تنهد بصوتٍ مسموع قبل أن يقول بلهجة أجشة:
-بجولك أحنا لازم نتكلم.
صاحت فيه بعينين ناريتين غاضبتين:
-وأنا مش عايزة أتكلم أظن واضحة!
قال من بين أسنانه بنغمة صوت يعلم الله كم جاهد ليضبطها فلا تخرج صارخة مُحملة بغيظه الذي يكبحه:
-دا مش اختيار، هنتكلم يعني هنتكلم وهتجوليلي كل حاچة بصراحة.
تماثلت شفتيها المتيبستين لابتسامة متهكمة تشع مرارة وهي تردف مستنكرة:
-مش شايف إن مرحلة الكلام چات متأخرة شوية؟
ثم سرعان ما سقطت تلك الابتسامة الساخرة، وهي تدفع جسده العريض الصلب من أمامها بكل ما تملك من قوة حتى اصطدم بالجدار من خلفه بقوة،
وخرجت من الغرفة سريعًا لتهرب من ذلك المنزل بأكمله، بينما هو يغمض عينيه متنفسًا بصوت مسموع، ويعد للعشرة حتى يُهدئ ذلك الغضب المتأجج داخله ولا يتحرك خلفها ليُعيدها عنوة للغرفة من جديد جابرًا إياها على الحديث والإفصاح بكل شيء مُخبأ بينهما فلا يظل أي عائق.
****
عاد “أيوب” من الخارج للمنزل بعد ساعات طويلة قضاها يدور بسيارته في الشوارع بلا هدف، إلى أن نجح الوقت والهواء البارد في خفت حدة نيران الغضب والغيرة المستعرة داخله ولكنه لم يُطفئها.
وجد “غرام” تنام على الأريكة في الصالة بحركة عشوائية غير مُريحة أخبرته أنها سقطت في النوم دون شعور، اقترب منها ببطء، ووقعت عيناه على أثر الصفعة
التي احتفظت بها وجنتها وكأنها تُدينه..
جلس أرضًا جوارها حتى صار في موازتها، ثم مد يده ببطء وتردد ليتحسس أثر تلك الصفعة بطرف إصبعه.. تأوه بعمق دون صوت، لم يود ذلك.. لم يود ذلك ابدًا ولكنها أخرجته عن طور تحكمه وثباته.
أغمض عيناه وهو يهمس جوارها بحروف مشتتة ونبرة مختنقة خشنة:
-ماكنتش عايز أعمل كدا، ليه بتخرجي أسوأ ما فيا، ماكنتش عايز أبجى زيه.
ثم هز رأسه نافيًا بقوة ولا زالت عيناه الغامقتين مُعلقتان بوجنتها البيضاء التي احمرت والتي تحمل أثار أصابعه، وكأنه يطرد عنه هاجس لازمه طويلًا:
-أنا مش ظالم و مفتري زيه، أنا مش كدا، مش زيه.
تنهد بعمق قبل أن يتمتم بشجن خرج من أعماقه:
-كنت حاسك شبه أمي، وواثق فيكي، بس أنتي مش شبهها، هي عمرها ما كانت غدارة وخاينة للثقة.
تغضنت ملامح غرام بألم وهي تُحرك جسدها، فابتعد عنها أيوب على الفور، فتحت عيناها ببطء لتبصره وهو جالس على الأريكة المقابلة لها بملامح متجهمة جامدة تناقض ما كان عليه قبل ثوانٍ قليلة، ودخان الغضب يتصاعد في خلفية ظلام حدقتيه.
انتفضت مرتعدة جالسة على الفور مهمهمة بإسمه بتلقائية:
-أيوب.
هتف بخشونة باردة خاوية من المشاعر كافة:
-تعرفيه منين؟
سألته بذعر دون ادراك:
-هو مين؟ ماعرفش حد والله.
رد بخفوت حاد من بين أسنانه المطبقة بشدة:
-صاحب الشغل ال****
أجابته على الفور:
-من على النت بس والله العظيم.
استفسر بنفاذ صبر وبنبرة كساها انفعال مكبوت:
-ساكن في أنهي داهية أوصله ازاي دا ؟
هزت كتفيها معًا بقلة حيلة:
-ماعرفش.
شدد على كلماته مستنكرًا بشدة:
-ماتعرفيش؟ يعني إيه ماتعرفيش امال اتعاملتي معاه بناءًا على إيه؟
التردد أخّر اجابتها لثانية فقط قبل أن تخر حروفها مستسلمة:
-كان كل تعاملنا على النت بس، والمندوب هو اللي كان بيچي ويچيبلي الحاچة.
عاد الغضب يستعر داخله من جديد، فابتسم ابتسامة غاضبة مُخيفة خالية من المرح وهو يردد بنبرة خطرة:
-وروحتي جابلتيه مرة واتنين وتلاتة والهفأ اللي مستغفلاه نايم على ودانه.
اشتدت قبضتها حولها بقوة دون أن تجرؤ على الرد، ليتها لم تجيبه فتشعل غضبه الأسود أكثر دون قصد..
انتبهت له وهو يشير لها بهاتفها القابـع بين يديه آمرًا:
-تعالي طلعيلي رقم ابن ال**** دا واتصلي بيه.
الاقتراب منه في تلك اللحظات كان كالاقتراب من أسد مفترس فاقد لكل معالم السيطرة، فهي لم تنسَ بعد صفعته التي لا زالت تحمل أثرها على وجنتها كما في روحها المُهشمة، لذا اقتربت منه ببطء وحذر شديدين، ليزجرها بنفاذ صبر:
-اخلصي.
إنتشلت الهاتف من يده بسرعة بطرف أصابعها، ثم اتصلت بالآخر كما أراد وأعطته الهاتف مرة اخرى، رد ببرود وابتسامة لزجة استطاع أيوب تخيلها:
-إيه يا غزالة فين الصور؟
اشتدت قبضة أيوب على الهاتف حتى شعر أنه سيكسره وشعر بالغضب… لا الغضب تعبير بسيط عما يدور داخله تلك اللحظات، شعر وكأنه ساقط في قاع الجحيم فتحرقه ألسنة اللهب بضراوة، ثم إنطلقت القذائف والشتائم النابية من فمه باهتياج عارم:
-هبعتهالك بنفسي على الجبر اللي هادفنك فيه يا **** يابن ال**** دا أنا هاطلع ****، لو راچل جولي مكانك يا ****
انتقلت نوبة الغضب للاخر الذي تفاجأ وتجلت المفاجأة في النغمة الغاضبة التي رنت باذن أيوب:
-اهدى كدا على نفسك مالك داخل حامي عليا كدا ليه، ما اللي عنده معزة يلمها هو أنا ضربتها على ايدها وقولتلها اتصوري وابعتي، هي اللي عملت كدا بارادتها وقبضت التمن.
لثوانٍ قليلة لم يصله سوى صوت أنفاس أيوب الهادرة لتخبره أنه أصاب الهدف القاتل بكلماته، ليتابـع بتهور لم يكن في محله خاصةً مع شخص كـ أيوب :
-ولو مانفذتش اتفاقنا للأخر الصورة هتتوزع على البلد كلها عندكوا، وقد أعذر من أنذر.
خرجت كلماته شديدة الحدة كمنحدر خطر يحمل وعيد قاسي:
-هاچيبك، هاچيبك حتى لو تحت الأرض وساعتها هاندمك على اليوم اللي اتولدت فيه.
أغلق الآخر الخط دون رد بعدما نجحت كلمات أيوب في زعزعة ثباته وبثه شيء من القلق..
فيما رفع أيوب عيناه لغرام التي وقفت أمامه ترتجف من التوحش الصريح الرابض في عينيه كمجرم متأصل، ثم انقض عليها يقبض على ذراعيها بعنف متعمد مزمجرًا في وجهها بجنون:
-ليه تعملي فيا وفي نفسك كدا ؟ ليه تحطيني في الموقف دا بعد كل اللي عملته عشانك ؟ ليه ترخصي نفسك بالطريجة دي ؟
غمغمت بكلمات باهتة متقطعة وسط شلال الدموع الذي انفجر على وجنتيها:
-خوفت، صدجني خوفت ومن غبائي فكرت إني كدا بحل الموضوع خالص.
تركها أيوب شاعرًا أنه سيؤذيها.. حتمًا سيؤذيها وهو لا يريد ذلك، ضرب بقدمه بغل الكرسي الموضوع أمامه حتى سقط مصدرًا دوي عالي..
ثم صرخ بنبرة مُزلزلة مهتاجة:
-ملعون أبو الخوف، إيه أعملك عشان تطمني، إيه أعملك؟ حاولت أطمنك مرة واتنين وتلاتة، بس واضح إن أنتي الغدر بيجري في دمك مش مچرد خوف.
راح يتنفس بصوت مسموع، ويدلك رأسه بحركات عشوائية يشعر أن رأس ستنفجر من فرط التفكير والانفعالات… ثم همس لاهثًا بتعب حقيقي:
-ياريتني ما شوفتك ولا اتچوزتك.
حينها تعالى صوتها كهدير موج عالي تخزن وتخزن ثم انفجر كموجات التسونامي في لحظة لا تتكرر كثيرًا:
-لما أنت ندمان أوي كدا خلاص طلجني ماتغصبش على نفسك، أنا كمان مش هموت وأفضل على ذمة واحد يده سابجة لسانه.
بلحظة كان أيوب يقبض على فكها بكفه الغليظ الخشن حتى تأوهت ألمًا، فقال بلهجة تفوح غلًا وشراسة:
-صدجيني مفيش أحب على جلبي دلوجتي من إني أطلجك.
ثم نفضها بعيدًا عنه حتى ارتدت عدة خطوات للخلف تحدق في أثره وهو يلتقط هاتفها واضعًا إياه في جيب جلبابه، ثم سار مغادرًا المنزل مرة أخرى وكأنه صار لا يطيق التواجد معها في مكان واحد، ولم يفوتها صوت المفتاح الذي أخبرها أنه أغلق عليها باب المنزل وكأنه يخبرها ببساطة أنه صار لا يثق فيها بتاتًا !!
بينما أفكارها لا تدور سوى في فلك سؤال واحد…. هل هذا معناه أنه سيُطلقها بالفعل ؟!
****
بعد يومين…
جلست “ليلى” في غرفتها شاردة أمام الشرفة، يضربها الهواء الطلق ليُنعش روحها المتكومة كرماد محترق، تنفست بقوة.. نعم لم يستمر إنهيارها بعدما حدث، ولكن هناك جزء صار معطوب داخلها تجاه “ظافر”..
انتبهت لوالدتها التي دخلت الغرفة، وجلست جوارها راسمة ابتسامة حانية وهي تهتف:
-إيه يا حبيبتي مالك؟
هزت ليلى رأسها نافية بابتسامة زائفة لم تخدع والدتها:
-مفيش حاچة يامه، مالي؟
-فيكي حاچة مش مظبوطة، اوعي يكون المخفي اللي أسمه ظافر عملك حاچة وأنتي مش عايزة تجوليلي؟
تلفظت الاخرى بشك وهي تدقق النظر لوجهها الذي بهت فيه بريق الحياة، فبادلتها ليلى التساؤل:
-ظافر؟ ليه بتجولي كدا ؟ هو حصل حاچة؟
هزت كتفيها وهي تجيبها بشيء من التوتر:
-لأ ماحصلش، بجول كدا عشان اللي حصل أخر مرة يعني وتهديده.
استشفت ليلى ذلك التوتر الذي حلق عاليًا في سماء معالمها، وكررت سؤالها مشددة على حروفها:
-حصل إيه يامه؟ جولي.
أطلقت أنفاسها المحبوسة وهي تسرد دفعةً واحدة:
-أنا اتصلت بيه واتكلمت معاه.
أجفلت ملامحها صدمةً وهي تسألها دون استيعاب:
-اتصلتي بيه؟ اتصلتي بيه ازاي وجولتيله إيه؟
عضت على شفتيها والارتباك يتضاعف داخلها، ثم واصلت:
-أخدت رقمه من تليفونك وكلمته.
-جولتيله إيه يامه؟
استعلمت ليلى بأعصاب بدأت تنهار وهي تتيقن أن والدتها وحديثها المتسببان بحالتها الهوجاء التي كان عليها، فقصت والدتها عليها كل ما دار بينها وبين ظافر، لتتلبسها شياطين الغضب.. لا تصدق أنه حكم عليها وفعل ما فعل بناءًا على ظنون ضبابية بعقله !
بعد قليل…
إندفعت ليلى تطرق الباب بقوة غير مُبررة للعاملة التي فتحت لها الباب بوجهٍ يعلوه الدهشة، ولكن ليلى لم تكلف نفسها عناء التبرير بل تابعت اندفاعها كإعصار نحو الداخل وهي تسأل بصوت أجش باحثة بعينيها عنه:
-فين ظافر ؟
أشارت الاخرى نحو الغرفة التي يعمل بها مجيبة في رد فعل اتخذ الدهشة راعي رسمي له:
-في الاوضة.
ولم تنتظر ليلى ثانية واحدة اخرى لتشكرها حتى، بل سارعت بالتحرك نحو تلك الغرفة، ودون أن تطرق الباب فتحته ثم صفعته خلفها بعنف جعل امارات الذهول ترتفع على قسمات وجه ظافر الذي كان يُنهك نفسه في عمله حتى يتخلص من تفكير مُهلك سيردعه قتيلًا او قاتلًا.
نهض من مجلسه بهمهمة متعجبة حملت التساؤل في طياتها:
-ليلى ؟
وقفت أمامه مباشرةً، سائلة بصوتٍ حاد وملامح على صفيح ساخن حتى احترقت الشيكولاتة الذائبة بعينيها:
-أنت عملت اللي عملته عشان أمي كلمتك؟
لأول مرة يتخبط ظافر العبادي في رده أمام أحدهم ولا يدري كيف عليه تجسيد رد فعل مناسب من وسط تخبطاته الداخلية، فهل سؤالها يعني أنها لم تكن تعلم ؟ ام أنه استدراك متأخر ام ماذا ؟
ولكنه استجمع شتاته مسرعًا، وهو يسألها بنغمة لها قريع الاستنكار:
-على أساس إنك ماتعرفيش إنها كلمتني وجالت اللي جالته؟
جاءت اجابتها صارخة على حافة الجنون… لا بل هي في درك الجنون فعليًا:
-أيوه ماكنتش أتزفت أعرف، هو أنا هشم على ضهر يدي إن هي كلمتك فـ الباشا فسر وحكم ونفذ كمان من غير آآ…..
قاطعها ظافر محذرًا بصرامة:
-وطي صوتك وأنتي بتكلميني.
ولكن جملته لم تزدها سوى اهتياجًا وجنونًا فصرخت بصوتٍ عالٍ شرس وهي تضرب وتدمر بجنون كل ما تقع عيناها عليه.. المزهرية والاشياء الموضوعة على المكتب:
-لأ مش هاوطي صوتي واهوه، هتعمل إيه يعني؟ هتضربني ولا هتكمل اللي وجفت فيه المرة اللي فاتت؟
رنين الألم والعتاب تداخل بنغمة صوتها فجعله يحاول تمالك نفسه مضيفًا بخشونة صلبة:
-اللي حصل دا مش هيتكرر تاني، أنتي عارفة إني ماكنتش في وعيي.
لوت شفتيها بسخرية جلية:
-ماكنتش في وعيك؟ ليه كنت شارب حاچة ولا إيه؟
تقدم منها ظافر خطوة وهو يهدر بنبرة غليظة مغتاظة:
-كنت شارب السم اللي أمك سمعتهولي.
أشارت له بإصبعها محذرة بحروف شديدة اللهجة:
-ماتدخلش أمي في الموضوع، أمي كانت بتتكلم بتلقائية واحدة خايفة على بتها، ماكنتش تعرف إنك شكاك ومترصد ليا غلطة عشان تجنع نفسك إنك كنت صح في شكك وظلمك ليا أول مرة.
هز رأسه نافيًا على الفور باستنكار:
-لا طبعًا، بس كنتي عايزاني ازاي ماخرچش عن شعوري لما هي تجولي كدا وأتكلم معاكي ألاجيكي بتجولي كلام مشابه.
استفسرت باستهزاء وملامح ملتوية:
-كلام مشابه إيه بجا اللي جولته وأنا مش حاسه؟
كز على أسنانه بشدة حتى سمعت صكيكها الذي يدل على غضب متصاعد داخله كاللهب، ثم استطرد بهدوء خطر يُنذرها:
-لأخر مرة هاحذرك اتكلمي بأسلوب أحسن من كدا وإلا أنا مش مسؤول عن رد فعلي.
تنفست ليلى بصوتٍ عالٍ وآثرت الصمت فهي تعلم أن شخصية كـ ظافر لن تتحمل الإهانة بأي صورة من صورها تحت أي ظرف من الظروف وإن كان يذوب بها عشقًا ويدرك أن الخطأ يغمره من رأسه حتى أسفل قدميه!
فيما قال ظافر بجفاف:
-طريجة كلامك وجتها، وإنك كدا كدا مش متضررة لوحدك، كان إيه؟ إنك تجوليلهم فچأة إنك مرتي من غير مجدمات او اتفاج بينا.
كانت عيناها تزداد توسعًا مع كل كلمة ينطقها وينبلج فيهما عدم الاستيعاب والتصديق، ثم غمغمت بحروف متحشرجة مكتومة تنضح بالقهر:
-أنت إيه؟ أنت إيه يا أخي دماغك مابتدورش غير في دايرة الشك اللي چواك بس؟ أنت ماشوفتش نظراتهم وهما شايفيني داخلة معاك اوضتك؟ معلش لو أزعچ حضرتك بس شرفي وسُمعتي مش تحت أمرك وأمر تصرفاتك ومش هاسيبهم لعبة في لسان الناس، وحتة إني مش المتضررة لوحدي عشان فعلًا أنا مش متضررة لوحدي، أنتوا الشر والضرر منكم فيكم، عشان لو في حد بدل الدوا فعلًا يبجى أكيد حد منكم.
شيئًا فشيء كانت الرياح العاصفة الغاضبة بعينيه ترسو تدريجيًا بمنطقية حديثها وحالتها التي لا تترك مجال للشك، لتتجلى عاصفة اخرى من مشاعر مشتعلة شغوفة تُضاهيها في قوتها وهو يتابـع بخشونة مشتعلة:
-اقسم بالله سُمعتك من سُمعتي وتهمني أكتر من أي حاچة في الدنيا، أنتي غالية ومهمة عندي جوي يا ليلى.
ولكن ليلى بدت في معزل ثلجي من اشتعال مشاعره فلم تُصبها او تؤثر بها، بل ظلت ملامحها جامدة خالية من المشاعر وهي تتشدق:
-لو أنا غالية ومهمة عندك فعلًا ماكنتش هتشك فيا وكأنك بتتلكك عشان تثبت شكوك، الإنسان لما بيبجى حد غالي عنده بيبررله حتى لو غلطان، لكن أنت ماعندكش غالي إلا نفسك وچدك بـ……
قاطعها حين وضع يده خلف رقبتها وجذبها نحوه في حركة مباغتة ليكتم شهقتها المتفاجئة بشفتيه… يُقبلها بلوعة حارقة صابغًا شفتيها بصبغة عشقه اللاهب علها تحترق به فتدرك كم هي غالية عنده.
أبت ليلى أن تستسلم رغم ارتعاشتها المتأثرة الفطرية، وشعورها بشفتيه التي عاثت عبثًا في شفتيها… وروحها… وقلبها !
حاولت دفعه بعيدًا عنها، ليُفلتها ظافر على مضض ولكنه لم يبتعد عنها كليًا، مستندًا على جبهتها بجبهته هامسًا بصوت متحشرج مثخن بالعاطفة:
-بحبك، والله بحبك وماحبتش ولا هحب غيرك.
رغم أنها تجمدت لثانية أمام اعترافه الصريح لأول مرة، إلا أنها لا زالت تشعر بعلقم الإهانة والألم في جوفها، فدفعته بعيدًا عنها بعنف هذه المرة وهي تعنفه باستهجان:
-أسفة چدًا يا أستاذ ظافر بس أنا عايزة نتطلج وكل واحد يروح لحاله، وإن شاء الله تلاجي بنت الحلال اللي تستاهلها وتستاهلك.
ومضت سوداوتاه بوميض خطر مشتعل وهو يسترسل بشراسة عاطفية متقدة:
-أبدًا، أنتي مرتي وهتفضلي مرتي لحد ما ربنا ياخد أمانته.
تجمهر الاعتراض بكلماتها وهي تصيح:
-أنت جولت إننا هنشوف ولو ماتفجناش وحبيت ننفصل بعد فترة هننفصل.
هز رأسه نافيًا، وبصوته الرجولي العميق راح يخبرها:
-أنا عارف إني غلطت في حجك، بس طلاج لأ إنسي مش هو دا الحل.
سارت ليلى بخطى حانقة نحو الباب تود الخروج، إلا أنه كان الأسرع فلحق بها قبل أن تخرج ليُصبح خلفها تمامًا يُحيطها بذراعيه، تشعر بأنفاسه اللاهبة تحرقها،
دفن ظافر وجهه عند رقبتها يجمع رائحتها المُسكرة في رئتيه لتوقد مشاعره أكثر.. اشتدت ذراعيه حول خصرها وهو يغمغم بخشونة تتدفق مشاعر عنيفة:
-أسف حبيبتي، عارف إني وچعتك وصدجيني اتوچعت كدك أضعاف مضاعفة، بس ماجدرش أسيبك بعد ما لاجيتك، أنتي ملكي وهتفضلي طول عمرك ملكي، ولو عايزة تطلجي يبجى مش جدامك غير المحكمة او تجتليني.
تملصت ليلى من بين ذراعيه بصعوبة وجسدها يشتد استنفارًا، ووقعت عيناها على المزهرية التي تهشمت فأمسكت قطعة زجاج منها وهي تزمجر في وجهه بشراسة:
-اوعى تفكر تجربلي بالطريجة دي تاني، نجوم السما أجربلك مني.
ولكن ظافر لم يُبالي وهو يقترب منها من جديد، حتى صار أمامها مباشرةً، أمسك بيدها التي تمسك قطعة الزجاج، ووضعها على صدره العضلي الصلب، مرددًا بملامح قاتمة جامدة:
-دوسي، خدي حجك يلا ومحدش هيجدر يجولك تلت التلاتة كام.
نظرت بذهول لقطعة الزجاج التي ضغطت بشدة على صدره حتى شعرت أنها ستنغرز بصدره فعليًا، فأبعدت يدها على الفور متراجعة وهي تغمغم ذاهلة:
-أنت مچنون!
ثم استدارت بخطوات شبه راكضة لتغادر الغرفة، تاركة إياه يزفر بعمق هامسًا لنفسه بنبرة تملك منها الشغف حد الإنهاك:
-عمري ما كنت أتخيل إني أبجى مچنون ليلى.
****
على الطرف الآخر في منزل “أيوب العماري”…
وقفت “غرام” في المطبخ، تضع المياه تغلي على النار لتصنع لنفسها كوب من الشاي بملامح منكوبة، وملل قاتل صار يستوحش حياتها بالمعنى الحرفي، فحياتها أصبحت مقتصرة على جدران هذا المنزل، حتى أيوب لم تعد تراه كثيرًا في اليومين السابقين، يتلاشاها تمامًا وكأنها غير موجودة، أ يُمكن أنه يستعد ليُطلقها رسميًا ؟ وماذا ستفعل حينها ؟ تبًا للشيطان الذي قلب حياتها رأسًا على عقب.
تنهدت بقوة قبل أن تخرج من المطبخ، جلست على الأريكة في انتظار الماء حتى يغلي، حتى سقطت غافية دون شعور منها، ولم ترى قطعة القماش التي كانت موضوعة على “البوتجاز” جوار الشعلة، فبعد ثوان معدودة نشبت النيران بقطعة القماش ومنها إلى كل شيء بالمطبخ شيئًا فشيء دون شعور من غرام التي تنام بالخارج ولا ترى النيران التي بدأت تلتهم المنزل بدءًا من المطبخ…
بعد دقائق نهضت غرام تشعر بالاختناق بسبب الدخان المتصاعد، وها له منظر الحريق الذي نشب فصرخت بفزع وقلبها ينبض رعبًا، ركضت بهلع نحو باب المنزل تحاول فتحه والخروج لتنجو بنفسها، ولكنها أدركت أنه مُغلق من الخارج كما صار أيوب يفعل مؤخرًا حين يخرج من المنزل، وليس معها هاتف ايضًا !!!!
****
يتبع …..
شعرت بالدنيا تدور بها، والدخان يزداد انتشاره حتى تخلل أنفها بضراوة فشعرت بالاختناق المميت حتى صارت تلتقط أنفاسها بصعوبة، بدأ جسدها يرتخي شيئًا فشيء والوهن يتملك منها رغم أن الرعب لا زال يسكن جنبات روحها برؤية النيران التي تلتهم كل شيء..
هل جربت استرجاع أحداث حياتك كلها وأنت تعلم أنها الثواني الأخيرة لك في هذه الحياة ؟ هكذا كانت هي، يمر أمام عينيها شريط حياتها، واحاسيسها ما بين الرعب والندم والصدمة تتداخل معًا بشكل مُهلك لم يسبق لها أن تعرضت له قبلًا.
وكان أخر ما سمعته هو صوت طرقات عنيفة على الباب وصراخ عدة أشخاص من الخارج خمنت أنهم جيرانهم..
كان “أيوب” في المتجر الخاص به يشرف على الصبية الذين يعملون معه وهم ينظمون البضاعة الجديدة، فأتاه اتصال، وما أن أجاب حتى أخبره أحد جيرانه أن منزله يحترق و…. غرام فيه!
ما أن وردت تلك الخاطرة على عقله حتى شعر وكأنه تم الدفع به في هوةٍ ساحقة فسقط متهشمًا بعنف وتفتت قلبه الزجاجي فداهمه ألم ساحق لم يشعر به يومًا في حياته!
هرع بهيستيرية نحو المنزل وهو يدفع كل مَن أمامه، يركض المسافة الصغيرة بين المتجر ومنزله شاعرًا أنها صارت طويلة جدًا فجأة..
وصل أخيرًا بعد دقائق قليلة إلى المنزل، وجد الحشد المجتمع أمام منزله فأخذ يدفعهم بجنون ويدلف، وجدهم قد كسروا باب المنزل لتوهم، فدخل ليجد “غرام” متكومة أرضًا خلف الباب، رقد جوارها بهلع يرفعها بين ذراعيه ويخرج بها، ثم دخل البقية ليبدأون بمحاولة اطفاء النيران..
وبالخارج جلس “أيوب” بها أرضًا وهي بين أحضانه، يتحسس ملامح وجهها الشاحب كالأموات وهو يناديها بصوت تمكنت منه اللوعة حد النخاع:
-غرام، غرام ردي عليا، جومي ردي عليا يا غرام.
أمسك بالمياه التي قدمها له احد الواقفين، وبدأ يرمي قطرات منها على وجهها، ثم نهض يحملها من جديد متجهًا بخطى راكضة نحو السيارة التي ركبها أحد الرجال ليقودها بينما أيوب يضع غرام فوق قدميه بالخلف، كان يشعر أن دقات قلبه في سباق مُهلك مع الزمن لدرجة أنه شعر كل نبضة جديدة صارت كرصاصة قاتلة تتلقاها روحه..
وسؤال وحيد يضخه قلبه المُروع لنفسه ليُغرقها بالفزع.. هل يُعقل أن تتركه… وتموت؟ تتركه وحيدًا من جديد بعدما دست نفسها عنوة في حياته ليعتاد وجودها دون شعور منه !
هز رأسه نافيًا لِمَ توصلت إليه أفكاره، وظل يهزها مغمغمًا بصوت متحشرج مكتوم:
-لا لا، مش هتسيبيني في الاخر !
ثم صدر عنه هذيان ممزق بالندم :
-أنا السبب، أنا السبب.
وصلوا أخيرًا للمستشفى، وتم نقل غرام لغرفة الاستقبال، كان أيوب يدور بلا هوادة أمام تلك الغرفة، وجد ظافر أمامه وقد أتى مسرعًا فالأخبار في هذه البلدة تتناقل بسرعة، وراح يسأله بنبرة يلفحها القلق:
-إيه حصل ؟ مرتك كويسة؟
هز الآخر كتفاه بقلة حيلة وهو يجيب بـ تيه لم يره ظافر عليه سابقًا ابدًا:
-ماعرفش.
فـ ربت على كتفه بخفة وهو يقول محاولًا شحنه بطاقة ايجابية تعوله على الصمود:
-هتبجى زي الفل بإذن الله ماتجلجش.
ظل أيوب يهز رأسه متمتمًا دون أن ينظر له:
-يا رب، يا رب.
خرج الطبيب أخيرًا ليُطمئنهم على حالتها، حينها أطلق أيوب نفسًا مرتاحًا لم يدرك أنه كان محبوسًا…
ابتسم ظافر مرددًا بنبرة ودودة:
-الحمدلله إنها چات على كد كدا، ادخل أنت اطمن عليها، وأنا هروح أچيبلكم عصير او حاچة تاكلوها.
هز أيوب رأسه موافقًا بابتسامة باهتة وبدا أنه لا زال تحت تأثير صدمة ما حدث.
دلف للغرفة التي تقبـع بها، لم تكن استعادت وعيها بعد، قرب الكرسي من الفراش الذي ترقد عليه وجلس، رؤيتها بهذا السكون والوهن والاوكسچين على أنفها؛ كانت شاقة ومؤلمة جدًا..
كان جزء من ذراعها الأيمن قد احترق وقاموا بلف الضمادة عليه، أمسك بكفها برقة شديدة وكأنها زجاج يخشى كسره، ثم هبط ببطء يلثم باطن كفها بعمق مطلقًا أنين خافت متوجع مرتعب.
ثم همس بصوت ملكوم وكأنه يحدث نفسه:
-ماكنش ينفع تسيبيني بعد ما لاجيتك، ماكنتش هجدر أعيش الوچع دا تاني.
كان يقصد ألم فقدان والدته، فهو لم يشعر بهذا الألم إلا حينها، فصار هاجسه!
****
بعد خمس أيام….
خمس أيام مروا على “غرام” كربيـع حل فجأة على لياليها الشتوية القارصة ليجعلها دافئة مبتهجة كما لم تكن قبلًا، فـ أيوب منذ خروجها من المستشفى قد أجر لهما بيتًا جديدًا، ولم يغادر لعمله طوال الأيام السابقة، رغم أن حالتها لم تكن سيئة من الناحية الجسدية، إلا أنه كان يرعاها ويهتم بها كأنه يخبئها في محمية طبيعية، حتى أنه يعد الطعام بنفسه لها خاصةً بعد اصابة ذراعها الأيمن الذي لم تستطع استخدامه في هذه الأيام الاولى بسبب الحرق به…
صحيح أنه لم يغدقها باهتمام شفوي ملفوظ ولم يبدِ ندمه رغم أنها تراه يلون ظلام عينيه فيعطيها خلفية شاعرية تعبر عن وجود الحياة بها، بخلاف الجمود والقسوة السابقان، إلا أنها تستطع لمس الدفء الذي يقطر من أفعاله تجاهها مؤخرًا، يُدللها بصمت، وهي لن تطمع بأكثر من ذلك، كما أنها ليست غاضبة منه، فهو بالطبع لم يكن يعلم او يتصور أن المنزل سيحترق في غيابه.
كانت ممددة في الفراش، تمسك رواية قد اشتراها لها أيوب مؤخرًا ضمن عدة روايات أخرى لتُسليها، نظرت للرواية مبتسمة.. لا تُصدق أن أيوب الجلف قد اشترى لها روايات أيضًا دون أن تطلب منه!
كانت تقرأ الرواية، ولكن تمسكها بذراعها الأيسر فقط فالأيمن موضوع فوق حروقه مرهم وتعكف عن استخدامه حتى لا تمسحه دون قصد منها، ألمها ذراعها السليم من طول امساكها للرواية، فتركتها وهي تئن بصوت خفيض متألم، لم تدري أنه وصل لأيوب الذي كان يقف أمام المرآة يرتدي ملابسه ويصفف شعره…
فاقترب منها جالسًا جوارها على طرف الفراش، يسألها بقلق ملجوم هادئ صارت تعشقه:
-مالك؟ الحرج بيوچعك؟
هزت رأسها نافية بابتسامة رقيقة وهي ترد:
-لأ، دراعي وچعني شوية بس من مسكة الرواية.
صمت برهة وكأنه يدرس الأمر بعقله، ثم تحرك ليجلس خلفها، وجذبها نحوه برفق هامسًا بخشونة خافتة:
-تعالي.
جعلها تسند ظهرها على صدره الصلب العريض، فانتفض جسدها الغض بتأثر، وهي تشعر بذراعيه تحيط بها من الجانبين حتى أصبحت في حضنه فعليًا، أمسك هو بالرواية بيديه وجعلها أمام غرام مباشرةً بحيث يسنح لها قراءتها دون أن تمسك بها، ثم شعرت بأنفاسه تلفح رقبتها وهو يهتف بنبرة دافئة هادئة:
-يلا كملي جراية.
بدت كمَن أصابها الصم للحظات، تحاول استيعاب ما يفعله بهدوء ودفء من عبث بقلبها الذي ارتجف بشدة!
ثم خرج صوتها مبحوحًا وهي تهمس له:
-أنت كنت خارچ؟
هز رأسه نافيًا ببساطة كاذبة:
-لا.
تعلم أنه كاذب، وهذا تحديدًا أثار داخلها رغبة غريبة في أن تقبله شاكرة ذلك الحنان العفوي، وكأن تلك الحادثة مرت عليه كزلزال مدمر زلزل قشرة جموده وقسوته لينساب ما أسفلها من مشاعر حانية.
لم تكن تملك إلا الاستسلام لحضنه الذي غمرها وبعث الدفء والسكينة لروحها، فراحت في النوم دون أن تشعر، نظر أيوب نحوها حين لاحظ تنفسها المنتظم وارتخاء جسدها، ثم برزت ابتسامة صغيرة على شفتيه وهو يشمل ملامحها الناعمة البريئة بنظراتٍ شغوفة، وقَبَل منابت شعرها بعمق قبل أن يبعد الرواية ويجعلها تفرد جسدها لتتابـع نومها…. بين أحضانه!
بعد فترة، استيقظت غرام من نومها لتجد نفسها وحيدة في الفراش، تنهدت وهي تنهض، لترى أيوب وهو يدلف من باب الغرفة حاملًا صينية الطعام، تراجعت على الفور وتجعد جبينها برفض وهي ترى أنه يحمل ” شوربة خضار ” التي أجبرها على تناولها بالأمس، لا ليس مرة اخرى.
جلس أيوب جوارها واضعًا أمامها صينية الطعام، فهزت رأسها نافية على الفور:
-لا مش عايزة.
قال بنبرته الرجولية الرخيمة:
-لازم تاكلي.
عقدت ما بين حاجبيها بحنق وهي تتفوه:
-مش عايزة شوربة خضار مابحبهاش والله.
كان يواصل تجهيز الصينية وهو يتحدث برتابة يُسايرها، عارفًا نهاية ذلك الحوار كالأمس وهي تتناولها مجبرة:
-معلش تعالي على نفسك الفترة دي، أنتي ضعيفة وچسمك ضعيف.
أردفت بيأس تكاد تبكي كالأطفال:
-يا أيوب أنا دراعي اتحرج مش اتكسر والله أنت فاهم غلط، الشوربة دي بيعملوها لما يكون حد اتكسر، او واحدة والدة، وأنا لا دا ولا دا.
تجهمت ملامحه بصرامة وهو ينهرها:
-غرام.
-اهو هطفح ياكش يكون ضميرك مرتاح لما أفضل بجية اليوم بطني وچعاني.
وأمسكت بالملعقة لتبدأ بتناولها مجبرة بملامح مكفهره على وشك البكاء كطفلة في السابعة أجبرها والدها على تناول ما لا تحب، بينما هو ينظر لها مستلذًا بمراقبة كل حركة وأصغر حركة عفوية طفولية منها.
إلى أن انتهت فتنهدت بتعب ونهض أيوب يأخذ الصينية، وقالت بعفوية مغتاظة حين كان عند الباب:
-وعلى فكرة بجا أنت بتعمل الشوربة وحشة جوي.
ثم غطت نفسها بسرعة بالأغطية حتى رأسها متوقعه انقضاضه الغاضب عليها، فضحك أيوب دون صوت وهو يواصل سيره نحو المطبخ.
بعد دقائق عاد لها من جديد، ليجدها تحاول تصفيف شعرها الأسود الطويل بذراع واحد، فكانت المهمة شاقة عليها، اقترب منها حتى جلس خلفها، ثم إلتقط منها الفرشاة دون كلام ليبدأ هو بتصفيفه لها … لا ليس لهذه الدرجة !
هكذا ستشك حقًا أنه أيوب الجلف الذي تعرفه، إن كانت تعلم أن تلك الحادثة ستغيره لهذه الدرجة لكانت أحرقت الشقة بنفسها منذ زمن .. رددت تلك الكلمات في نفسها بسخرية مبتهجة.
فيما كان أيوب في حالة غريبة من الاستسلام لكل ما يُمليه عليه قلبه الذي لا زال مصبوغًا بخوف تكرار الفقدان والندم.
بدا مستمتعًا بمداعبة خصلاتها الناعمة، ولا يدري من أين تسللت له رغبة خفية حارقة في مداعبة رقبتها بشفتيه!
استسلم لذلك النداء دون مقاومة تُذكر، ومال يطبع على رقبتها قبلات رقيقة شغوفة كالفراشات لتدغدغ أعماقها، حاولت السيطرة على الرعشة التي أصابت عامودها الفقري، وهي تبعد رقبتها قليلًا عن مرمى شفتيه مرددة بخفوت شديد متوتر:
-أنت مش هتنزل المحل ولا إيه؟
هز رأسه نافيًا وشيء من المشاكسة ينضم لنغمة صوته الجادة:
-لا محل إيه بجا، أنا بفكر أشتغل في التمريض بما إني طلع عندي خبرة مدفونة، بعمل اسعافات أولية وبرعى المرضى.
استدارت غرام نحوه تسأله وهي رافعة حاجبيها بمفاجأة واضحة:
-أنت بتعرف تعمل اسعافات أولية؟
رد كاذبًا بجدية ماكرة:
-طبعًا، امال مين اللي عملك لما طلعتك من الحريج؟
صدح صوت ساخر داخله أنه لم يكن في حالة تسمح له بادراك وجوب عمل اسعافات أولية اصلًا من فرط رعبه حينها، فكل ما قام به كان ضغطه على قفصها الصدري لتتنفس!
ولكنه تنتابه رغبة جديدة غريبة عليه في أن يشاكسها ورغبة اخرى يحاول كبحها.
سألته باستنكار وكأنها تريد التأكد من صحة ما يقول، فهي كانت تظن أن ليس خبرة بما يخص التمريض والطب على الإطلاق:
-عملت إيه يعني؟
اقترب منها كثيرًا حتى صارت شفتاه على اعتاب شفتيها، ثم همس بخشونة:
-تنفس صناعي.. كدا.
وفي الثانية التالية كانت شفتاه تلتقي بشفتيه في وصال روحي مخضب بشغف لاهب، وهو مَن يأخذ ذلك التنفس وليس هي، يمتص رحيق الحياة بعدما أكتشف أنه بين شفتيها ليُعيد الحياة لنفسه التي كانت قاحلة مهجورة….
شعرت غرام بيديه التي راحت تضمها لها وتحط كترحال عاطفي مزلزل فوق جسدها، فابتعدت عنه لاهثة تغمغم:
-أيوب لا مش آآ….
ودت لو تخبره أنها لا تريد، لا تريد ذلك الوصال المؤقت فيعود بعدها ليتقوقع في قوقعة القسوة عازفًا عنها وعن التعامل معها نهائيًا، ليس بعد ما رأته منه مؤخرًا…
ولكنه قاطعها حين إلتقط شفتيها من جديد بإصرار وحاجة مُلحة تكاد تقتله لها، للشعور بها من جديد هنا.. بين ذراعيه.. ملكه ولن تضيع منه.
وهمس لها بصوت صادق متحشرج من فرط العاطفة:
-أنا محتاچك چدًا.
فلم يكن الاستسلام له خيار بل أصبح قرار حاسم من قلبها الذي أعلن خضوعه لمالكه.
****
ليلًا في المنزل الذي تقيم به ليلى ووالدتها…
أمسكت ليلى بهاتفها الذي صدح صوته معلنًا وصول رسالة، فتحتها لتجدها من ظافر الذي لم يتوان عن محاولة مصالحتها وكسب ودها من جديد طوال الأيام السابقة التي مرت، إتسعت عينيها مذهولة وهي تقرأ الرسالة التي كان فحواها
” أنا تحت بيتكم مستنيكي انزليلي، وماتتأخريش عشان لو مانزلتيش هاطلعلك أنا ومش هيهمني أي حد يشوفني ”
نهضت تتحرك في الغرفة والمفاجأة تجمد أفكارها، فهذه المرة الاولى التي يأتي بها ظافر لمنزلهم حتى ظنت أنه لا يعرف عنوانه حتى !
حسمت أمرها وارتدت اسدال الصلاة ونزلت عازمة على توبيخه بشدة..
رأته يقف في البهو الواسع أمام منزلهم ففتحت له الباب ودلفا لداخل حدود منزلهم الذي كان كبير كمعظم بيوت البلدة، ولكن قبلها ظلت تنظر لتتأكد من عدم مرور أحدهم، ثم نظرت نحوه قائلة من بين أسنانها بغيظ:
-إيه عايز؟ چاي هنا ليه؟ أنت عارف الساعة كام؟
رد ظافر ببساطة خبيثة أغاظتها أكثر:
-أعمل إيه ما أنتي مش بتردي على تليفونك، وأنا عايز أشوف حماتي أصلها وحشتني جوي.
كانت تعلم أنه لا يقصد والدتها بل يقصدها هي، وقبل أن ترد كان يمد لها باقة الورد التي كان يحملها، متشدقًا بعذوبة:
-اتفضلي.
فتابعت بابتسامة سمجة مقصودة:
-مابحبش الورد.
رفع كلا حاجبيه بعدم تصديق:
-هو في واحدة مابتحبش الورد ؟!
هزت رأسها مؤكدة بنفس الابتسامة الخالية من المرح:
-اه أنا.
فألقى ظافر باقة الورد بعيدًا قبل أن يقول ببساطة وابتسامة كبيرة:
-وأنا كمان مابحبهوش.
ثم اقترب منها خطوة ليضيف بنبرة ذات مغزى ونظراته تتوهج:
-كفاية عليا وردة واحدة بس في حياتي.
لا تدري لِمَ تذكرت الان مساومة زوج والدتها الحقير بطلاقها من ظافر مقابل طلاق والدتها، بعدما فعله فيه ظافر على حد قوله، فسألته على الفور لتغير مجرى الحوار:
-هو أنت عملت إيه بالظبط لهاشم؟
تجهمت ملامحه فجأة وعاد العبوس ليسيطر عليها وهو
يستطرد بجدية مرحة أضحكتها:
-بكلمك على الورد إيه اللي چاب سيرة الصبار دلوجتي؟!
ثم هز كتفيه مرددًا ببراءة زائفة:
-هكون عملتله إيه ماعملتلهوش حاچة أنا هزجته شوية بس.
رغم أنها لم تقتنع إلا أنها آثرت الصمت، ثم حثته بحزم على المغادرة:
-طب بعد اذنك اتفضل امشي يا استاذ ظافر، وچودك دلوجتي مايصحش.
استرسل مصطنعًا وجه خشبي جاد:
-عيب كدا على فكرة أنا كنت چايلك في شغل وحاچة مهمة.
فاستفسرت بتوجس:
-حاچة إيه؟
ضيق عينيه وهو يواصل بمسكنة بريئة لم تخدعها:
-أصل أنا تعبان جوي، والدكتور جالي لازم ممرضة ترعاك، فجولت أنتي أولى من الغريب.
رمقته بنظرات حانقة رغم أن الانثى داخلها مستمتعة بمحاولاته تلك وتمنعها، فتابع على الفور بصدق:
-والله العظيم ما بكدب أنا عندي السكر.
تنحى الحنق جانبًا وتجلت المفاجأة في حدقتيها تزامنًا مع بذرة نابتة من القلق وهي تسأله بعفوية:
-بچد؟ من امتى؟
انتشى برؤية طيف القلق الذي سارعت لتخفيه خلف الحزم الزائف، ورد:
-من زمان.
فاستعادت صلابتها وهي تقول بصوت أجش:
-حتى لو عندك السكر، أنت زي الفل اهو.
اقترب منها ظافر أكثر وبدأت هي تعود للخلف بتلقائية حتى إلتصقت بالباب من خلفها، وأمسك يدها ليضعها عند قلبه مباشرةً قائلًا بنبرة شقية:
-انتي ازاي مش حاسه بجلبي اللي واچعني.
غمغمت بارتباك دب بها دون أن تجد القدرة على ردعه خاصةً في ظل اقترابه المُربك منها:
-ظافر لو سمحت.
فاقترب أكثر وهو يهمس بخشونة مشتعلة ملتاعة خرجت من أعماق قلبه المحترق بالشوق:
-ظافر مشتااااج يا شيكولاته والشوج دباح.
لم تستطع منع اقتحام كلماته لأسوار صلابتها الواهية وطرقها لأبواب قلبها بشدة حتى تضخمت دقاته، فيما أكمل ظافر يداعبها بمرح:
-تعالي اكسبي فيا ثواب، دا الدكاترة مابيفهموش بيجولولي ابعد عن الحلويات، مايعرفوش إني ماجدرش أبعد عنك وأنتي علاچي.
قاومت بشدة ابتسامة صغيرة ألحت على عبوس شفتيها، وقالت بنبرة ارادتها فظة ولكنها خرجت خافتة باهتزازة ارتباك فاضحة:
-أنا لسه عند رأيي وشايفة إنك كويس ومش محتاچ حاچة.
-هايهون عليكي تسيبيني كدا وأنا تعبان، فين الضمير فين المبادئ وشرف المهنة، فين …..
وقطع كلماته غارقًا في الشيكولاتة الذائبة بعينيها التي يعشقها وهي تنظر له باستكانة مغرية، وتابع بتلقائية مرحة لذيذة:
-فين قاعة اللؤلؤة بسرعة!
هذه المرة إنفلتت ضحكتها الرقيقة وهي تغطي فمها بيدها كعادتها، وتشبع ظافر من رؤية ضحكتها التي أكتشف أنه لم يرى أجمل منها، ثم تنحنحت بحرج وهي تتلفظ بصرامة فُضح كذبها:
-طب امشي لو سمحت يلا.
ولكنه قبض على يديها بين كفيه وهو يردف بإلحاح:
طب خوفتي عليا ؟ جوليلي إنك خايفة عليا وأنا أمشي.
عقدت حاجبيها باستهجان واستنكار معترض، فتابـع:
-لا لا أنا كدا متسرع، خلاص هاتي بوسة وهمشي.
إتسعت عينيها ذهولًا وهي تعض على شفتيها حرجًا، فشعر من جديد بتلك المفرقعات العاطفية اللاهبة تتفجر في دماؤه، اقترب منها أكثر حتى انحسرت المسافة بينهما وراح يتمتم بصوت درامي يائس يحمل تهديد زائف:
-ما يا أهلي وأهلك يزفونا لقاعة اللؤلؤة، يا بوليس الأداب يزفنا للتخشيبة، جولتي إيه؟ أنا بجول قاعة اللؤلؤة أحسن ونجصر الشر.
احترقت وجنتيها المكتنزة بالخجل ودفعته بقوة نحو الباب دون أن تنطق بحرف، فيما كان ظافر يضحك مستمتعًا بخجلها، متيقنًا أنها ستلين… بل ستذوب كذوبان عينيها البُنية في حضرته، تحتاج فقط الصبر وليعينه الله.
****
بعد فترة…
اتجهت “ليلى” للمستشفى لتطمئن على حالة الجد سالم بعد أن غابت عنه ولم تزره لعدة أيام، رغم أنها لا تقابله فهو لا زال في تلك الغيبوبة، ولكنها تشعر بوجوب مجيئها واطمئنانها عليه، ربما لأنها لم تنسى أنها كانت عامل من عوامل وصوله لتلك الحالة التي هو عليها !
وصلت أمام غرفة العناية المركزة التي كان يقبع بها، فاتسعت عينيها وهي تلمح احدهم يعيطها ظهره ويفعل شيء للجد بينما وجهه ملثم، فأصابها فزع حقيقي ولم تتردد وهي تدلف بسرعة صارخة فيه:
-أنت مين وبتعمل إيه؟ إلحجو……
ولكنه قطع صرختها كاتمًا فمها بيده ثم دفعها بعنف بعيدًا عنه قبل أن يركض خارجًا من الغرفة، فصرخت ليلى بهلع وهي تنهض لتتفحص الأجهزة التي أصدرت عدة أصوات تدل أن شيئًا خاطئ قد حدث…
وفي غمرة انشغالها بالتأكد من سلامة “سالم” وجدت ظافر خلفها مصدومًا… فلم تدري للوهلة الاولى أ هو مصدومًا مما أصاب جده ام من كونها هي مَن أمسك بها بمفردها في الغرفة تعبث بالأجهزة التي تنذر بالخطر ؟!!!!
****
يتبع ……..
ظل “ظافر” متجمد مكانه، عاجز عن إعطاء رد فعل يفكك كتلة الجمود التي أحاطت عقله، إلى أن تحرك عنوة حين دفعته احدى الممرضات التي دلفت مسرعة للغرفة يتبعها الطبيب في استجابة قد تكون متأخرة قليلًا لصرخة ليلى، أبعدت ليلى عن فراش “سالم” وهي تشير لكليهما بنبرة عملية:
-لو سمحتوا اتفضلوا استنوا برا.
تحركت ليلى تنوي الخروج ولكن ظافر ظل كما هو، عينيه متموضعة على جده الراقد مكانه، ينتابه شعور موحش أنها ربما لحظاته الأخيرة في الحياة !
همس بشفاهٍ ثقيلة وحروف شريدة:
-چدي.
تجرأت ليلى وسحبته من ذراعه برفق وهي تهتف محاولة تنبيهه:
-ظافر لازم نخرچ عشان يشوفوا شغلهم.
استجاب أخيرًا وتحركا ليخرجا من الغرفة ثم اُغلقت الأبواب خلفهما، نظر ظافر لـ ليلى بصمتٍ لدقيقتين تقريبًا، ثم سألها بصوت باهت خالي من المشاعر:
-إيه اللي حصل ؟
ابتلعت ريقها وهي تهتف في نفسها؛ لم يتهمك.. يسأل سؤال أكثر من عادي.
ولكن رغم ذلك كان لسانها المصبوغ بردود الدفاع عن نفسها يردد:
-أنا ماعملتش حاچة، أنا چيت أزوره وآآ….
قاطعها ظافر بصلابة:
-أنا ماجولتش إنك عملتي حاچة.
فراحت تسرد له ما حدث بملامح افترشها الارتياح:
-أنا چيت أزوره عادي زي كل مرة، اتفاچأت إن في حد في الاوضة بيعمل حاچة ولابس كمامة ومدينا ضهره وباين عليه التوتر، دخلت زجيته وصرخت بس كتم
صرختي وزجني وطلع يچري، وكنت بحاول أشوف عمل إيه وأظبطه لما أنت دخلت.
دار “ظافر” حول نفسه بكمدٍ دفين مكبوت، يشعر أن داخله يغلي ويغلي حتى يكاد ينفجر، مسح على وجهه وخصلات شعره وهو يلتقط نفسًا عميقًا، ثم أطلق تأوه عميق يغلب عليه وجعه وغضبه:
-أعمل إيه.. أعمل إييييه، أوصلهم ازاي.
عض على كف يده بعنف يُخرج الطاقة السلبية المشحونة بين خلاياه ويُنفس قليلًا عن غضبه المستعر، فاقتربت ليلى منه حتى وقفت أمامه، ووجدت نفسه ترفع يديها مُحيطة وجهه بكفيها الناعمين، هامسة برقة:
-هتلاجيهم وهياخدوا العقاب اللي يستحجوه، سواء في الدنيا او في الاخرة، وچدي سالم هيبجى كويس صدجني، أهم حاچة خليك واثق في ربنا بس.
أحاط يدها بيده يتحسسها بعفوية حانية، ممتنًا للدعم والدفء الذي يتلقاه منها في أسوء أوقاته، وارتسمت على شفتيه ابتسامة صغيرة متعبة ولكنها صافية وهو يهز رأسه مؤكدًا على كلامها.
****
كانت “غرام” بين أحضان أيوب الدافئة تتوسط صدره الصلب تنعم بالدفء الذي يغمرها بين ذراعيه، بينما هو يحيطها بذراعه مشددًا على خصرها بتملك ويده تداعب منابت شعرها في حركة عفوية، ابتسمت ببطء ووجهها يتورد خجلًا وحبًا لهذا الرجل… نعم هي تعشقه، تعشقه بجلافته وقسوته المغيظة أحيانًا.
إتسعت ابتسامتها حين رسى طوفان أفكارها المشعثة فوق هذا الاعتراف المجلجل بين ضلوعها !
تعشقه وتريد أن تعوضه عن كل سوء رآه بحياته، أن تكون له الأسرة التي حُرم منها..
امتدت يدها تلقائيًا تتحسس بطنها بشرود، ثم همست قاطعة الصمت:
-بتحب الأطفال؟
تجمدت حركة يده وشعرت بجسده كله يتصلب، ففسرت سؤالها بآخر:
-يعني هتعمل إيه لو عرفت إني حامل؟
ازداد تحجر جسده أضعافًا ثم اعتدل في جلسته يمسكها من ذراعيها متسائلًا بخشونة:
-أنتي حامل؟
هزت رأسها نافية بشيء من التوتر بينما عينيها تدقق النظر لتلك الزوبعة المتصاعدة في سوداوتيه التي عادت لظلامها مجددًا؛ وكأنها مَن أحيته بسؤالها !
ثم تابعت بحروف متلكئة:
-أنا بجول لو، مچرد سؤال.
نهض أيوب من الفراش بملامح مقتضبة دون أن يتفوه بالمزيد، وكاد يخرج من الغرفة، ولكن غرام سارعت بالتحرك خلفه، ثم أوقفته ممسكة بذراعه، وسألته مستنكرة:
-إيه في ؟
نظر لها بملامح جامدة وعينين قاحلتين ميتتين، ثم قال بصوت خاوي:
-أنا مش عايز أطفال.
أجفلت ملامحها وشعرت أنه بعدما رفعها لسابع سما، الآن أسقطها بجملته لأسفل سافلين حتى أحست بتهشم كُلها !
ابتلعت ريقها بصعوبة وشعرت وكأن حجر يقبع فوق لسانها فخرجت حروفها ثقيلة باهتة:
-ليه؟ أنا فكرت إن آآ….
ولكنه قاطعها بقوله الحازم الذي جاء قاسيًا على قلبها الذي تورد وانتعش بالأمل:
-بكره هاچيبلك برشام منع الحمل.
وما أن فتحت فمها وكادت تنطق حتى أضاف مشددًا على حروفه:
-ومش عايز كلام في الموضوع دا.
ثم هم بالمغادرة، ولكنها أوقفته من جديدة بقوة، ثم خرجت الصيحة الغاضبة من فطرتها الجائعة للأمومة:
-مش من حجك تحكم عليا كدا وتسيبني وتمشي وأنا المفروض أجول سمعًا وطاعة هحرم نفسي من الخلفة زي ما حضرتك أمرت يا أيوب بيه، أنا من حجي أكون أم.
لاحظت اهتزاز عضلة في فكه، ثم هتف من بين أسنانه والغضب يعاود الاشتعال في حدقتيه ليُنير حلكتها بنيرانه الهوجاء:
-معلش نصيبك وجعك مع واحد مش عايز يخلف، واللي حصل حصل.
للحظات انهزمت أمام رده الذي وضعه بين فكي الحيرة والألم؛ فهو لم يخبرها أنه سيفكر في الأمر او أنه سيُطلقها إن أرادت، بل أخبرها ببساطة أنه الأمر الواقع وليس لها فكاك منه!
ثم عادت تهمس بصوت كالنشيج يُنبئ بهطول الدموع التي تجمعت في بُندقيتيها:
-طب ليه؟ أنا كان نفسي أخلف منك، كان نفسي نكَون أسرة سوا ونعوض الدفا اللي اتحرمنا منه أحنا الاتنين.
اشتدت انقباضة يده وهو يغمض عيناه متنفسًا بعمق وكلماتها تتسلل إليه ببطء لتتصارع مع أشباح ماضيه..
انتبه لها حين سألته بنبرة مبحوحة تقطر ألمًا:
-أنت لسه شايف إني مش من مستواك ومش مناسبة ليك؟
لم يتحمل رؤيتها تتألم هكذا وتحط من قدرها.. ليس بعد الان…
لذا اندفع نحوها ليُحيط وجهها الناعم بين كفيه الكبيرين، وهمس أمام وجهها بخشونة خافتة مُعذبة رغم اللهفة التي توهجت في عينيه لتُحيي أملها:
-أنتي شمسي، شمسي اللي نورت حياتي ومليتها دفا، ويعز عليا إني أحرمك من حاچة أنتي عايزاها، لكن مش هجدر، أنا واخد قراري من زمان عمري ما هخلف.
ثم اتقدت عيناه بالتملك وهو يؤكد بلهجة مهتاجة بالغيرة والشراسة العاطفية:
-ومش هجدر أطلجك وأسيبك تتچوزي وتخلفي من راچل غيري.
ثم تركها وغادر الغرفة تحت أنظارها الشاحبة وهي تتساءل كيف يتبدل الحرفين فيصير الأمل ألم هكذا في غمضة عين؟
بينما أيوب في الخارج يلتقط أنفاسه بصوت مسموع، يعلم أنه أناني.. ولكن ما تطلبه منه فوق استطاعته فعليًا، فهو لا يريد أن ينجب طفل يعيد مأساته في الحياة من جديد!
لا يضمن نفسه، لا يضمن أن يستطع تربية طفل سليم نفسيًا ومتزن وهو شخصيًا نفسه مشوهة ولا زال يعاني منها حتى الان هو والمقربين منه وعلى رأسهم “غرام” .
سمع صوتها العنيد العالي يأتيه من خلفه منفعل مختنق بالبكاء:
-أنا مش هاخد البرشام ومش هعمل حاچة، لو مش عايز تخلف ماتجربليش.
فاستدار نحوها وهو يزفر بقوة محاولًا تمالك أعصابه ومراعاة حالتها، تمتم محذرًا:
-غرام.
ولكنها راحت تتشدق بنفس الانفعال الأهوج:
-الموضوع في يدك أنت، ماتطلبش مني أعمل أو أخد حاچة.
تصدع جدار تماسكه وتأجج غضبه ليقبض على ذراعها بقوة يهزها مزمجرًا بصوت أجش:
-أنا مايتلويش دراعي سامعة؟ جولتلك أنتي ملكي، بس عمومًا ارتاحي مش هاجربلك.
ثم تركها وتحرك يرتدي ملابسه بحركات تروي الغضب والسخط اللذان يزلزلا صدره، وغادر المنزل بأكمله، تاركًا إياها تبكي أمل لم يعش طويلًا حتى أتى الواقع المرير ليغتاله بلحظة.
****
في منزل ” كامل العماري “…
في الصالة، كان “كامل” مستند بظهره على الأريكة يحدق في الفراغ من حوله، ثم مد يده وأمسك بعلبة سجائره ليُخرج منها سيجارة، ولكن وجدها فارغة كما كل شيء عنده مؤخرًا !
ألقاها أرضًا بغضب وهو يصيح بانفعال:
-يلعن أبو الجرف، حتى السجاير خلصت.
اشتعلت نظراته بالسخط والحقد وهو يحدق في تلك العلبة الفارغة، ثم همس محدثًا نفسه بشيء من القهر:
-چه اليوم اللي ماتعرفش تچيب فيه السيجارة حتى يا كامل بعد ما ماكنتش بتخلص من چيبك.
لا يدري كيف إنقلب به الحال هكذا ! تدمر عمله تمامًا حتى أصبح على وشك إعلان إفلاسه حرفيًا..
حتى ثلاجته لم تعد تحوي كل ما لذ وطاب كما السابق، بل صارت شبه فارغة، فصار يعاني القحط ويتشربه قطرة قطرة !
لولا اكتشاف أيوب بطريقةٍ ما لابتزازه لتلك الفتاة التي تزوجها “غرام” لكان نجح في استخلاص ذلك المبلغ الصغير ليُسير به أحواله ولو مؤقتًا..
و راح يتذكر حين أتى أيوب كالطوفان بعد معرفته بما فعل مباشرةً….
طرق أيوب باب منزله بعنف، فأتى كامل منزعجًا على إثر تلك الطرقات:
-چاي براحة إيه في !!
وما أن فتح الباب حتى هب أيوب كالإعصار بوجهه هادرًا بشراسة:
-مالك ومال مرتي؟ عمال تحرِب حواليها عايز توصل لإيه؟
لم يمهله فرصة للرد حيث تابـع بنبرة مغلولة:
-عايز فلوس؟ تبجى بتحلم، طول ما أنا عايش مش هتطول جرش واحد مني.
ثم تحرك للداخل وبحركة مباغتة كان يضرب كل شيء أمامه بقوة مدمرًا كل ما تقع عليه يديه، فقد كانت تنتابه رغبة عنيفة في تشبيعه ضربًا حتى يشفي غليله، ولكن لا زالت سلاسل تلك الكلمة اللعينة التي لا يستحقها “والده” تقيده مانعة إياه عن تحقيق تلك الرغبة، فأراد أن يكبده الخسائر كأقل تقدير للعقاب الذي يستحقه على تعديه على مَن يخصه.
فيما كان كامل يصرخ فيه بانفعال محاولًا إبعاده ودفعه للخلف:
-أنت مچنون، ابعد.. اطلع برا بيتي، برا.
وقف أيوب كالجبل الشامخ أمامه يلهث من فرط إنفعاله، ثم قال بكلماتٍ شديدة اللهجة:
-الظاهر إن أنت اللي اتچننت وخرفت على كَبَر، اوعى تنسى أنا ممكن أعمل فيك إيه لو فكرت تيچي چمب حد يخصني.
إلتوت شفتا كامل بسخرية مريرة وهو يشير حوله كإشارة عن حاله بشكل عام:
-هتعمل إيه أكتر من كدا ؟ هو في أسوء من كدا ؟
اقترب منه أيوب خطوة، ثم اومأ مؤكدًا برأسه وعينيه تموج بنظرة شيطانية مُظلمة:
-طبعًا في، في إني أخليك تنام في الشارع مش مچرد شغلك واجف بس، ولو عايز تچرب فكر تجرب من مرتي أو من أي حد يخصني تاني.
وأشهرت عيناه سيف الوعد الضاري وهو يضيف بنبرة منفعلة عنيفة:
-ومابجاش أيوب العماري لو ماندمتكش على اليوم الأغبر اللي اتولدت فيه.
ثم استدار وغادر دون انتظار دقيقة اخرى، رغم أنه يشعر أن ذلك اللقاء القصير المُهدد لم يُرضي وحوش الغضب المهتاجة داخله، ولكنه كان ضروريًا لوضع حد أمام فسوق ووقاحة ذلك الرجل المُسمى بكل أسف والده.
****
بعد عدة أيام…
سارت ليلى بخطى ثقيلة تدخل الشركة التي يملكها “ظافر” ويعمل بها، كانت تُقدم قدم وتؤخر الاخرى، تسير على أشواك التردد، وتقنع نفسها أنها تأتي لأجل موضوع الطلاق المُعلق بينهما، وبالتالي طلاق والدتها من ذلك الحقير “هاشم” أيضًا مُعلق بعد شرط الأخير، ولكنها في الحقيقة تشعر بصوتٍ خافت داخلها يحثها على رؤيته والاطمئنان عليه بعدما مرت أيام دون أن تراه او يأتي هو كما السابق، صوت يأتي من بعيد.. من أعماقها التي تموج بأمواج مشاعر جديدة تصطدم بصخرة عقلها اليابسة فتظل هكذا تصارعها.
وصلت إلى مكتب ظافر، وحمدت الله أنها لم تجد “سكرتيرة” كما ترى بالأفلام، فلم تكن تدري ماذا ستقول، او هل ستخبرها أنها زوجته ام لا ؟!
كان باب مكتبه مفتوح فدخلت في خطوات بطيئة، لتجد ظافر يجلس خلف مكتبه على كرسيه مستندًا بظهره، وتقف أمامه فتاة شابة في مقتبل العمر، تضحك وتداعب وجهه بريشة، بدت أنها تشاكسه بحميمية!
وكأنهما مقربان جدًا؛ او هكذا هي ظنت.
تنحنحت حين انتبه لها ظافر فاعتدل في جلسته ينظر نحوها مرددًا بدهشة:
-ليلى.
تجاهلت الطعنة الحارقة التي دبت بمنتصف قلبها بعد رؤيتها لهذا المشهد، وقالت بصوت خافت لم تدري أنه خرج حادًا رغم خفوته:
-عايزة أتكلم معاك.
نظر ظافر نحو الفتاة الواقفة جواره والتي كانت تستكشف ليلى بنظراتها، وأردف بهدوء:
-طب روحي أنتي دلوجتي يا منى.
منى هكذا دون ألقاب؟ وبهذه الرقة وهذا التعامل السلس؟ تبًا له ولمَن يصدق محاولاته الكاذبة في كسب حبها، وماذا توقعت من رجل ؟ بالنهاية كلهم “مصطفى
أبو حجر” .
انتبهت لظافر الذي سألها بجدية ولا زالت دهشته من مجيئها تلوح في الأفق:
-حصل حاچة ولا إيه ؟
اقتربت منه بخطوات عازمة مُحملة بالغضب، ثم استطردت:
-في إن المفروض في طلاج يحصل وأنت اختفيت ومانفذتش رغبتي.
زفر بصوتٍ عالٍ متمتمًا بإرهاق:
-أنا مش عايز ولا جادر أتكلم في الموضوع دا دلوجتي يا ليلى.
عقبت باستنكار مغموس بالحنق:
-يعني إيه مش عايز ولا جادر ؟ أحنا اتفجنا إن آآ….
قاطعها بنبرة جافة تنذر بحفيف من الغضب:
-يعني مش جادر أتكلم في الموضوع دا.
عقدت ذراعيها معًا وهي تسأله بسخط لا زال يطفو على السطح، لا تجد تفسير واضح له سوى ذلك المشهد المغيظ منذ قليل مع تلك الفتاة:
-ايوه يعني حضرتك هتبجى فاضي وجادر أمتى؟
غمغم ببرود ونبرة مقتضبة غير واضحة مشاعرها:
-لما أبجى جادر إن شاء الله هاچيلك ونشوف.
عَلت نبضة فزعة في قلبها، هل هذا معناه أنه سيُطلقها بالفعل ؟ هل سأم تمنعها أم أن لتلك الفتاة دورًا في ذلك ؟!
ولكنها لجمت كل تلك المشاعر التي عصفت بها، وتشدقت بثبات:
-بس ياريت ماتطنشش عشان الموضوع دا مش بيأثر عليا لوحدي دا بيضر أمي معايا.
عقد ما بين حاجبيه بعدم فهم:
-بيضرها ازاي يعني؟
هزت رأسها نافية وهي تضيف بنبرة ذات مغزى:
-لا ماتشغلش بالك، ومعلش عطلتك.
ثم استدارت تنوي المغادرة، ولكن ظافر أوقفها حين نهض مسرعًا ليمسك بذراعها يُديرها نحوه متسائلًا بصوت أجش:
-بجولك بيضرها ازاي؟ أنتي مخبية عني إيه يا ليلى ؟
ابتلعت ريقها الجاف ثم أجابت مستسلمة بتنهيدة قوية:
-راحتله وطلبت منه الطلاج بس مارضيش وجالها إن لو عايزاه يطلجها أنا كمان أتطلج.
إتسعت عيناه وعاد رماد الغضب ليشتعل من جديد في سوداوتيه، ثم هدر من بين أسنانه بغل:
-ابن ال**** أنا هعلمه الأدب، وأنتي عايزة تسمعي كلامه وتطلجي؟
هزت رأسها نافية بشيء من الارتباك:
-لأ، أنت عارف إني عايزة أتطلج عشان مفيش بينا ثقة اللي هي أهم حاچة في أي علاقة.
ضغط ظافر على قبضته بعنف، هو ليس في حالة تسمح له بالمناقشة او تحمل تدللها عليه، فهو يمر بأكثر فترة عصيبة بحياته، يشعر بالضغط النفسي يزداد عليه كلما مرت الأيام دون أن يجد اللعين الذي فعل ذلك بجده ويعاقبه كما يجب.
أغمض عيناه يُهدئ نفسه ثم فتحها من جديد وهو يقول آمرًا بخشونة:
-امشي دلوجتي يا ليلى.
لم تستطع لجم لسانها الذي اندفع بالقول المهتاج بالغيرة التي لم تجربها بحياتها سوى في هذه اللحظات:
-اه معايا أنا مش طايج نفسك ولا طايج لي كلمة، لكن من شوية ماشاء الله عليك هدوء الدنيا كلها فيك ورايج وفايج.
لم تعلم أن هدوئه كان كتمان لمرجل الغضب والسخط الذاتي، وهي الآن تعبث به وتؤججه بكلماتها الهوجاء!
زجرها بصوت فظ بعض الشيء:
-جولتلك امشي يا ليلى ونتكلم بعدين، امشي.
-تمام جوي، همشي يا استاذ ظافر.
غمغمت بغيظ كان جلي كعين الشمس، واستدارت تكاد تغادر، ولكن في حركة مباغتة كان ظافر يجذبها من ذراعها بقوة حتى اصطدمت بصلابة صدره، ولم تكتمل شهقتها المتفاجئة إذ كتمها ظافر بشفتيه التي لم تكن رقيقة، بل كانت تحمل شراسة عاطفية، تُفجر كتمان انفعاله الداخلي، وكأنه يأخذ من بتلات الورود في شفتيها ما يُلطف جحيم الغضب داخله.
ابتعد بعد دقيقة تقريبًا يشاركها لهاث أنفاسها، ثم همس بخشونة مختنقة:
-أنا تعبان، تعبان ومحتاچك چمبي.
كيف يفعل هذا بها ؟ كيف يجعل في قمم الغضب ثم فجأة يحملها فوق بساط عاطفته وكلماته ليُدخلها نعيم لم تعرفه سوى بين يديه.
لم تجيبه بشيء سارحة في خضم مشاعرها المبعثرة، فسحبها من يدها برفق ليُجلسها على الأريكة، وأغلق باب الغرفة الذي كان مغلق نصف غلقة، وعاد لها ليتمدد على الأريكة واضعًا رأسه فوق قدميها، ثم أمسك كفها الرقيق الصغير ووضعه في خصلات شعره السوداء الغزيرة، وكأنه يطالبها بالدفء.. بالدعم النفسي.
فاستسلمت بصمت وظلت تداعب خصلاته بأصابعها برقة، وبحركة غير محسوبة كانت تحيط رأسه بذراعيها تضمه لصدرها متنهدة بابتسامة صغيرة حانية مقبلة قمة رأسه قبلة سريعة عميقة فضحت مشاعرها التي تعاظمت نحوه، وكأنه طفلها وليس زوجها فقط.
ثم انتبها كلاهما فجأة وانتفض ظافر جالسًا حين فُتح الباب ودلفت “منى” تلك الفتاة مرة اخرى !
وما أن رأتهما هكذا حتى تراجعت بحرج مغمغمة:
-هاچي كمان شوية.
ثم كادت تغادر ولكن ليلى أوقفتها بسؤالها الذي اندفع فجاة كالطلقة من بين شفتيها:
-أنتي مين؟
استدارت لها منى ببطء، وإلتوت شفتيها بابتسامة خبيثة صغيرة وهي تجيبها ببرود ماكر:
-أنا مراته، هو ظافر ماجالكيش ولا إيه؟
****
يتبع ……………………
للحظات شعرت وكأن أحدهم وضع قنبلة موقوتة بين ضلوعها، ثم في حركة مباغتة إنفجرت ممزقة إياها لفُتات أنثى أُصيبت غدرًا في أكثر مواقعها ضعفًا؛ في قلبها !
فيما نظر “ظافر” نحو “منى” شزرًا بنظرات مغموسة بالغيظ والتوعد، فغمزت له بشقاوة بطرف عينها، نجحت أخيرًا ليلى في قطع الصمت الذي أطبق على جوفها يمنعها من إخراج حروفها، فخرج صوتها متحشرج رغمًا عنها:
-الكلام دا صح؟
حواطت الشفقة أطراف قلبه على حالتها ووجهها الذي شحب، فكاد ينفي بتلقائية، إلا أنه وبنظرة نحو “منى” التي شجعته بصمت على متابعة تمثيلها اللئيم،
واستجابةً لقلبه التي يجهر مطالبًا بالاقتران علنًا ولكنها بعنادها تُصر على الانفصال، كان يؤكد برأسه قائلًا بصوت أجوف:
-ايوه، منى مرتي الاولى.
إن كان صمته منذ ثوانٍ مزقها، فتأكيده الآن أحرق الفُتات المتبقية منها لتشعر بنفسها بلا روح!
فيما أشار ظافر برأسه لمنى بجدية:
-سيبينا لوحدنا لو سمحتي يا منى.
توسعت حدقتا ليلى بذهول حقيقي حتى ترآت له سكينة الغدر المغروسة في عمقهما، لم ينفعل ويثور في وجه تلك الحرباءة لأنها أخبرتها، بل ظل هادئًا كما هو وكأن معرفتها من عدمها لا تهمه… بل وكأنها هي أصلًا لا تهمه !
خرجت منى بالفعل دون أن تنبس بالمزيد، فيما هتفت ليلى ببطء وكأنها تحاول الاستيعاب:
-يعني إيه؟
صمتت برهة ثم صرخت فجأة بألم وهي تشعر بجلدة الادراك تلسعها بشدة:
-أنت ازاي عملت كدا، ازاي !!
هز كتفاه معًا ببساطة قاتلة وهو يهتف:
-الشرع محلل ليا أربعة، إيه المشكلة ؟
فهدرت من بين أسنانها بحروف تفور من فرط الغضب كبركان في أوج غليانه:
-عندك حج، إيه المشكلة.. إيه المشكلة لما تتچوز واحدة واتنين وعشرة ما كدا كدا المغفلة نايمة في شهر العسل.
نفى بهدوء وثبات مغيظ:
-أنا ماخبيتش عنك حاچة، ولا كدبت.
صرخت فيه باهتياج حتى شعرت بتمزق أحبالها الصوتية:
-بس ماجولتليش، أنا من حجي أختار وأقرر.
ولكن رغم ذلك لم يغضب، إلتمس لها العذر في داخله، وأردف بنبرته الرجولية الرخيمة يواجهها:
-أنتي ماسألتيش لما اتچوزنا عشان أجولك، أنتي ناسية أحنا اتچوزنا ليه أصلًا ؟
تنفست بصوتٍ عالي وصمتت لثوانٍ قبل أن تخبره بلهجة حكت كبريائها المشروخ:
-لا مش ناسية، بس مش أنا اللي أبجى زوچة تانية، طلجني.
لم يهتز إنش من قسمات وجهه بل ظلت جامدة ضبابية وغير مقروءة، و بنظرة مُظلمة عميقة كان يتفوه:
-في قاموسي مفيش طلاج، أنتي بجيتي مرتي وهتفضلي مرتي لأخر يوم في عمري.
هزت رأسها تردف بتحدي وعزم والغل والغيرة يشتد فتكهما بقلبها:
-يبجى هخلعك.
إلتوت شفتاه بابتسامة صغيرة ساخرة قبل أن يقول بثقة كرهتها:
-الظاهر إنك ماتعرفينيش، لو تعرفي تخلعي ظافر العبادي اعمليها.
ثم اقترب منها خطوتان حتى وقف أمامها مباشرةً، أنفاسه تصفع وجهها الذي احمر من فرط الانفعال والغضب، مال نحوها بوجهه ومن ثم همس بخشونة قُرب اذنها:
-من أول يوم شوفتك فيه في بيتنا جولتلك أنتي چيتي ليا برچليكي وملكيش مهرب او خلاص مني.
دفعته ليلى بعنف حتى ارتد عدة خطوات للخلف، ثم صدحت زمجرتها المجروحة وعينيها مُلبدة بالدموع كغيوم مُظلمة ولكنها تمنع تحريرها بجسارة:
-أنت ازاي كدا ؟ ازاي جادر توچع اللي جدامك بكل بساطة وهدوء وكأنك ماعملتش أي حاچة، ارحموا مَن في الأرض يرحمكم مَن في السماء !
عاد ظافر ليقترب منها مرة اخرى، ثم سألها بنبرة ذات مغزى، مُصممًا على الضغط على منبع ألمها ونقطة ضعفها لتخر مستسلمة معترفة بكل ما تأبى الاعتراف به :
-وچعتك ليه ؟ إني أكون متچوز او مش متچوز إيه اللي يوچعك في كدا ؟ مش أنتي أصلًا كارهاني وعايزانا نتطلج؟
لم تفكر وهي تنفي برأسها لتوئد ظنه:
-لا طبعًا أنا مش بكرهك.
قاوم ابتسامة مستذئبة صارعت عبوس شفتيه لتظهر، ثم سألها بخفوت ماكر:
-امال إيه؟ بتحبيني؟
بدت وكأنها تعود للخلف الخطوة التي إندفعت بها دون وعي، حيث استطردت بفظاظة وبنظراتٍ اهتز ثباتها وكاد ينال منها الارتباك:
-على أنت فكرة أنت خبيث، بتغير الموضوع ليه؟
ففسر لها بنفس الهدوء المدروس:
-عشان كل المواضيع دي متصلة ببعضها، چوازي من منى كان مچرد كتب كتاب، وأچلت الفرح عشانك، عشان حبي ليكي، عشان مش عارف أشيل حبك من جلبي، وكنت ناوي أتكلم مع منى ونخرچ بالمعروف زي ما دخلنا بالمعروف، لكن بما إنك مش طايجة تكوني مرتي ولا صابرة على الطلاج، فـ خلاص، من حجي أنا كمان أدي نفسي فرصة وأشوف حياتي يمكن هي تعرف تخليني أحبها.
أخذ شهيق بصوتٍ عالٍ ثم أضاف بصوت أجش:
-فـ ماتحسسينيش إني خاين وغدار وغدرت بيكي وأنتي أصلًا مش فارج معاكي.
نبشت مخالب مكره في جرحها الذي ينضح بغيرة ضارية، فصاحت فيه بشراسة وهي تضرب صدره بقبضتيها عدة مرات بجنون:
-أيوه أنت خاين وغدار، وطبعًا فارج معايا عشان أنا بحس مش زيك.
قبض على يديها لاصقًا إياها بصدره وهو يجذبها نحوه، متسائلًا بخشونة يشوبها شيء من اللهفة:
-فارج معاكي ليه؟ بتحسي بإيه يا شيكولاتة؟ جوليلي وريحيني من عذابي وأنا هجولك اللي هيريح جلبك.
حاولت دفعه بعيدًا عنها بلهجة فظة مغتاظة:
-اوعى سيبني، سيبني واشبع بيها.
ولكن على العكس أحاط خصرها وجذبها نحوه أكثر بقوة حتى إلتصقت به، واسترسل بنبرته الرجولية العميقة التي لاح فيها التعب:
-ياريتني عارف أسيبك، أنتي عاملة زي اللعنة اللي بتعذبني ومع ذلك مش عارف أبعد عنها.
سكن اهتياجها قليلًا، فتابـع ظافر بصلابة لا تقبل النقاش:
-ومش هاسيبك غير لما تجولي اللي أنا شايفه في عنيكي.
كثرة الضغط يولد الانفجار، وهذا بالضبط ما حدث الان، إنفجرت زجاجة الصمت داخلها وهدرت ليلى بأعصاب منفلتة:
-فارج معايا عشان أنا بحبك، خلاص ارتحت يا ظافر بيه؟
بلحظة كان شفتاه تقبض بلهفة وشغف على شفتيها التي أثلجت نيران روحه باعترافها الرائع، يتذوق حلاوة ذلك الاعتراف بينما يشعر بكل خلية منه تهلل فرحًا…
نبع الشيكولاتة تحبه، تحبه وتغار عليه بجنون أيضًا !
ابتعد أخيرًا بعد لحظات، ليغمغم من بين لهاثه بلهجة مثخنة بالعاطفة:
-ارتحت، ارتحت يا جلب وعمر ظافر.
جاهدت ليلى بوهن لتتملص من بين ذراعيه وهي تهز رأسها نافية باختناق:
-سيبني، أنا مستحيل أرضى بالوضع دا حتى لو هموت من غيرك.
تبًا… للحظات نسى فعليًا أمر تلك الزيجة الوهمية!
انتشى قلبه باعترافها الضمني أنها ستموت من دونه، وأفترت شفتاه عن ابتسامة صغيرة مستمتعة قبل أن يواصل ببراءة زائفة:
-وضع إيه معلش عشان نسيت؟
عنفته وهي تضربه في صدره بعنف وعينيها الناريتين تشتعل بغيظ وغيرة لاهبة:
-نسيت؟ نسيت العجربة اللي برا اللي أنت متچوزها.
فتأوه ضاحكًا قبل أن يقول من بين ضحكاته:
-خلاص افتكرت افتكرت، بس يا حبيبتي اللي انتي بتجوليه دا عيب وحرام.
عقدت ما بين حاجبيها بعدم فهم حقيقي:
-هو إيه دا ؟ أنت بتستعبط؟
فهز رأسه نافيًا بصدق ونبرة شقية:
-لا والله، بتكلم بجد، أصل اللي أنا أعرفه إن الواحد ماينفعش يتچوز أخته في الرضاعة، والعجربة اللي برا بنت خالتي وأختي في الرضاعة.
أجفلت ملامحها وتصنمت مكانها كتمثال من شمع لدقيقتين تقريبًا، ثم غمغمت بعينين متسعتين يحلق فيهما عدم الاستيعاب:
-أنت آآ….
ثم قطعت كلماتها قبل أن تسبه دون وعي، فتلاعب ظافر بحاجبيه وهو يتشدق:
-ذكي چدًا وبتموتي فيا، عارف.
وفجأة انفجرت ليلى في بكاءٍ عنيف كانت تكتمه حتى لا تهين وتذل كرامتها بالبكاء أمامه..
فكانت الصدمة من نصيب ظافر هذه المرة، وارتبك فعليًا مصدوم من بكائها المفاجئ، إلى أن أحاط وجهها بيديه معًا يسألها بحنان:
-طب عملت إيه أنا دلوجتي بتعيطي ليه؟
أبعد يداه عن وجهها وهي تردد من بين بكاءها بحنق:
-اوعى يدك كدا، أنت لعبت بيا وبأعصابي وكنت عمال تتسلى عليا أنت والسنيورة بنت خالتك.
فضرب رأسها بأصابعه برفق وراح يستطرد بغيظ:
-طب أعمل إيه في دماغك الناشفة دي هي السبب، حتى البت صعبت عليها من الغلب اللي بشوفه على يدك وقررت تساعدني من غير ما أطلب منها تعمل كدا.
رمقته شزرًا فأمسك يدها وتخلل أصابعها بأصابعها قائلًا برقة حانية:
-طب خلاص حجك عليا، مش هتيچي أعرفك عليها ولا إيه؟
ولكنها أبعدته وهي تتمتم بصوت أجش يلوح به الاستهجان:
-اوعى يدك ماتلمسنيش، جال يعني هتعرفني على الأميرة ديانا.
ضحك ظافر دون صوت ولم يعقب مراعيًا غضبها، فسارت ليلى أمامه متجهة للخارج، وما أن خرجت من مكتبه ورأت تلك الخبيثة المدعوة “منى” وتذكرت ما فعلته، غلت الدماء بعروقها ولم تشعر بنفسها سوى وهي تقترب منها وتضيف بنبرة ذات مغزى، وبابتسامة سمجة خالية من المرح:
-بعد كدا يا أخت چوزي يا حبيبتي ماتبجيش تهزري مع حد ماتعرفيهوش عشان ممكن يمسك الزهرية ويحدفك بيها يشوه وشك الچميل اللي أنتي فرحانة بيه دا.
تثبتت منى مكانها لثوانٍ مبهوتة أمام غضبها قبل أن تضحك معتذرة بصدق:
-معلش ماتزعليش أنا عارفة إننا زودنا العيار شوية.
غمغمت ليلى بصوت مكتوم وقد لان غضبها قليلًا:
-شوية؟ جولي شويتين تلاتة، بس هجول إيه يلا كله عند ربنا.
****
بعد أيام…
جلس “أيوب” أمام الشرفة يقبض على السيجارة بين أصابعه ويدخن بشراهة بينما عيناه شديدة الظلام تحوم فيها أشباح الماضي، مُسلطة على البناية أمامهم والتي يأتي منها صوت طفل يبكي بشدة ويصرخ متوسلًا وتعلو أصوات تألمه بينما ويبدو من الصوت أن والده يضربه، كان يحاول تمالك نفسه وطرد تلك الأشباح، ولكنه لم يفلح، يومض عقله بصور سوداء لنفسه حين كان طفلًا وكان في نفس الموقف باختلاف أنه كان يتعرض لهكذا موقف مرارًا بينما لا يعلم هذا الطفل مثله ام لا.
رمى السيجارة أرضًا ضاغطًا عليها بعنف، ثم هدر من بين أسنانه وقد فقد المتبقي من ذرات تحكمه بعد استمرار صراخ الطفل:
-لا كدا زودها جوي، والله ما هسيبه.
نهض وكاد يتحرك ينوي المغادرة ولكن وجد أمامه “غرام” التي كانت تراقب صراعه الداخلي عن كثب بقلبٍ يتلوى ألمًا على حاله ورغبةً في احتواءه، رغم أنها خلال الأيام السابقة كانت تجافيه، صحيح أنها لا تخاصمه تمامًا ولكن لا تتحدث معه إلا عند وجود سبب.
حاد عنها ينوي الخروج وهو يقول بصوت أجش:
-اوعي يا غرام، مش هسيبه يعمل فيه كدا وأفضل أتفرچ.
أمسكت ذراعاه معًا تربت عليهم برفق مرددة بجدية، تُمثل الوجه الآخر المتعقل منه، والذي خبى في هذه اللحظات:
-مش هينفع تروح تتشاكل معاه في الأول وفي الأخر دا أبنه وممكن المشكلة تكبر وفي الأخر الناس مش هيغلطوا حد غيرك وأبسط كلمة هتتجالك وأنت مالك؟
رشقت نظراته المستنكرة في وجهها، مستطردًا بعدم تصديق:
-أنتي عايزاني أفضل أتفرچ كدا وكأن دا الطبيعي؟
هزت رأسها نافية بهدوء:
-لا طبعًا محدش جال إن دا الطبيعي، بس والله ما هينفع تروح وأنت متعصب كدا، ممكن تحل الموضوع بطريجة تانية.
سألها لاويًا شفتاه ولم يستسيغ اقتراحها:
-طريجة إيه يا صاحبة العجل والحكمة؟
تنهدت غرام وهي تفكر، تود تعطيله عما ينوي ولكنها لا تدري كيف، جاءها الحل الالهي حين توقف صوت الطفل، فقالت بلهفة فرحة وهي تشير له:
-اهو سكت، شوفت؟ ممكن يكون عمل حاچة غلط وأبوه بيأدبه كلنا أهالينا كانوا كدا يا أيوب، مش شرط إنه عشان بيضربه يبجى هو أب جاسي ومابيحبهوش.
ودت لو تكمل “كوالدك” ولكن حمدت الله أنها كبحتها في اللحظة الأخيرة، فيما شعر أيوب بعلقم الذكريات يمرر حلقه، وتلفظ بنغمة تقرع وجعًا دفينًا:
-بتجولي كدا عشان ربنا كرمك بأب سليم نفسيًا وحنين، مش أب سادي بيتلككلك عشان يضربك ويعذبك وكأنه بيستمتع بألمك عمال على بطال.
لأول مرة يبوح لها علنًا بما صُبغت به روحه المشوهة، فصمتت تترك له المساحة ليُفرغ ما بجبعته، وبالفعل استرسل وهو يرتمي بجسده على الأريكة بانهزام:
-مع أصغر وأجل غلطة كان بيضربني، ومش ضرب عادي، لا ضرب مؤلم چدًا يسيب أثر، حتى إني أحيانًا كنت بفكر إنه ممكن يكون مش أبويا زي ما بشوف في الأفلام، وفضلت اسأل أمي، بس للأسف اتأكدت إنه أبويا.
وراح يتذكر احدى لياليه القاسية على يد والده وهو يقص عليها…
حين كان في الثالثة عشر من عمره، عاد من المدرسة بعد شجاره مع أحد الفي الفصل، فاستدعى المسؤولين في المدرسة والده كاجراء روتيني للتنبيه على عنف كليهما واشتكت له أنه أحيانًا لا يقوم بعمل واجباته المدرسية، ولكن بالنسبة لوالده لم يكن كذلك، بل كان باب جديد فُتح أمامه ليزج “أيوب” في جحيم عقابه، خاصةً أن والد الطفل الذي تشاجر معه كان بينه وبين كامل عمل مشترك، وأكثر ما يمقته كامل أن يمس أحدهم عمله وأمواله حتى ولو بطريقة غير مباشرة.
دفع أيوب داخل غرفته بعنف، ثم تحرك يبحث عن العصا التي خصصها لضربه، وعاد له آمرًا بنبرة غليظة:
-افرد يدك.
تردد أيوب بخوف ولم يمد يده، فصاح فيه كامل بقوة:
-جولت افرد يدك حالًا يا بن الكلب.
لم يجد أيوب مفر من اطاعته، خاصةً وأن والدته ليست في المنزل لتحاول انقاذه إن تمادى حتى وإن فشلت معظم الاوقات، ففرد يده أمام والده، ليضربه بالعصا على ظاهر يده بعنف شديد، متعمدًا ضربه على ظاهر اليد وليس باطنها لتؤلمه أكثر، ظل يضربه مرة بعد الاخرى وهو يردد بقسوة:
-مش يدك دي اللي ضربت بيها الواد وچيبتلي الكلام وكنت هتبوظلي شغلي مع أبوه كمان؟ وماكنتش بتعمل بيها الواچب؟ أنا هخليك ماتعرفش تستخدمها تاني يا ****
ظل أيوب يبكي وهو يبعد يده عنه يشعر بألم ساحق كما لو أن عظام يده قد كُسرت، ثم تكوم أرضًا حين إنقض عليه كوحش لا ينتمي للبشر بأي شكل من الأشكال، يضربه بالعصا في أماكن متفرقة من جسده الصغير بعنف زائد عن الحد وكأنه عدوه وليس ابنه، بينما الآخر يصرخ متألمًا وهو يتوسله:
-خلاص والنبي، والله ما هضرب حد تاني خلاص ابوس ايدك.
ولكن كامل لم يتوقف، لم يتأثر بتوسله ولو ثانية وكأنه يحمل بين ضلوعه صخرة وليس قلب بشري، راح يزمجر فيه بشراسة:
-دلوجتي عمال تتذلل زي النسوان؟ وهناك عاملي سبع رجالة في بعض وبتضرب الواد؟
وواصل ضربه بتشفي، فصاح أيوب من بين شهقاته المختلطة بالألم الذي تصرخ به كل خلية من خلايا جسده:
-هو اللي ضربني الأول، والله العظيم هو اللي ضربني الاول، خلاص بالله عليك كفاية.
ولكنه ظل يردد على مسامعه دون توقف بقسوة مدوية
” أنت فاشل وصايع وبلطچي وملكش لازمة وهتفضل طول عمرك ملكش لازمة كدا ”
عاد من ذكرياته شاهقًا بعنف وأعصاب جسده تشتد ويستنفر، وكأن الألم يحيا من جديد في جسده تزامنًا مع عودة الذكريات، والدموع تسبح في عينيه كنهر جاري من الوجع… ثم صدح منه هسيس خافت:
-من ساعتها بجيت بخاف أضرب اللي يضربني عشان عارف هو هيعمل إيه، فالأسهل استحمل ضرب العيال، وهو كان مبسوط بكدا، أهم حاچة إن محدش يوچع دماغه بشكاوي، سابني في اليوم دا مربوط بحبل في يد الكرسي ويدي ماكنتش حاسس بيها، لحد ما أمي رچعت من برا بعد كام ساعة واخدتني للدكتور واكتشفت إن ايدي اتكسرت.
بينما غرام غار قلبها في ألم مماثل ضاري، لا تستوعب كيف يفعل أب هكذا بابنه، وليس في موقف واحد بل طوال حياته !
اقتربت منه أكثر حتى صارت شبه ملتصقة به، ثم سألته بتردد تخشى أن تثير غضبه وهو في هذه الحالة، خرج صوتها مبحوح مختنق بالدموع:
-ممكن أخدك في حضني؟
لم ينطق أيوب بل دفن رأسه في صدرها وأحاطها بذراعيه، مغمضًا عيناه لتنساب دموعه المحبوسة دون شعور منه لأول مرة بعد وفاة والدته، بينما غرام تُقبل رأسه عدة مرات دون توقف وهي تردد بصوت يتدفق حنانًا تحاول ازالة ما وشمه والده في جدرانه الداخلية:
-أنت أحسن وأحن راچل شوفته في حياتي، هفضل كل يوم أحمد ربنا إنه رزجني بيك عشان تبجى سندي وضهري.
مرت دقائق وهدأ أيوب شيئًا فشيء وسط أحضان غرام التي أفرزت كل الطاقة السلبية والحقد الذي كان يموج بجسده ولطفت جروحه التي تقرحت بحنانها، ثم سمعها تقول بهدوء شارد:
-أنا هاخد برشام منع الحمل، لحد ما أنت بنفسك تطلب مني أبطله.
رفع أيوب رأسه نحوها وقد توهجت سوادوتاه، كل مرة تبهره أكثر من التي تسبقها؛ بحنانها وعطاءها غير المحدود، أمسك يدها طابعًا على باطنها قبلة عميقة حملت امتنانه وعشقه.
فيما قالت هي بشغف وحب بينما تداعب خصلات شعره:
-أنت كفاية عليا، أنت أبني وأبويا وأخويا وچوزي وكل عيلتي، ومتأكدة إنك هتكون أحسن وأحن أب في الدنيا، إذا كنت ماسكتش عن ضرب وأذى الغريب، فما بالك بإبنك بجا ؟
نهض أيوب ثم قرب رأسها منه ليلتقط شفتاها بين شفتيه بنهم وعشق ملأ قلبه وروحه لها حد التخمة، ممتنًا لكل ما تفعله وتقدمه له، فقط في عينيها حبيبتيه
يرى أنه آخر.. أنه ليش مشوه النفس، بل مكتمل من كافة النواحي، وكأنها ترى فيه كل ما هو جميل فقط وتعكسه عليه.
قطع قبلته أخيرًا، هامسًا بصوت خشن مبحوح:
-أنا بعشجك، بعشجك يا زينة البنات.
****
بعد فترة…
كان أيوب قد خرج من المتجر الخاص به ليقوم بشيءٍ ما، تاركًا فيه الصبي الذي يعمل معه، ولكن حين عاد للمتجر أحس أنه فارغ، تجهمت ملامح وجهه بسخط وتوعد لذلك الصبي المهمل بالعقاب، وما أن دخل حتى رأى عمله الاسود في الدنيا “كامل” وهو في الركن الذي يخصه كصاحب المتجر والذي فيه مكتبه والأموال، ويفتح احد الادراج التي بها الأموال ويأخذ منها واضعًا إياها في جيب جلبابه بسرعة..
صاح فيه أيوب بعدم تصديق وغضب كاسح جرفه فجأة:
-أنت بتعمل إيه هنا يا حرامي؟
تجمد كامل مكانه لبرهة يفكر سريعًا دون أن يستدير نحوه، ونظر للعصا أمامه التي أخذها معه كاحتياط، ثم أمسك بتلك العصا ببطء حتى لا يشعر به أيوب، وبحركة مباغتة غير متوقعة استدار وضرب بها أيوب على رأسه بعنف جعل أيوب يتأوه بألم شديد قبل أن يسقط أرضًا فاقد الوعي وقد بدأت رأسه تنزف من شدة الضربة، وكأن كامل “والده” يحاول قتله حتى لا يقف أمام جشعه !!!!!!
****
يتبع …………….
تحرك “كامل” بخطى متعجلة في قسم الشرطة، يتجه نحو مكتب “المأمور رضوان” الذي تواطأ معه سابقًا، فتح الباب دون أن يطرقه، فرفع الآخر رأسه بدهشة مرددًا اسمه:
-كامل !
اقترب كامل جالسًا على الكرسي أمامه، ثم اقترب بجسده من حرف المكتب حتى إلتصق به، وهتف مباشرةً دون تجهيز أي مقدمات:
-تعرف تچيبلي واحد من اللي كانوا شغالين في الجضية معاكم اللي بيشوفوا البصمات، يجول إن أيوب اداله رشوة عشان يشيل بصمات مرته غرام اللي كانت موچودة في الليلة اياها في اوضة النوم اللي مرتي اتجتلت فيها.
أجفلت ملامح رضوان وظل متجهمًا للحظات والمفاجأة تبتلعه، إلى أن صدح صوته أخيرًا أجش:
-إيه الكلام اللي أنت بتجوله دا ؟ لا طبعًا مش هعرف.
ضرب كامل على المكتب بانفعال بدد تصلب وجهه الزائف، ثم قال:
-لا هتعرف، أنت لازم تتصرف الموضوع دا مهم چدًا بالنسبالي حياة او موت.
تابـع وهو يشيح له بغضب زحف نحو مقدمة كلماته لتخرج حادة:
-وأنا مالي حياة او موت ولا زفت؟ أنت مفكرني وزير الداخلية كل ما تبجى عايز تعمل حاجة شمال هتچيلي وأنا هعرف أتصرف بمنتهى السهولة !!؟ انسى مفيش الكلام دا.
ثم لوى شفتاه وواصل سخريته البحتة وهو يسأله:
-وبعدين تجدر تجولي اللي عاوزه يعمل كدا هاتديه فلوس منين؟ ولا ناوي تخليه يعمل كدا لله وللوطن؟
انقبضت معالم وجه كامل وراح يصيح في استنكار:
-يعني إيه أنسى؟ أنت نسيت أنا عملتلك إيه؟ أنا خبيت البلوة بتاعتك، أنت لولايا ماكنش زمانك لسه على الكرسي دا.
صمت برهة وصدى ضربته الضمنية وسط كلماته لا زال يتردد داخله بقوة، ثم رد بعناد وكِبر زائف:
-وأنا هتصرف في الفلوس مايخصكش، أنا كامل العماري ماتنساش.
ولكن الآخر هز رأسه نافيًا واستطرد ببرود مُتقن:
-لأ مانسيتش، والخدمة اللي عملتهالي رديتهالك وشكرًا خلصت على كدا.
نفى كامل برأسه وهو يضرب على المكتب عدة مرات مؤكدًا بسيطرة يشعرها تتسرب من قبضته ككل شيء كان يملكه:
-لأ ماخلصتش ومش هتخلص غير لما أنا أجول إنها خلصت.
لم يهتز إنش في وجه “رضوان” الذي احتفظ بتحجر ملامحه الجوفاء، وتشدق بصوت مغلق ينضح بالتهديد المبطن:
-ألاعيبك وبلاويك تحلها بنفسك أنا مليش دخل بيها، ولو أنت ماسك حاچة عليا تلوي دراعي بيها، فأنا كمان معايا اللي يثبت چريمة الجتل اللي أنت عملتها.
استكانت ملامحه وعيناه السوداء، ثم سرعان ما كانت نيران الغضب الهوجاء تغزو ليلها من جديد ما أن خاطره الاستيعاب، وأخذ يهدر بشراسة:
-إيه ؟ أنت بتعمل معايا أنا كدا ؟ أنا اللي خبيت مصيبتك وساعدتك لما سرجت ال آآ…..
قاطعه المأمور مزمجرًا بنبرة غليظة:
-وطي صوتك لسه في ناس مامشيتش، ماتوديش نفسك في داهية وأعجل لإني مش هروح في داهية لوحدي.
هدأت أنفاس كامل شيئًا فشيء وهو يدرك أن الانفعال ليس من مصلحته الآن على الإطلاق، وأن اللعبة التي تركها في تلك الساحة لتكون طوع يده، لم تعد كذلك
وتمزقت خيوطها التي كان يتحكم بها.
فيما عاد رضوان بظهره للخلف ملقيًا نظرة شامتة راضية عليه، ثم أردف آمرًا:
-اتفضل يلا من غير مطرود ورايا مصالح مش فاضي أنا، ومش كل شوية توريني طلتك البهية، المرة الچايه لو چيت تاني من غير سبب مش هخليك تطلع منه تاني.
فلم يكن يملك إلا أن يغادر مستسلمًا على مضض، ولكنه بإباء وبنفس ترعرعت على الكبر فأصرت على نزع ثوب الانهزام رغم تغلغله لكافة خلاياه، كان يغمغم بصوتٍ مكتوم:
-ماشي يا رضوان، ماشي.. بس الموضوع ماخلصش على كدا.
****
فتحت “غرام” الباب بعدما سمعت طرقاته وارتدت اسدال الصلاة، لتجد الطارق “أيوب” وما أن وقعت عيناها عليه وقد كانت رأسه مُضمدة وبعض الدماء تلطخ ملابسه حتى شهقت بفزع وتصاعدت دقات قلبها حتى كادت تخترق قفصها الصدري، ثم سألته بنبرة هلوعة وهي تمسك بساعديه تساعده على الدخول:
-إيه اللي حصل ؟ مالك يا أيوب؟
أجابها بصوته الرخيم يُهدئ من روعها:
-اهدي يا غرام أنا كويس، دي حاچة بسيطة.
سار معها حتى جلس على الأريكة وجلست هي جواره تتفحص ضمادة رأسه بحذر تود اكتشاف مدى خطورة تلك الإصابة لتتأكد إن كانت بسيطة كما يقول ام لا، وعينيها تصرخ قلقًا على مالك القلب والروح…
فيما شعر أيوب بنفسه المُظلمة تلفظ قيح الحقد والسواد في استجابة فورية لصرخة القلق في بُندقيتيها، ها هي حتى في أسوء حالاته تُشفيه وتُشفي روحه المعطوبة!
فهو منذ زمنٍ مر لم يعش حلاوة أن يُصاب أحدهم بالفزع لرؤيتك جريحًا حتى لو كان الأمر هين.
أمسك كفيها المشغولان بتفحص ضمادته، محيطًا إياهم بكفيه الكبيرين الدافئين، ثم تمتم بخفوت مشاكس:
-أنا كويس صدجيني، أنا چايلك على رچلي على فكرة مش على نجالة وبطلع في الروح.
ضربته في صدره بغيظ معقبة باستنكار:
-بعيد الشر ربنا يبارك في عمرك ويچعل يومي جبل يومك، ماتجولش كدا.
هز أيوب رأسه موافقًا راضيًا ممتنًا، فيما سارعت غرام بسؤاله ولا زال قلبها الأمومي محاوط بأشواك القلق التي تنغزه كل حينٍ:
-اتعورت كدا ازاي؟
تنهد أيوب بصوتٍ مسموع، ها هما يعودان لتلك النقطة السوداء اللزجة التي يكرهها من حياته والتي وكأنها تأبى الإنفصال عنه!
ثم تشدق بجمود:
-دخلت المحل لاجيت كامل بيسرج فلوس، ولما شافني ضربني بالعصاية اللي كانت معاه على دماغي ووجعت مغمى عليا.
شهقت بهلع وتلوت ملامحها البيضاء مستفسرة بعدم تصديق:
-إيه! كامل؟ أبوك؟
تغضنت قسمات أيوب بألم وكأن الكلمة وحدها تؤلمه كطعنة جديدة باردة، ثم اومأ برأسه وتابـع:
-والواد حسين هو اللي چه بالصدفة وشافني واجع ودماغي بتنزف، الناس إتلمت ودوني المستشفى وخيطولي كام غرزة واهو الحمدلله، عمر الشجي بجي.
هدرت فيه بانفعال ضرب أبواب صدرها بعنف وهي تتخيل ما تعرض له، وما كان يمكن أن يحدث له لولا العناية الالهية:
-كل دا وتجولي بسيطة؟ امال لو چامدة كان حصل إيه؟ كان شج دماغك نصين بالطول؟
ضحك أيوب على تعليقها، فعاودت ضربه على صدره من جديد بحنق طفولي لذيذ بات يعجبه كثيرًا:
-بتضحك كمان؟ بتضحك، وبعدين ازاي حسين مايجوليش؟ كل دا يحصلك وماحدش يجولي وأنا جاعدة هنا بعمل بسبوسة؟
رفع حاجبيه معًا بإعجاب، ثم تلاعب بحاجبيه وهو يشاكسها قائلًا:
-إيه دا عملتي بسبوسة بچد؟ طب ما تجومي تچيبيلنا حتتين كدا نحلي بُجنا “فمنا” بيهم يا حلو أنت.
ولكنها لم تستجب لمشاكسته بل نهرته غاضبة:
-أيوب.
تأفف مصطنعًا الملل ثم أردف لاويًا شفتاه بغيظ:
-هي طالبة معاكي نكد أنا عارف، اتفضلي حضرتك الميكروفون معاكي عايزة تبدأي وصلة النكد بإيه؟
سألته بذات النبرة الغاضبة والملامح الصلبة المتجهمة بعد سطو القلق عليها:
-أكيد بلغت البوليس صح؟ عشان يعملوله محضر عدم تعرض.
كانت غايتها التأكد من عدم تكرار هجومه مرة اخرى، تراجع أيوب بظهره للخلف مستندًا على الأريكة، وتخللت الظلال السوداء حدقتيه لتغتال معالم الحياة بها مؤقتًا، ثم خرج صوته أجشًا وهو يخبرها بشرود:
-كنت هبلغ وهتهمه بالسرجة كمان وكان هياخد فيها مش أجل من ٣ سنين عشان الضربة دي مع السرجة، بس هو من أعوان إبليس وإبليس مش بيسيب أعوانه في محنة.
عقدت غرام ما بين حاجبيها بعدم فهم:
-مش فاهمة! حصل إيه يعني؟
تنهد بقوة وهو يتذكر حين دخل له “كامل” غرفة الطوارئ في المستشفى ما أن استعاد وعيه، يود مقابلته قبل أن يقوم أيوب بما هو متأكد أنه سيقوم به.
إنتفض أيوب جالسًا رغم شعوره بالألم ينهش رأسه، وزمجر فيه بجنون:
-أنت بتعمل إيه هنا يا حرامي؟ وربي لأسچنك.
اقترب منه كامل بتردد وكأنه يخشاه، ورغم ذلك حذره بنبرة أجشة:
-اهدى كدا واسمعني عشان هتندم لو ماسمعتنيش.
ردد أيوب من بين أسنانه بشراسة وعيناه تطلقان شررًا ناريًا:
-أنا هاندم لو ماخليتكش تتسچن لحد ما تعرف إن الله حج.
أردف كامل ببساطة استطاع أن يبسطها في ساحة ملامحه، ولكن داخله كان مشوش تمامًا:
-أنا لو اتسچنت مش هتسچن لوحدي، مرتك الچميلة هتتسچن معايا.
لوى شفتيه متهكمًا:
-كل ما تتزنج تجول نفس التهديد اللي بوخ جوي دا ومابجاش يأثر خلاص.
أضاف بعناد وعيناه شاخصتان تطلقان سهام التحدي:
-لا هيأثر، هيأثر لما المأمور يجدم الورج اللي بيثبت إن بصمات مرتك كانت موچودة في اليوم اياه وفي اوضة مرتي كمان، وحد هيعترف إنك أنت اللي رشيته عشان يخفي البصمات دي.
استطاع زعزعة هيكل الثبات والغضب داخل أيوب الذي تخافتت عاصفته شيئًا فشيء، ولكنها لم تصفو تمامًا إذ قال بجمود:
-تبجى غلطان لو فكرتني هصدج تهديداتك الفارغة دي وهاسيبك، دي فرصتي وچات لحد عندي.
هز كامل كتفاه معًا بلا مبالاة ظاهرية:
-صدج ماتصدجش براحتك، أنا چيت أعرفك إن دي جصاد دي، ولو وصلت بيا إني أعترف كمان إني كنت هناك في يوم الچريمة وشوفت غرام هجول، وهزود
الشكوك عليها، أصل اللي يتسچن يوم يتسچن عشرة فمش فارجة كتير.
ثم ربت على كتفه قبل أن يتحرك وهو يتفوه ساخرًا:
-حمدلله على سلامتك يا ولدي.
ثم غادر بعدما تأكد أنه نجح في غرس الفتيل بين جذور عقل “أيوب” ينقصه فقط أن يشتعل لتحرقه حرقًا، فإيذاء غرام سيحرقه… وترك كامل دون عقاب سيحرقه أيضًا !
عاد لواقعه على وجه غرام الذي بهت وفرت منه الدماء كعادتها ما أن تأتي هذه السيرة، ثم سألته بصوت شاحب كوجهها:
-وهتعمل إيه؟
زفر أيوب مجيبًا وهو يهز كتفاه معًا بقلة حيلة:
-ماعرفش.
اجابته المموهة لم تُسكن ضوضاء عقلها الذي عمته الفوضى بانتشار الخوف فيه كجنود مشردة !
فعاودت سؤاله بصيغة اخرى أكثر وضوحًا:
-هتسچنه وتخاطر بيا ؟
أحاط وجهها بيديه متحسسًا نعومة وجنتها المكتنزة، ثم واصل بخشونة معبقة بالعاطفة:
-ماجدرش أخاطر أو أفرط فيكي وفي أيوب اللي اتولد على ايديكي.
ومالت نغمة صوته للانهزام قليلًا وهو يتابـع مبتعدًا بعينيه عنها:
-ومش عارف ازاي هفرط في حجي اللي هيچيلي منه على طبج من دهب! واشفي غليلي من الراجل دا يمكن ساعتها الحقد اللي جوايا ينتهي.
تركت غرام الباحة للصمت ليسود طويلًا، ثم أعادته لجحره حين استرسلت بشيء من التردد:
-أنا خايفة عليك من العقاب يا أيوب.
عقد أيوب حاجبيه مستنكرًا:
-عقاب ليا أنا ؟ عقاب إيه؟
-عقاب ربنا، ماتنساش إنه في الأول وفي الأخر أبوك، وماينفعش تبجى عاق بأبوك مهما كان هو وحش وجاسي وفيه كل العِبر.
سارعت بقذف كافة الأفكار التي كانت ترتج بعقلها قبل أن يغتالها التردد من أن تجرحه، لتجد الاعتراض والغضب يثوران بعينيه التي اشتد ظلامها وهو يعنفها بغلاظة:
-عقاب ليا أنا ؟ وهو ربنا هيكافئه على اللي عمله فيا كل السنين دي ؟
هزت رأسها نافية بسرعة تبرر قولها:
-لا طبعًا، هو برضو ربنا هيحاسبه على عقوقه ليك، بس أنت اللي تهمني مش هو، نفسي تچرب تسيب ربنا هو اللي يچيبلك حجك ويعاقبه من غير ما تتدخل وفي نفس الوجت يكافئك على صبرك وبرك له رغم كل الوحش اللي فيه.
أردف بصوت أجش وملامحه الخشنة تستنفر:
-أنا مش مثالي عشان أبجى كدا وأعمل اللي بتجوليه بالبساطة دي، أنا بشر وبغلط وبتأثر وغصب عني وعنك باخد رد فعل على الوحش اللي بيتعملي.
ضاقت عيناه وهو يحدق بها وللوهلة الأولى ساقه ظنه نحو أنها تقنعه بذلك لأجلها؛ ظنًا منها أنه سيُقحمها مما تهرب به منذ البداية !
قرأت غرام أفكاره بسهولة بين سطور عينيه فهزت رأسها نافية وهي تتلفظ بصدق:
-ومش بجول كدا عشاني أنا، أنا كدا كدا بريئة وربنا مابيرضاش بالظلم، لكن صدجني أنا خايفة عليك أنت، ولو مصمم وعايز تفضل عايش بجية حياتك بهاجس أسمه كامل يبجى خليك وراه وتبجى لا كسبت دنيا ولا أخرة.
تنفس أيوب بصوت مسموع وكعادتها معه مؤخرًا كلماتها تتسرب له لتنتشر كالمخدر أسفل جلده وتجعل شيطانه يسقط في غفوة اخرى طويلة !
هتف بكلمات تقطر حقدًا وهو يكز على أسنانه بقوة:
-بكرهه وهفضل أكرهه طول ما أنا عايش.
اومأت برأسها متابعة بعقلانية:
-ماجدرش أچبرك تحبه بعد اللي عمله فيك، بس حاول ماتعاملهوش وحش وماتبجاش عاق بيه عشان ربنا مايحاسبكش بس.
طال رده لدقائق غلفها الصمت، ثم اومأ برأسه على مضض بعدم اقتناع ولكنه سيحاول!
وغرام تعلم ذلك، ولكنها لم تصر أكثر بل منحته ابتسامة صغيرة حلوة، ليقترب منها غامزًا إياها بطرف عينه وهو يناغشها:
-طب إيه مش هناكل بسبوسة يا بسبوسة؟
ضحكت هذه المرة عاليًا قبل أن تقترب منه قليلًا بوجهها مرددة بشقاوة ونعومة تحمل دلال فطري:
-البسبوسة وصاحبتها ملكك وطوع يدك يا سي أيوب.
قبل أن تقترب منه وللمرة الأولى تأخذ هي المبادرة وتقبله بحب وشغف بعدما تعززت الشجاعة داخلها بمشاعرها الراضية بتأثيرها الواضح عليه، جذبها من خصرها نحوه وعاد ليتولى هو زمام القبلة بأخرى وأخرى أكثر شغف.. أكثر شراسة عاطفية وتطلب، لينصهر في شمسها الحارقة الشافية، وتنصهر هي في عشقٍ لم تعرفه سوى على يديه.
****
في المستشفى…
عادت “ليلى” لعملها كممرضة في المستشفى بعدما قررت مع ظافر ألا تعمل في احد المنازل مجددًا، وأيضًا لتكون دومًا بالقرب من “سالم” تتابـع حالته عن قرب وتطمئن عليه وتُطمئن ظافر الذي صار هاجسه وهوسه الوحيد العثور على الشخص الذي أذى جده، وربما ما يغذي هذا الهاجس هو الخوف من تكرار محاولته !
اتجهت ليلى لغرفة الطبيب المشرف والذي رشحها للعمل في منزل سالم العبادي “خلاف الآخر الذي يتابـع حالة سالم حاليًا “، وكان معها بضعة أوراق تخص العمل، ما أن كادت تطرق الباب حتى سمعت صوته الذي حاول كتمه وهو يهتف بانفعال واضح:
-يعني إيه؟ لا أنا ما يتلعبش معايا، أنا لو حسيت بس بالغدر هتلاجيني عندكم بجول لظافر كل حاچة وأعرفه مين اللي عمل كدا في چده وعليا وعلى اعدائي، أنا مچنون وأعملها.
صمت برهة وكأنه يسمع للطرف الآخر ثم تابـع بنبرة متوجة بالانتصار:
-ايوه كدا، الواحد يحط عجله في راسه ويعرف خلاصه، فلوسي تبجى عندي النهارده بليل وإلا أنا مش مسؤول عن اللي هيحصل بعد كدا، اللهم بلغت اللهم فاشهد.
كتمت ليلى شهقتها بيدها وهي تحاول الاستيعاب أن هذا الطبيب، الطبيب الذي لا يستحق كلمة طبيب الذي من المفترض أنه ينقذ الأرواح ويهبهم فرصة لحياة جديدة، متواطئ في محاولة سلب حياة شخص برئ !!
تحركت بتوتر تنوي المغادرة مسرعة قبل أن يتم كشفها لتخبر ظافر على الفور، ولكن حظها أعلن تخليه عنها حيث اصطدمت دون قصد بسلة القمامة الموضوعة خلفها فأصدرت ضجة تسببت في انتباه الآخر لها فسارع بالنهوض وفتح الباب ليرى مَن الذي يقف خلف الباب، وكانت ليلى قد تحركت تكاد تغادر
ولكنه رآها وهي تسير مسرعة في الرواق فأدرك دون عناء أنها هي، لذا أوقفها مسرعًا بحزم يناديها:
-ليلى !
توقفت مكانها، بل تجمدت وهي تفكر ماذا يفترض عليها أن تفعل الآن.. هل تركض هاربة ؟ ام تتوقف وترسم لوحة زائفة من الثبات والهدوء وكأنها لم تسمع شيء حتى لا يأخذ هو ومَن معه حذرهما ؟
حسمت أمرها واستدارت ببطء وهي تبتلع ريقها، لتواجه بوجه متصلب مجيبة:
-أيوه يا دوك ؟
أمرها بلهجة لا تقبل الجدال:
-تعالي على مكتبي عايزك ضروري.
لم تملك سوى أن تنصاع لأمره فاتجهت خلفه لمكتبه على مضض وهي تفكر بذعر داخلي… هل سيقتلها الآن كما في الأفلام ليخفي جريمته؟
انتبهت له حين سألها مباشرةً بجرأة لم تعرف كيف امتلكها في تلك اللحظات التي يجب أن يكون مرتبكًا بها :
-سمعتي إيه بالظبط؟
ضيقت عينيها تصطنع الجهل:
-مش فاهمة سمعت إيه في إيه؟
زجرها بنظرة محتدة رشقت بها كالسهم وبنبرة فظة:
-من غير لف ودوران كتير أحسنلك أنا شوفتك، جولي سمعتي إيه؟ سمعتي كل الكلام؟
هذه المرة صمتت ولم تنطق تريده أن يقع في فخ البوح دون شعور، ولكنه كان أذكى من ذلك حيث سلط حديثه المتراشق على دفتها هي:
-طب اسمعيني كويس، أنتي لو فكرتي تجولي لأي حد اللي سمعتيه هاوديكي في داهية، سامعة؟
رفعت حاجبيها معًا متسائلة باستخفاف:
-هاتوديني في داهية ازاي؟ هتطردني من الجنة دي يعني؟
هز رأسه نافيًا ببطء وبابتسامة خبيثة مستذئبة كان يخبرها:
-لأ الطرد حاليًا هيبجى هدية ليكي، أنا عايزك تعرفي بس إن الحجنة اللي بعتهالك، واللي أنتي لسه مدياها لسالم العبادي، دي مش تبع العلاج زي ما أنتي مفكرة، دي هتموته ببطء !
إتسعت عينيها وشعرت بأعصابها تنساب ببطء فزع كزبد البحر !
****
يتبع …….
وصلت “ليلى” أمام بيت سالم العبادي، ظلت تنظر للبيت مطولًا وأنفاسها تخرج ثقيلة مسموعة مُحملة بأفكارها التي تسممت منذ قليل على يد ذلك اللعين!
تحسست رقبتها أسفل حجابها وكأنها تود نزع ذلك الحبل الوهمي الغليظ الذي اختلقه ليخنقها به ببطء قاتل..
كيف ستخبر ظافر، او بمعنى أصح ماذا ستخبره؟ هل ستخبره ببساطة أنه مُحتمل أن تكون قاتلة جده ؟!
حتى لو لم يكن قتل عمد، ولكنه سيبني جسرًا لا يُهدم بينها وبين ظافر، حتى أنه لن يسامحها ابدًا مهما كانت المبررات، وسيحملها المسؤولية حتى وإن لم يعلن اتهامه!
ظلت تدور حول نفسها وأفكارها تواصل النهش في عقلها للتوصل لحل؛ ولكن إن لم تخبر ظافر سيعلم حتمًا بطريقةٍ ما وحينها لن يشك فقط بل سيتأكد أنها فعلت ذلك عمدًا وإلا ما كانت أخفت عنه.
تبًا لذلك الحقير الذي ألقاها في خندق الحيرة ليحرقها حرقًا وهي حية.
زفرت بصوتٍ مسموع وقبل أن تتخذ قرارها بشكلٍ نهائي كان ظافر يقطع حبل أفكارها حين وقف أمامها وهو خارج من البيت، وسألها متعجبًا:
-ليلى؟ واجفة هنا ومادخلتيش ليه؟
ابتلعت ريقها بتوتر ثم ردت:
-كنت لسه داخلة اهوه، عايزة أتكلم معاك.
هز رأسه موافقًا وهو يشير لها بهدوء:
-طب تعالي نتكلم جوه، أكيد مش هنتكلم في الشارع كدا.
اومأت برأسها هي الاخرى ثم سارت خلفه ليدلفا للداخل وهي تحاول تنظيم كلماتها ولكنها كانت مبعثرة بدرجة غير مسبوقة.
وبالفعل وصلا للغرفة التي يعمل بها، جلس أولًا ثم أشار لها متابعًا بشيء من التوجس:
-اجعدي واحكيلي في إيه؟ وشك مخطوف جلجتيني.
بللت شفتيها والتوتر لا زال يصفع كل ما تحاول لملمته من ثباتها، ثم خرج صوتها أخيرًا متحشرج نوعًا ما من فرط التوتر:
-أنا هاحكيلك بس اوعدني إنك تسمعني وتفهمني.
رمقها بنظرات حذرة وهو يستفسر:
-ما تجولي من غير مقدمات يا ليلى أنتي كدا بتجلجيني أكتر.
راحت تقص على مسامعه كل ما حدث في غرفة ذلك الطبيب، وظل ظافر متصلبًا مكانه وكأنما أُلقيت عليه تعويذة ليصبح صوانًا صلدًا !
كسر الحاجز الحجري الذي غلفه كليًا ليسألها دون استيعاب وهو يرمش بأهدابه عدة مرات:
-چدي مات؟
هزت رأسها نافية بسرعة وردت عفويًا:
-لأ لسه.
ثم عضت على شفتيها بعنف توبخ نفسها دون صوت على بلاهتها، و فجأة انفجرت القنبلة الساكنة التي كانت تحويها ضلوع ظافر، حيث نهض مزمجرًا يدمر كل شيء أمامه بجنون:
-يعني أنا چدي هيموت؟ طب لييييه، عايز منه إيه ومين من مصلحته إن چدي يموت أصلًا، هما بيعملوا كدا ليه.
صمت برهة لاهثًا وهو يردد لنفسه بكلماتٍ تقطر ذهولًا:
-الكلب دا هيموته وأنتي….
قطع كلماته وهو يستدير نحوها بعينين محمرتين تقدحان شررًا مشتعلًا غاضبًا بجنون، ثم واصل ببطء وكأنه يُملي تلك الكلمات على عقله الذي يرفض تصديقها:
-وأنتي اللي ادتيله الحجنة وسيبتيه هناك يموته؟!
هزت رأسها نافية بهلع وهي تدافع عن نفسها:
-لأ طبعًا أنا چيت عشان أجولك جبل ما تعرف من حد تاني و…..
قاطعًا هادرًا بعنف وهو يقترب منها خطوة:
-إيه الأنانية دي، أنتي ازاي ممرضة؟ سايبة المريض اللي أنتي عارفة إنه ممكن يتجتل وچايه هنا تجوليلي جبل ما حد تاني يجولي، ومش مهم هو يموت المهم إنك تبرأي نفسك؟!
ثم تحرك مسرعًا ليغادر الغرفة وهو يتشدق من بين أسنانه بتوعد شرس:
-وديني لأجتله وأشرب من دمه الكلب ابن ال****.
هم بفتح الباب ولكن ليلى تداركت صدمة اتهامه وأسرعت نحوه لتغلق الباب مرة أخرى بعنف ثم أسندت ظهرها عليه لتمنعه من الخروج، وهزت رأسها نافية
تقول بصوت أجش:
-أنا مش أنانية وماسيبتهوش يموت، أنا بلغت الدكتور المشرف على حالته إن في حد شغال في المستشفى حاول يموته واداله حجنة وهو جالي إنه ملاحظش أي تغيير ولو بسيط في حالته وإنه مع ذلك هيعمله التحاليل والفحوصات اللازمة ومش هيخلي حد من الممرضات يديله حاچة لحد ما نشوف نهاية الموضوع دا وهو هيديه بنفسه العلاچ.
إن ظنت أن سعير الغضب في عينيه سيهدأ فهي خاطئة، حيث واصل بنبرة تفيض شكًا وقلقًا:
-وأنتي إيش ضمنك إن الدكتور دا نفسه ما يكونش مع ال**** التاني، ما كلهم ولاد ستين كلب مچرمين.
إتسعت عيناها ذهولًا من المنحدر الذي اتخذته أفكاره، وسارعت تحاول تصحيح مسارها:
-لا طبعًا أنت ازاي تفكر كدا، دكتور عادل محترم وبيخاف ربنا، وماتنساش إن هو اللي جالك إن في مادة في دمه هي اللي اتسببت بكدا وإن حد بدل الدوا، لو هو فعلًا مچرم كان هيخبي عنك لحد ما تتفاجئ بچدك ميت فعلًا.
كان صوت أنفاسه عالي كدلالة على محاولته الفاشلة في خبت نيران الغضب، فجذبها من ذراعها بقوة وهو يهدر بشراسة ووعيد:
-ابعدي من جدامي، لازم أتطمن عليه وأجتل ال**** اللي عايز يموته وأعرف مين خلاه يعمل كدا.
ولكنها هزت رأسها نافية بعناد وهي تتشبث بالباب بكل قوتها لتمنعه من المغادرة:
-اتصل بالدكتور واتطمن، لكن مش هاسيبك تروحله وأنت بالمنظر دا، لازم تهدى الأول عشان ماتعملش حاچة في لحظة غضب تندم عليها باجي عمرك.
كز على أسنانه بعنف حتى سمعت صكيكها العالي، ثم حذرها بخشونة حادة:
-ابعدي يا ليلى عشان فعلًا هعمل حاچة نندم عليها.
نظرت له للحظات معدودة، ثم استدارت مسرعة لتغلق الباب بالمفتاح الذي كان فيه، وأخذت المفتاح لتضعه في ملابسها، مؤكدة بصرامة:
-جولتلك مش هتخرچ من هنا إلا لما تهدى.
صرخ فيها آمرًا بغلاظة:
-هاتي المفتاح حالًا.
هزت رأسها نافية وهي تضغط على المفتاح بين ملابسها، فكرر من جديد بصوت عالي أكثر حدة:
-جولت هاتي المفتاح حالًا وإلا هاخده بطريجتي وساعتها ماتلوميش إلا نفسك.
نفت برأسها مرة أخرى وهي تقول بنبرة فاترة صلبة:
-لأ مش هاديهولك ولو جربت مني هصوت والمرادي مش هسامحك أبدًا.
حينها صرخ فيها بعنف لدرجة أنها شعرت بصراخه كالشظايا ينغرز بوجهها:
-يعني أنتي عايزاني أجعد هنا چمبك زي الحريم وأسيب چدي عند ابن الكلب دا عشان يموته وأفضل أتفرچ لحد ما يچيلي خبره.
تنهدت بقوة قبل أن تعيد كلماتها بصبر:
-لأ، هو فيه الروح وأحنا فينا الروح يا عالم مين يموت جبل مين كل واحد له ساعة، وجولتلك أتصل بالدكتور اتطمن عليه، لكن لما تروح تجتل الكلب التاني وتودي نفسك في داهية هتفيد چدك بإيه كدا ؟ بالعكس أنت هتضره لو فاج وعرف إن حفيده الوحيد اتسجن عشانه وضيع مستجبله.
ضرب الباب بقدمه بكل قوته وهو يهدر بأعصاب انفلتت تمامًا:
-لا يصحى يجول حفيدي زيه زي الحريم ماعرفش مين عمل فيا كدا ولا چابلي حجي.
أخبرته بإصرار وهي تغوص في عمق عينيه السواودتين المحترقتين وكأنه تمده بطاقة غير ملموسة من نبع الشيكولاتة في عينيها:
-لأ هاتچيب حجه، بس بالعجل مش بالعصبية اللي مش بتضر غير صاحبها، اهدى عشان تتصرف صح وتچيبله حجه من غير ما تضر نفسك.
بدأ ظافر يتنفس بصوتٍ عالي غير قادر على قطع وصال عينيها التي يعشق خاصةً وهي تحدق فيه بتلك الطريقة وكأنه أثمن شيء على وجه الأرض وتأبى أن يُلطخ بسوادها.
فتابعت ليلى بينما تقترب منه ببطء حتى صارت أمامه مباشرة، لتحيط وجهه بيديها تداعب بحنان لحيته النامية ووجنته السمراء، هامسة بخفوت دافئ:
-ماعنديش استعداد أخسرك بعد ما لاجيتك، أنت بطل قصتي اللي كان في خيالي وظهرلي أخيرًا على أرض الواقع، وأنا طول عمري بكره النهايات الحزينة، ممكن ماتسيبش بطلتك يا بطلي؟
ضغط على يديها بيده وهو يغمغم بصوت خشن متحشرج:
-أنا هموت لو چدي چراله حاچة يا ليلى، هموت، هو ليه حرام أعيش في هدوء ؟ ليه مستكترين عليا الراحة النفسية؟
استرسلت همسها الحاني تداعب ألامه بقولها:
-يمكن عشان ربنا لو حب عبده بيبتليه؟
ولكنه همس باختناق وانهزام:
-بس أنا تعبت، تعبت من چو المؤمرات اللي لجيت نفسي فيه فچأة وچدي بين الحياة والموت.
احتضنته حينها بقوة تحيطه بذراعيها تمنحه الدفء الذي ربما يداوي قلبه الذي أثلجته الهموم، وأحاطها خصرها هو بقوة يضمها له واضعًا رأسه عند رقبتها يسحب عطرها الحلو لرئتيه، كل شيء فيها حلو ودافئ بطريقة خيالية رائعة، هي مَن تُعيد ترميم ما هُدم منه، هي فقط.
ثم ابتعدع ليلى قليلًا ولكنها ظلت بين ذراعيه، ورفعت نفسها قليلًا لتُقبل وجنته فخدشتها برقة لحيته النامية لتمتم بدلال تريد اخراجه من طور تلك الحالة:
-دجنك خشنة چدًا شكتني.
فرفع ظافر حاجبيه مبتسمًا ببطء:
-بچد؟
ثم داعب نعومة وجنتها بخشونة وجنته وذقنه وهو يستطرد بخشونة أضفت لها العاطفة رنين خاص في اذنيها:
-هي اللي خشنة ولا خدودك اللي ناعمة جوي، ناعمة وچميلة لدرجة إنها بتغريني عشان أكلها يا شيكولاتة.
ثم نفذ ما قال وراح يقضم وجنتها برفق بأسنانه لتضحك ليلى وهي تبعده عنها بتدلل وشاركها هو الضحك قبل أن يتفوه بنبرة رجولية تهيم عشقًا:
-أنتي بطلتي اللي خطفتني و ماجدرش أستغنى عنها، بس ما طلعتيش من خيالي، طلعتي من أحلامي، أحلامي اللي لشهور ماكنش فيها غيرك.
*****
بعد فترة، في منتصف الليل…
كان ذلك الطبيب الحقير “عزت” يسير بخطى مسرعة نحو منزله، يزرع الارض بتوتره وهو ينظر يمينًا ويسارًا ليتأكد من عدم تواجد أي شخص بينما يحتضن حقيبة سوداء بين ذراعيه بقوة وحرص، وصل أخيرًا أمام منزله وما أن وصل أمام منزله بالفعل وهم بإخراج مفتاحه ليدخل، حتى وجد مَن يقبضا على كتفيه من الجهتين، نظر نحوهما بفزع ليجدهما رجلان مفتولان العضلات بملامح خشنة تصرخ بالتأهب الإجرامي.
سألهما بحروف متهزة حاول أن تفضح خوفه:
-إيه في؟ أنتوا مين وعايزين مني إيه؟
قال احدهما بهدوء تام غامض:
-ظافر بيه عايز يدردش معاك شوية.
وقبل أن يبدي أي رد فعل كان الآخر يضربه على رأسه بقوة جعلته يفقد الوعي على الفور، ثم انحنى ليحمل الحقيبة على كتفه، وتعاونا معًا على حمل عزت للسيارة التي تنتظرهما.
وصلا بعد قليل للمكان المنشود البعيد عن السكن البشري، تحديدًا في مخزن يملكه ظافر العبادي، بدأ عزت يستفيق ببطء سرعان ما تحول لهلع عارم حين أدرك أين هو ورأى أمامه “ظافر العبادي” الذي انحنى بهدوء وبطء ليفتح الحقيبة التي كانت بين يدي عزت، فصرخ عزت فيه مسرعًا:
-سيب شنطتي يا حرامي أنت هتعمل إيه وعايز مني إيه؟
تأكد شك ظافر حين رأى بها الأموال، فرفع عيناه نحوه وسأله بهسيس خافت ولكنه حاد كطرف شفرة:
-دي الفلوس اللي جبضتها عشان تجتل چدي؟
فسارع الآخر بهز رأسه نفيًا وهو يردد بتلعثم:
-چدك؟ أنا ماعرفش إيه اللي أنت بتجوله دا وماعرفش حاچة عن چدك ولا ليا دعوة بيه أصلًا.
عاجلته لكمة عنيفة من الرجل الواقف جواره كتنبيه صغير جدًا لوقف الكذب، بصق الدماء من فمه وهو يغمغم بنبرة أرادها حادة مهددة:
-هتندم والله هتندم على اللي بتعمله دا، أنت مفكر نفسك مين؟ أنا دكتور كد الدنيا والدنيا هتتجلب عليك لما يعرفوا اللي أنت عملته دا.
ضحك ظافر بسخرية وبهدوء مخيف فعليًا كان يسأله:
-أنت چايب الثقة دي منين إنك هتخرج من هنا أصلًا؟
ثم اقترب منه ببطء قاصدًا اثارة الرعب في نفسه المرتعدة أصلًا، ثم قرب وجهه منه وقال من بين أسنانه بوعيد مُزلزل:
-أنا هادفنك هنا ومش هيلاجوا ليك جبر حتى يزوروك فيه يا بن الكلب يا **** يا مچرم، عشان ماتفركش تيچي چمب أسيادك تاني.
راح يدافع عن نفسه بذعر:
-صدجني أنا ماعملتهوش حاچة، والله ما عملتله حاچة.
تلقى لكمة جديدة أعنف من سابقتها، ثم جذبه ظافر من رقبته نحوه بعنف متعمد وهو يزمجر فيه:
-برضو مصمم على الكدب؟ امال إيه الحجنة اللي خدها واتچرأت وهددت مرتي بيها ؟ ودي لسه حسابها حاچة تانية.
ما أن استدرك عما يتحدث حتى قال بلهفة صادقة هذه المرة:
-كنت بخوفها بس والله عشان تسكت، لكن هو ماخدش أي حاچة مضرة بدليل إنه لسه كويس لحد دلوجتي، أنا كنت عايز أكسب وجت بس لحد ما أخد فلوسي.
كلماته التي ظن أنه يُبرئ نفسه بها أشعلت فتيل الغضب الذي كان ظافر يخمده بإرادة حديدية، فانقض عليه يضربه بعشوائية في جسده في أي مكان تقع عليه يده وهو يصيح فيه بشراسة:
-فلوسك على حساب حياة چدي يا ****، حشرة زيك عايزة تجتل چدي؟
غمغم لاهثًا بألم من بين تأوهاته المتألمة:
-أنا ماعملتش حاچة، والله ما عملت حاچة، أنا اديتها الدوا “الدواء” بس.
توقف ظافر لاهثًا يلتقط أنفاسه، ثم سأله بحروف شديدة اللهجة مخيفة لا تقبل الجدال:
-هي مين؟ مين اللي خد منك الدوا دا وبدل دوا چدي؟
ابتلعت عزت ريقه بصعوبة ثم نطق بصوت شاحب:
-راوية مرت عمك.
أجفلت ملامح ظافر وكلماته تدوي كالقنبلة بعقله دون أن يجد القدرة على استيعابها؛ انتابه الشك تجاهها كثيرًا وهو يفكر مَن مم الممكن أن يفعل ذلك، ولكنه
كان في كل مرة يطرد شكه خارج جدران عقله مرددًا لنفسه أنها تكرهه هو ولا تطيق وجوده ولكن جده لا، لن يصل الأمر لقتل جده، فلماذا تقتله أصلًا وهي تعيش بمنزله وأمواله هانئة ؟
استعاد السيطرة على بقاع ملامحه سريعًا لتعود ضبابية محاطة بألسنة النيران وهو يأمر الرجلان:
-أدبوه وبعدين اطلعوا بيه على البوليس بالڤيديو اللي صورتوه له دلوجتي.
ثم غادر كالعاصفة تاركًا خلفه عزت الذي أخذ ينوح على انهيار حياته وأحلامه وكل ما كان يطمح له.
****
وصل لبيتهم كالعاصفة التي على أتم استعداد لتقتلع كل ما يقابلها، كان صوته يزلزل ارجاء البيت وهو يصرخ مناديًا وحالة من الجنون تنتابه:
-راوية يا راوية، أنتي فيييين؟
أتى على صوته عمه وخلفه زوجته “راوية” ثم راح يعنفه بحدة وصرامة:
-إيه في ؟ وطي صوتك، ومن أنتى وهي أسمها راوية بس يابن أخويا يا محترم؟
هدر بصوت غليظ دون أن يهتز له رمش:
-من النهارده، وأنا عشان ابن أخوك ومحترم مش عايز أجول أسوء من كدا.
تدخلت راوية تسأله بملامح ممتعضة ونبرة أجشة:
-إيه في؟ عامل دوشة ليه خير إن شاء الله ؟ ولا هو خلاص اللي كان حاكمك ومخلي صوتك واطي مش موچود.
اقترب منهما ببطء وهو يهز رأسه متسائلًا بابتسامة خالية من المرح ولهجة ذات مغزى:
-اه تجصدي چدي اللي أنتي كنتي عايزة تجتليه؟
بلحظة هُدمت صلابتها لتبقى فقط انقاض ملامحها التي تهاوى فوقها رعبها، وراحت تغمغم بفزع مبطن:
-أجتله؟ إيه اللي أنت بتجوله دا أنت اتچنيت ياك؟
فيما هدر فيه عمه هو الآخر بعينين متسعتين ذاهلتين:
-ظافر !!
-أنا اتچنيت صح لما ماعرفتش من اول دجيجة إن أنتي اللي بدلتي العلاچ بتاعه، أنتي الحية اللي جاعدة وسطينا عشان تلدغنا من غير ما نحس بيها.
زمجر فيها بشراسة كالليث، فانكمشت ملامحها تلقائيًا قبل أن يعلو صوتها في مواجهته:
-احترم نفسك يا جليل الرباية، أنت شكلك خلاص مابجتش مستوعب أنت بتجول عليه وعايز تلزج فيا أي مصيبة وخلاص، أنا مستحيل أعمل كدا في عمي.
قال عمه بخشونة يحذره بنبرة عصف بها الغضب:
-لو طلع في الأخر اتهامك دا في الهوا يا ظافر، صدجني هتشوف مني وش تاني مش هيعچبك والمرادي أنا هوجفلك لإن دي مرتي، يعني مرت عمك لو نسيت، يعني سُمعتها من سُمعتي.
هز ظافر رأسه بلا مبالاة ثم أردف بنبرة ذات مغزى:
-صدجني او ماتصدجنيش يا عمي، كدا كدا أنا بلغت البوليس وفي ڤيديو للدكتور وهو بيعترف إن هي اللي عملت كدا.
ضربت راوية صدرها بهلع وهي تردد بعدم تصديق وفزع:
-إيه! بلغت البوليس!؟ بلغت عن مرت عمك يا ظافر ؟
رمقها ظافر بنظرات تقطر اشمئزازًا، فيما استدار نحوها عمه الذي كان مبهوتًا أمام ملامحها التي حكت فزعها وعدم نفيها واللذان لا معنى لهما سوى شيء واحد؛ أن ظافر مُحق !
في حركة غير متوقعة كانت صفعة عنيفة تسقط على وجنتها حتى أوقعتها أرضًا، ثم جذبها من حجابها بعنف صارخًا فيها بعدم تصديق :
-عايزة تموتي أبويا يا راوية؟ أبويا أنا اللي كنتي عايشة في بيته وخيره يا بنت الكلب يا فاجرة.
ثم توالت الصفعات على وجهها وسط صراخها وبكائها وهي تحاول الدفاع عن نفسها وهي تهذي:
-عملت كدا عشانك، عشان تاخد حجك في فلوسه وخيره دا بدل ما أنت عايش مجرد ظل لابن أخوك.
ولم يكلف ظافر نفسه عناء ابعاده عنها او النطق بحرف، فربما يُشفي قليلًا من غليله بضربها كما لم يستطع هو أن يفعل، ثم غادر بكل هدوء ونفس راضية، وأخر ما سمعه كان صراخ عمه الجريح:
-أنتي طالج، طالج طالج بالتلاتة، خليكي تعفني في السچن يا ****.
****
بعد فترة…
عاد أيوب لمنزله بخطى بطيئة مُثقلة.. وبقلب جريح مُحاط بضباب غليظ كونته مشاعر شتى من الألم.. الارتياح.. والندم!
طرق باب منزله ببطء لتفتح له غرام الباب، وما أن ترآى لها وجه الشاحب حتى استعلمت بتوجس:
-إيه في يا أيوب؟ مالك؟
خرج صوته جاف خاوٍ من أي مشاعر:
-أنا بلغت عن كامل إنه سرجني وحاول يجتلني وسلمت الفيديوهات اللي في الكاميرا و…..
صمت فسقط قلب غرام أرضًا وهي تسأله:
-وإيه يا أيوب؟
طال صمته فأحست أن القادم كارثة لا محال، كارثة ستحل حتمًا فوق رأسها هي… كارثة متمثلة في كابوس تواجدها خلف القضبان متهمة بجريمة لم ترتكبها، ولكن ذلك لم يصدمها، أكثر ما أثار فزعها وصدمتها فعليًا هو أن أيوب يُعتبر مَن سلمها لهم على طبق من ذهب ليجدوا أخيرًا متهم في تلك القضية !
****
يتبع …….
تحرك أيوب للداخل بنفس البطء الثقيل الذي يثير التوجس والقلق في النفوس، حتى جلس على الأريكة بل ارتمى بجسده فوقها، جلست غرام جواره وهي تسأله من جديد وعيناها ترجو اجابة واحدة من حرفين:
-بعد ما بلغت عن كامل هو بلغ عني واتهمني صح؟
-كامل مات.
أخيرًا استطاع لفظها خارج حدود شفتيها التي عجزت لدقائق طويلة عن التملص من أسفل حجر الصدمة الثقيل جدًا، ما أن تلفظ بها حتى نظر لها مذهولًا وكأنه
يتأكد مما نطق به لسانه وأبى عقله تصديقه، ليقرأ ذهولًا وصدمة ملامحه في صفحة وجهها، ثم خرجت غمغمتها بطيئة غير مستوعبة:
-إيه! مات ؟ مات ازاي وامتى؟!
-النهارده، بعد ما بلغت عنه من 3 أيام الظابط طبعًا فضل يدور عليه وفكرناه هرب، لكن النهارده بلغني إنه اتجتل.
رد بعد صمت دام لدقائق اخرى بشحوب وخفوت، والاجابة عن اسئلتها والحديث في هذا الموضوع كان يستهلك أقصى طاقة يمتلكها، بل كلما نطق بها يكتوي لسانه وكأنها جمر حارق.
شهقت غرام بفزع وهي تحيط فمها بكفها في حركة عفوية، مرددة خلفه كصدى لصدمته:
-اتجتل ازاي! مين اللي جتله وليه؟
هز كتفاه معًا بقلة حيلة مجيبًا بشرود وعيناه مُسلطة على الفراغ أمامه:
-ماعرفش مين.
صمت برهة ثم نطق بصوت أقرب للهمس وقلبه ينتفض بعنف رغمًا عنه وهو ينطقها:
-لاجوه متجطع في اكياس ومرمي في ترعة وفي الزبالة.
-إيه! يا نهار اسود، لا حول ولا قوة إلا بالله .
رددتها غرام بلسان شديد الثقل وكأن الصدمة خدرته تمامًا، فيما ابتلع أيوب ريقه يشعر بدمعة حارقة في عينيه يحبسها بقرار صارم من عقر ماضيه الأسود، ثم أضاف بنفس الهمس المختنق:
-بس أنا مش زعلان، هو مايستحجش إني أزعل عليه، صح يا غرام؟ هو عمره ما عملي حاچة حلوة عشان أزعل عليه.
اومأت غرام برأسها هامسة برقة حانية وهي تقبل عينيه القابضة على الدموع وكأنها تعطها مفتاح الإفراج:
-صح يا حبيب غرام، بس أنت زعلان عشان أنت انسان، انسان بتحس وبتتأثر غصب عنك مهما كان الشخص وحش، ولو كان حد غريب كنت هتزعل عليه برضو، فما بالك بأبوك.
فرت تلك الدمعة الحبيسة في استجابة فورية لقبلتها الحانية التي ربتت بها على جروحه، ليأخذ أيوب شهيقًا عاليًا قبل أن يغمغم:
-دا حتى يوم ما أمي ماتت ماسابنيش أزعل او أعيط عليها، خلاني مسحت البيت ومانزلتش العزا بتاعها، وخلاني جلعت هدومي وفضل يضربني بالحزام ودلج المايه عليا في عز البرد.
ثم إلتوت شفتاه بسخرية وهو يضيف بحرقة:
-اه أنا ازاي أعيط بانهيار في عزا أمي، أنا كدا مش راچل وماستحجش أكون ابنه ولازم أبجى زي الحريم ودوري زيهم أنضف وأمسح بس ومانزلش العزا مع الرچالة.
احتضنت كفه بين كفيها وهي تهتف بإصرار ونبرة حمائية كأم تدافع عن طفلها:
-أنت راچل وسيد الرچالة كلهم، وربنا كان بيختبرك بأب جاسي كدا، وأنا متأكدة إنه هيعوض صبرك خير.
لم يجيبها بشيء، ظل صامتًا شاحبًا.. لا يدري بماذا يشعر تحديدًا، هو ليس منهار من الحزن، وليس سعيد او مرتاح بموته، ولكنه يشعر بالحرية؛ يشعر أن طير الحقد الذي كان محبوسًا في قفصه الصدري خرج محلقًا بحرية.
انتبه على همهمتها الرقيقة التي تحمل شجنًا وهي تسأله متحسسة خصلاته السوداء بحنان:
-أيوب أنت كويس؟
اومأ مؤكدًا برأسه، ثم انحنى وتمدد بجسده على الأريكة واضعًا رأسه فوق قدميها، ثم أمسك يدها ووضعها فوق قلبه محيطًا إياها بكفه العريض، هامسًا بصوت متحشرج يصرخ بالاحتياج:
-خليكي چمبي وأنا هبجى كويس.
انحنت مقبلة قمة رأسه بحنان وحب عميق، ثم أكدت بخفوت وانتماء هتفت به كل خلية فيها:
-هفضل طول عمري چمبك، أنا أصلًا مليش مكان تاني أروحله إلا حضنك؛ هو دا بيتي ومكاني الوحيد.
لم تكذب، فلم يكن الوطن يومًا مجرد جماد او مكان، بل الوطن؛ شخص، شخص نحتمي بين جدران أحضانه من غدر الدنيا ومصائبها.
****
قبل ذلك الوقت بفترة؛ تحديدًا قبل أربعة أيام.. يوم مقتل “كامل العماري”….
خرج كامل من ذلك المكان الأشبه بـ “كازينو” الذي كان يلعب به “القمار” دومًا مع معارف وأصدقاء السوء، فبعد أن سرق تلك الأموال من أيوب قرر أن أول شيء سيفعله بها أن يلعب القمار ليكسب أضعافها، فإن حدث شيء ما واستعاد أيوب أمواله يكون هو جنى أضعافها..
لوح لأحد اصدقائه الذي خرج هو الآخر، وصاح بمرح:
-يلا اشوفكم يوم تاني وأخسركم تاني.
ثم غادر وهو يضحك متحسسًا جيب جلبابه عند صدره بانتشاء وسعادة بعد أن كسب بالفعل أكثر من جولة وجنى مبلغ لا بأس به من الأموال، اتجه نحو منزله وقد كان الوقت قد تعدى منتصف الليل، كان يسير في شارع مظلم نوعًا ما لا يسير فيه شخص في هذا الوقت، ليجد مَن أوقفه مناديًا بحدة:
-كامل.
استدار ليجده احد معارف السوء الذي لم يجمعه معهم يومًا سوى كل فساد، وقد كان ممَن كان يلعب معهم القمار منذ قليل، عقد ما بين حاجبيه بتعجب وهو يستفسر:
-إيه في يا ثروت؟
اقترب منه “ثروت” حتى وقف أمامه ثم قال آمرًا بصوت أجش وملامح مقتضبة:
-هات فلوسي.
لوى كامل شفتيه متهكمًا وصاح باستنكار جم:
-نعم ياخويا؟ فلوسك دا إيه، أنت خسرتها وأنا كسبتها خلاص بجت فلوسي أنا.
أطلقت عينا ثروت شرًا صريحًا وهو يزجره بصوت غليظ:
-بجولك هات فلوسي أحسنلك.
دفعه كامل بعيدًا عنه بقوة وهو يهدر فيه بغلاظة مماثلة تأصلت في كليهما:
-اوعى كدا بلا فلوسك بلا زفت ملكش عندي فلوس، لما أنت مش كد اللعب برچولة بتلعب ليه يالا؟
مد ثروت يده على جيب جلبابه كعلامة تهديد وهو يحذره بعينين يطل منهما شيطان على أتم الاستعداد لارتكاب كل الجرائم:
-اديني فلوسي أحسنلك وإلا…
قطع كلماته عمدًا ليثير قلق كامل، ولكن الآخر لم يتأثر بل أطلق ضحكة قصيرة ساخرة قبل أن يستدير ليغادر وهو يقول ببرود:
-جولتلك ملكش عندي فلوس وأعلى ما في خيلك اركبه.
لم يكد يبتعد عدة خطوات حتى شعر فجأة بطعنة غادرة قاتلة من “ثروت” التي تحرك خلفه مسرعًا وطعنه بالمطواة بعنف وغل شديد، حتى سقط كامل أرضًا وهو ينزف ناظرًا لثروت الواقف أعلاه بذهول شاعرًا بالألم يمزقه، فمال ثروت عليه وطعنه مرة اخرى بجنون وهو يتشدق بلا وعي وبدا عليه أنه ليس في كامل وعيه:
-جولتلك اديني فلوسي أحسنلك بس أنت طماع و**** وتستاهل.
صدر عن كامل خرير مختنق وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، لو أخبره أحدهم ذات يوم أنه سيُقتل غدرًا على يد مَن شاركهم السوء والفسوق يومًا لما صدق ابدًا، شريط
حياته مر أمام عينيه سريعًا وتخيل الكثير من الشامتين!
غمغم بصوت يكاد يسمع وحروف متقطعة:
-إلـ…حـجني، همـ…وت.
ولكن الآخر لم يبدو عليه التأثر او الفزع بل استدار ليغادر بعد أن أخذ الأموال كلها من جيب كامل، وما أن سار بضع خطوات حتى توقف مرة اخرى وهو يفكر؛ إن تركه الآن هكذا سيتم القبض عليه بالتأكيد وسيقضي المتبقي من عمره بالسجن.
راح يفكر لدقائق معدودة، قبل أن يعود ويحمل “كامل” الذي كان قد غادرت روحه السوداء البشعة جسده لتتركه مجرد جثمان بالي ليس له قيمة سوى أنه سيشهد يوم القيامة على صاحبه الذي لم يرتكب سوى كل سيء ومُحرم!
وصل به ثروت لمكان بعيد خالي من البشر، وأحضر “ساطور” مقررًا تقطيع جسده ورميه في أكياس بلاستيكية سوداء ورميه في أماكن متفرقة كالترعة وصندوق القمامة حتى لا يجد جثمانه أي شخص ولا يعلم عن جريمته شيء.
وبالفعل نفذ ما أراده، وقد كتب “كامل” نهايته بنفسه يوم سلم نفسه للشيطان ليتحكم بها ويعيث في حياة مَن حوله فسادًا، تحديدًا يوم قتل زوجته السابقة “هويدا”، فأتت العدالة الالهية بقتله هو الآخر، ” فمَن قتل يُقتل ولو بعد حين “.
****
بعد مرور أربعة أشهر…
يوم زفاف ” ظافر و ليلى “….
اليوم الذي طال انتظاره لـ ليلى وظافر، رغم أن ظافر كان يتمنى أن يُقيم زفافه في حضور جده ولكن للقدر أحكام اخرى، فجده لم يستفق بعد من الغيبوبة ولا يعلم إذا كان سيستفيق منها ام لا ولكنه لن ييأس، سيظل محافظًا على شمعة الأمل داخله حتى لا تنطفئ ابدًا..
تحديدًا في منزل “أيوب العماري”، كانت “غرام” تقف أمام المرآة تتفحص مظهرها الانثوي الجميل برضا تام؛ بدءًا من حجابها الأحمر الذي تناسب مع فستانها الأحمر والذي كان رائع المظهر، ذو أكمام شفافة نوعًا ما وأسفلها مغطى بالطبع، وعند الصدر كالريش الناعم الذي جعلها تبدو كفراشة رقيقة، ضيق قليلًا عند الخصر وما بعده ثم واسع في الأسفل وله ذيل كبير نوعًا ما من الخلف، ووضعت بعض مساحيق التجميل التي زادت جمال ملامحها البيضاء الرقيقة.
دلف “أيوب” للغرفة ليُطالعها بعينين متوهجتين بالإعجاب الصارخ والشغف، فهذه الجميلة قلبًا وقالبًا زوجته، مكافئته التي وهبتها له الحياة بعد تحمله سنوات من الشقاء !
اقترب منها ببطء فسألته بدلال وهي تدور أمامه تستعرض نفسها:
-إيه رأيك؟
اقترب منها أكثر حتى صار على بُعد إنشات قليلة منها، وهتف بخشونة تتدفق بالعاطفة:
– الصمت في حَرَم الجمال جمال يا غرامي.
ابتسمت وهي تشعر بالسعادة تغزوها كليًا وانوثتها تنتشي باطرائه الذي لا يتكرر كثيرًا، سعادة لم تظن يومًا أنها قد تتذوقها وعلى يد مَن؟ على يد مَن ظنت أنها لن تذوق على يده سوى المرار والألم، ولكن صدق مَن قال ” ما محبة إلا بعد عداوة” .
انتبهت لأيوب الذي جذبها من خصرها له بعنف حتى اصطدمت بصدره العريض ثم قال بصوتٍ أجش وسوداوتاه تحترق بالغيرة:
-هو أنا مش جولتلك ماتحطيش أي حاچة على وشك؟
عقدت ما بين حاجبيها وضيقت عيناها وهي تهمس له برقة كالقطة:
-دي حاچة بسيطة چدًا وروچ بس.
جذبها له أكثر ضاغطًا على خصرها وهو يردد بنبرته الرجولية المتقدة بالتملك:
-ولا أي حاچة، مش مسموح لحد يشوفك حلوة غيري، أنتي ليا أنا بس!
تأوهت غرام مصطنعة الألم وهي تردد بدلال محيطة بطنها قاصدة حركته القوية وهو يجذبها ولكنه لم يلحظ حركتها الأخيرة:
-لا كله إلا حبيبي.
احتدم الظلام في عينيه حتى بدت كـ ليل يشتعل به حريق لاهب، ثم شدد على خصرها من جديد متسائلًا من بين أسنانه:
-حبيبك؟ حبيبك مين؟!
أمسكت بيده برفق واضعة إياها فوق بطنها وهي تؤكد بنعومة وعيناها تغوص في عينيه :
-ايوه حبيبي وروحي، دا.
للحظات شعرت باضطرابه الملحوظ والاشارات تتداخل في عقله، ثم أردف ببلاهة:
-مش فاهم، أنتي حامل؟
اومأت غرام بحماس وسعادة وابتسامة واسعة تقطر فرحة ترتسم على ثغرها، فأخذ أيوب ثوانٍ عديدة قبل أن تنتقل له الضحكة تلقائيًا وهو يسألها مرة اخرى بعدم تصديق:
-أنتي حامل بجد يا غرام؟
عادت لتومئ من جديد دون ملل مؤكدة:
-أيوه حامل يا حبيب غرام، ابني التاني هيشرف بعد 8 شهور.
ثم رفعت يدها محيطة وجهه تتحسس وجنته الخشنة بحنان هامسة وعيناها تغيم بمشاعر تتضاعف يومًا بعد يوم لهذا الرجل:
-عشان أنت هتفضل دايمًا ابني الأول.
فاجأها حين عقد ما بين حاجبيه بانزعاج بدا لها طفولي بعض الشيء نبع من تملكه:
-بس هيشاركني فيكي وفي حبك وحنانك!
ضحكت غرام عاليًا وهي تحتضنه بقوة تغمره بين ذراعيها مرددة من بين ضحكاتها بحب:
-مكانتك عندي محدش يجدر يمسها، أنا فرحانة عشان هو منك أنت، عشان هنكون العيلة اللي اتحرمنا منها ومن دفاها، وأنت هتعوض أيوب اللي اتحرم من طفولته بدري.
اومأ أيوب مؤكدًا برأسه وهو يشدد من احتضانها، قائلًا بعزم والحماس يندلع في عينيه:
-ايوه، هخلي أطفال البلد كلهم يغيروا منه، دا يامن أيوب العماري!
****
بعد فترة…
بدأ حفل الزفاف في احدى القاعات الفخمة، كان “ظافر” في أوج سعادته، فالليلة يُعلن للجميع أن نبع الشيكولاتة خاصته، أميرة أحلامه ومعذبته صارت ملكه، ملكه ولن تفارق حياته سوى بمماته!
بينما كانت ليلى كالأميرة فعليًا، فستانها الأبيض كان رقيق ومصمم بحرفية عالية ناسبتها تمامًا، بينما وضعت مساحيق تجميل برقة ايضًا تناسب سمار بشرتها المميز وكحل جعل عينيها البنية تتوهج كشمس أشرقت من غب الظلام، بدأ الزفاف برقصة لهما سويًا كما خطط ظافر، فاتجه نحو ليلى التي كانت في بداية القاعة جوار “عمه” ومد يده لها لتنطلق الأغنية المتفق عليها
” صاحبة الصون والعفاف أحلى واحدة في البنات
اللي عمري ما قلبي شاف زيها في المخلوقات
تسمحيلي برقصة هادية تسمحيلي بقربي منك
حلم عمري تكوني راضية عن وجودي بس جنبك
يا خلاصة الجمال يا نشيد العاشقين
يا إجابة عن سؤال كان شاغلني من سنين
كان سؤال عن مين حبيبتي مين هتبقى أساس حكايتي
والإجابة كانت أنتي، أنتي كنتي غايبة فين..
يا حبيبتي أنتي نوري إنتي إحساسي بحياتي
إنتؤ مالكة من شعوري كل ماضي وكل آتي
إنتي مفتاح الحياة للي نفسه يعيش سعادة
قلبي محتاج لك معاه وكل يوم يحتاج زيادة. ”
أخذا يتمايلان على أنغام الأغنية وهما يدندان معًا بقلوب تنبض عشقًا وفرحًا، ووالدتها تتابعهما بعينين دامعتين تتمنى أن لا يكون حظ ابنتها مثلها، وألا تكون وحيدة، فبعد طلاقها من ذلك الحقير “هاشم” بعد تدخل ظافر، عرض عليها بإصرار أن تأتي لتعيش معهما ولكنها أصرت على رفضها وأنها لن تغادر منزلها حتى تموت.
إلى أن انتهت الرقصة فتعالى التصفيق والصافرات، اقترب منها ظافر هامسًا بخشونة مثخنة بالعاطفة:
-مبروك أنتي عليا يا شيكولاتة.
همست بدلال ونعومة بالقرب من اذنه حتى لا يلحظ احد الحاضرين:
-بحبك يا بطل حكايتي.
اشتدت يده حول خصرها بتملك وتوق تهدد بنفاذ صبره وهي تلهب الشوق المحترق في صدره، ثم همس جوار اذنها بخشونة:
-وبطلك بيعشجك يا شيكولاتة، وهثبتلك دا عملي النهارده.
ضحكت ليلى بخجل وهي تشيح بوجهها بعيدًا عنه، ها هي سفينة الأيام التي عصفتها رياح الألم والمشقة وكادت تغرق في فخ الأمواج، ولكنها أخيرًا وصلت إلى بر الأمان لتعلن لركابها الصابرين؛ آن اوان الربيع المحمل بعبق الزهور وأن ينهلوا من نبـع الغرام.
****
تمت بحمد الله.