباب لتراه هو أمامها مبتسم الوجه وما إن أبصرها قال بمرحٍ:
_”هيري” بنفسها فتحت ليا ؟؟ دا أنا حظي من السما.
رفع “جابر” صوته يسألها عن طارق الباب وقبل أن ترد هي بارتباكٍ ملحوظٍ، رفع هو صوته يثير استفزازه بقوله:
_أنا يا حمايا محدش غريب، اتطمن.
ابتسمت “مهرائيل” بخجلٍ فغمز لها بمشاكسىةٍ حتى خرج له والدها يسأله بغلظةٍ:
_خير ؟؟ فيه حاجة؟؟
حرك رأسه موافقًا ثم قال:
_ياريت تنزل بنتك الجامعة علشان متسقطش، هي ملهاش ذنب لو عاوز تحبس حد “مهرائيل” عندك أهيه أحبسها في البيت.
اتسعت عيناها بهلعٍ وهي تنظر له، فوجدته يكمل بخبثٍ:
_أصل أنا بغير عليها أوي، خليها عندك لحد ما أجي أخدها.
سحبها “جابر” للداخل ثم وقف أمامه يقول بنبرةٍ جامدة:
_دا بعينك يا ابن “جرجس” إنك تطول منها شعراية، بنتي مش ليك ودا أخر قولي، متتعبش نفسك على الفاضي، علشان مش هحط أيدي في أيد ابن “جرجس” على أخر الزمن.
زادت شراسة نظرات “بيشوي” واقترب منه يقول بنبرةٍ خافتة:
_الواد “مُسعد” اللي نصب عليك في مصلحة الرخام عندي في المخزن لو عاوز حقك منه تعالى خده، مش عاوزه خليه وهبقى أكمل عليه هدية جواز بنتك، اعتبره كدا زي ما الحج “عبدالقادر” بيقول، مهر العروسة، أصل أنا تربيته أوي، سلام يا حمايا.
تدرج وجه “جابر” بحمرة الغيظ واحتقن وجهه فابتسم “بيشوي” ثم قبل وجنته وقبل أن يرحل نطق بوقاحةٍ:
_ابقى وصلها لصحابها بقى.
رحل كعادته بعدما أثار حنقه وغيظه وأثبت له أنه دومًا في حاجةٍ إليه ولن يستطع التصرف بدونه ويحتاج لمن يوفر له الحماية وسط السوق لكن الأخر منعه كبرياءه من الاعتراف بذلك حتى لو لنفسه أن ابن عدوه اللدود هو نفسه من يحميه.
______________________
في منطقة نزلة السمان توقفت سيارة “يوسف” أمام مقر بيت “نَـعيم” ثم خرج منها وتوجه لداخل البيت حتى ركض له “إسماعيل” بلهفةٍ وهو يقول:
_يا عم فينك ؟؟ الحج قالب الدنيا عليك وروحنالك الزمالك.
تنهد بعمقٍ ثم هتف بنبرةٍ خافتة:
_أنا أهو للأسف حي مموتش.
عقد “إسماعيل” حاجبيه فاقترب منهما “مُحي” بلهفةٍ حينما رأه وقد تحدث بقلقٍ حقيقي عليه:
_قافل تليفونك ليه ؟؟ وكنت فين كل دا ؟؟
رفع حاحبه ينطق بسخريةٍ:
_هكون فين يعني ؟؟ أنا هنا أهو، قلقان عليا ولا نفسك تخلص مني أنتَ كمان ؟؟ يلا ماهي مجاتش عليك.
تحدث “مُـحي” باندفاعٍ بعدما أحرجه:
_بس أنا قلقت عليك بجد، ولأول مرة يهمني أمرك، عاوز تصدق أنتَ حر مش عاوز إن شاء الله عنك ما صدقت.
أدرك “يوسف” أنه أحرجه على الرغم من نظرة القلق المتضحة في نظراته، لذا زفر بقوةٍ واقترب منه يقول في محاولةٍ لتلطيف الأجواء:
_متزعلش مني، بس أنا تعبان وبقالي يومين منمتش، متقلقش أنا بخير.
حرك رأسه موافقًا بتفهمٍ فركض “نَـعيم” من الداخل يقول بلهفةٍ:
_أنتَ كنت فين يا بيه ؟؟ خلاص مالكش كبير يقلق عليك؟؟ يومين غايب عن عيني مش عارف عنك حاجة؟؟ وقافل الزفت اللي معاك دا ؟؟ أخرتها إيه؟؟.
تنفس بعمقٍ ثم قال بنبرةٍ جامدة متجاهلًا حديث الأخر وقد صدمه بحديثه:
_تعرف إيه عن “عبدالقادر العطار” ؟؟
تبدلت ملامحه إلى الاستنكار وهو يكرر خلفه:
_”عبدالقادر العطار” ؟؟ مين دا أصلًا ؟؟
رد “يوسف” بنبرةٍ جامدة:
_دا تاجر رخام ومواد بُنا وعنده أمي وأختي.
وقع الحديث عليهم كما وقع الصفعة تلطم الوجوه بغير هوادة أو تأني، خاصةً أنهم يعلمون بوفاة أسرته بالكامل، فردد “نَـعيم” بدهشةٍ:
_أمك وأختك ؟؟ إزاي يابني مش ماتوا ؟؟
حرك رأسه نفيًا وهو يقول بوجعٍ:
_طلعوا عايشين وشكلهم اتمرمطوا أوي.
نظروا لبعضهم بدهشةٍ وقد ظن منهم أنه تعاطى بعض المواد المخدرة أو الخمور لكي يتناسى ألمه لكن ألمه أعلن العصيان ليظهر نفسه عليه بتلك الطريقة القاسية التي جعلته شخصًا غير الأخر وكأنه تبدل بنسخةٍ ثانيةٍ منه.
في الداخل خاصةً عند مقر بقاء الخيول وقف “إيهاب” يتابع العُمال أثناء تنظيفهم لاسطبل الخيول وبقيت معه “سمارة” تراه وهو يشير بأوامره للرجال وهي تبتسم بسعادةٍ كونها أصبحت له أخيرًا ومعه، فيما تحرك هو يجلس بجوارها وهو يسألها بنبرةٍ ضاحكة:
_بتضحك على إيه يا عمهم ؟؟
ارتفع صوت ضحكاتها أكثر ثم قالت بدلالٍ:
_مبسوطة وأنا شايفاك قصادي كدا منور الدنيا كلها و واقف شبه الفارس وسط الخيول دي كلها، دا طلع حلمي حقيقة أهو.
سألها “إيهاب” باهتمامٍ:
_حقيقة ؟؟ إزاي يعني ؟؟
ردت عليه بخجلٍ طفيفٍ كأي أنثى غيرها:
_مرة زمان شوفت فيلم كان فيه بطلة بتحلم بالفارس يجيلها على حصان وساعتها قولت وماله ما احلم أنا كمان، هي يابت أحسن منك يعني ؟؟ بس شوية ونسيت الحلم دا كله لحد ما لقيتك أنتَ، شبه الفارس اللي اتمنيته وأحلى وأحلى كمان.
انفلجت شفتاه ببسمةٍ صافية جعلتها تندفع وتسأله بحماسٍ:
_قولي بقى أنا شبه مين كدا ؟؟ أنتَ فارس وأنا إيه؟؟
فكر قليلًا ثم هتف فجأةً:
_أصيلة….أنتِ أصيلة يا “سمارة”
شهقت باستنكارٍ ورددت خلفه بتعجبٍ:
_المُهرة ؟؟ يعني يا أخويا بقولك أنتَ فارس تقولي أنتِ مُهرة، دا إيه الحِزن الأسود دا، يا أخويا طب قولي كلمة عدلة، الصامت بتاعك دا مضر بالصحة، غلط يا أخويا هتموت مكبوت.
بدت حانقةً وهي تحدثه فضحك هو رغمًا عنه وضرب كفيه ببعضهما وهو يقول بيأسٍ:
_لو صبر القاتل على المقتول مكانش اتمرمط في البوكس وكل أمين شرطة يعلم عليه، بس نقول إيه ؟؟
ضحكت وهي تسأله بنفاذ صبرٍ:
_قول بقى أنا إيه، شبه مين يلا يا عمنا؟؟
عادت ضحكته من جديد ترتسم على شفتيه ثم قال بنبرةٍ هادئة يوضح لها مقصده منذ البداية:
_أنتِ أصيلة زي المُهرة العربية، لو رخيت حبلها متسيبش صاحبها وتبقى على عشرته، ولو خيالها قِسي عليها تلاقيها مراعية حالته، المرتين اللي اثبتولي إنك مهرة أصيلة، أول مرة لما قفشتك في شقة البت إياها وكنت هموتك بأيدي، وتاني مرة لما اتحبست، كل يوم كنت بقول بكرة هتيجي تطلب الطلاق، بكرة هتيجي تقول مش هستحمل، بكرة تيجي تقول إنها مش هتضيع سنين عمرها علشاني، رغم إن دا حقك وعمري ما كنت هرفضه، بس كنت عشمان أخرج ألاقي حاجة حلوة تصبرني على المر اللي شوفته، وطلعت مختار مُهرة أصيلة على أبوها، شغلت القلب والعين وبقت عمهم هما الاتنين.
ارتفع صوت ضحكتها عاليًا ليضحك هو الأخر ثم قال بنبرةٍ هادئة بعدما طالعها بهيامٍ:
_إن شاء الله يومين كدا ونروح نجيبلك هدوم جديدة بطرح كمان، سيبتك أهو تدلعي براحتك، يبقى حقي اشكمك بقى.
ضربته بكتفها في كتفه وهي تقول بدلالٍ وإغراءٍ له:
_وماله يا سي “إيهاب” اشكمني براحتك، وأنا هتدلع عليك في بيتنا براحتي، عندك مانع ؟؟
رفع حاجبيه بغير تصديق وهو يضحك على جرأتها وهي تتدلل عليه، فحمحم أحد الصبية من الخارج يلفت نظرهما حتى رفع “إيهاب” صوته قائلًا:
_خير يا “ميكي” فيه حاجة؟؟
جاوبه من الخارج بنبرةٍ قوية:
_الحج “نَـعيم” بيقولك “يوسف” وصل برة.
انتفض “إيهاب” على الفور حينما استمع لذكر اسمه وقد لحقته “سمارة” نحو الخارج عند مجلس الرجال.
اقترب “إيهاب” يسأله بنبرةٍ خشنة:
_أنتَ كنت فين يالا ؟؟ فاكر نفسك طير حر ؟! مش فارق معاك قلقنا عليك ؟؟.
تنهد “يوسف” بعمقٍ ثم نطق بنفاذ صبرٍ:
_اقعد بس يا “إيهاب” أنا دماغي مش فيا لكل دا.
رفع “إيهاب” حاجبيه مستنكرًا ثم نطق باستخافٍ:
_يا شيخ ؟؟ طب أدبًا ليك سمعلي جدول الضرب يلا.
ضحك “يوسف” رغمًا عنه فسألته “سمارة” ببلاهةٍ:
_إيه دا ؟؟ أنتَ علمته زي ما علمتني ؟؟ يا حلاوة!!
أشار له “إيهاب” أمرًا عليه حتى مسح “يوسف” وجهه ثم نطق بقلة حيلة:
_العرقبة، تعرقب المطوة في زاوية صح الواحد رجله متشيلوش تاني…..الخربشة خدش بسيط لعيل هلهولة شايف نفسه ميستاهلش تغوطها علشانه….. القاضية تعويرة في الوش صاحبها لو خدها وشه ملهوش قطع غيار….زيارة عشماوي دي من أبو أحمر علطول، هو هيروح القبر وأنتَ تلبس الأحمر، مرضي يا “عمهم”.
ربت “إيهاب” على كتفه بفخرٍ فيما تحدث “إسماعيل” مستفسرًا يسأله:
_طب والعمل يا “يوسف” ؟؟ هترجع أهلك إزاي ؟؟
نظر أمامه بغموضٍ وهو يقول:
_عينه كدبت، وأنا صياد في كدب العيون، علشان كدا هروح حارة العطار أفضل فيها هناك، ولحد أخر نفس فيا مش هسيب أمي وأختي.
نظر “إيهاب” بتعجبٍ لهم وكذلك زوجته، فيما استمرت النظرات الحائرة بين البقية بشفقةٍ عليه وعلى حاله.
____________________
جلس “أيهم” في شقته بعد عودته من العمل ومعه “إياد” الذي تحمم وبدل ثيابه ثم اقترب منه يجلس بجواره وهو يقول بنبرةٍ مرحة:
_أنا خلصت قبلك، لسه دا كله قاعد ؟؟.
تحدث “أيهم” يقلد طريقته:
_قاعد مستنيك تخلص علشان أشوفك لو عاوز حاجة.
ابتسم “إياد” ثم هتف بأسفٍ مصطنعٍ:
_طلعت ظالمك يعني؟؟ مش مهم فدايا.
حمله “أيهم” يجلسه على قدمه وهو يقول بنبرةٍ ضاحكة:
_فداك أبوك كله يا واد، المهم أنتَ تكون بخير.
حرك رأسه موافقًا وهو يقول:
_بخير أوي أوي، أنا عاوز أروح معاك المصنع كل يوم، الشغل هناك حلو أوي أحسن من هنا.
ربت على خصلاته المبتلة وهو يقول بخنوعٍ:
_حاضر كل مرة هروح فيها هناك هاخدك معايا، حاجة تانية.
حرك رأسه موافقًا واضاف مؤكدًا:
_بكرة الجمعة هنخرج سوا و “آيات” تيجي معانا هي كمان وبعدها نطلع السطح نخلي “أيوب” يدربني ملاكمة وأنتَ معانا وتلعبوا مع بعض قصادي.
تحدث “أيهم” بقلة حيلة أمام طلباته وكأنه لم يملك سوى الموافقة على ما يُمليه أمرًا له:
_حاضر يا أستاذ “إياد” هضرب “أيوب” وأخليه يضربني ونموت بعض قدامك ياكش روح ممدوح فرج اللي جواك دي تهدا شوية علينا.
اتسعت ضحكة “إياد” ونطق بحماسٍ:
_أخر حاجة بقى بسيطة خالص وهي انـ…..
بتر حديثه حينما تحدث “أيهم” بضجرٍ مصطنعٍ:
_ما خلاص يا “إياد” بقى العمر بيخلص وطلباتك لسه مخلصتش ؟؟ ريح شوية ياض.
هتف “إياد” ببراءةٍ:
_والله كنت هقولك هات حضن و بوسة.
ابتسم “أيهم” رغمًا عنه ثم ضم صغيره إلى عناقه وقبل جبينه وهو يقول بحبٍ بالغ الأثر في نفوس كليهما:
_دا أنا أشيلك العمر كله في حضني وأضلل عليك برموش عيوني كمان، بقولك إيه ياض، تيجي تستحمى معايا ؟؟
رد عليه “إياد” بنبرةٍ ضاحكة:
_ما أنا لسه مستحمي، هو كل شوية؟؟
وقف به “أيهم” يقول بسخريةٍ:
_يعني هو إحنا خسرانين حاجة؟؟ حد بييجي يحاسب على الشامبو ؟؟ يلا ياض تعالى.
قبل أن يعترض الصغير تصنع “أيهم” أنه يقوم بعضه في رقبته ليضحك الأخر بصوتٍ عالٍ وصل إلى القهقهات والاخر يشعر بسعادةٍ غامرة وهو يرى إنجازه في سعادة صغيره باديًا عليه بوضوح بعد الألم النفسي الذي تسببت به والدته.
________________________
في مكتب “عبدالقادر” داخل بيته جلس بشرودٍ يتذكر لمحات من الماضي الذي مر وقد ظن أنه دُفن كما تخمد النيران لكنه تفاجأ به يثير كما البركان الثائر من أسفل الأرض أو كما اشتداد لهيب النار بعدما خمدت قوتها وفاقت من جديد.
وصله طرقاتٌ على باب مكتبه فزفر بقوةٍ وقال:
_أدخل.
دلف “أيوب” له مبتسم الوجه وهو يقول كعادته:
_السلام عليكم ورحمة الله وبركاته يا حج.
_وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته يا حبيب قلبي.
جلس “أيوب” أمامه بعدما ابتسم له فتنهد “عبدالقادر” وقال بدهاءٍ بعدما قرأ نظراته:
_قول اللي عندك وأسأل وأنا هجاوبك.
تنهد “أيوب” ثم اندفع يسأله:
_الراجل اللي كان هنا الصبح، أهله عايشين فعلًا ؟؟
حرك رأسه موافقًا بحركاتٍ رتيبة، جعلت “أيوب” يطالعه بنظراتٍ غامضة وهو يقول:
_وليه مقولتلهوش ؟؟.
ابتسم “عبدالقادر” بتهكمٍ ثم ارجع ظهره للخلف يقول بسخريةٍ:
_واحد جايلي يقولي أنا ابن فلان الفُلاني عاوز أمي وأختي، أقوله أهلًا و سهلًا يا حبيبي، “غــالية” و “قــمر” أهم عايشين تعالى خدهم مبروكين عليك ؟؟
صُعق “أيوب” من وقع الاسماء على سمعه فاندفع يقول مستنكرًا بنبرةٍ جامدة أبدت دهشته:
_بــتقول مــين ؟؟.
ابتسم “عبدالقادر” بسخريةٍ وكأنه يخبره أن الموضوع لم يكن هينًا كما يتصوره هو، بل أن تبعياته خطيرة تحتاج إلى دراسة وليس مجرد تصرف أهوج يقع أثره على الجميع، بينما “أيوب” رمش ببلاهةٍ وكل ما يفكر به هو والده ذكر اسم مَن ؟؟

يتبع….

إلهي رجعتُ بذلِّ افتقاري .. بخوفي بضعفي بدمع انكسـاري.
رجعتُ أبوء إليك بسرّي ….وأنـت الــعليــمُ بكــــل السِّــرارِ.
رجعتُ لأشكو ذنوبَ الليالي ….وأشكو إليك ذنوبَ النــهـارِ.
_مقتبس.
____________________
ربما كان الأمر لكم عاديًا لكنه قلبي الذي تألم، ربما كانت حياتي لكم مثل اللُعبة لكنكم دمرتوها حينما ضغطوا عليها بكامل قوتكم، توقعت نفسي معكم كما الطير فوجدتني مكبل مثل الأسير، يؤسفني لنفسي خيانة العهد، فلا ودٍ لكم ولا وفاء بالوعد.
تلك الصدمة التي تشل حركة جسدك تجعلك مُكبل الأطراف كمن يود الطير بجناحين مَكسورين، تجعلك ترفرف بأهدابك لتتأكد إن كانت الرؤية حقيقة أم أنها مجرد أوهام، هكذا وقف “أيوب” أمام أبيه يطالعه بنظراتٍ مُتفرسة ثم سأله من جديد بدهشةٍ لازالت واضحة على ملامحه:
_بتقول مين ؟؟ الست “غالية” أخت أستاذ “فضل” ؟؟ ازاي ؟؟ يعني اللي كان هنا الصبح دا يبقى أخو “قمر” ؟؟
أكد “عبدالقادر” هذا بنظراته مومئًا من خلال حركة عينيه فسأله”أيوب” مندفعًا:
_طب ليه ؟؟ مقولتلوش ليه ؟؟ واحد زي دا جاي ميت علشان أمه وأخته، ليه يا حج ؟؟
كان حديثه مُعاتبًا وكأنه يلوم والده، فأرجع “عبدالقادر” ظهره للخلف ثم هتف بعدما تنفس بعمقٍ:
_علشان دا واحد متهور وباين شيطانه في عينيه، أقوله على مكانهم فيروح ليهم يعرف اللي حصل بالظبط، واللي أمه شافته بسببهم، يروح يضيع نفسه عليهم؟؟ أنا مش هخبيهم عنه، بس لازم يكون قصادي هنا، دول امانة في رقبتي هيسألني عليها “مصطفى الراوي” قدام ربنا، مقدرش يابني اضيع إبنه.
تنهد “أيوب” بعمقٍ بعدما تفهم حديث والده ورغبته في عدم الإفصاح ثم هتف بثباتٍ وهو يُطرق بإصبعه على الطاولة:
_بس هيعرف، لازم يعرف علشان باين عليه موجوع، رغم أني معرفش الحكاية ومش دا اللي يخصني، بس الوضع دا مش هيطول يا بابا، اسألني أنا عن اللي محتاج حضن أمه.
أطلق “عبدالقادر” نفسًا عميقًا ثم سأله بثباتٍ يواري خلفه خبثه فيما فهمه واستدله:
_لو أنتَ في فـ غرضك حاجة، أو حتى عاوز حاجة تعالى قولي دوغري علطول، أظن أنا أكتر واحد ممكن يسمعك وينفذلك طلبك.
رغم تعجب “أيوب” من حديث والده إلا أنه تصنع جهله بالأمر ثم حرك كتفيه يهتف بلامبالاةٍ سرعان ما تحول إلى سؤالٍ في اهتمام ٍ جليٍ:
_لأ مفيش أي حاجة عاوزها، بس عاوز أعرف حياة الراجل اللي كان هنا دا، ممكن يكون دا حصل فعلًا؟؟ عيلته عملوا كدا فيه وفي والدته ؟؟ وليه ؟؟.
تنهد “عبدالقادر” ثم قال بنبرةٍ غلفها الحزن:
_آه…وعملوا الأسوأ من كدا بكتير كمان، عمه لما عرف اللي حصل وإن أخوه في المستشفى ومات، أول حاجة عملها أنه كلم المحامي، ساعتها قاله إن اخوه كاتب كل حاجة لابنه “يوسف” ومرات أخوه ساعتها اللي هي “غالية” كانت بين الحياة والموت، خلص ورق أخوه وخده من المستشفى ودفنه وكل دا “يوسف” كان معاهم علشان المشوار بتاعهم مراحش معاهم فيه وفِضل عند عمته، “فضل” ساعتها انشغل بأخته اللي بين الحيا والموت و “قمر” كانت عندهم بعد اسبوعين فاقت “غالية” من الغيبوبة على ضياع كل حاجة منها، بيتها وجوزها وابنها، مفضلش ليها غير “قمر” فضلت زي المجانين تلف في الشوارع وراحت لكل أملاك عيلة “الراوي” كلها كانت اتباعت وملهمش اثر، فضلت ببنتها شهر شايلاها على أيدها وتلف الشوارع زي اللي بيطلبوا صدقة، لحد ما الراجل طردهم من البيت اللي كان متأجر قانون قديم، واترموا في الشارع.
اتسعت عيناه وكأنه يسمع أسطورة قديمة تُحكى للأطفال حتى يخلدون لنومهم، لكن هل تلك الحكايات خرجت للواقع أم أن الواقع امتلأ بما يشابه ذلك ؟؟ أضاف “عبدالقادر” من جديد بأسىٰ:
_للأسف كل حاجة عندهم راحت خالص، “فضل” ضاق بيه الحال وجالي هنا رغم أني حاولت كتير اساعدهم بس هما رفضوا دا، في الفترة دي كنت مشغول بموت “رقية” الله يرحمها، اتكسرت بجد، صاحب عمري وأغلى واحدة ليا راحوا مني، كان كل همي أنتَ واخواتك وعلاجك بعد اللي حصل، لما جالي هنا عرضت عليهم البيت اللي هما فيه و هو أجر ورشة أنا اتوسطله عند صاحبها، بس هي فضلت تنزل تدور وتسأل لحد أخر حاجة عرفتها أنهم مشيوا وسابوا مصر كلها، خلصوا الورق ازاي معرفش، هربوا بالورث إزاي معرفش، عملوا كدا دا امتى وازاي برضه معرفش، لكن اللي اعرفه إن “مصطفى” كان معاه حق يوصيني على مراته وعياله، فضلت معاهم لحد دلوقتي وفي نفس الوقت بدور على “يوسف” بس خلاص يأست حتى هما نفسهم وعيشنا على أمل أنه يرجع في أي لحظة لأمه، بس رجع متأخر أوي…
أخرج زفيرًا مُطولًا فيما أضاف “أيوب” بنبرةٍ احتلها الحزن:
_لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، أكيد فيه حكمة من ورا كل دا، ربنا مبيعملش حاجة وحشة لحد، أكيد اللي حصل دا صرف عنهم شر أكبر من كدا، بس مين يفهم، إحنا بشر ولينا حق نزعل ونتقهر والحمد لله إننا مأجورين على حزننا وعلى كل آه يأنِ بها الإنسان.
سأله “عبدالقادر” باهتمامٍ محاولًا اقتباس الهدوء والرضا بالقضاء منه:
_تفتكر فيه حد ممكن يقبل بكل دا ؟؟ صعب يابني.
رفع “أيوب” عينيه له يهتف بنبرةٍ هادئة:
سيدنا عمر بن الخظاب قال: (لو عُرِضَت الأقدار على الإنسان لاختار القدر الذي اختاره الله له)
جُملة جميلة ومُطمئنة لأبعد الحدود، كل إنسان فينا واخد رزقه كامل وحتى في الابتلاءات ربنا بيدّينا على قد طاقتنا وتحمّلنا مهما حسينا إن الحِمل زيادة علينا ومش قادرين.
طبع الإنسان إنه دايمًا عايز أحسن حاجة وبيألَف النعمة مع إنه لو بص حواليه هيلاقي إنه أحسن من غيره بمراحل وعنده نعم كتير جدًا في حياته مش حاسس بقيمتها وكان بيطلبها قبل كده..
لو في حاجة نتمناها طول العمر هيكون الرضا،
الرضا بقضاء الله في المَنع قبل العطاء، أكيد اللي حصل دا كان خير ليهم كلهم، يمكن دا يكون سبب أنهم عايشين أصلًا كان ممكن يموتوا كلهم في الحادثة دي وهما فعلًا ياخده حقهم، اللي حصل دا أجل، وحقه هيرجع قريب.
تنهد “عبدالقادر” وثبت عينيه على ملامح إبنه، الذي تنحنح يُجلي حنجرته ثم سأل والده بترقبٍ:
_أنا لو طلبت منك حاجة تنفذهالي؟؟
أبتسم له “عبدالقادر” وهو يهتف بحبٍ وصدقٍ:
_أؤمر يا حبيب أبوك، لو طلبت القمر أجبهولك.
رفع “أيوب” حاجبه بتشككٍ ثم مال على والده يهتف بثباتٍ:
_بس أنا مش عاوز القمر…أنا عاوز “قـمـر”.
اتسعت ابتسامة “عبدالقادر” ثم حرك رأسه موافقًا بحركاتٍ رتيبة جعلت “أيوب” يطالعه مُتعجبًا ليهتف “عبدالقادر” بنبرةٍ ضاحكة:
_لو فاكر أبوك عبيط، ابقى اتعلم بقى مني، ولا إيه ياسطى “أيوب” بتاع القُلل.
ضحك “أيوب” رغمًا عنه فيما أشار له “عبدالقادر” حتى اقترب منه “أيوب” يقبل رأسه ثم نطق بحبٍ:
_ربنا يباركلنا فيك يا حج.
________________________
كانت تجلس فوق سطح البيت كعادتها تمسك في يدها كوب شاي بورق النعناع الأخضر وهي تتدندن كعادتها وتبتسم بحماسٍ مع نسمات الهواء التي تداعب وجهها وحجاب رأسها المُرتخي فوق خصلاتها السوداء فرفعت صوتها وهي تتدندن بالغناء لتجد صوته يحتل صفاء تلك اللحظة بفظاظته المعتادة ناطقًا اسمها بنبرةٍ خشنة يهتف:
_”عـــهــد” ؟؟
التفت فور سماعها لاسمها يُنطق بتلك الطريقة الجامدة لتجده مقتربًا منها يُلقي في وجهها زجاجة مياه اصطدمت بوجهها على الفور لتصرخ في الحال صرخاتٍ مدوية وهي تحاول وضع كفيها على وجهها وهي تصرخ بقولها وهو يقف مُتشفيًا بها بعدما نفذ تهديده لها ورمقها بضحكةٍ خبيثة وهي تقول:
_لأ…..بــلاش….بـــلاش علشان خاطري بـــــلاش.
هكذا انتفضت من الفِراش وهي تصرخ بتلك الكلمات التي كانت تهزي بها في نومها لتجد قلبها ترتفع ضرباته حتى ظنت أنه أوشك على الخروج من موضعه بألمٍ جعل ضلوعها تؤلمها هي الأخرىٰ فنزلت دموعها على الفور من ذلك الكابوس الذي يراودها في كل يومٍ لتقوم من نومها وتقضي ليلها باكيةً، حاولت عدة مراتٍ لإنهاء تلك الكوابيس لكن بدون جدوى الأمر تخطى كل الحدود الممكن تحملها.
دلفت والدتها الغرفة بكوب المياه وهي تقول بحزنٍ ويأسٍ عليها:
_امسكي يا “عـهـد” أشربي يا حبيبتي.
اخذت منها كوب المياه بأنامل مرتجفة لاحظتها والدتها فعاونتها في ارتشاف المياه وبكفها الأخر ربتت على ظهرها حتى أنهت ابنتها ارتشاف الكوب على جُرعةٍ واحدة ثم تنفست بعمقٍ وهي تقول بنبرةٍ باكية:
_قلبي بيوجعني أوي يا ماما، مبقتيش قادرة أتحمل كل دا خلاص، نفسي أنام مرة واحدة متطمنة، أخرتها إيه ؟؟ أرجعله طيب ؟؟
هتفت والدتها بحدة في وجهها:
_لأ، مستحيل دا يحصل، أنا هروح للحج “عبدالقادر” وأقوله يشوف حَــل معاه، فضل مرة يِزن واتكلم في حقك لحد ما اتخطبتيله، طلع قليل الأصل معندهوش دم، يولع هو والناس كلهم، بس مش دا اللي تربطي حظك بيه في الأخر يا “عـهد”، ربك يفرجها إن شاء الله.
حركت رأسها موافقةً ثم هتفت بصوتٍ مختنقٍ:
_يا رب…ريحني من اللي أنا فيه دا بقى.
“عهد محفوظ”
فتاةٌ في العام الخامس والعشرين من عمرها، تعيش في حارة العطار مع والدتها و شقيقتها الصغرى صاحبة الثمان أعوام وقد توفى والدها بعد ميلاد شقيقتها بعامٍ واحدٍ، فحملت هي مسئولية أسرتها ورفض أي معاونات خارجية.
_بشرتها حنطية صافية متوسطة اللون، حاجبيها سوداويين منمقين أهدابها سوداء كثيفة فوق مقلتيها، عيناها سوداء اللون لامعة خاصةّ حينما تبتسم، وجهها مستدير وفي وجنتيها غمازتين، هادئة…. حزينة….بائسة، قوية ومعاندة، أهم ما تملكه في حياتها أفراد أسرتها، طويلة القامة حيث يصل طولها غالبًا إلى ١٧٠ سـم وأكثر، جسدها يتناسب مع طولها، مما جعلها مطمع في أعين الكثيرين.
خرجت من فراشها ثم جلست في شرفة غرفتها تتنفس الصعداء وتفرك كفيها ببعضهما تبعث لنفسها الأمان حتى ركضت لها شقيقتها الصغرى وهي تقول بنبرةٍ ناعسة:
_محدش فيكم نايم جنبي ليه ؟؟ خوفت لوحدي.
ردت عليها والدتها بقلة حيلة:
_ما تنامي لوحدك يا “وعد” هو أنتِ صغيرة يعني؟؟.
حركت رأسها موافقةً ثم اقتربت من شقيقتها تقول بنبرةٍ غلفها النوم والنعاس:
_طب ألعبي في شعري لحد ما أنام، علشان مش هعرف أنام تاني يا “عهد” يلا.
نفخت أختها بقلة حيلة ثم ربتت على خصلات رأسها فيما دست الأخرى نفسها بين ذراعيها لتنام قريرة العين بين ذراعي شقيقتها التي تعطيها الأمان دومًا وهي في أشد الحاجة لو لذرةٍ منه.
__________________________
“في منطقة نزلة السمان”
جلس الشباب برفقة “نَـعـيم” في فناء البيت الرملي و “إيهاب” يقوم بعمل الشاي على نيران الأخشاب فيما ظل “يوسف” شاردًا ينظر أمامه وكأنه في مكانٍ أخر غيرهم، لاحظه “إسماعيل” فسأله بنبرةٍ عالية يجذب انتباهه:
_يابا !! روحت فين يا أخينا ؟؟ إحنا معاك أهو.
انتبه له “يوسف” فحرك رأسه نحوه دون أن ينبث بكلمةٍ واحدة، فقط التزم الصمت فسأله “إيهاب” تلك المرة وهو يسكب الشاي في الاكواب الزجاجية:
_مالك بس يا عمنا ؟؟ حد داسلك على طرف ؟؟.
أبتسم “يوسف” بسخريةٍ وردد متهكمًا بوجعٍ:
_حد ؟؟ دي لدنيا كلها دايسة عليا يا “عمهم”، ناقص مين تاني ميجيش عليا ؟؟ ناقص مين تاني مدبحش في يوسف وقطع في روحه ؟؟ طب هما مفكروش فيا ؟؟ مفكروش يدوروا عليا طيب ؟؟ معقول تكون نسيت إن عندها إبن ؟؟
كان يسأل بوجعٍ وكأن عقله عاد للعمل من جديد ينبهه بتلك الحقائق التي حاول التغاضي عن تواجدها، فتفاجأ بـ “نَـعيم” يقول بنبرةٍ جامدة يردعه عن السير وراء تفكيره:
_لو هتفضل تفكر كدا تبقى حمار وظالم، بتحكم منين أنهم مدوروش عليك ؟؟ ها ؟؟ عرفت منين إنها نسيتك؟؟ مفيش أهالي بتنسى عيالها، حتى لو الزمن هدا النار دي بس بتفضل قايدة، أوعى تظلمهم من قبل ما تروح وتعرف كل حاجة عنهم، فاهم ؟؟
تدخل “مُـحي” يسأل بتعجبٍ:
_جماعة بجد أنتم مصدقين الحوار دا ؟؟! يعني هو فيه ناس كدا أصلًا ؟؟ دول في الأفلام بس، الحوار دا ورا حوار تاني أكيد و شكل “يوسف” هيلبس لبسة معتبرة.
تدخل “إسماعيل” يقول بتهكمٍ حينما تذكر قصته هو الأخر والغدر الذي ناله من والده:
_شوف مين بيتكلم، نسيت إن عمك خد أخوك وحرق قلب الحج على ابنه ؟؟ ولسه لحد دلوقتي متأكدين مات ولا لأ ؟؟ الافلام دي بتمثل الواقع اللي إحنا عايشينه، بدليل أني قدامك أهو أبويا رماني في مقبرة علشان اجيبله آثار ولما خاف طلع يجري من غير حتى ما يفكر فيا، عمل زي اللي رمى ابنه في الطوفان.
اعتلى الضيق ملامح “نَـعيم” حينما تذكر ذلك، فيما نطق “إيهاب” بنبرةٍ جامدة يغير مجرى الحديث:
_خلاص بقى منك ليه، اقفلوا على السيرة الهباب دي، ربنا يجحمهم كلهم في ساعة واحدة، وأنتَ ياض يا “يوسف” روح أقعد عند الراجل دا وخليك هناك، لحد ما ترجع أهلك من عنده، ومتفضلش تفكر بقى هي كانت عاوزاك ولا لأ، لاقيها ومالكش دعوة باللي جاي.
حرك رأسه موافقًا ثم هبَّ واقفًا فسأله “إسماعيل” بتعجبٍ:
_رايح فين ؟؟ مش المفروض إنك قاعد هنا ؟؟
رد عليه بثباتٍ وإصرارٍ:
_رايح الزمالك، لازم أكون هناك بكرة الصبح قبل ما “فاتن” تقولهم حاجة ولا يبان عليها، خصوصًا إن “مادلين” شافتنا، سلام.
قبل أن يتحرك أوقفه “نَـعيم” بقوله مُحذرًا:
_مش عاوز منك تهور ولا جنان، مفهوم ؟؟ وياريت تفتح الزفت اللي معاك دا، مش هقول تاني، بلاش تخليهم ينجحوا في أنهم يحرقوا دمك.
هتف بسخريةٍ لاذعة بعدما أبتسم بوجعٍ:
_ياريتها بتيجي على حرقة الدم، دول حارقين روحي كلها واللي مصبرني أني مستني روحي ترجعلي علشان لو موت أو حتى اتسجنت، ابقى شوفتهم قبلها.
رحل بعد حديثه فنظر “نَـعيم” في أثره بقلقٍ ثم قال بخوفٍ:
_الواد دا هيضيع نفسه، لازم يقفله حد كبير.
انسحب “مُـحي” خلف “يوسف” وقبل أن يوقف سيارته أوقفه بقوله:
_”يوسف” ؟؟
التفت له الأخر بنظراتٍ غير عابئةٍ به، فأضاف هو بتلجلجٍ:
_ أنا عاوز اشكرك علشان مقولتش لأبويا على حاجة، وأسف يعني على كلمة بكرهك دي، أنا أكيد مش بكرهك يعني، بس بتعصب منك.
أبتسم “يوسف” بسخريةٍ ثم هتف بنبرةٍ خافتة:
_عارف، بس عاوزك تعقل شوية، المشي ورا الستات آخرته سودا والجري في الكباريهات أنيل، عاوز تعك براحتك، بس واحدة واحدة مش خبط لزق كدا.
رد عليه “مُـحي” بقلة حيلة وكأنه مغلوبٌ على أمرهِ:
_ما هما حلوين بصراحة ويستاهلوا الجري وراهم.
أيده “يوسف” بقوله الخبيث:
_معاك حق، هما حلوين فعلًا، خصوصًا اللي عينهم سودا.
ارتفع صوت ضحكة “مُـحي” فربت “يوسف” على كتفه ثم نطق بثباتٍ بعدما عادت جِديته من جديد:
_ خلي بالك من أبوك وسيبك من عرق الوساخة بتاع عمك، أسمع مني، اللي يجاور “نَـعيم الحُصري” راسه تترفع لفوق، متبقاش ابنه وجايبه الأرض.
زفر بقوةٍ وقال موجزًا بما لا تحمله نيته من الأساس:
_هحاول….بس صعب.
ولج “يوسف” سيارته وهو يبتسم بسخريةٍ ثم قال يمازحه بقوله:
_مَع السـلامة يا مُـوهي.
ضحك الأخر بيأسٍ ثم رفع كفه يفرك خصلاته وهو يتابع رحيل سيارة “يوسف” من أمامه حتى أخرج زفيرًا قويًا ثم أخرج هاتفه يجاوب على الاتصال الذي حضره وهو يقول بتعجبٍ ما إن رأى اسم المتصلة “حبيبي ٣٤”:
_يخربيت أمك، كان اسمك إيه أنتِ، حاسس أني فاكرك.
ألحت الفتاة بالاتصال، فجاوب هو بمرحٍ:
_قلب مُحي من جوة، وحشتيني.
في الداخل تحرك “نَـعيم” من المكان وخلفه “إسماعيل” فلاحظت “سمارة” جلوس زوجها بمفردها أمام النيران وهو يشرب الشاي وشارد الذهنِ، لذا نزلت من شقتها له ثم جلست بجواره وهي تقول بنبرةٍ ضاحكة:
_سرحان في إيه يا سي “إيهاب” ؟؟
انتبه لها فرفع عينيه وابتسم حينما لاحظ نظرتها المُشككة له، ففرد كفيه أمامها وهو يقول مُستسلمًا:
_هيكون في إيه يعني ؟؟ في الدنيا يا “عمنا”
لوت فمها بتبرمٍ وهتفت ساخطةً عليه تحدث نفسها:
_شوف ياختي بدل ما يقولي فيكي، كابسني علطول.
لاحظ هو همهمتها لنفسها، فسألها بنبرةٍ جامدة:
_بتبرطمي تقولي إيه ؟؟
تنهدت بضجرٍ ثم قررت فتحه في الموضوع بقولها:
_بقولك إيه يا سي “إيهاب” ؟؟ ما تخرج “فتحي” من جوة وخليه يمشي خلاص، هو خد أدبه وكفاية لحد كدا.
عند ذكرها اسم غريمه هتف بها بنبرةٍ جامدة:
_أنتِ مالك بيه إن شاء الله ؟؟ اسمه ميجيش على لسانك تاني، وياريت تطلعي برة الحوار دا، مَـفهوم ؟؟.
رفع صوته حتى أجفل جسدها من صوته العالي، فيما سألها هو من جديد بعدما انتبه لها:
_بِــت !! أنتِ دخلتيله جوة ؟؟ لمحك أصلًا ؟؟
على الرغم من الرعب الذي دب أوصالها إلا أنها تسلحت بالجمود تهتف بقوةٍ لا تعلم مصدرها:
_أيوا يا أخويا دخلتله أومال أشفي غليلي منه ازاي ؟؟.
ردد خلفها مستنكرًا:
_تشفي غليلك منه ؟؟ إزاي ؟؟
جاوبته برأسٍ مرفوعٍ وتشفي ظهر في أحرفها:
_يعني طول عمره هو وأمه منشفين ريقي وذليني، وأخرتها مشمتش فيه وهو مذلول قدامي ؟؟ دا أنا نفسي أروح أذل أمه دي وأكيد فيها بس وأنتَ معايا، كانت علطول تقولي هشغلك خدامة في البيوت وأخليه يتجوزك ويتجوز عليكي، كانت فكراني بزعل علشان ابنها، متعرفش أني كنت بزعل على السجادة.
عقد “إيهاب” ما بين حاجبيه وردد باستنكارٍ جديد:
_سجادة ؟؟ سجادة إيه ؟؟
اندفعت في وجهه تقول كما كتلة الهواء الصادمة:
_يا أخويا ماهو لو كنت دبحتها السجادة كانت هتتوسخ بدمها، ودي دمها كله سم وزفت على دماغها.
رفع كفيه يشدد قبضتهما وهو يقول بيأسٍ منها:
_أنا غطيت صوابعي العشرة في الشَق منك خلاص، بت ؟؟ لو سيرته جت على لسانك تاني ولا حتى فكرتي إنك تخليه يلمحك أنا هقفل عليكي في الشقة يا “سمارة”.
مالت عليه تصدمه بكتفها في كتفه وهي تقول بدلالٍ وإغراءٍ كعادتها عليه:
_ وماله بس متبقاش تتأخر عليا يا سي “إيهاب”.
أشار لها برأسه نحو بنايتهما يهتف بثباتٍ:
_خشي نامي يا “سمارة” وعدي ليلتك بدل ما أخلي الخيل كله يجري وراكي وأظن فاكرة شكلك كان عامل إزاي.
رمقته بغيظٍ ثم اعتدلت في جلستها، فيما قال هو بنبرةٍ حاول جعلها جامدة:
_وبكرة هنروح الإباجية سوا أنا وأنتِ بس قبلها في مشوار مهم لازم نروحه، ماشي ؟؟
نظرت له بتعجبٍ وهي تسأل نفسها عن سبب ذهابه فيما نظر هو أمامه بشرودٍ وهو يفكر في الغد.
_________________________
وصل “يوسف” إلى منطقة الزمالك في عتمة الليل الذي أسدل ستائره فوجد “عاصم” جالسًا على الأريكة بجوار أباجورة الإضاءة الخافتة، فابتسم بسخريةٍ وتشدق بنزقٍ:
_يعيني ؟؟ بقيت يتيم الأم وقاعد زعلان بترثي المرحومة؟؟
رد عليه “عاصم” بثباتٍ بعدما حرك رأسه نحوه:
_كلنا أموات ولاد أموات ودا عمرها.
تصنع “يوسف” الحزن وهو يقول:
_لأ لأ….تصدق اتأثرت ؟؟ لما إحنا أموات ولاد أموات معملتش للحظة دي ليه ؟؟ ولا فاكر إن ماما هتوصي عليك؟؟ أصلك واخد على الواسطة، بس هناك بقى مفيش واسطة فيه حقوق بترجع لأصحابها.
ابتسم له “عاصم” باستفزازٍ ثم هتف بنبرةٍ متعالية:
_بقيت مؤمن خلاص ؟؟ اتفضل أطلع أوضتك ومتوجعش دماغي، مش برضه جاي علشان تنام هنا ؟؟ زي الفار وهو راجع مصيدته من تاني علشان عارف إنه ملهوش غيرها تحميه.
ازداد الأخر شموخًا وثقةٍ في نفسه واقترب منه يقول بهيبةٍ لم تليق بأخرٍ سواه بعدما رفع كفه يربت على كتف عمه:
_لما تفتكرني فار في المصيدة، مترجعش تتفاجيء بيا وأنا خيل في وسط الميدان.
أبتسم “عاصم” و ظهر التحدث السافر بينهما في نظراتهما لبعضهما وهو يقول ساخرًا منه:
_كل كلامك بقى عن الخيول خلاص ؟؟ كلوا دماغك ؟؟
حرك رأسه موافقًا ونطق بتهكمٍ:
_والله أحسن من اللي كلوا حقي، مش دا حقي برضه؟؟
ازدادت سخرية الأخر في نظراته وهتف مُستخفًا به ومقللًا من شأنه:
_فين حقك دا يا حبيبي ؟؟ كنت عاوزني اسلمك كل حاجة وأنتَ صايع وضايع كدا ؟؟ علشان تضيع تعب أبويا واخويا، دا بعيد عن أحلامك ومتنساش إن العين متعلاش عن الحاجب.
هتف “يوسف” بشرٍ وهو يرى جحود الأخر له وكأنه نكرة تعيش وسطهم:
_بس محسوبك بقى مفيش عين تترفع فيه ولا حاجب يعلى عليه، العين اللي تترفع فيا بقفلها، والحاجب اللي يترفع عليا بشيله خالص، وادينا موجودين نشوف نفس مين فينا أطول بقى.
التفت بعد حديثه يغادر مكانه فوصله حديث عمه قائلًا:
_نَفسي يا “يوسف” أنتَ ملكش طاقة تقف قصادي وأظن أنتَ عارف حصل إيه قبل كدا لما فكرت تعارضني، وقدام الناس كلها أنتَ مجنون ومتستحقش تتأمن على حاجة من دي كلها.
أبتسم “يوسف” بسخريةٍ وهتف بدون حتى ما يلتفت له وكأنه بذلك يخبره أنه لن يستحق حتى الاهتمام به:
_أيوا صح أنا مجنون ومستاهلش، بس ابن الرقاصة يستاهل، ابقى خلي بالك أحسن تلاقيه داخل مرة يرمي عليك النُقطة، ولا يطبلك.
صعد الدرجات بثباتٍ ليتواجه مع غريمه الثاني “نادر” فتلقائيًا زفر بعمقٍ، فيما نطق الأخر بنزقٍ:
_جيت هنا ليه؟؟ هو كل شوية نلاقيك طالع زي اللهو الخفي كدا ؟؟ الواحد مش عارف ياخد راحته خالص من غير ما تسد نفسه ؟؟
تحرك “يوسف” من أمامه قاصدًا تجاهله، فسأله الأخر بنبرةٍ مغتاظة من تجاهله له:
_مش بكلمك أنا ؟؟ ما ترد ولا معندكش حاجة ترد بيها؟؟
التفت له “يوسف” يقول بضحكةٍ سمجة نجح في رسمها على ملامح وجهه:
_لأ عندي، بس أنا راجل صاحب مبدأ وشايف إنك متستاهلش أخالف مبادئي علشانك.
رد الأخر عليه بتهكمٍ:
_وهي إيه بقى مبادئك دي إن شاء الله ؟؟
توسعت ضحكته أكثر وهو يقول ببرودٍ ثلجي اثار أعصاب الأخر:
_الـرد عـلى الـسـفيه؛ بيـفخـم ويعـلي فـيـه.
احتقن وجه “نادر” بدماء الغيظ التي تدفقت إلى وجهه لذا هتف بتحديٍ له:
_طب كويس انك عرفتني، بدل ما أحرق معاك كتير.
عاد “يوسف” خطوةً للخلف يهتف بنفاذ صبرٍ:
_ولا !! أنتَ مش كنت بتحب ستك ؟؟ مروحتش معاها ليه ؟؟ أهو تريح شوية بدل ما أنتَ شغال فرك كدا وكلت دماغنا، رَيح….ها رَيح وابلع ريقك شوية.
استأنف صعوده على الدرج ليجد أمامه “مادلين” أعلى الدرج تستند على الدرابزين، فتصنع الجمود وهو يقول بصوتٍ عالٍ:
_كويس إنك صاحية، ابقي خدي جوزك اديله شوية حنية علشان حرام بقى يتيم الأم، وأسأليني عن حال يتيم الأم دا.
جاهدت تكتم ضحكتها أمامه بسبب طريقته فيما غمز هو لها ثم توجه نحو غرفته يضحك رغمًا عنه بدون سببٍ محدد.
_______________________
في اليوم الموالي لذلك وخاصةً في نهار هذا اليوم.
جلس “عبدالقادر” بجواره “تَـيام” يدون كلٌ منهما الخامات وبياناتها الموجودة، والناقص من الموارد، وعلى الأريكة المقابلة لهما جلس كلٌ مِن “بيشوي” و “أيهم” يدون الحسابات.
انتهوا مما يقومون به، فقال “عبدالقادر” مُستحسنًا فعل “تَـيام” وهو يثني عليه:
_عاش يا واد، ولا غلطة زي كل مرة، واضح إن روحك المعنوية عليت أوي يا بن “صبري”
ضحك الإثنان على الجهة الأخرى فيما تصنع الأخر البراءة بقوله:
_والله يا حج أنا كلي همي مصلحتكم، بعدين الحمد لله يعني أنا بتقن العمل طول عمري، بس ماحدش كان واخد باله من دا.
هتف “عبدالقادر” ساخرًا:
_يا ولا ؟؟ ماشي خليني ماشي وراك.
اندفع “تـيام” يسأله بدون تعقل:
_أجي اتقدم إمتى ؟؟ العروسة موافقة وأنا موافق وأمي موافقة و “إياد” موافق ليه العطلة ؟؟
تدخل “بيشوي” يهتف بتهكمٍ:
_أنتَ معندكش وسط يالا ؟؟ يا مفيش كلام خالص يا زن وإلحاح ؟؟.
رد “عبدالقادر” بنبرةٍ هادئة:
_تعالى الجُمعة الجاية اتقدم ليها، حلو كدا ؟؟
سأله بضيقٍ أنهاه بالسخريةِ:
_وليه مش الجمعة دي ؟؟ عندكم صيانة ؟؟
ضحك “عبدالقادر” رغمًا عنه فيما نطق “أيهم” بقلة حيلة:
_اقسم بالله ما فيه حاجة عاوزة صيانة غير عقلك.
تنهد “تَـيام” ثم نطق بلهفةٍ:
_بقولك يا حج، مش ناسي أي حاجة في البيت؟؟ دوا….ساندوتشات…كوباية عصير؟؟
هتف “عبدالقادر” بإصرارٍ:
_تصدق يالا ؟؟ لو فيه حاجة نسيتها بجد تبقى أني اربيك من بعد موت أبوك، امشي يالا روح المخزن راجع الحاجة هناك.
تحرك “تَـيام” من أمامهم وهم يضحكون عليه، فيما نطق “أيهم” بقوله على عُجالةٍ:
_طب هتحرك أنا علشان الواد “إياد” في البيت مستنيني علشان أخرجه وبعدها نرجع البيت أضرب “أيوب” عاوزين حاجة مني ؟؟
أوقفه والده بقوله:
_لأ استنى الأول عاوزك تروح للحج “شلبي” مستني حد من عندنا علشان عاوز نقلة رخام و رمل، روح شوفه وتعالى تاني خرج ابنك.
هتف “أيهم” بضجرٍ وقد استاء من هذا الوضع:
_يا حج بقولك هخرج الواد مستنيني، ولو مشيت من غيره هيزعل، مش كان كلامك أني أفرحه مخليهوش يزعل.
رد عليه بثباتٍ يتكيء على كلماته:
_خده معاك خلص المشوار واتفق بعدها خرجه يلا بقى الراجل مستني وقولتله هبعتلك ابني الكبير.
تنفس “أيهم” بعمقٍ ثم سأله بسخريةٍ:
_ومبعتش ابنك الصغير ليه ؟؟
رد عليه بوجهٍ مبتسمٍ:
_علشان هيروح يتقدم النهاردة.
نظر كلاهما للأخر ونطقا في آنٍ واحدٍ:
_إيه ؟؟ “أيوب” هيخطب؟؟ مين ؟؟
أرجع ظهره للخلف يقول بثقةٍ:
_هيخطب “قمر” بنت أخت “فضل”
________________________
في منزل “عبدالقادر” ارتدى “إياد” ثيابه بعدما عاونته “آيات” التي قالت بوجهٍ مبتسمٍ تسأله:
_قولنا بنعمل إيه لما نلبس حاجة جديدة؟؟
أبتسم لها وهو يهتف بمرحٍ:
_اقسملك بالله نسيت.
ضحكت على رد فعله الغريب الذي يتنافى مع قوله ثم قالت بنبرةٍ هادئة ولازالت مبتسمة الوجه:
_من دعاء لبس الثوب الجديد:
(اللهم لك الحمد أنت كسوتنيه، أسألك من خيره وخير ما صنع له، وأعوذ بك من شره وشر ما صنع له)
حرك رأسه موافقًا ثم ردده معها بتقطعٍ حتى أنهى الدعاء فحدثته هي بنبرةٍ هادئة:
_عاوزاك تفرح برة مع بابا وتلعب وترجع مبسوط علشان للأسف بكرة “أيوب” هيسمعلك القرآن.
شهق بقوةٍ وهو يردد بخوفٍ:
_يا مصيبتك السودا يا “إياد”، هينفخني.
سألته هي بدهشةٍ:
_هو أنتَ محفظتش ؟؟ حرام عليك.
رد هو بتلجلجٍ عليها يبرر موقفه:
_ماهو بصراحة أنا مش عارف أكون زيك أنتِ و “أيوب” عاوز أكون زي بابا، راجل رايق والله، حبيبي دا.
صفعته على وجهه بخفةٍ وهي تقول من بين أسنانها:
_يا أخي بقى تعبتني أنتَ وأبوك، يلا علشان متتأخرش.
ركض من أمامها بسرعةٍ كبرىٰ فيما ضحكت هي عليه حتى صدح صوت هاتفها في يدها بمكالمة فيديو عبر موقع التواصل الاجتماعي “مازنجر” فعقدت مابين حاجبيها وشهقت شهقةً جامدة حينما وجدت المتصل هو “تَـيام”.
على الجهة الأخرى لوى فمه يمنةً ويسرى ثم تسرع وضغط على زر المكالمة الصوتية لتتخذ قرارها وترد عليه حتى تهينه فوجدته ينهرها بقوله بطريقةٍ تمثيلية:
_معلش بقى كدا مينفعش، الواحد يبقى بيراقب اكونتات الناس كدا في أمان الله يلاقي نفسه بيتصل فيديو ؟؟ احنا فين هنا ؟؟ مش ممكن.
ضحكت رغمًا عنها ثم تصنعت الجمود وهي تقول:
_حصل خير، ودا يعلمك متعملش حاجة غلط تاني وتراقب أكونتات الناس، خصوصًا أنه مش عليه أي حاجة تفيدك، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أغلقت في وجهه بدون إنتظارٍ منها له ليردد هو بسخريةٍ:
_مؤدبة أوي ومحتاجة مجهود مني كبير.
_____________________
ركب “إياد” بجوار والده السيارة وقبل أن يتحدث بحماسٍ أوقفه والده يحذره بقوله:
_قبل بس ما تتكلم وأرجع اكسر فرحتك، هنروح مشوار سوا على السريع كدا، عشراية وهنرجع، بعدها بقى نروح زيطة بارك بتاعتك دي.
رد عليه مُصححًا بنبرةٍ ضاحكة:
_اسمها Zoom Bark، مش زيطة هي.
رفع “أيهم” حاجبه يسأله بترقبٍ:
_قصدك إيه يالا ؟؟.
حرك كتفيه ببساطةٍ وهو يقول بجديةٍ مُصطنعة:
_اللي فهمته، أنا مجيبتش حاجة من عندي.
حرك رأسه موافقًا ثم أدار محرك السيارة ثم قام بتشغيل الموسيقى في السيارة وهو يقول بنبرةٍ ضاحكة:
_هيص يالا، أوعى عمك وعمتك يعرفوا ؟؟.
حرك رأسه موافقًا وهو يضحك رغمًا عنه فيما ضحك “أيهم” وهو يردد لنفسه:
_هما يصلحوا وأنا أبوظ، بس فدايا.
بعد مرور بعض الوقت أوقف سيارته أمام وجهته التي قرر الذهاب لها، فسأله ابنه متعجبًا:
_بابا، احنا جينا هنا قبل كدا ؟؟ حاسس كدا.
رد عليه بتعجبٍ من حديثه:
_ممكن يكون مع جدك مثلًا، بس المكان دا هادي أوي، ماظنش أني حضرت هنا قبل كدا، بس يلا تعالى.
نزل معه “إياد” ثم أمسك كفه فيما توجه “أيهم” إلى المحل الخاص بصديق والده، فوجد المحل فارغًا منه وقبل أن ينادي على “شلبي” أتت له فتاةٌ تسأله بنبرةٍ جامدة من الداخل:
_نـعم ؟؟ أنتَ مين ؟؟
تعجب من طريقتها ورد عليها بتهكمٍ:
_أكيد مش جايين نسرقكم يعني، فين الحج؟؟
قبل أن تجاوبه وصلهم صوت والدها من مدخل البيت المجاور لهم وهو يقول بنبرةٍ عالية منفعلة:
_يا أخي منك لله كانت جوازة الشؤم و الندامة، مش كنا خلصنا خلاص ؟؟ جاي تعيده تاني ليه بقى ؟؟.
عقد “أيهم” ما بين حاجبيه مستنكرًا وكذلك الصغير فيما زفرت الفتاة بقوةٍ حتى نزل والدها ودلف المحل وهو يقول بنبرةٍ عالية دون أن يلحظ وقوف “أيهم” بصغيره على أعتاب المحل:
_اسمعي يا “نهال” أنا خلاص فاض بيا، عِدتك وخلصت من بدري، الواد دا لو حضر تاني عندنا أنا هجيب كرشه، نسب يعر وخلصنا منه خلاص.
تحدث الشاب من خلفه بتهكمٍ:
_كل دا علشان بقولك عاوز مصاريف علاج بنتك اللي دفعتها علشان تخلف ؟؟ مراتي دلوقتي أولى بيها، بنتك خلاص خرجت برة ذمتي، ومبقتيش لزماني.
شعرت بجرح كرامتها فاندفعت نحوه بجم غضبها وصفعته على وجهه بغير هوادة أو حتى أي تلميحٍ ظهر منها، ليضع كفه على وجهه وينطق من بين أسنانه بغيظٍ مكتومٍ اوشك على افراغه في وجهها:
_بتمدي ايدك عليا ؟؟ طب مترجعيش تزعلي بقى.
رفع كفه وهم أن يرد لها الصفعة وهي ترفع رأسها أمامه لتجد كف أحدهم يحول دون ذلك وهو يضغط على يده ناطقًا بسخريةٍ:
_لأ كدا عيب أوي، مفيش راجل بيمد أيده على ست، ولا أنتَ حيوان بقى ؟؟ بتاكل زي الحمير في البرسيم ؟؟
هتف باندفاعٍ في وجهه يسأله:
_أنتَ مالك ؟؟ مين أنتَ وبتدخل ليه ؟؟
هتف “أيهم” بثقةٍ وهو يضغط على رسغه:
_أنا الجن الأزرق يا حبيبي، وانكشح من هنا بدل ما أعلمك الأدب أنا، يلا ياض من هنا.
اقتربت “نهال” تضربه في كتفه وهي تقول بصوتٍ عالٍ:
_خلي عندك دم وامشي بقى، مفيش عندك كرامة خالص كدا؟؟ ليك عين يا بِجح تيجي هنا ؟؟ غور روح لأمك اللي جوزتك يلا، خليها تيجي تجيبلك حقك مني.
دفعته إلى الخارج وهي تصرخ في وجهه ليخرج هو من المكان نهائيًا ويرحل من أمامهم، فارتمت على الأريكة الجلدية تبكي بطاقةٍ نفذت منها، فتحرك نحوها “إياد” يربت على كتفها وهو يقول بحزنٍ لأجلها:
_متعيطيش، مش هو مشي؟؟ خايفة منه؟؟
رفعت رأسها تطالعه بعينين دامعتين فأخرج منديلًا ورقيًا من جيب بنطاله يمد كفه لها وبدلًا من هدوءها ازداد البكاء من جديد حينما تذكرت حرمانها من نعمةٍ كهذه وهي طعم الأمومة، وكأن “إياد” أصاب الهدف حتى اجهشت في البكاء أمامهم، وقد لاحظها “أيهم” فاقترب من وقوف والدها يقول بنبرةٍ هادئة:
_أنا أسف لو جيت في وقت مش مناسب، أنا “أيـهم” ابن “عبدالقادر العطار”، هستأذن حضرتك أجيلك وقت تاني تكون المدام ارتاحت شوية، تؤمرني بحاجة؟؟
شعر الرجل بالخجل منه ومن والده فهتف بضياعٍ وتشوشٍ:
_أنا أسف يابني….بس زي ما أنتَ شايف كدا.
حرك رأسه موافقًا بتفهمٍ ثم نطق بصوتٍ رخيمٍ:
_مفيش مشاكل متقلقش، ربنا يعديها على خير ولو احتاجت حاجة أنا موجود بإذن الله، اعتبرني ابنك.
حرك رأسه موافقًا بامتنانٍ ونظراتٍ تنطق بالتقدير، ليقول هو من جديد:
_بالنسبة للي حضرتك عاوزه أنا موجود وهاجي مرة تانية هنا نتفق على كل حاجة، تؤمر بحاجة تانية ؟؟
رد عليه الرجل بتقديرٍ وامتنانٍ، فتحرك “أيهم” لابنه يمسك يده وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_يلا يا “إياد” علشان منتأخرش.
تحرك معه الصغير خطوةً ثم عاد من جديد يضع المنديل الورقي أمامها وهو يقول:
_متزعليش.
حركت رأسها نحوه بسرعةٍ فعاد لوالده يمسك يده ثم لوح لها بكفه وهو يسير بجوار “أيهم” لكن عيناه كانت تنظر لها بشفقةٍ فيما تعلقت نظراتها به وهو يسير بجوار والده تتمنى الحصول على صغيرٍ مثله يربت بحنوٍ على قلبها المتألم.
لاحظ والدها نظراتها نحو الصغير فتنهد بقلة حيلة ثم هتف بحزنٍ ويأسٍ:
_اللهم أني لا أسألك رد القضاء لكني أسألك اللُطف فيه.
______________________
في ورشة “فضل” كان يضع قناع الوجه الحديدي على وجهه وهو يقوم بعمله في إحدى البوابات الحديدية التي يقوم هو بلحم أضلعها مع بعضها، رفع القناع الحديدي من على وجهه ليجد “أيوب” أمامه مُبتسمًا، فابتسم هو الأخر ثم رحب به مُهللًا بقوله:
_يا ألف أهلًا وسهلًا، المكان نور، اتفضل.
دلف “أيوب” معه وهو يقول بودٍ:
_المكان منور علطول بصحابه يا أستاذ “فضل”.
جلس “فضل” مُبتسمًا ثم جلس مقابلًا له “أيوب” فتحدث الأخر بمرحٍ:
_قولي بقى تشرب إيه ؟؟ اللي تؤمر بيه موجود.
رد عليه بأدبٍ:
_الأمر لله وحده، أنا كنت جاي اطمن حد اتعرض تاني ليكم ؟؟ وخصوصًا الآنسة “قمر” من بعد خطوبتها.
ضحك “فضل” وهو يقول بقلة حيلة:
_خطوبتها ؟؟ الله يكرمك يابني، بس للأسف محصلش نصيب، “قمر” رفضت العريس وقالت مش مستعدة دلوقتي.
انفلجت شفتاه ببسمةٍ صافية جعلت صدره يرتاح من قبضته المُشددة وهو يقول بارتخاءٍ:
_طب حيث كدا بقى اسمحلي أني أطلب منك إيد الآنسة “قـمـر” ودا شرف ليا طبعًا أتمنى إن حضرتك تتكرم وتوافق.
أبتسم “فضل” باتساعٍ وهو يقول بلهفةٍ:
_وهو أنا عمري كله هلاقي زيك فين تاني؟؟ دا أنتَ خيرة الشباب كلهم، بس الأول أعرف رأيها هي، وأرد عليك، حكم دي دماغها ناشفة أوي ومش عاوزة تتجوز.
رد عليه بوجهٍ مبتسمٍ:
_إن شاء الله أنا متعشم خير واتمنى ربنا يجمع بين قلوبنا في مودة ورحمة وأكيد طبعًا حضرتك عارفني.
حرك رأسه موافقًا وهو يبتسم له فيما تنهد “فضل” وهو يحاول إخفاء فرحته ولهفته بذلك العرض المُغري لابنة أخته، فأين ستحصل على زوجٍ مثل هذا ؟؟ كل من هم حوله يتمنون زوجًا مثله لفتياتهم.
_______________________
في منطقة الزمالك.
نزل “يوسف” بحقيبة ملابسه على الدرج يرتدي قميصًا باللون الأسود من خامة الجينز وأسفله بنطال من اللون الزيتي والحذاء الرياضي باللون الأبيض، بدا كعادته دومًا وسيمًا، لاحظته “شهد” التي كانت تجلس بمفردها، فسألته بتعجبٍ:
_أنتَ مسافر ؟؟.
حرك رأسه نحوها يقول بسخريةٍ:
_مش معقول كل شوية هقولك نفس الجملة، بس هغيرها وأقولك شيء ميخصكيش إنك تعرفيه.
اقتربت منه المسافة المتبقية تقول بلهفةٍ:
_كل مرة تكلمني كدا وكأني واقفة ليك بالسكينة، مش راضي حتى تسمعني، مش عاوز تديني فرصة واحدة، أكيد باينلك أني مش مبسوطة واني بحس بالذنب كل يوم، وأنتَ فاكرني فرحانة هنا.
ترك حقيبته وهو يقول بنبرةٍ جامدة:
_أنا لا شايفك مبسوطة ولا شايفك زعلانة، أنا مش شايفك أصلًا في العموم، مصممة تدي نفسك حق مش بتاعك.
رفعت صوتها في وجهه تقول ببكاءٍ:
_علشان ندمت، ضيعتك وعرفت دا متأخر وحتى الكلام بينا أنتَ قطعته، مرة واحدة كل حاجة اتهدت فوق دماغي، وأنا كل اللي فكرت فيه ساعتها إن أي طريق هيجمعنا سوا حد فينا هيتأذي، عمو قالي إنه ممكن يخلينا نسيب بعض بالغصب وساعتها….
بترت حديثها حينما أوقفها بنبرةٍ عالية:
_وساعتها إيه ؟؟ ها ؟ هيضيع منك كل حاجة صح؟؟ بيت وعربية وشقة وفلوس، كل دول في كفة و”يوسف” في كفة، بس يا حرام هو كفته خفيفة، معهوش ولسه هيقسط، فوقي، أنا ميتضحكش عليا بكلمتين، وكويس إني عرفتك وعرفت أني محبتكيش، وقولتلك وهقولهالك تاني، بكرة تشوفي اللي أنا هحبها هعاملها إزاي.
سألته باندفاعٍ تُرضي غرور أنوثتها:
_مش هتعرف، صدقني مش هتعرف تحب غيري، اللي بينا كان كتير ومش أي حد يقدر في يوم وليلة يملاه.
أبتسم بسخريةٍ ثم قال بوقاحةٍ:
_العيب مش عليكِ، العيب عليا أنا علشان كنت مستني منك تسلكي وكوكب الأرض كله بيدور حوالين نفسه.
رفعت عينيها الباكيتين له فسحبها هو من كفها نحو المرأة الموجودة في ردهة البيت قائلًا بجمودٍ وقسوةٍ:
_ بصي كدا على نفسك، شايفة إيه ؟؟ أقولك أنا ؟؟ واحدة طماعة وأنانية و كدابة، معرفتش تصون عشرة ولا عيش وملح، واحدة لما لقت الدنيا هتقلب راحت أمنت نفسها، زيك زي الخيل الهجين طول مالاقي لقمته قصاده ممكن يحني نفسه لأي حد، إنما أنا خيل أصيل مولفش مع هجين أبدًا، وانتَ و الأصل متعرفوش بعض.
تركها بعدما رمقها من أعلاها لأسفل بازدراءٍ ثم عاد يمسك حقيبته وهو يهددها بقوله:
_لو سكتك جت على سكتي تاني أنا هدوسك واحترمي جوزك شوية، صحيح لايقين على بعض.
خرج من البيت فيما جلست هي على المقعد ببكاءٍ تمسك وجهها بكفيها معًا تُخبيء دموعها وتداري انهيارها.
خرج من البيت فوجد “عاصم” يصف سيارته أمامه ثم نزل يسأله بسخريةٍ:
_خير ؟؟ زهقت وقررت تغادرنا الحمد لله؟؟
حرك رأسه موافقًا ثم نطق باستفزازٍ:
_آه، مؤقتًا كدا علشان بصراحة اتخنقت منكم.
أبتسم “عاصم” بخفةٍ ثم قرر تجاهله لينطق الأخر بما ألجمه محله قائلًا:
_قولي بصحيح، هو إحنا ليه سافرنا بعد وفاة أبويا برة مصر قعدنا سنة ورجعنا ؟؟ عينك كانت على مرات أغا هناك ولا إيه ؟؟
التفت له “عاصم” يسأله بثباتٍ حاول التسلح به:
_وهو أنتَ إيه اللي فكرك يعني ؟؟
حرك كتفيه يجاوب على سؤاله:
_عادي يعني….بسأل.
زفر بقوةٍ ثم جاوبه بإيجازٍ:
_علشان “فاتن” تعبت فترة وأنتَ للأسف كان لازم تغير جو علشان كدا سافرنا ورجعنا تاني بعد اللي حصل.
حرك رأسه موافقًا يتصنع الاقتناع بما سمعه، فأمعن “عاصم” نظراته له ثم تحرك للداخل من جديد فأوقفه “يوسف” مرةً أخرى بسؤالٍ أصعب:
_طب قبر أمي فين ؟؟ يعني بما إن أهلها صمموا ياخدوا جثتها يدفونها عندهم، اروحله إزاي ؟؟
زفر “عاصم” بقوةٍ ثم عاد له من جديد يقول بنبرةٍ جامدة:
_قولتلك معرفش، هي عند أهلها في الشرقية.
_فين في الشرقية ؟؟ يهمني أعرف يمكن أروح اقرأ لها الفاتحة.
رد “عاصم” متهربًا بقوله:
_معرفش أبوك كان جايبها منين، ربنا يجمعكم سوا قريب.
رد عليه بنبرةٍ ضاحكة:
_قبلنا يا رب إن شاء الله.
سأله “عاصم” بضجرٍ من تلك المحادثة الفارغة:
_بقولك إيه ؟؟ أنتَ رايق كدا ورايح فين؟؟
ابتسم له بعبثٍ وهتف بمراوغةٍ له:
_ابقى اسـأل أمـك بقى إن شاء الله.
رحل من أمامه فيما قرر الأخر الإنسحاب من أمامه قبل أن تزداد هزيمته أمامه من جديد خصيصًا وهو يسحقه بالحرب الكلامية وكأنه يجمع الردود في سالف الوقت لكي يقوى على مجابهتهم.
_______________________
جلس “بيشوي” في محله يمسك هاتفه في يده يتصفحه، فوجد “أيهم” ينشر صورةً برفقة “إياد” وكتب فوقها شرحًا توضيحيًا بمزاحٍ:
_سرحت فيك ساعات، فيك مني كتير حاجات… منيلة بستين نيلة فوق دماغنا.
كتب “بيشوي” تعليقًا وهو يضحك:
_عمل إيه حبيب عمه ؟؟ براحته.
كتب له الأخر بتفسيرٍ:
_لأ أبدًا اتشقط مني وقام يلعب مع البت اللي مركز معاها.
سأله “بيشوي” في التعليقات بعدما توسعت ضحكته:
_وأنتَ كنت فين ؟؟
رد عليه “أيهم” في التعليقات:
_كنت مركز مع أمها.
ارتفع صوت ضحكات “بيشوي” فتدخل “تَـيام” يُشير إلى “أيوب” في التعليقات وهو يقول ببراءةٍ:
_شوفت أنا راجل محترم إزاي ؟؟ ربنا يهدي والله.
رد عليه “أيهم” بسخريةٍ:
_متربي أوي أوي، لدرجة إنك بتصلي بينا الجمعة مرتين.
تابع “بيشوي” التعليقات وقبل أن يتدخل وجد “جابر” يهتف بنبرةٍ جامدة:
_مساء الخير، عاوزك.
أغلق “بيشوي” هاتفه ثم أشار له بالجلوس قائلًا:
_اتفضل أقعد، مكانك يا حمايا.
تجاهل “جابر” كلمته هذه عن قصدٍ ثم جلس يقول بعدما دلف لصلب الموضوع مباشرةً:
_مُسعد فين ؟؟ وفلوسي لسه معاه ؟؟
أرجع “بيشوي” ظهره للخلف ثم هتف بنبرةٍ هادئة يستمتع بخضوع الأخر أمامه:
_قولتلك عندي جوة ومش هكدب يعني، وحقك معايا كمان.
سأله يإبجازٍ:
_فين ؟؟ هو وحقي؟
رد عليه مُبتسمًا يحدثه ببرودٍ ثلجي:
_موجودين، بس عاوزك تعرف حاجة مهمة، أنا جيبته مش علشان خاطر عيونك ولا حُبًا فيك.
سأله بسخطٍ:
_اومال ليه إن شاء الله ؟؟
رد عليه بنفس البرود وقد توسعت بسمته:
_علشان خاطر عيون بنتك، عارفهم؟؟ شجر الزيتون.
وقف “جابر” يقول بنبرةٍ جامدة:
_احلم براحتك بس أنا قولت لأ يعني لأ، أبوك زمان بدا عليا “عبدالقادر” وراح يشاركه، قولتله أنا أبدى منه مرضاش.
تحدث “بيشوي” بوقاحةٍ:
_جو الفتنة الطائفية بتاعتك دي مش هينفع، كل واحد بيدور على مصلحته، وأنتَ عارف إن مصلحته كانت مع الحج، غير كدا هما صحاب يا سيدي، مالك أنتَ ؟؟
رد عليه بسخريةٍ:
_كبروا سوا وسابوني صغير في السوق هنا.
أبتسم له “بيشوي” وهو يقول:
_بصراحة تستاهلها دي.
زفر “جابر” في وجهه ثم تحرك من المكان، فرفع “بيشوي” صوته قائلًا:
_طب وحقك يا حمايا ؟؟ أكمل عليه المهر؟؟؟
____________________
وصل “يوسف” لمحل “عبدالقادر” بعدما أوقف سيارته على مقدمة الشارع من الجهة الأخرى، ثم توجه نحوه مباشرةً بعدما عرف الطريق عن ظهر قلب، ليدخل بثباتٍ يقول:
_مساء الخير يا حج ؟؟ فاكرني ؟؟
أبتسم له وهو يقول بنبرةٍ هادئة و واثقة:
_كنت عارف إنك جاي بس متأخر ساعتين عن توقعي.
رد عليه بسخريةٍ لاذعة تخلو من الأدب خاصةً وهو يعلم أنه يخفي عنه مكان والدته:
_المحور كان واقف، أصل الجاموسة والدة.
حرك رأسه موافقًا ثم اعتدل واقفًا يسحب مفاتيحه وهو يقول بنفس الطريقة:
_لأ وماله، تتربى في عزك يا حبيبي، اتفضل معايا.
سأله بجمودٍ:
_على فين إن شاء الله ؟؟
جاوبه “عبدالقادر” بثباتٍ:
_على شقتك، أنا كنت متأكد إنك هتيجي علشان كدا جهزتهالك، يلا ولا مش ناوي تكمل الطريق ؟؟
رفع “يوسف” رأسه بشموخٍ يقول باتكاءٍ على أحرف كلماته:
_أنا الطريق نفسه يا حج، مش مجرد عابر معدي عليه.
حرك رأسه موافقًا ثم أشار له يتبعه، فلحقه الأخر وهو ينظر في أثره بنظراتٍ مُتفرسة بعدما امتاز “عبدالقادر” عليه في الغموض وبدا أمامه لغزًا يصعب حل عُقَد بدايته.
كانت البناية في مقدمة الشارع بجوار سيارته المصفوفة، فيما دلف “عبدالقادر” البناية ولحقه “يوسف” لداخل المصعد، وكل ذلك و “يوسف” يلتزم الصمت والأخر يراقبه.
بعد مرور أقل من دقيقة زمنية توقف المصعد في الطابق ما قبل الأخير ففتحه “عبدالقادر” ثم خرج منه وخرج “يوسف” خلفه ينتظر منه فتح الشقة حتى قام بفتحها مشيرًا له بأدبٍ و ودٍ:
_اتفضل يابني نورت بيتك.
دلف “يوسف” الشقة فوجدها تخالف توقعاته، حيث وجد ارضيتها رخامية واضاءتها حديثة واثاثها أيضًا حديد وحديث، جدرانها مزيج بين اللونين البُني و البيج، والإضاءة البرتقالية و الثُريا الفخمة المُضاءة في ردهة الشقة.
تحدث “عبدالقادر” من خلفه بقوله:
_دي شقة مفروشة كنت وقولت يمكن حد من ولادي ينقل هنا، بس أنتَ متتخيرش عنهم، اتمنى تعجبك.
هتف “يوسف” مستفسرًا يتجاهل عن عمدٍ حديثه:
_ايجارها كام الشقة دي ؟؟
أبتسم “عبدالقادر” وقد توقع سؤال هكذا، لذا رد عليه:
_من غير فلوس خالص علشان عيونك، “مصطفى” طول عمره أخويا وعمره ما قصر معايا، أنتَ كدا بتشتمني.
تنهد “يوسف” بعمقٍ فأضاف “عبدالقادر” من جديد:
_بعديك بدورين هتلاقي روف جاهز وفيه زرع ونور وقعدته حلوة، ابقى اطلع مشي رجلك فيه وهتلاقي مفتاحه معاك.
التفت يغادر الشقة فأوقفه “يوسف” بقوله:
_متشكر يا حج، إن شاء الله اظبط أموري وهرد كل جمايلك.
حرك رأسه موافقًا ثم غادره وهو يبتسم بيأسٍ فيما وقف “يوسف” في المنتصف يتابع المكان بعينيه.
_____________________
جلس “أيوب” في المسجد كعادته وتلك المرة بأملٍ عاد له خاصةً بعد تلك الخطوة التي أخذها في اتجاه “قمر” لعل طرقهم تتقابل وتتوحد بينهما السُـبل.
جلس يستند على العمود الرخامي في المسجد ثم رفع صوته بأنشودةٍ دينية يحبها هو كثيرًا ويشعر بكلماتها لذا يرددها عن ظهر قلبٍ:
إلهي رجعتُ بذلِّ افتقاري *** بخوفي بضعفي بدمع انكساري
رجعتُ أبوء إليك بسرّي *** وأنت العليمُ بكل السِّرارِ
رجعتُ لأشكو ذنوبَ الليالي *** وأشكو إليك ذنوبَ النهارِ
أحثّ خطايَ فراراً وخوفاً ***ومنك ولكنْ إليك فراري
أنا من عثرتُ مراراً بدربي ***ومَن لي سواك يُقيلُ عِثاري ؟
ومن لي سواك ليغفرَ ذنبي ***ويقبلَ يارب مني اعتذاري ؟
ومن لي سواك يُفرّجُ كربي ***ويشفي فؤادي ويُطفىءُ ناري؟
ومن لي سواك يُقوّمُ دربي؟ *** يُسدّد خلف الرسول مَساري
فأنت الرحيمُُ ، وأنت الكريمُُ *** وحُكمك يارب في الكون جارِ
أنهى الأنشودة بصوته بعدما اندمج في التغني بها وقد لامست كلماتها قلبه لذا تنهد بعمقٍ ثم مسح وجهه وقرر العودة إلى منزله قبل المجيء إلى هنا من جديد قبيل أذان الفجر.
خرج من المسجد ثم أغلقه بهدوءٍ والتفت ينزل درجاته الرخامية حتى وصل نهايتها ففاجئه أحدهم يرتدي ملابس رسمية وهو يقول بنبرةٍ هادئة ثابتة:
_اتفضل معانا يا شيخ “أيوب”.
حرك “أيوب” رأسه لليسار قليلًا فوجد سيارة بيضاء اللون “ميكروباص” تقف بجوار المسجد، فابتسم بسخريةٍ وهو يقول:
_عيون الشيخ “أيوب” طب تصدق كنت ناوي أجيلكم، قولي “عطية” باشا لسه في الخدمة ؟؟
أشار له الضابط بالتقدم، فحرك رأسه وهو يقول:
_يبقى نقلوه….يا صبر “أيوب”.
تحرك نحو السيارة وهو يعلم إلى أين سيتجه لكنه قرر الثبات كعادته ليرى نهاية الطريق أين هي.
_______________________
أنهى “يوسف” تفحص الشقة التي شعر فيها براحةٍ نفسية ثم ولج الغرفة الكبيرة يضع بها حقيبة ملابسه وقام بتغييريها إلى أخرى بيتية مريحة عبارة عن بنطال قطني رمادي اللون وسترة قطنية سوداء اللون ثم قرر الصعود إلى الروف كما أخبره “عبدالقادر”.
صعده بهدوءٍ تدخل قلبه ليحل محل القلق وكأن تلك الجلسة احتلت مكان خوفه وتربعت في قلبه، لم يدري لماذا ابتسم وهو يقف أسفل تلك الإضاءة و الزرع الأخضر المحاوط له ورائحة النعناع الأخضر التي ضربت أنفه حينما مر الهواء بجوار أنفه.
وجد مقعدًا في منتصف المكان فجلس عليه ثم أخرج هاتفه يضعه بجواره وأخرج ميدالية مفاتيحه وسيارته ليراقب القمر الموضوع بها وهو يقول بنبرةٍ موجوعة وصوتٍ خنقه البكاء:
_ياترى شكلك بقى عامل إزاي ؟؟ وياترى عارفة إنك ليكي أخ ولا زيي كنت فاكرك مش موجودة، يا رب تكوني بتحبيني، علشان والله العظيم أنا بحبك اوي، وعاوزك.
فتح هاتفه حينما وجد دموعه على مشارف النزول والغصة المريرة علقت بحلقه كما الأشواك الملتهبة، فرفع صوت الأغنية التي تجعله يبكي دومًا وكأنها تعبر عن حالته ثم وضع السماعات داخل أذنه وارجع رأسه للخلف:
_واقف مصدوم في مرايتي حبايبي ليه قتلوني؟… في حكايتي بحاول اخبي دموعي….حتى اللي كانوا يوم جنبي جرحوا قلبي وقتلوني وكانوا مبسوطين بدموعي…..وأنا بس إيه كان ذنبي ابص جنبي ألاقي اللي مني كارهني وبيخنوني….وبيخونوني….. الدنيا ياما علمتني إن حواليا أشخاص كتير مستنية وقوعي…. بقوم من نومي مفزوع….دايمًا بكون المخدوع…. بحاول أهرب من قلبي على خدي تنزل الدموع….بسأل نفسي أنا ابقى مين….تايه طول عمري وحزين…. بكرة هتدور السنين وهعرفكم أنا ابقى مين.
سمح لدموعه تعلن نفسها فيكفيه الصمود حتى الآن، تنهد بعمقٍ وقبل أن يحرك رأسه أو حتى يعتدل في جلسته وجد كف أحدهم يحاوط عنقه وهناك شيءٌ معدني لامس عنقه ومعه صوتٌ بنبرةٍ جامدة يقول:
_اتشاهد على روحك.

يتبع….

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top