وقت غروب الشمس في احدى قرى الصعيد، حيث الطبيعة الخضراء الساحرة وجمالها، تحديدًا في بيت أحد كبار هذه القرية ” سالم العبادي”، سار “ظافر العبادي” بخطى متهملة محفوفة بالإرهاق بسبب عودته للتو من سفر يخص العمل دام شهرين، نحو غرفة جده “سالم العبادي”
في تلك الاثناء استرقت العاملة بالمنزل نظرة خاطفة له مأسورة بالهيبة الرجولية التي تشع من ملامحه السمراء الخشنة الوسيمة، وذقنه السوداء النامية أسفل شاربه، وعزز تلك الرجولة المتوهجة جسده العريض المُحاط بجلبابه الأسمر، ثم سرعان ما دخلت للمطبخ من جديد متخفية عن أنظاره السوداء العميقة القوية، قبل أن يلتقطها وربما تلقى منه توبيخًا حادًا، فـ ظافر شخصية صارمة لا يقبل التهاون ولا يسمح بالخطأ بتاتًا.
دخل غرفة جده “سالم” الذي يلزم غرفته معظم الوقت مؤخرًا بسبب مرضه، ولم يبدِ اهتمامًا بالممرضة التي كانت مشغولة بتحضير الإبرة الطبية لجده، وصوب جم اهتمامه لجده “سالم” الذي رفع ذراعيه نحوه بمجرد أن رآه هاتفًا بلهفة وحب:
-أخيرًا، حمدلله على السلامة يا غالي يابن الغالي.
انبلجت ابتسامة صغيرة على ثغر “ظافر” الذي قال بهدوء رخيم:
-الله يسلمك يا جدي، إيه عامل وإيه أخبار صحتك؟
هز “سالم” رأسه متمتمًا:
-الحمدلله، بجيت أحسن لما شوفتك يا ولدي.
ثم رفع أنظاره نحو “ليلى” الممرضة التي بدأت العمل لديهم مؤخرًا لتهتم بصحته، فصارت تأتيه يوميًا، وأضاف بنبرة تنضح فخرًا:
-دا ظافر حفيدي وسندي وسند العيلة كلها يا ليلى.
استدارت “ليلى” ببطء وابتسامة رسمية فرضتها على شفتيها لتقابل ذلك المدعو “ظافر”، وهي تهتف برقة:
-اهلًا يا آآ…..
ولكن إنقطعت كلماتها وشحب وجهها الأبيض وهي تقابل “ظافر” وجهًا لوجه، وقد كان أخر شخص توقعت رؤيته، وللحظة مرت ومضات حارقة من ماضي مقيت على عقلها، فارتجفت خاصةً حين اشتدت نظرته المُظلمة عليها بقسوة وكأنه تذكرها… ليته لم يتذكرها !
أجبرت شفتاها على إخراج حروفها التي تلجمت:
-يا أستاذ ظافر، حمدلله على السلامة.
استغرق ظافر ثوانٍ شعرتهم “ليلى” دهر، قبل أن يرد من بين أسنانه:
-الله يسلمك.
لم يُعلق الجد على التوتر الذي ساد الأجواء فجأة، وتجاهله عمدًا بقوله الذي أراد به تغيير الجو المُعكر:
-ليلى دي أكتر واحدة ارتحتلها نفسيًا وحبيتها كأنها بتي.
الابتسامة كانت أصعب شيء بالنسبة لها في هذه اللحظات، ولكنها رسمتها مُجبرة وهي تغمغم:
-الله يخليك ويباركلنا في عمرك يا جدي.
ثم تحركت بخطى متلعثمة وهي تستأذنه:
-استأذنكم أنا خمس دجايج وهاچي.
وبالفعل خرجت مسرعة من الغرفة وهي تلتقط أنفاسها التي سلبها تواجده، مفكرة أن كل شيء سينهار حتمًا بتواجده!
وفي حركة مباغتة كانت يد قوية تسحبها من ذراعها بحركة غليظة نحو الغرفة المجاورة المفتوح بابها، ثم تركها نافضًا إياها وكأنها وباء، فإلتصقت تلقائيًا بالحائط من خلفها وكأنها تحتمي به بعدما شعرت بضاءلتها أمام ضخامة جسده الصلب.
اقترب منها قليلًا وهو يهدر فيها بصوت أجش متسائلًا:
-إيه بتعملي هنا؟ چايه تدوري على ضحية چديدة؟
هزت رأسها نافية بسرعة:
-لا والله ابدًا، أنا چايه أكل عيش، ربنا عالم باللي في نيـ…..
ولكنه قاطعها بلهجة متوحشة تقطر نفورًا:
-وهو اللي زيك يعرف ربنا أصلًا؟ أنتي مچرد نصابة.
ثم اقترب منها قليلًا حتى تسنى لها رؤية عينيه السوداوتين المشتعلتين بالغضب وهو يزمجر بكمد دفين:
-أنتي عارفة أنا مين؟ أنا ظافر العبادي، ظافر العبادي اللي مابيفوتش الغلطة مرتين، غلطتك الأولى أنا سيبتك تفلتي منها بمزاچي، لكن بكل بچاحة تتچرأي وتيچي هنا كمان ؟ يبقى أنتي ماتعرفيش أنا مين، أنا أجدر أتعامل كويس مع أمثالك وأعلمهم الأدب.
صمت برهه قبل أن يسترسل بصوت متوعد قاسٍ:
-أنتي اللي چيتيلي برچليكي.
هنا شعرت بقلبها سقط أرضًا، وأدركت أنها بكل سذاجة ودون وعي خطت بقدميها نحو عش الأفاعي الذي استفزته مسبقًا !
تركها أخيرًا وهو يرمقها بنظرةٍ أخبرتها عن تربض وحش الحقد داخله، ثم غادرها محتفظًا بشموخه الذي لا ينفصل عنه كجلد ثانٍ له.
بقيت تتنفس بصوتٍ مسموع، رباه إن كانت مجرد دقائق كهذه أشعرتها أن حتفها اقترب، كيف ستحتمل ساعات وأيام ؟
لا.. لن تحتمل، يجب أن تغادر على الفور قبل أن يفتك بها ظافر العبادي !
هزت رأسها مؤكدة وهي تسرع بمغادرة الغرفة.
***
عاد “ظافر” لغرفة جده سالم من جديد، رسم على وجهه ابتسامة هادئة تنافي البغض الذي انبثق من قسماته منذ ثوانٍ، ثم قَبَل احد يديه متمتمًا بمودة حقيقية:
-إيه يا حاچ سالم اتأخرت عليك؟