رواية نبع الغRام كاملة (جميع فصول الرواية)

­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­

ثم أضاف حائرًا بتنهيدة عميقة حملت في طياتها الكثير والكثير متذكرًا ذلك الحلم الغريب بوجودها ووالدته في آنٍ واحد:
-چيتيلي منين، وإيه أخرتها معاكي!
تململت غرام في نومتها فابتعد عنها على الفور، فتحت عيناها ببطء لتراه مستيقظًا، اعتدلت وهي تتنحنح بحرج قبل أن تسأله:
-إيه عامل دلوجتي؟
أجاب باقتضاب:

close

 

-الحمدلله.
فقط.. لم ينطق بحرف آخر، مدت يدها دون تفكير تتلمس جبينه لترى درجة حرارته وهي تتشدق مفكرة:
-لسه سخن؟

 

ولكنه أبعد رأسه على الفور بتلقائية جافة عن مرمى يدها، فأعادت يدها جوارها بحرج شديد جعله يقول بتبرير لم يكن من شيمه وكأنه يحاول تخفيف ثقل الحرج عنها:
-أنا كويس.
فهزت رأسها على مضض قبل أن تنهض مغادرة الغرفة دون اضافة المزيد، هذا الجلف لم يكلف نفسه حتى بنطق كلمة شكر واحدة ؟! تبًا له ولمَن يُشفق عليه.
****

 

 

مرت أيام اخرى قليلة…
اشتد المرض بـ “سالم” مؤخرًا رغم أن ليلى لم تبخل عليه بأي اهتمام قط، تحديدًا في هذا اليوم تزايد الوهن والتعب، وكانت ليلى مرتعدة تحاول مساعدته بشتى الطرق، وتقف جوارها “راوية” وهي تعض على أصابعها مرددة بقلق زائف:

 

-إيه اللي حصله يا ليلى؟
هزت ليلى رأسها بقلة حيلة وهي تجيب بصوت مكتوم مختنق:
-مش عارفة، أنا هتصل بالدكتور دلوجتي.
أخبرتها بنبرة تقطر شجن أجادت اصطناعه:
-وأنا اتصلت بعمك كمال وجولتله وهيچي هو وظافر على طول.

 

فيما اومأت ليلى برأسها عدة مرات بتوتر مُهلك قبل أن تمسك هاتفها لتتصل بالطبيب، أجابها الآخر فانشغلت بالحديث معه وبدأت تتحرك في الغرفة بشرود وهي تتحدث.
فنظرت “راوية” للجد الذي لم يكن يعي ما يحدث حوله، ثم حولت بصرها لعلاجه وهي تتذكر ما فعلته؛ حيث قامت بتغيير الحبوب التي يأخذها مع علاجه، وكانت الزائفة تشابه الأصلية، وتركتها في نفس العلبة حتى لا تلحظ ليلى…

 

تنهدت وهي تهز كتفيها معًا هامسة بصوت خفيض وأنظارها مُسلطة على ليلى:
-معلش بجا يا ليلى، حظك وجعك في طريجنا، ومفيش حد غيرك يشيل الليلة لو ظافر عرف إن في حد عايز يخلص من چده.
ثم مطت شفتيها وهي تواصل محدقة بـ “سالم” المستلقي:
-أسفة يا عمي، بس أنت ظلمت چوزي وظلمتني كتير عشان حفيدك، وربنا مابيرضاش بالظلم، وماكنش ينفع أسكت أكتر من كدا.
****

 

كانت غرام في المنزل بمفردها توضب بعض الأشياء به لتقتل الملل الذي صار جزءًا لا يتجزء من حياتها، و أيوب كان في عمله كالمعتاد، لم يجد جديد في حياتهما سويًا، سوى أن سنون قسوته بردت حدتها قليلًا، ربما هكذا يعبر عن امتنانه، لا تدري ولا يهم، ما يهم أن تعيش مرتاحة البال.

ولكن يبدو أن أمنيتها ستظل معلقة، حيث سمعت صوت طرقات على الباب فنهضت مرددة:
-حاضر ثواني چايه.
نظرت من “العين السحرية” ولكن لم تجد أحد فعقدت ما بين حاجبيها بتعجب، ثم فتحت الباب بقليلٍ من التردد وهي تسأل:

 

-مين؟
وبحركة مباغتة كانت يد تكمم فاهها بعنف قاتلة صرختها في جوفها، ويدفعها نحو الداخل و……..
****
يتبع ………..

أجفلت ملامح “غرام” بهلع وهي تحاول استيعاب أن الذي يقف أمامها الآن هو مارد كوابيس واقعها “كامل” !
هزت رأسها عدة مرات محاولة تحرير فمها من قبضته، فزمجر فيها محذرًا بقوة:
-إياكي يطلع صوتك، هتكون أخر مرة يطلع.
لا زالت تحاول التملص منه بفزع حقيقي تضاعف بسبب كلماته، فتابـع بنفس النبرة الشرسة:

 

-اتهدي، أنا چاي أجولك كلمتين وهامشي.
أجبرت خلاياها المذعورة على التقوقع في قوقعة السكينة المؤقتة عله ينتهي ويغادر دون اضرار، فهز رأسه بابتسامة خبيثة راضيًا:
-ايوه كدا شاطرة، خليكي عاجلة عشان ماحدش هيندم غيرك.

 

ثم حرر فمها بالفعل، فسألته بصوت محتقن:
-إيه عايز ؟ إيه اللي چابك هنا ؟
أردف ساخرًا:
-چاي أسلم على مرت ولدي، مش أنتي مرت ولدي ولا أنا غلطان؟

 

 

“للأسف”.. كلمة كادت تنفذ من أعماقها الماقتة المرتعبة، ولكنها حجبتها مستبدلة إياها بنظرة صامتة ساخطة رشقت به كالسهم.
-اسمعيني كويس لو عايزة الموضوع يتجفل خالص هتعملي اللي هجولك عليه.
سألته بتوجس:
-اللي هو إيه؟
واصل ببجاحة لا تُصدق جعلتها تتصنم أمامه وكأنه ذو رأسين:
-عايز خمس آلاف چنية.
رمشت عدة مرات بأهدابها الطويلة، تحاول استيعاب طلبه…لا ليس طلب بل أمر وكأنه يملك عليها سلطان!

 

ثم ردت أخيرًا وهي تلوي شفتاها بسخرية متخمة بالذهول:
-وأنا هچيبهم لك منين دول؟ مش معايا طبعًا.
هز كتفاه معًا بلا مبالاة:

 

-اتصرفي، مش مشكلتي.
هدرت فيه بعدما تأججت أعصابها بالغضب:
-حرام عليك أتصرف إيه هو أنا جاعدة على بنك.
ابتسم بتهكم مقيت:

 

-لا أنتي متچوزة بنك، بس الظاهر إنك مش واخدة بالك أو عاملة نفسك مش واخدة بالك.
زمجرت فيه بنظرات تقطر ازدراءًا:
-أنت طماع، وأنا مستحيل أعمل كدا.

 

 

ولكنه أكد بنبرة ثلجية مُخيفة في وجهها الآخر الذي يحمل تهديد صريح:
-لأ هتعملي كدا وإلا ماتلوميش إلا نفسك لما أخلي البت اللي شافتك يوميها تروح تجول للظابط كل حاچة.
رغم أن كل ما بداخلها تبعثر حرفيًا حتى صار كالفوضى بعد الحرب المميتة، إلا أنها حشرت الثبات حشرًا بصعوبة بين أرجاء ثناياها المبعثرة:
-بت مين! أنا ماكنتش هناك أصلًا ومفيش حد شافني.
أضاف بثقة هزت هيكل ثباتها الواهن:
-كدابة، في واحدة شافتك، حتى اسمعي كدا.

 

صمت وهو يُخرج هاتفه ثم قام بتشغيل تسجيل عليه، سمعت صوت امرأة وهي تقول أنها رأت غرام في ذلك اليوم.
كل حرف كانت تسمعه من ذلك التسجيل كان بمثابة وحش يُخلق متغذيًا على مخاوفها متربضًا داخلها؛ في عمق تخيلاتها المرعبة.
إلى أن انتهى فنظر كامل نحوها بابتسامة متسلية:
-إيه رأيك؟
لم تشعر يومًا بمثل هذا الكره تجاه أحدهم، ولكن اختزل في نفسه كل ما عرفت عن الكره حرفيًا.
قالت من بين أسنانها بغل دفين:

 

-أنا فعلًا ماعيش فلوس ومش هعرف أتصرفلك، وأيوب مش ساذج عشان يديني المبلغ دا عادي كدا من غير أي استفسارات.
استطرد بسماجة لم ترها في آخر ابدًا:
-دا أنتي وشطارتك، وبعدين مين جال إنك لازم تاخدي منه المبلغ دا مرة واحدة؟ معاكي أسبوعين، شوفتي أنا كريم كد إيه؟
-يلا سلام أنتي أخدتي من وجتي كتير.

 

قالها وهو يستدير ليغادر، وقبل أن يخرج بالفعل إلتفت لها من جديد مشهرًا تهديد الحاد كشفرة:
-واوعي تفكري تجولي لأيوب، چايز يئذيني في شغلي وحياتي اه وأنا كدا كدا مش في أفضل أحوالي، لكن الأكيد إني هأذيكي برضو وهخلي البت تبلغ، أنا ماعنديش حاچة أخاف عليها.
ثم غادر بالفعل تاركًا إياها تتهاوى كورقة شجر مهشمة ضربتها رياح عاتية فأسقطتها دون مجهود يُذكر.
****

 

 

تم نقل “سالم” للمستشفى على الفور بعد وقتٍ عصيب مر به الكل وليس هو فقط، فقد كانت ليلى تذبل فعليًا من الألم الداخلي لضميرها الذي ينخرها مؤنبًا إياها أنها قصرت حتمًا في شيء يخصه مما أدى إلى تدهور حالته هكذا، فهي لم تكن تعتبر الجد مجرد مريض ترعاه، بل أحسته جزءًا من عائلتها.
خرجت من دورة المياه في المستشفى وهي تجفف وجهها الأسمر الشاحب نوعًا ما، وقد طمأنهم الطبيب على حالة سالم، مع التشديد أنه سيظل في

 

المستشفى ليومين كإجراء روتيني حتى يطمئنوا على صحته.
اتجهت نحو “الكافتريا” أسفل المستشفى، فوجدت “ظافر” هناك، اقتربت منه بتردد تخشى أن يخدشها بقسوة هجومه كالعادة متهمًا إياها بالتقصير، لمحها ظافر فأشار لها بالاقتراب قائلًا بهدوء:
-تعالي يا ليلى.
جلست أمامه على المنضدة، ترمقه بنظراتٍ حذرة وكأنها تحاول التكهن بموعد انفجاره الضاري بوجهها، وتفرك يديها معًا بتوتر نجح ظافر في قراءته بسهولة

 

فسألها بصوت أجش:
-مالك يا ليلى ؟
ردت محاولة إخفاء التوتر الذي يحوم ملامحها:
-مليش.
سألها بشك:
-متأكدة؟
اندفعت بالقول مدافعة عن نفسها أمام هجوم توقعه عقلها:

 

-أنا ما أهملتش چدي سالم.
أكد دون تردد:
-أنا عارف.
-عارف؟

 

سألت دون تصديق بعينين ضيقتين، فراح يتفوه بنبرته الرجولية الرخيمة:
-ايوه، أنا لو شاكك إنك السبب ولو 1٪ ماكنتش سكت، إلا چدي، دا أغلى ما عندي.
بقدر ما طمأنها كلامه بقدر ما أثار قلقها وهي تدرك أنها تتعامل مع لوح زجاجي غير قابل للخدش، فإن خدشته ولو دون قصد ستكون في مواجهة اعصار قاتل يسمى “ظافر العبادي” .
غيرت وجهة الحديث قائلة بجدية:

 

-هو أنت اتكلمت مع الدكتور؟
أجاب بهدوء:
-ايوه، وجال هيعمله تحاليل وفحوصات ويشوفوا.

لم تستطع منع نفسها من إخراج ذلك السؤال العالق بجوفها:

 

-هو شاكك في حاچة ؟
صمت برهة قبل أن يصارحها متنهدًا:
-ايوه تجريبًا.
لم تُصدم ليلى كثيرًا فهي قد توقعت ذلك، فيما استمعت “راوية” إلى حديثهم القصير فأصاب ذلك قلبها بوخزاتٍ مُهلكة من الخوف، لا يجب أن يكتشف أي شخص أنها مَن فعلت ذلك، يجب أن تكون “ليلى” الوحيدة القابعة أسفل ركام الشك إن غاص به ظافر.

 

بينما تشدق ظافر متسائلًا بخفوت دافئ يخصها به وحدها:
-أطلبك جهوة تشربيها تفوجك شوية؟
لا تدري ما الذي دهاها لتنفي بنبرة ناعمة شقية تطوف لسطح كلماتها مع ظافر لأول مرة:
-لا أنا مش ناجصة، أصل صاحب الشغل مابيحبنيش أعمل حاچة تاني غير الشغل في وجت الشغل.

 

فسايرها ظافر في شقاوتها التي أعجبته كثيرًا، متصنعًا الصدمة والاستنكار:
-مين الراچل المفتري دا ؟
استرسلت بذات النبرة المشاكسة:
-واحد كدا ابن حلال أول حرف من أسمه ظافر.

 

فقال نافيًا بخشونة خافتة وعيناه تغوص في عينيها الشهية كالشيكولاتة الذائبة، بل هي كلها شهية.. شهية بدرجة تُهلك قلبه المسكين الغارق في عشقها حتى النخاع:
-لا مالهوش حج يرخم عليكي كدا يا شيكولاته.
فعقبت بعفوية:

 

 

-شيكولاته؟
قال بصوته الخشن المحموم بعاطفة قوية:
-اه.. شيكولاته مُغرية بتخليني…….
تضرجت وجنتاها السمراوتين بحمرة خفيفة أغرته بشدة ليقبلها وهي تنهره بحزم خرج ناعم رغمًا عنها:
-مايصحش، أحنا جدام الناس يا أستاذ ظافر.

 

عقد ما بين حاجبيه باستهجان:
-إيه أستاذ ظافر دي ما كنا كويسين؟!
عادت لشقاوتها اللذيذة من جديد وهي تستطرد ببراءة:
-هو أنا ماجولتلكش؟ ماهو صاحب الشغل برضو بيحبني أجوله كدا، أصله حازم أوي.
قال بعفوية ساخرًا:
-حازم دا يبجى چوز خالتك.
ضحكت بخفة ولم تنطق، فأضاف رافعًا حاجبه الأيسر بمكر:

 

-وبعدين هو أي حاچة يجولها صاحب الشغل بتنفذيها على طول؟
اومأت مؤكدة:
-طبعًا، أنا موظفة مُطيعة چدًا.
فسألها من جديد مشددًا على حروفه:

 

-متأكدة؟
اومأت برأسها بلا تردد:
-طبعًا.
فسحبها فجأة من يدها ليجعلها تنهض معه متجه بها نحو مكان لا تعرفه، فسألته بتوجس بينما تسير خلفه مسرعة وهو يسحبها:

 

-رايح فين؟
وصلا إلى مكانٍ هادئ خالٍ من البشر تقريبًا، فأوقفها أمام الحائط، مُحيطًا إياها بذراعيه مانعًا هروبها، ثم هتف بنبرة مشتعلة:
-وصاحب الشغل بيجولك.. حبيني.

 

أصابت كلمته أعماقها الانثوية فجعلتها مرتبكة في حالة هرج ومرج، لتغمغم بتلعثم:
-أنت آآ…..
سألها وهو يقترب منها أكثر، أنفاسه اللاهبة تضرب وجهها الأسمر البهي مستمتعًا بتأثيره عليها كرجل:
-أنا إيه؟

 

حاولت إبعاد ذراعيه وهي تردد دون أن تنظر لعينيه العميقتين المتوهجتين التي تربكها أكثر:
-أنا هروح أشوف چدي سالم.
ولكنها لم يسمح لها، إذ اقترب منها أكثر محاوطًا خصرها بذراعه.. مرددًا بلهجة ذائبة متقدة:
-چدك سالم مش محتاچك دلوجتي، حفيده هو اللي محتاچك.
همهمت بإسمه بنبرة أرادتها رادعة ووجنتيها تشتعلان بالخجل أكثر:

 

-ظافر.
داعب أنفها بأنفه وهو يغمغم بحروف ملبدة بالعاطفة:
-يا عيونه؟
أردفت بصوت مبحوح يكاد يسمع:
-أنت بتكسفني كدا بچد.
-حاضر.

 

رددها متنهدًا قبل أن يطبع قبلة عميقة على وجنتها الشهية الجميلة، ثم تركها على مضض لتتنفس الصعداء متسعة الحدقتين ببراءة لذيذة، لا تصدق هذا الانفجار العاطفي و أنه…. قبل وجنتها !
انتبهت له بعد دقيقة تقريبًا وهو يكمل مغيرًا مجرى الحوار:
-أنتي ليه مش عايزة تتچوزي الفترة دي؟

 

ابتلعت ريقها تشعر هذا السؤال كالفخ، ثم هزت كتفيها بلا مبالاة مجيبة:
-مستنية الوجت المناسب، وأنت؟

 

لم يتردد وهو يخبرها بنبرة صبيانية:
-مستني الوجت المناسب بتاعك.
فرددت ببلاهة:
-إيه؟
-إيه؟
ثم دون مقدمات انفجرا كلاهما في الضحك عاليًا، لأول مرة تخبو الحواجز بينهما، لتترك قلبيهما يسبحا بحرية في بحر العشق… ولكنهما لم يكونا يعلمان أن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن!
****

 

 

بعد فترة…
بعد تفكير طويل عميق، ظلت “غرام” تبحث عن عمل على الانترنت على الهاتف الذي اشتراه لها “أيوب” مؤخرًا ليتواصل معها حين يكون بالخارج، ووجدت أخيرًا عمل مناسب لن تقوم به على أرض الواقع، وإنما سيكون عبر الانترنت فقط، فهذا العمل عبارة عن ارتداءها ملابس ثم تقوم بتصوير نفسها بها دون أن تُظهر وجهها، كعارضة ازياء، وهكذا ستجني المال وتعطه لذلك اللعين “كامل” دون أن تضطر لطلبها من أيوب الذي لن يعطها بسهولة بالطبع، بالإضافة إلى أنها لا تضمن ألا ينفذ كامل تهديده، صحيح أنها تشك أنه ربما يتلاعب بها لأجل الأموال، ولكن إن هناك احتمال واحد بالمئة أن يصدق في تنفيذ تهديده فهي لن تُخاطر بنفسها.

 

وبالفعل اتفقت مع الشخص الذي تحدث معها عبر الانترنت “صاحب العمل” على أن تقابله في مكان بعيد نوعًا ما عن منطقة سكنهم لأنه لا يجوز بالطبع أن يأتي لها عامل التوصيل حتى المنزل بالملابس التي ستقوم بتصويرها.
وطبعًا هذا كله دون علم أيوب، عادت من مقابلة عامل التوصيل بعد أن أخذت منه الملابس، وتنهدت في ارتياح بصوتٍ مسموع، فهي الدقائق السابقة كانت تعيش في رعب أن يراها أيوب مثلًا او يتصل بها وهي بالخارج فيكتشف أنها خرجت دون اذنه.
ارتدت جلباب نبيتي اللون ضيق نوعًا ما ولكنه طويل و ذو أكمام، تأففت وهي تعض على شفتيها بتردد مفكرة، على أي حال لن يظهر وجهها في الصور، كما أنه

 

ضيق قليلًا فقط وليس عاري.
بدأت تلتقط الصور لنفسها بالفعل أمام المرآة في صالة المنزل، ولكن ما لم تحسب حسابه أن يعود “أيوب” مبكرًا من عمله، فسمعت المفتاح يتحرك في الباب وما هي إلا ثوانٍ معدودة حتى وجدت أيوب أمامها لتلقي الهاتف من يدها سريعًا على الأريكة.

 

تقدم أيوب منها متفاجئًا من وقوفها أمام المرآة والتوتر المرفوعة راياته فوق حنايا وجهها، ثم هيئتها… هيئتها كانت خاطفة للأنفاس، فقد كان ذلك الجلباب يحدد بعض منحنيات جسدها الأنثوي، بينما تترك خصلاتها السوداء محررة لتعطي ملامحها البيضاء الناعمة حلاوة براقة مُهلكة، وهو رجل! وليس قديس حتى لا يتأثر بزوجته، نعم.. هذه المُهلكة الفاتنة هي له..زوجته.
حينها تقدم منها بخطى واثقة تنافي اضطراب أنفاسه، حتى صار أمامها مباشرةً ليسألها دون مقدمات بلهجته الأجشة:
-إيه كنتي بتعملي؟

 

 

هزت كتفيها معًا بلا مبالاة كاذبة:
-مش بعمل حاچة.
عقد ما بين حاجبيه بتعجب يشوبه لمحة من الشك:
-امال واجفة جدام المرايه ليه؟ وچبتي الچلابية دي امتى؟

 

كاد الارتباك يفتك بها تمامًا فاضحًا إياها، ولكنها تمالكت نفسها على أخر لحظة لتقول بعفوية زائفة وهي تلف في حركة دائرية تُريه الجلباب:
-دي واحدة صاحبتي چات وچابتهالي لما عرفت إني اتچوزت، إيه رأيك حلوة ؟
أرادت أن تُلهيه عن التدقيق في كذباتها حتى لا يكشفها، ولكنها لم تلحظ اهتياج العاطفة في عمق سوداوتيه المُظلمتين، اقترب منها أكثر… ثم صدح صوته متحشرج خشن دون تفكير:
-چميلة.
لأول مرة يُثني عليها او على شيء يخصها !

 

ولكنها لم تعقب بل تساءلت بهدوء:
-چيت بدري يعني النهارده؟
-مش عايزاني أچي؟
ابتلعت ريقها وهي تهز كتفيها معًا مجيبة وهي تبعد أنظارها عن عنيه التي بدت لها في تلك اللحظات داكنة أكثر وغريبة!

 

-لأ طبعًا دا بيتك وأنت حر يعني.
سألها بمكر بينما عيناه تتفحص ذلك الجلباب الذي تناسب تمامًا مع بشرتها البيضاء الجميلة، وامتزج مع جسدها بطريقة رائعة وكأنه صُنع لها فقط:
-وهي چابتهولك ليه؟

 

 

تشدقت بنبرة عادية:
-عادي بما إني عروسة يعني وكدا.
استفسر وعيناه تلمعان بخبث:
-عشان تلبسيها ليا يعني؟
ألجمها سؤال الذي يحمل معانٍ عدة لم تدرك أ هو اتهام بمحاولتها اغراؤه مثلًا ام…شيء آخر !
فتنحنحت وهي تجلي صوتها بعد لحظات من الصمت:
-مش شرط يعني ممكن ألبسها آآ…..

 

قاطعها بنبرة تملكية شرسة غارزًا أصابعه في خصرها المرسوم بدقة يجذبها نحوه:
-اوعي خيالك يصورلك إنك ممكن تلبسيها جدام حد غريب.
تعالت نبضاتها في هلع داخلي وصوت خبيث داخلها يتساءل؛ ماذا سيفعل اذن إن علم أن الكثير من الناس سيشاهدون هذا الجلباب عليها، ولكن لن يعلموا مَن هي ولن يروا وجهها… بررت لنفسها محاولة تهدئة روعها.
ثم اومأت له برأسها مطيعة بخفوت:

 

-حاضر.
ثم تحركت علها تحرر نفيها من قبضته الخشنة ككل شيء فيه، ولكنه لم يتركها بل اقترب منها أكثر حتى صار على بُعد إنشات قليلة جدًا من وجهها حتى تشاركا أنفاسهما العالية، ليقول بخشونة وأصابعه تسير على خصرها ببطء مثير:
-لازم نحلل قيمة الهدية الچميلة دي، خسارة تروح على الفاضي كدا.
شعرت بقلبها يتضخم بقوة مع كلماته حتى كاد ينفجر، به شيء غريب، شيء تجهله ولكنه يثير فيها مشاعر غريبة مثله حارقة!

 

تلفظت بكلماتٍ متقطعة مبحوحة:
-أيوب أنت….
ولكنه قاطعها مغطيًا شفتاها المكتنزة بيده، مرددًا بصوت أجش مُسيطر متملك:
-هششش، أنتي مرتي.. حلالي وحجي.
وكأن لمسته التلقائية لشفتيها كانت القشة التي قصمت ظهر البعير، ففجرت حمم العاطفة التي كانت تغلي كالمرجل داخله، ودون مزيد من الانتظار كان يميل ملتقطًا شفتاها بشفتيه بشراسة عاطفية، يقبلها بشوق لا يدري من أين أتى، وبلهفة انبلجت من أتون تلك العاطفة، عازمًا على امتلاكها دون التركيز على أي أسباب او تفسيرات شاعرية حمقاء، فهي زوجته وهذا طبيعي وفقط.
****

 

 

عادت ليلى لمنزلها بإرهاق لا تصدق أن هذا اليوم الشاق انتهى أخيرًا، وكل ما تريده أن ترتمي فوق الفراش مريحة جسدها وتغط في نومٍ عميق افتقدته، ولكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه.
إذ وجدت والدتها جالسة في الصالة تضع وجهها على ركبتيها ومنهارة في بكاء عنيف، ركضت نحوها بهلع وهي تسألها في قلق:

 

-إيه في يامه ؟ مالك يا حبيبتي؟
رفعت والدتها وجهها لها ببطء فهالها رؤية وجنتاها وهي حمراء بشدة تحمل آثار واضحة….لصفعة!
شهقت دون صوت وهي تسألها من بين أسنانها بانفعال يهدد بالانفجار متحسسة وجنتها:
-مين اللي عمل فيكي كدا يامه؟
تعالت شهقات والدتها من جديد ببكاء يمزق نياط القلب، قبل أن ترد بصوت متحشرج مذلول:
-هاشم.
كزت ليلى على أسنانها والحقد تتسع فجوته داخلها أكثر تجاه هذا القذر، ثم تابعت تساؤلاتها:

 

-الكلب القذر، عمل فيكي كدا ليه؟ إيه عايز ؟
-أنا اللي روحتله.
أخبرتها والدتها بتردد وهي تشيح بوجهها عنها وكأنها تشعر بالحرج منها، وكأن الادوار انقلبت وصارت هي الابنة وليلى الأم التي ستوبخها حالًا.
وبالفعل انفعلت ليلى رغمًا عنها فكادت تهدر فيها:
-روحتيله؟ روحتيله ليييه عايزة إيه من كلب زيه ؟ عايزة آآ….

 

قاطعتها والدتها التي صرخت بقهر:
-روحتله عشان يطلجني، مش مستحملة أفضل على ذمته دجيجة واحدة كمان بعد اللي عمله، دا كان بيلعب بشرفك وشرفي من غير ما يتردد!
إلتوت شفتا ليلى بسخرية غير منطوقة، الآن لاحظت ذلك؟!
ثم تنهدت وهي تسألها بصوت أجش:
-وجالك إيه؟

 

 

هزت الاخرى كتفيها بقلة حيلة وهي تخبرها بشجن عميق:
-زي ما أنتي شايفة ضربني وجالي مفيش طلاج إلا لو….

 

ثم صمتت وكأنها تخشى انفجار ما ستقول، فحثتها ليلى على النطق بتوجس:
-إلا لو إيه؟
-إلا لو أنتي اتطلجتي من ظافر وأخدتي المؤخر وادتيهوله تعويضًا عن اللي شافه من ظافر بسببك.
فجرت قنبلتها وانتهى الأمر… وإتسعت حدقتا ليلى بذهول وقلق!
****
يتبع ……

 

استند “أيوب” بظهره للفراش متنهدًا تنهيدة طويلة عميقة تحمل في طياتها الكثير وهو ينظر على غرام القابعة جواره تغط في نومٍ عميق، لم يشعر يومًا بهذا القدر من الزخم العاطفي؛ أنه غارق في مشاعر شتى حد التخمة، لا يستطع فك شفرات هذه المشاعر، ولكنها جديدة عليه، جديدة ومؤثرة بشكل يخشاه قلبه الجريح، لم يكن يظن أن امتلاكه لها سيسبب له هذه الفوضى في عمق احاسيسه..

 

مد يده يتحسس نعومة وجهها بطرف أصابعه بشغف لم يعي أنه يترنح في حدقتيه المُظلمتين..
ثم هز رأسه نافيًا، بالتأكيد هذا التأثير لأنه رجل وهي زوجته والتأثر الغريزي لا يستطع تحجيمه، ظل يؤكد ذلك لنفسه مرارًا قبل أن يسحب يده بعيدًا عنها ويتظاهر بالنوم حين شعر بها تتململ في نومتها.

 

وهو ليس سيء كما يبدو، على الأقل هي لا تراه كذلك، ربما هو يندفع بغلاظة دفاعية لا تعلم سببها، ولكنها تستطع رؤية ذلك الوجع والضعف الرابض داخله ويحاول هو اخفاؤه بقشرة خارجية من القسوة.
على ذكر القسوة، وجدت نفسها تمد يدها لتتلمس ببطء وحنان بأصابعها الرقيقة الندبات الموجودة على كتفه العاري، شعر أيوب بانتفاضة داخلية عنيفة اثر لمستها تلك، فضغطت يده بقوة تلقائيًا على خصرها الذي كان يحيط به بتملك دون وعي، لتتأوه غرام بألم طفيف وتبعد يدها على الفور..

 

حررها أيوب من بين ذراعيه ثم نهض وهو يتنحنح دون كلام، ولم تستطع هي ايضًا النطق بحرف، ثم اتجه لدورة المياه دون أن يلقي نحوها نظرة حتى..
حسنًا، على أي حال هي لم تكن تتوقع منه صباح عاطفي لاهب كالعشاق.
تنهدت وهي تنهض هي الاخرى، يبدو أن لديها طريق طويل لتأسيس حياة مستقرة بينهما كأي زوجين، فهي لا تملك رفاهية الزواج والانفصال لأسباب عاطفية كالمراهقين، هي تحتاج للاستقرار فقط.

 

بعد فترة…
قامت غرام بتحضير الافطار ليتناوله كليهما، تُمني نفسها أنه ربما يقبل هذه البادرة للاستقرار بينهما..
خرج أيوب من الغرفة بعدما أنهى ارتداء ملابسه، فتنحنحت غرام قبل أن تجلي صوتها قائلة بهدوء:
-أنا حضرت الفطار، افطر قبل ما تنزل.
لبرهة كاد يومئ برأسه موافقًا، ولكنه توقف وصوت يحذره… عليه اتخاذ خطوتين للخلف، وبالفعل هز رأسه نافيًا بهدوء جاف:

 

-لا أنا بفطر في الشغل افطري أنتي.
ثم تحرك نحو الباب ليغادر تحت أنظارها الساكنة الغاضبة، اليوم تحديدًا أرادها أن تدرك أن لا شيء تغير بينهما بما صار، ستظل الحدود بينهما ويظل هو في مساحته الآمنة، وستظل هي زوجته ايضًا بالشكل الذي يريد !

 

بعد ساعات…
نزلت “غرام” لتشتري بعض احتياجات المنزل، بالأموال التي يتركها لها “أيوب” دومًا، وفكرت لِمَ لا تأخذ له من الطعام الذي أعدته للغداء بما أنه لم يعود للمنزل وقد حل الليل، وبالفعل بعد أن اشترت ما أرادت توجهت نحو المتجر الخاص به، دلفت لتجده جالس على مكتبه كالعادة، فاقتربت منه ببطء متردد منادية اسمه بخفوت:
-أيوب.

 

رفع رأسه محدقًا بها بتفاجؤ استطاعت قراءته ببساطة بين سطور عينيه، ثم نهض واقترب منها قائلًا بخشونة:
-إيه اللي چابك هنا ؟
ردت بهدوء كاد يلحق به توتر دسته داخلها نظراته الحادة المُظلمة:
-كنت بشتري حاچات للبيت، وجولت أچيبلك معايا حواوشي عشان لو ماتغديتش.

اقترب منها أكثر مستطردًا بفظاظة من بين أسنانه:
-أنا ماطلبتش منك تچيبيلي حاچة.
ألجمها رده الفظ لثوانٍ، ولكنها استطاعت فك لجامه بقولها:
-أنت ماطلبتش بس أنا عملت كدا عشان دا الطبيعي، بما إنك چوزي.

 

قبض على ذراعها بقوة وقصفها كالرعد صوته الخشن بعنف متأصل فيه:
-ولما أنتي عارفة إنك مرتي، نزلتي ليه من غير اذني؟
هزت كتفاها معًا ببديهية مدافعة عن نفسها:
-عشان أنا كدا كدا چايالك فهتعرف.
-برضو تستأذني جبل ما تنزلي، لإن صدجيني لو عرفت إنك نزلتي من غير ما أعرف تاني رد فعلي مش هيعچبك.

 

حذرها بخفوت مُخيف لنفسها المتحسسة تجاه هذه النقطة تحديدًا، وهي تخفي عنه العمل الذي تقوم به وتنزل من المنزل دون إخباره.
هزت رأسها موافقة دون قول المزيد، فعاد أيوب لمجلسه من جديد وهو يضيف بجفاف:
-سيبي الحواوشي و روحي على البيت على طول.
ولكنها ظلت متيبسة مكانها، فعاد لينظر نحوها من جديد متسائلًا بصلابة:
-عايزة حاچة؟

 

ابتلعت ريقها ثم هتفت بذهن شارد:
-هو لو لا جدر الله ظهر حد شافني في اليوم اياه، إيه هتعمل؟
أجاب باختصار دون تأخير:
-هتصرف.
ولكنها لم تكتفي بتلك الاجابة بل أصرت مكررة:

 

-إيه هتعمل يعني؟
هز كتفاه مرددًا ببديهية أحستها لا مُبالية:
-هاچيب ناس تشهد إنك كنتي معاهم، وشهادتهم جصاد شهادتها.
عقبت مستنكرة بقلق استبد بأعماقها:

 

-بس هفضل برضو مُشتبه فيا ؟!
تأفف بنفاذ صبر وهو يقترب منها مزمجرًا بنبرة زحف لها الانفعال:
-أنتي بتجدمي الشر ليه؟ بشروا ولا تنفروا.
لم تستطع كبح نفسها التي اهتاجت لتهدر بحرقة:

 

-ما أنت لو مكاني وعايش مستني البوليس يچي يجبض عليك عشان حاچة أنت ماعملتهاش بس عارف إنك مش هتجدر تثبت دا ومش بعيد تشيل أنت الليلة وتلاجي نفسك واخد اعدام، وكل دجيجة بتعدي من غير ما تروح هدر بتحمد ربنا، هتعرف أنا بجدم الشر ليه.
أمسكها من كتفيها يهزها بقوة وهو يصيح فيها بنغمة صوت تخبطت بين التملك والشراسة والتحدي، تحدي ليس لها إنما لوالده:
-أنتي ليه لحد دلوجتي مش جادرة تستوعبي إنك مرتي ؟ مرتي وتخصيني ومش هاسيبه يئذيكي.

 

وجدت لسانها يهجو ما تضج به نفسها الغاضبة الانثوية العاطفية بالفطرة، وعقدة النقص بسبب الفارق المادي والاجتماعي بينهما تعود لطرق أبوابها:
-يمكن عشان أنت نفسك رافض من چواك إني أكون مرت أيوب بيه العماري؟!
عقد ما بين حاجبيه معقبًا باستنكار ساخر:
-رافض؟ ليه أنتي كنتي ماسكة عليا ذلة عشان اتچوزك ولا إيه؟
واصلت فتح السبيل الحر أمام لسانها ليترجم كل المدفون بين أروقة قلبها:

 

-لأ بس مفيش مبرر تاني لطريجتك الغريبة بعد اللي حصل بينا، وكأني فتاة ليل المصلحة المشتركة اللي بينكم خلصت فـ كل واحد يروح لحاله تاني.
كمم فمها بقبضته الغليظة مسرعًا، هادرًا فيها بعنف شرس:
-اخرسي، ازاي جدرتي تصوري الموضوع بالقذارة دي ؟!

 

ودون أن يعطها فرصة لمتابعة الحديث كان يضيف بقسوة:
-أنا زي ما أنا ماتغيرتش و طريجتي مش غريبة ولا حاچة، أنتي اللي عجلك المراهج كان مصورلك إن الحياة هتبجى وردي ويمكن تصحي تلاجيني چايبلك الفطار على السرير زي الأفلام !
تلفظت بسخرية قاسية توازي قسوته:
-لأ، كان مصورلي إني ألاجي انسان عنده احساس، ويدي زي ما بياخد.
قصدت الاهتمام وربما الحنان، ولكنه اقترب منها أكثر حتى لفحتها أنفاسه الثائرة بغضب، وشعرت بشفتيه تمس اذنيها عمدًا وخرج همسه الخشن بتلميح فج:
-بس على ما أتذكر إني اديت زي ما أخدت، ماتحسسينيش إني جصرت معاكي و…..

 

قاطعته حين دفعته بعيدًا عنها مزمجرة بحدة شرسة:
-اسكت، أنت ازاي تتكلم بالطريجة ال…..
قاطعها بصوتٍ أجش خاوٍ:
-أنا كدا، وأنتي اتچوزتيني وأنتي عارفة إني كدا، ماتحسسنيش إنك اتصدمتي.
هزت رأسها مؤكدة وهي تلهث بصوتٍ مسموع من فرط الانفعال الذي تشعر به، ثم قالت بتهور أهوج نبع من الغضب الذي كان كالخرقة عاميًا عينيها عما تنطقه:
-اوعى تفكر إني هخليك تجرب مني تاني.

 

ظل جامد مكانه لثانية وحيدة، ثانية لم تكن كافية لتتكهن بما ينويه، ثم باغتها جاذبًا إياها نحوه من خصرها حتى إلتصقت به، ثم سحق شفتاها المكتنزة التي يخرج منها ما يثير جنونه بشفتيه القاسية، لم تكن قبلة رقيقة تنضح بالعاطفة، بل كان تحدي شرس متقد بالتملك يثبت لها به أنها ملكه ولا يمكنها معارضة ذلك بأي طريقة.
تركها أخيرًا بعد قليل، متابعًا بهسيس خافت حاد:
-أنتي مرتي يعني ملكي، يعني لو عايز أجرب منك مفيش حاچة في الكون تجدر تمنعني ولا حتى أنتي.

 

ظلت تتنفس بصوت مسموع يحكي غضب اكتسح جوارحها، ثم دفعته بعيدًا عنها بعنف وقبل أن تنطق او يصدر عنها أي رد فعل، كان صوت شجار يأتي من الخارج، فتركها أيوب وخرج من المتجر ليرى ماذا يحدث.
وقعت عينا “غرام” على وصولات الأمانة المتروكة على المكتب، فلم تفكر مرتين وهي تأخذ منهم واحدًا لتخفيه معها سريعًا.
****
تدهورت حالة الجد “سالم” كثيرًا في المستشفى، حتى أخبرهم الطبيب بكل أسف أنه دخل في غيبوبة لا يعلم مدتها قد تطول او تقصر، في ظل صدمة ظافر التي تحولت لغضب جنوني عارم حين أخبره الطبيب أنه عرف من التحاليل والفحوصات التي أجراها لجده أنه تناول دواء لم يكتبه له قط وأنه المتسبب في تدهور حالته.

 

غادر ظافر المستشفى وترك زوجة عمه “راوية” و ليلى التي كان القلق يدب أظافره في قلبها المرتعد بقلق، فهي المسؤولية الوحيدة عن الجد وهي ستلاقي غضب ظافر حتمًا !
وصل لبيتهم، وأول ما ما فعله كان التوجه للغرفة التي كان يقيم بها جده سالم، وأخذ كل الأدوية التي كان يأخذها جده، ثم عاد بها للمستشفى من جديد ليُريها للطبيب.
ظل ظافر بالخارج منتظرًا تأكيد الطبيب من عدمه على الدواء، فاقتربت منه زوجة عمه قائلة بمواساة كاذبة خبيثة وهي تربت على كتفه:
-ماتجلجش يا ظافر إن شاء الله خير أكيد الدكتور هيعرفنا دلوجتي وعمي هيكون كويس.
اومأ ظافر مؤكدًا برأسه والشراسة تعصف من نبرته:

 

-أكيد هيعرفنا وساعتها اللي إتسبب في دا لچدي مش هاسيبه، هامحيه من على وش الدنيا.
أحست “ليلى” أنها المقصودة من حديثه رغم أنه لم يلقِ نظرة نحوها حتى، فارتعش جسدها بقلق غائر دفين.
خرج الطبيب بعد قليل فهب ظافر نحوه متسائلًا بلهفة:
-ها يا دكتور ؟
تنهد الطبيب بقوة قبل أن يخبره بنبرة دبلوماسية يشوبها الحيرة:
-مش عارف أجولك إيه يا ظافر، الدوا هو فعلًا اللي كتبتهوله، بس أنا متأكد إن چدك ماكنش بياخده وكان بياخد مادة تاني.
هنا تذكرت “راوية” حين عادت للبيت مسرعة بعدما سمعت ظافر وهو يخبر ليلى أن الطبيب يشك بشيء، وأخذت كل الحبوب التي وضعتها سابقًا بعلبة الدواء، لتُعيد الدواء الأصلي مجددًا، فحين يرون العلاج يكون هو ذاته الذي أمر به الطبيب، وحينها يكون التلاعب من طرف واحد لا شك بسواه “ليلى” فهي الوحيدة في

 

البيت التي على علم بأمور الأدوية والطب وما شابه ذلك.
شد ظافر خصلاته السوداء الطويلة بقوة تحكي غضبًا ثائرًا داخله كالبركان، ثم همس مفكرًا كأنه يحدث نفسه:
-معجول يكون حد كان بيدي چدي حاچة تاني؟
ثم رفع عيناه فجأة نحو ليلى بشكٍ لحظي لم يستطع كبحه، و كان كالنصل الذي رشق بصدرها مباشرةً فغار بألم ساحق تولد بعد شعور مرير بالغدر، ربما لأنها كانت تتوقع منه أن يثق بها ؟
انتبهت للطبيب الذي أكمل بجدية موجهًا حديثه لظافر:
-أحنا بنعمل اللي علينا والباجي على الله، ادعوله انتوا.

 

ثم غادر تاركًا إياهم كما هم، اقترب ظافر من ليلى ثم سحبها من يدها نحو الخارج حيث “الكافتيريا” وأتت خلفهما دون طلب “راوية”، كانت ليلى أول مَن قطعت الصمت بصوتها المتحشرج باختناق:
-أنا ماعملتش كدا.
سألها بصوت جاف:
-ماعملتيش إيه؟
تابعت بنفس النبرة وهي تهز رأسها نافية:
-ماديتيش چدي سالم حاچة غير اللي الدكتور كتبها.
حينها قال ظافر دون تفكير بقلب تلبد بظلمات الغضب الأعمى:

 

-چايز ماعملتيش كدا فعلًا، بس أكيد عملتي حاچة اتسببت في كدا.
عقدت ما بين حاجبيها بعدم فهم واستنكار:
-ازاي يعني؟
زمجر ظافر بوجهها كليث جريح يبحث بهيستيرية عمَن جرحه غدرًا:
-ماعرفش أنا اللي المفروض اسألك مش أنتي، هو مش أنتي المسؤولة عنه؟ دا حصل ازاي ؟ چدي حصله كدا ازاي ؟ أخد المادة اللي الدكتور بيجول عنها ازاي ؟
مع كل كلمة كانت زمجرته تزداد علو وعنف، فاقتربت راوية منهما مسرعة تهدئ الجو الاشتعال بينما في الأصل هي مَن أشعلته:
-اهدى يا ظافر ماينفعش كدا أنتوا في المستشفى الناس هاتتفرچ عليكوا.
صرخ باهتياج أكبر وحروفه تقطر قهرًا:

 

-ملعونة الناس، أنا چدي هيموت، هيموت وأنا واجف أتفرچ ومش جادر أعمل حاچة ولا أعرف حتى مين اللي اتسبب في اللي حصله دا !
ازداد اختناق ليلى أضعافًا مضاعفة، لا تدري لِمَ يُصر قدرها على جمعها وظافر في إطار المُتَهَمة والمُتَهِم !
نطقت بصوت مبحوح على حافة البكاء:
-صدجني ماعرفش، ماعرفش، كل اللي أعرفه إني مستحيل أتمنى الأذى لچدي سالم وإني كنت بحبه چدًا زيك ويمكن أكتر.
جذبها ظافر من ذراعها ضاغطًا عليه دون وعي وهو يواصل تعنيفها بقسوة عنيفة هوجاء:
-بتحبيه لدرچة إنك أهملتي فيه لحد ما بجي مرمي چوه يا عالم هيطلع ولا لا، هو دا حبك؟ لو هو دا حبك خليهولك مش محتاچينه، كان يكفي بس إنك تعملي

 

بضمير الدور اللي أنتي دخلتي البيت دا عشانه.
صمت لحظة ثم تشدق بنفس النبرة:
-بس الظاهر إنك كنتي مفكره نفسك چايه رحلة تضحكي وتهزري شوية ونسيتي أنتي هنا ليه!
كان كالليث الجريح المحبوس في قفص متروكًا بنزيفه، وليس أمامه سواها لتتحمل قرع غضبه الضاري المتألم الذي تدرك بطريقةٍ ما أنها تستحقه، نعم تستحقه.. فهي كانت المسؤولة الاولى عن الجد وحالته وعلاجه، وإن كان هناك أي تقصير او تلاعب او اهمال فبالتالي هي المسؤولة عنه ايضًا.
نفضت ذراعه بعيدًا عن قبضته الغليظة، ثم خرج صوتها مجروحًا مختنقًا ولكنه حاد كشفرة وهي تسرد:

 

-لأ مانسيتش وماكنتش في رحلة، كان في حد بيحاول يخرجني عن دوري الرسمي وينسيني أنا هنا ليه بس ماتجلجش أنا رميت الموضوع ورا ضهري ومركزة في شغلي.
أدرك دون عناء أنها تقصده هو وتقصد تقربه منها ومحاولته في كسب قلبها وحبها، وأنه أيضًا إن كان سار خطوة ناحيتها فهي الآن ابتعدت آلاف الأميال عنه !
تراجعت ليلى خطوة اخرى تهم بالانصراف وهي تغمغم بنفس النبرة:
-أسفة على التجصير يا أستاذ ظافر، ولو ثبت اهمالي بطريجة مباشرة او غير مباشرة أنا مستعدة أتحمل النتيجة.

 

تمتم بإسمها بتعب حقيقي نبع من روحه الملكومة:
-ليلى.
ثبتت مكانها لحظة والشفقة تطل من بُنيتيها، ولكنها محتها وذاكرتها تجلدها بكلماته الضارية التي لم يمر عليها ثواني، فيما أضاف ظافر بنفس النبرة المذبوحة:
-أنا تعبان يا ليلى، تعبان وهتچنن لو چدي چراله حاچة.
ربما الانثى المنتقمة داخلها هي مَن ردت بقسوة لم تكن من طباعها يومًا:
-معلش، ربنا يصبرك يا استاذ ظافر ويقومهولك بالسلامة.
ثم استدارت لتغادر دون اضافة كلمة اخرى، ليسقط عنها قناع القسوة والحدة الزائف، وتظهر نفسها المرتعبة من اثبات تقصيرها بالفعل او اكتشاف أي تلاعب

 

لم تلحظه هي، حينها ماذا ستفعل، وهل هي مستعدة لتحمل النتائج كما أخبرته ؟!
بعد فترة…
انتبهت غرام لهاتفها الذي اهتز معلنًا وصول رسالة على تطبيق “الماسنجر” لها، ففتحته لتجد الرسالة من صاحب العمل الذي بدأته مؤخرًا كعارضة ازياء..
إلتوت شفتاها ساخرة من نفسها، هي تُطلق مسمى عارضة ازياء على ما تقوم به لتخفي الرخص الذي تستشعره نفسها فتشمئز منه، زفرت بقوة واختناق، تبًا لذلك القذر “كامل” الذي فرض عليها ما تأباه نفسها، فإن كانت تفكر مرة في اخبار أيوب بما فعله والده فالآن ترفض ألف مرة.
حينها ربما ينفذ كامل تهديده، وسيحاول أيوب إنقاذها ولكنه لن يستطع لأنه لا يملك ذلك، كما تشعر أنه يساعدها نكايةً في والده ليس إلا، وفي ظل هذا الصراع الضاري ستُسحق هي بينهما… اذن لِمَ لا تحاول الخروج من تلك الحرب سالمة بأقل الخسائر ؟
تنهدت وهي تهز رأسها مؤكدة عازمة على تنفيذ ما فكرت به، رفعت هاتفها لتتصل بالرقم الذي حدثها منه كامل مرة بعد مجيئه، ليُذكرها بتهديده، وبالفعل أجاب

 

كامل على الطرف الآخر:
-اهلًا يا مرت ابني، إيه چهزتيلي الفلوس بالسرعة دي؟
ردت غرام بجمود:
-أنا عندي شرط عشان أديك الفلوس زي ما أنت عايز.

 

رغم الاستنكار سألها:
-شرط؟! شرط إيه إن شاء الله ؟
أخبرته بلهجة حاسمة:
-هتمضيلي على وصل أمانة بالفلوس اللي أنت اخدتها، وهتجولي مين هي اللي شافتني، لإن أنا مش ضمناك، إيش ضمني إن بعد ما أديك الفلوس ماتچيش تهددني وتبتزني تاني؟
ساد الصمت من جهة “كامل” الذي رفع حاجبه الأيسر معجبًا بذكائها وشراستها بعد أن ظنها ستنفذ ما قال بخنوع وسذاجة، مقدرًا نجاح أيوب في اختيار لبؤة

 

تليق بأيوب العماري كشخص وإن كانت لا تليق به كمستوى!
أتاها صوت المغيظ ببرود غامض يعلن موافقته:
-موافج، هامضيلك على وصل الأمانة وهاجولك بس لما أجابلك أخد الفلوس.
أغلقت غرام الهاتف بعد أن سمعت رده، وإلتقطت أنفاسها المحبوسة..

 

فيما صاح بعدم تصديق صديق كامل الذي كان جالسًا جواره:
-هتمضيلها وصل أمانة فعلًا؟ وإيه اللي ضمنك إنها ماتروحش تجول ليا عنده فلوس وتاخد منك الفلوس تاني؟
لوى كامل شفتاه ساخرًا:
-أنت مفكرني عبيط ولا إيه؟ دا أنا كامل العماري، مش هامضيلها على حاچة طبعًا أنا كنت بجولها كدا عشان ماترچعش في كلامها وتجول لأيوب.

 

-وهتعمل إيه لما تروح تاخد منها الفلوس؟ اوعى تفكر تاخدهم منها بالعافية دي ممكن تلم عليك أمة لا اله الا الله وتفضحك.
حذره الآخر بتوجس، فهز كامل رأسه نافيًا بخبث:
-أنا مش هروحلها أصلًا، أنا هاخلي كام مَرَه من السوابج، يروحوا ياخدوا منها الفلوس ويدوها العلجة التمام كمكافأة نهاية الخدمة.
أنهى حديثه وهو يضحك عاليًا بخبث شيطاني أصاب الآخر بالدهشة وهو يشاركه الضحك.
****

 

كان ظافر في غرفته ساندًا رأسه على المكتب أمامه بإرهاق حقيقي نشب كالنيران الضارية بجسده وروحه، قطع الصمت الذي يغلف الغرفة صوت هاتفه الذي صدح معلنًا وصول اتصال..
أخرج هاتفه من جيب جلبابه ليجد المتصل رقم غريب، رد مسرعًا لربما يكون من المستشفى، فأتاه صوت سيدة لم يعرفها تقول بهدوء:
-استاذ ظافر ؟
-ايوه؟
أخبرته:
-أنا أم ليلى.

 

للحظة اشتدت قبضة القلق حول قلبه خانقة إياه، فتابعت الاخرى متساءلة:
-اولًا ألف سلامة على چدك، ثانيًا هو أنت مجتنع فعلًا إن ليلى هي السبب في اللي حصله؟
وكأنها بكلماتها أعادته لغضب كان قلبه يحاول جعله يخبو:
-أنا مجتنع إنه كان مسؤوليتها وإن اللي حصل هي المسؤولة عنه.
سألته بتوجس انطلق من قلب أم:
-وهيحصل إيه يعني؟
رد دون تفكير:

 

-ماعرفش، أول ما أعرف اللي حصل كل اللي غلط هيتعاقب.
استطردت باستنكار واضح:
-وحضرتك اللي هتعاقبه؟ البلد فيها جانون على فكرة.
تلفظ بشراسة متحدية:
-ماتجلجيش، الجانون هو اللي هيعاقبه.

 

وصلتها كلماته كرسالة مبطنة بالتهديد لـ ليلى أنه حتمًا سيسجنها عقابًا لها على تقصيرها !
فهتفت دون تفكير بعواقب ما تنطقه:
-طب ياريت تكون عارف إنها مرتك، وحتى لو الناس ماتعرفش دلوجتي إنها مرتك ممكن ببساطة يعرفوا، وتخيل هيجولوا إيه لما يعرفوا، مش بعيد يجولوا إنك متفج معاها عشان تخلص من چدك وتورثه!
لم تدرك أنها بكل غباء كانت تروي شكوكه الضئيلة نحو ليلى، فإن كانت ليلى غير مُدانة لِمَ ستلجأ لهذا الأسلوب الملتوي لتجعله يتراجع عن فكرة عقابها ؟! ….
****
فرقت جفنيها ببطء لتقع عيناها عليه ويدرك عقلها وجوده جوارها مرسلًا لها هزة عاطفية تتبع الادراك أنها صارت زوجته فعليًا، زوجته ولا مجال للتراجع.. قدرها صك الرباط بينهما كما صكها هو بملكيته.
يتبع …..

 

 

عادت “غرام” للمنزل من الخارج مُنهكة مُستنزفة تعاني الأمرين؛ التحقير الذاتي الذي يجرف كيانها كله جرفًا، والخوف الذي ينهشها حال معرفة “أيوب” بما تفعل، ناهيك عن قلقها حيال تلك القضية العالقة التي تورطت بها.
تنهدت بقوة وهي تنهض لتفتح الأكياس التي بها الملابس الجديدة التي أتت بها من عامل التوصيل لتواصل عملها و تصويرها، ولكن إتسعت حدقتاها وبقيت متجمدة مكانها تحاول استيعاب ما تبصره عيناها، لقد كانت الملابس عبارة عن “قمصان نوم” !
هرعت تفتش الأكياس جميعها بعدم تصديق فوجدتهم جميعهم كذلك، انتشلت هاتفها مسرعة لتتصل بصاحب العمل الذي كانت تتواصل معه، أجابها بعد قليل:
-ايوه.

 

ابتلعت ريقها تحاول تنظيم أنفاسها المبعثرة بفعل الصدمة لتكون جملة مفيدة، ثم غمغمت:
-استاذ محمود، واضح إن في لخبطة حصلت.
سألها بهدوء تام:
-لخبطة إيه؟
-المندوب چايبلي آآ….

 

 

تمتمت بصوت شديد الخفوت والحرج وعجزت عن الإكمال، تستحي حتى نطقها فكيف التخيل أن ترتديهم وتصور نفسها بهم !
تابع هو ببساطة مُغيظة:
-لانجري ؟
اومأت وكأنه يراها، ثم أضافت ولا زال عدم التصديق يلفحها:
-ايوه، واضح إنه اتلخبط فـ ياريت حضرتك تكلمه وتجوله يچي ياخدهم وآآ……
قاطعها بابتسامة ساخرة استشعرتها من حديثه:

 

-لا هو ماتلخبطش ولا حاجة، فعلًا هي دي الحاجة اللي المفروض تصوريها.
أجفلت ملامحها مرددة بذهول :
-نعم! أصورها ؟! أصور إيه؟ أنت بتجول إيه؟
رد ببرود لم يقل شعرة لصدمتها:
-بقول إن دي الحاجة اللي المفروض تصوريها حاليًا، أحنا ماتفقناش على حاجات معينة.
برقت عيناها بغضب يندد بمطلبه الأحمق:
-وماتفجناش إني أصور حاچات عريانة كدا، أنا مش كدا و مستحيل أعمل كدا.
سألها بنفس النبرة الباردة التي ألهبت غضبها أكثر تجاهه وتجاه نفسها:

 

 

-إيه الفرق بين اللي صورتيهم قبل كدا ودلوقتي؟ كدا كدا وشك مش باين.
هدرت من بين أسنانها بحرقة مُميتة عذبتها:
-وشي مش باين بس چسمي باين، وأنا لحمي مش رخيص.
قال ببساطة سحقت كرامتها سحقًا، وتجلى مذاق الإهانة المريرة في حلقها:
-الموضوع بسيط، أنتي اللي مدياه أكبر من حجمه، كام صورة وهتاخدي مقابلهم، ويمكن لو عجبوني أدفع أكتر.

 

فكادت تغلق الخط دون أن تجادله أكثر، ولكنه سارع بالقول قبل أن تغلق:
-اوعي تقفلي عشان ماتندميش واسمعيني للأخر.
أرهفت السمع بأنفاس ثقيلة.. غاضبة، فأضاف وقد تحولت نغمة صوته لأخرى بشعة مُهددة شيطانية:
-افتحي شوفي اللي بعتهولك دلوقتي.
فتحت هاتفها والتوجس يكاد يفتك بها، إلى أن وقعت عيناها على الصورة التي أرسلها والتي كانت صورتها، ولكن لم تكن مجرد صورة عادية، بل كان وجهها مُركب

 

على جسد آخر يرتدي ملابس خليعة، ولكنه يشبه جسدها في وزنه وهيئته بدرجة لا تُصدق، فبدت الصورة أقرب جدًا للواقع !
شهقت وكأنها تغرق.. لا بل هي تغرق بالفعل، تغرق في وحل لزج عفن ظنته سيكون طريقها نحو النجاة !
ثم صارت تهز رأسها نافية بهلع مرددة:
-دي مش أنا، أنا ماتصورتش كدا، مش أنا.
-ما أنا عارف طبعًا إن مش أنتي، بس اللي هيشوف الصورة مش هيعرف.

 

صرخت فيه بأعصاب على حافة الجنون:
-إيه عايز مني؟ بتعمل كدا ليه يا مريض؟
هتف بصوت أجش حاد:
-أنا قولتلك أنا عايز إيه، نفذي من غير كلام كتير وإلا الصورة الحلوة دي هتلف البلد كلها عندكوا.
ثم أغلق الخط دون اضافة المزيد بعدما أغلق بكماشتيه الضاريتين عليها، سقط الهاتف من بين أصابعها التي ارتخت في حالة تبلد دامت للحظات قبل أن تبدأ غرام بلطم خديها بهيستيرية وهي تغمغم بما شابه الهذيان:
-يا مصيبتي، يا مصيبتي، أنا اتفضحت، روحت في داهية.

 

لم ينقصها سوى “أيوب” الذي فتح الباب في تلك اللحظات تحديدًا، ودلف دون أن تشعر به ليُصدم بحالتها وهي ساقطة ارضًا تندب حظها العثر..
تحرك نحوها مسرعًا بعدما انتفض كليته بقلق حقيقي مر دهر على الشعور به، وراح يسألها بنبرة ملتاعة:
-مالك يا غرام؟ إيه في ؟
رفعت له عينيها النازفتين حزنًا وألمًا، وقد كانت مذهولة مرتعبة من تواجده.. ثم أخذت تهمهم بإسمه بحروف مشردة كحالها:
-أيوب، أنا في مصيبة يا أيوب.
سألها بقلب ينبض فزعًا ضاري:

 

-مصيبة إيه؟ إيه حصل؟
لم تستطع أن تجيبه، ودت أن تنطق بالفعل ولكن الحروف وكأنها صارت جمرات تحرقها حرقًا دون أن تجد القدرة على إخراجها، فهزها أيوب مكررًا سؤاله بلهجة أشد:
-بجولك إيه في ؟ انطجي إيه حصل ؟
وقعت عيناه على الهاتف المُضيء الساقط أرضًا، فأمسكه يتفحصه عله يصل لشيء، وهاله ما رآه، لم يصدق عينيه في الوهلة الاولى وهو يحدق في تلك الصورة، ثم رفع لها عيناه التي ازدادت ظلامًا، تنذر بعواصف مُهلكة:
-إيه دا ؟

 

ارتجفت شفتيها وهي تتلفظ بكلمات غير مفهومة من فرط هلعها:
-دي آآ… أنا مش آآ…..
فزمجر بنبرة راعدة مُخيف:
-دي إيه ؟ ردي إيه الصورة دي ؟
هزت رأسها نافية بسرعة تنفي عنها تهمة رأتها تُرسم لها ببطء في عينيه:

 

-مش أنا، والله مش أنا.
هدر فيها بصوت شابه طنين مُرعب جعل جسدها يقشعر:
-امال مين؟ مش دا وشك؟ وجسمك؟ ازاي مش أنتي.
-أنا هجولك كل حاچة هحكيلك والله.
سارعت تخبره وهي تبتلع ريقها بصعوبة، ليصرخ فيها بأعصاب محترقة لا تحتمل الانتظار:
-تجوليلي إيه؟ چابوا صورتك ازاي لو دي مش أنتي؟ انطجي.

 

 

سارعت تحكي له كل ما حدث مسرعة وسط شهقاتها التي لم تستطع ايقافها، ومع كل كلمة تخبره بها كانت عيناه تتوسعان وتحترقان أكثر بغضب ناري أسود حتى صارتا كحفرة من النار، إلى أن خرج صوته مبهوتًا مطعونًا رغم خشونته:
-أنتي كنتي بتخونيني؟ بتخونيني أنا ؟ بعد كل اللي عملته ؟
هزت رأسها نافية على الفور وقد أجفلت ملامحها بصدمة أمام بشاعة اتهامه:
-لأ طبعًا، جولتلك دي مش أنا، أنا مش بخونك ولا عمري هخونك.
بعينين محترقتين بالغضب ولهجة قاطعة حادة كالسيف كان يهدر:
-اللي عملتيه دا خيانة، فاهمة؟ خيانة يا محترمة.

 

-ماسمحلكش تجول عني كدا.
صاحت فيه في المقابل بانفعال لحظي تلقائي، فلم تجد ردًا سوى صفعة عنيفة سقطت على وجنتها لتلهبها.
فأمسكت وجهها متجمدة مكانها بأنفاس لاهثة متحشرجة كخرير مَن يلفظ أنفاسه الأخيرة، فيما واصل أيوب هديره القارص:
-حتى لو دي مش أنتي، خروچك من غير اذني خيانة، الصور اللي كنتي بتبعتيها لرچالة غريبة خيانة، إنك تخبي عليا حتى لو شغل عادي فـ دا كمان خيانة، الخيانة مش بس بچسمك.
ثم جذبها من ذراعيها عاصرًا لحمها بين يديه بعنف وهو يقول من بين أسنانه بنبرة تملكية متوحشة:
-ولو إنك كمان خونتيني بيه، الخيانة مش بتكون على السرير بس، چسمك دا ملكي، حجي أنا بس أشوفه، روحتي أنتي بكل حقارة تعرضيه جدام اللي يسوى واللي مايسواش.

 

حاولت جذب ذراعيها من قبضته العنيفة وهي تسترسل بلهجة منتفضة دفاعًا وامتهانًا:
-مش من حجك تصور الموضوع بالصورة القذرة دي، دي كانت صور عادية بهدوم بكم، مش صور ليا وأنا عريانة !
لوى شفتيه بسخرية صريحة مريرة، وشملتها نظرته المُظلمة بتعبير صريح بالازدراء أوجعها بحق:
-إيه الفرج؟ خلتيهم يتفرچوا في چسمك لدرجة إنهم حفظوه و عرفوا يچيبوا صورة زي چسمك بالظبط، وكل دا عشان إيه ؟ عشان كامل الكلب هددك عشان خمس آلاف جنية.

ثم أضاف بنبرة فجة ممتهنة:
-دا أنتي لو جومتي بواچبك كزوچة كنت اديتك أكتر منهم بما إنك بتستخدمي چسمك كسلعة بتچيب فلوس.
ثم تركها دافعًا إياها بعيدًا عنه كأنها وباء مُعدي، متابعًا بازدراء أحسته كافة خلاياه في تلك اللحظات:
-بس أنا جرفان منك، مش طايج أشوف وشك حتى.

 

انفجرت صارخة فيه بانهيار بعد أن طال ضغطه على بؤرة كتمانها:
-كنت عايزني أعمل إيه؟ واحد بيهددني والتاني أنا مش فارجة معاه أصلًا هو بيتحدى بيا أبوه بس ومش مهم الحشرة اللي ما بينكم، ولما سألتك هتعمل إيه كانت النتيچة إنك مش في إيدك تعمل حاچة، حط نفسك مكاني يا أخي.
أشهر إصبعه في وجهها محذرًا بشراسة:
-أنا عمري ما هكون مكانك عشان أنا مش خاين، أنا وثجت فيكي مع إنك أنتي اللي محتاچاني مش أنا، وأنتي….
أطلق ضحكة قصيرة مفعمة بالتهكم قبل أن يضيف:
-وأنتي ماوثجتيش فيا، فـ ماتحاوليش لتبرري لنفسك الجرف اللي عملتيه.
ثم استدار ليغادر المنزل دون أن ينتظر ردها الذي ربما لن يأتِ أصلًا، فتتهاوى هي على الأريكة بوجهٍ شاحب مُلطخ بدموعها وجسد لا يُشعرها هذه اللحظة سوى بالرخص!
****

 

وصلت “ليلى” إلى المستشفى التي يرقد بها “سالم” لتطمئن عليه والقلق مصاحبًا تأنيب الضمير كان يسكن قلبها، توجهت نحو الطبيب المشرف على حالته لتستفسر منه عن حالته التي لم يجد جديد بها مع الأسف، وحين خرجت قابلت “ظافر” الذي وقف أمامها بجمود، به شيء غريب… عينيه باردتين خاويتين من المشاعر التي كانت تحلق فيهما، وتستطيع الشعور بحفيف الغضب البطيء فيهما.
خرج صوته أجش وهو يسألها:
-بتعملي إيه هنا ؟
بللت شفتيها التي جفت وهي تجيبه بهدوء مغلق:

 

 

-بطمن على چدي سالم.
بنوازع سخرية دفينة كان يردف:
-بتطمني عليه ولا چايه تشوفي أنا قررت هعاقبك ولا لأ ؟!
عقدت ما بين حاجبيها بعدم فهم:
-تعاقبني؟ بناءًا على إيه؟
سحبها من ذراعها برفق مخلوط بالحزم نحو الخارج، فحاولت التملص من قبضته وهي تقول من بين أسنانه بانفعال بدأ يهدد بطرق أبوابها:
-سيبني أنت واخدني على فين؟

 

أخبرها دون أن يتوقف او يلتفت لها حتى، ولا زال حديث والدتها يتردد بأذنيه منتشرًا في خلاياه كـ سم بطيء المفعول:
-هنروح نتكلم في حتة بعيد عن الناس.
ثم لوى شفتيه بتهكم قاسي:
-ولا أنتي أصلًا عايزاهم يعرفوا صح ؟
لم تدرك مقصده ولكن حدسها أنبأها أن هنالك عاصفة كبيرة على وشك الهبوب !
بينما هو كان اعتقاد مترسخ داخله أنها على علم بكل ما قالته والدتها، فهي مَن أعطت لها رقم هاتفه وأخبرتها بما حدث، لذا بالتأكيد هي تفكر بنفس الطريقة

 

المُثيرة لأعتى الشكوك.
وصل بها لمنزلهم الذي لم يكن يبتعد كثيرًا عن المستشفى، ترجلا من السيارة، وكانت ليلى تُقدم قدم وتؤخر الاخرى بتردد ملحوظ، فسحبها ظافر من ذراعها ليلتهم الخطوات نحو غرفته، قابلت بعض العاملين بالبيت في طريقهما، ومعهم “راوية” التي رفعت حاجبها الأيسر باستنكار وتعجب، وقرأت بسهولة نظرات الشك تحوم بحدقتي الموجودين، فقالت بلهجة قاطعة وهي تسير خلفه:
-أنا مرته.

 

لم تسنح لها الفرصة لترجمة الصدمة المتوقعة على وجوههم، إذ لم يتوقف ظافر ولو لحظة لنفي او تأكيد ما قالت، رغم أنها تكاد تجزم أنها استشعرت الهزة اللحظية التي أصابت جسده كصاعقة كهربائية بعدما سمع ما صرحت به.
وما أن وصلا غرفته حتى أفلتت ليلى ذراعها من قبضته الغليظة وهي تهدر فيه بغيظ:
-مش من حجك تشدني وراك زي الچاموسة بالطريجة دي.
رفع ظافر حاجبه الأيسر باستهجان:

 

 

-مش من حجي؟ امال من حج مين؟
تجاهلت سؤاله وهي تجابهه بقولها المتصلب تزامنًا مع بُنيتيها الأبيتين:
-أنت لسه مجتنع إن أنا السبب في اللي چدك فيه صح؟ وأظن إني جولتلك لو ثبت إني السبب أنا هتحمل النتيچة، وهعرف أتصرف.
-هتتصرفي ازاي؟
سألها بتأهب والشك ينخر عقله نخرًا خاصةً بعد تصريحها للعاملين بالبيت أنها زوجته هكذا بلا مقدمات، وكأنها تؤكد بطريقة غير مباشرة أنها ستسير في خطة والدتها الدنيئة لإجباره على عدم عقابها.

 

ردت دون تردد بإباء:
-مايخصكش.
اقترب منها وهو يسألها بطريقة غريبة جعلتها تتراجع للخلف تلقائيًا بريبة:
-لو أنا فكرت إني حالًا أروح للبوليس وأجول إنك المسؤولة عن حالة جدي و اللي چدي وصله، هتعملي إيه؟
كان يوخز باطن مخاوفها عن عمد ليرى إلى أي حد من الخبث ستصل محاولاتها في حماية نفسها ؟ او ربما إلى أي حد هي مرتعبة من انكشاف ما فعلته ؟!
كان له ما أراد، أصاب الفزع عقر قلبها المخضب بالقلق، ولكنها أبت أن تظهر ذلك فهزت كتفيها بلا مبالاة بالية:
-براحتك، كدا كدا أنا مش متضررة لوحدي.
إلتقط عقله المشحون بأفكارٍ مسمومة جملتها العادية على نحوٍ آخر.. على نحو مؤكد للمنحدر الذي يردم عقله بشكوك شتى.

 

فاقترب منها أكثر وهو يهز رأسه مسهزئًا بابتسامة ثعلبية، يردد عليها ما سمعه من والدتها وكأنه تأكد من ظنونه:
-طبعًا مش متضررة لوحدك، ما أنتي عرفتيهم إنك مرتي وبكره كل البلد تعرف، ويجولوا دا متفج معاها يخلصوا من چده عشان يورثه.
انبلجت الصدمة في عينيها وإتسعت حدقتاها وهي تتفوه:
-إيه! أنت ازاي بتفكر كدا ؟!
ولكنه بدا وكأنه لم يسمع ما قالت، واقترب منها أكثر حتى صار أمامها مباشرةً لا يفصلهما سوى إنشات قليلة، أحاط خصرها بيده بحركة مباغتة وألصقها به،

 

فصفعتها أنفاسه الهادرة بعنف، حاولت بشدة الفكاك من قبضتيه وهي تصيح فيه باهتياج:
-اوعى سيبني.
ولكنه لم يفلتها ولم تهتز عضلة من فكه، بل واصل بخشونة أمام شفتيها بذهنٍ غائب وقلب يتلظى بشكوكه:
-بس بما إنك هتستفادي من الچوازة دي، من حجي أنا كمان أستفاد منها.

 

 

ثم هبط بوجهه مستهدفًا شفتاها ولكنها كانت الأسرع فأدارت وجهها بعيدًا عنها وهي تزمجر بكلمات غاضبة محتقنة لم تصل لظافر الذي كان في عالم آخر ضبابي، مال يلثم رقبتها بقسوة تخلو من العاطفة الدافئة لم تروقها أبدًا بعد أن ازاح عنها حجابها بحركة مباغتة من يده، وظلت ليلى تقاومه محاولة الابتعاد عنه وهي تغمغم بصوت مبحوح على حافة البكاء:
-ظافر سيبني، سيبني بالله عليك اوعى.
ولكنه كان في وادٍ آخر، وادٍ مُظلم لا يرى فيه ما الصواب وما الخطأ، كان يتخبط فيه دون وعي والشكوك التي أكدتها دون قصد تطعنه في مقتل، فأراد إيلامها كما

 

تؤلمه هي دومًا منذ عرفها.
شعرت بمقاومتها على حافة الانهيار وهو لا يتوقف، تشعر بشفتيه توشم بقسوة كل ما تطاله منها، فرددت بكلمات لم تزنها بعقلها من بين شهقاتها الباكية بنبرة مُستنزفة مُنهكة.. بل مذبوحة:
-بلاش كدا بالله عليك، أنت جولت إنك بتحبني، أنا ليلى.
ولكنها شعرت أن عقله بعيد إلى الدرجة التي تجعل كلماتها تتناثر في مهب الريح، فبدأت أعصابها ترتخي مستسلمة إلى ذبح وشيك…….
****
يتبع ….

 

 

في اللحظات التالية بعد همسها، تجمد “ظافر” مكانه لثوانٍ، واستكان الاهتياج الذي كان يعتريه، وكأن أسمها و حبها نجحا في سلسلة شياطينه المهتاجة، ابتعد عنها ببطء ليحدق بها وهي منكمشة على نفسها ووجهها شاحب كالأموات، والدموع تسيل على وجنتيها الشهيتين اللتين كان يعشقهما لتلطخهما تمامًا !!
ربااااه ما الذي فعله ؟! ما الذي جعله يُقدم على هذا الجنون تجاه المرأة الوحيدة التي أحب معميًا بغضب صار كالقطعة البالية أمام عينيه.
انتفض جسده متراجعًا للخلف كمَن لدغه ثعبان الادراك المتأخر لتُفتح عينا عقله المُغيب طويلًا ويرى فداحة ما فعل، ويحمد الله أنه استفاق من تلك الغيبوبة الواقعية فلم تدم أكثر وإلا لعاش المتبقي من عمره في غياهب الندم.
غمغم بإسمها بصعوبة بصوتٍ متحشرج وكأن حتى اسمها يلومه فيأبى الخروج من شفتيه:

 

-ليلى أنا….
صمت… ماذا يقول؟ وما الذي يمكن أن يقوله فيخفف ثقل فداحة ما فعل، فيما شهقت ليلى وهي تبكي بانهيار بعد سماع صوته الذي لم تمقت سواه في تلك اللحظات، وتشد ملابسها التي تبعثرت لتخفي جسدها.. تبكي الانتهاك النفسي والجسدي الذي تعرضت له الدقائق الماضية..
فتساقطت دموعها على قلبه كماء نار لتُصليه ببطء مُعذب، اقترب منها خطوة وحيدة قبل أن تصرخ هي فيه بصوت بح من كثرة البكاء:
-ابعد عني.

 

 

ابتعد على الفور مشيرًا بيديه لتهدأ.. ثم ابتلع ريقه وقال بنبرة خشنة ملتاعة متآكلة بالندم:
-أنا أسف.. أسف.
ثم غادر الغرفة على الفور تاركًا إياها تنخرط في بكاءٍ عنيف، وقف خلف الباب مغمضًا عيناه بقوة وهو يتحسس الباب بقبضته ضاغطًا عليه يود لو يخترقه فيتلقفها بين أحضانه مهدئًا إنهيارها.. وكأنه ليس مَن تسبب بذلك..!
وكانت شهقاتها كالسكاكين الباردة تُغرز في قلبه ورجولته وهو يدرك أنه بدلًا من نحت مكانة لا تُمحى له في قلبها، نحت جرحًا غائرًا لن يندمل بسهولة وسيظل ألمه عقبة بينهما… هذا إن ظل شيء بينهما !

 

اتجه لغرفة الضيوف يحبس نفسه بها بعيدًا عن عيني العاملين بالمنزل الفضولية، وقف أمام المرآة هناك يلهث بعنف وكأنه في حرب مُهلكة…
نظر لصورته في المرآة فلم يرَ سوى صورة مشوهة باهتة لرجل خانه غضبه فتحكم به لدرجة صعبة من الانفلات لم يصل لها قبلًا، ولكن فكرة الغدر منها وعيش ما عاشه سابقًا من قهر الفراق بعد الغدر كانت طاعنة ومُعذبة له خاصةً بعدما جرب حلاوة عشقها والقرب منها..
تبًا لوالدتها ولحديثها المسموم الذي جعله كالمسحور بسحر أسود يأبى مفارقته إلا بعد أن يدمر كل شيء..
ضرب المرآة بقبضته بعنف لتتهشم لقطع متناثرة صغيرة، يجب أن يعلم.. يجب أن يتحدث معها مباشرةً، وإن كانت لها صلة بحديث والدتها سيُريها الوجه الشيطاني الآخر من ظافر العبادي.. وهذه المرة دون ذرة ندم.

 

****
بعد ما يقارب الثلاث ساعات…
استعادت ليلى ثباتها نسبيًا وجفت دموعها من كثرة البكاء، لم يكن تعديه وحده ما يؤلمها.. بل هو تلك الصدمة المصحوبة بالخذلان منه، لا تدري كيف او متى ولكنها مؤخرًا في ظل أفعاله ظنت أن لها أهمية لا تُمس لديه، ابتسمت بسخرية من نفسها… لم تُمس فقط وإنما سُحقت أسفل حذوة غضبه بكل بساطة !
نهضت وأعادت ترتيب ملابسها وهيئتها التي كانت يُرثى لها بسبب هجومه، ثم استعدت للخروج من الغرفة، ولكن وكأنه سمع أفكارها فحين فتحت الباب وجدته أمامها، تراجعت خطوتين تلقائيًا في تأهب..

 

فتقدم منها ظافر وهو يقول باقتضاب مبررًا وجوده على الفور:
-أحنا لازم نتكلم.
تحركت نحو الباب لتخرج ولكنه منعها ممسكًا إياها من ذراعها فانتفضت على الفور صارخة فيه بنفور تداخل مع خوف لحظي:
-ابعد يدك ماتلمسنيش.
وكم أوجعه ذلك النفور والخوف ولكنه سيتحمل.. سيتحمل لأنه يستحق، وحين يتأكد أن ليس لها أي دخل بما صار سيمحو ذلك النفور بطريقته ويُبلسم جرحها.

”رواية نبع الغRام” لتكلمة الجزء التالى من الرواية اضغط هنا?⏬???

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top