رواية نبع الغRام كاملة (جميع فصول الرواية)

­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­ ­

-إيه السرعة دي؟!
وما أن رأت ليلى الشخص الذي دخل، والذي لم يكن سوى “زوج والدتها” حتى تجمدت مكانها بعدم استيعاب، لا تود تصديق عيناها، ولكن ما لفظته بقوة خارج بقعة التصديق داخلها، ازداد إلتصاقًا بها وهي تسمع صوته الكريه بابتسامة مقيتة:

close

 

-إيه يا ليلى مالك اتصدمتي كأنك شوفتي عفريت؟!
كان متلذذًا برؤية الصدمة وقلة الحيلة والتوجس يتفجرون بقسماتها، رغم أنه هو شخصيًا لا يصدق أن حظه أسعفه ولو مرة فجعله يراها صدفةً وهو يزور أحد الشخصيات في المستشفى، فسار خلفها مسرعًا، ولكن ما جعله يتأخر عن الصعود هو شجاره مع سائق سيارة الأجرة التي ركبها ليأتي به هنا خلف ليلى.
خرج صوتها أخيرًا وهي تسأله مستنكرة بعدم تصديق:

 

-أنت إيه اللي چابك هنا ؟
رد ببرود لا يُصدق:
-جدرك وجدري اللي چابني هنا، فين أمك؟ فين مرتي؟
فزمجرت فيه بأعصاب اشتعلت بنيران الماضي القريب:

-عايز مننا إيه؟ عايز تدبسنا في مصايبك تاني؟ مش كفاية اللي عملته؟!
هز كتفاه بلا مبالاة:
-عملت إيه؟ ماكنش مشوار دا أخدتك معايا فيه.

 

قالت ليلى من بين أسنانها بغل دفين:
-مشوار خلاني بجيت نصابة من غير ما أعرف.
لوى شفتاه ساخرًا:
-القانون لا يحمي المغفلين يا بت مرتي.
صاحت فيه باهتياج لم تجد القدرة على كبحه:
-اطلع برا، برا جبل ما أصوت وألم عليك أمة لا إله إلا الله.

 

قطع الخطوتين الفاصلتين بينهما وهو يجذبها من حجابها بعنف مزمجرًا فيها بقسوة غاضبة بينما ليلى تصرخ بألم:
-إياكي تتچرأي تعلي صوتك عليا تاني يا بت ال***
ما أن سمع ظافر صرختها لم يستطع التريث أكثر، كان الغضب داخله كالنيران الضارية تلتهم كل محصوله من الصبر وهو يسمع للحديث الدائر بينهما.
فدخل الشقة دون مقدمات ليبعده عنها وهو يضربه بينما يهدر بشراسة:
-سيبها يا كلب يا ****

 

 

سقط “هاشم” أرضًا وهو يتأوه ألمًا، ثم أجفلت ملامحه وهو يستوعب أن القابع أمامه ليس سوى “ظافر العبادي” الذي لن يتوانَ عن الانتقام منه واسترداد حقه، لذا عليه أن يكون الأسرع والأذكى!

 

نهض وهو يرسم ابتسامة متهكمة متشدقًا:
-إيه دا إيه دا، دا الشامي اتلم على المغربي اهو !
وبحركة مباغتة كان يُخرج هاتفه ويلتقط صور عشوائية لظافر وخلف ظهره ليلى التي ظهر وجهها في الصورة للأسف!
ثم قال بنبرة تنضح مكر ودناءة:

 

-الله، صور جميلة لعصافير الحب، يا ترى هيحصل إيه لما أهل البلد كلهم يشوفوا الصور دي ويعرفوا اللي بت مرتي المحترمة كانت بتعمله مع ظافر باشا في شجة لوحديهم؟!
كز ظافر على أسنانه بكمد دفين، وكاد يندفع نحوه من جديد ليضربه لولا ليلى التي أمسكت ذراعه توقفه مترجية بينما ملامحها تنتفض هلعًا كدقات قلبها وهي تستمع لتهديد ذلك الشيطان والذي تعلم أنه قادر على فعل ما يقول:
-لا بالله عليك أنا مش ناجصة فضايح.

 

اومأ هاشم برأسه وهو يؤكد بنبرة درامية خبيثة مصطنعًا التأثر:
-فعلًا أنتي مش ناجصة فضايح، بس نعمل إيه بجا في حظك الشؤم، تخيلي معايا كدا لما أزعج وألم الناس كلها ويشوفوني وأنا مصدوم في بت مرتي اللي جفشتها مع واحد في شجة، والمستشفى اللي كنتي فيها يوصلها الخبر والدنيا كلها، ابجي جابليني لو عرفتوا ترفعوا راسكوا جدام حد تاني.
كان يدرك أنه يضغط وبشدة على منبت الجنون والغضب لدى ظافر، ولكن ود التأكد من زرع اليقين لِمَ يقول بعقولهم أولًا، ثم استطرد:
-إلا لو اتفجنا.

 

زمجر فيه ظافر كليث مهتاج:
-اتفجنا إيه يا حرامي يا بن ال****، دا أنا هاسچنك وهاوديك في ستين داهية.
تجاهل هاشم ما قاله وهو يضيف بجشع يشوبه التهكم:
-تكتبلي وصل أمانة عشان أضمن إنك مش هتجدر تعملي أي حاچة، اعتبره مهر الغندورة اللي چمبك لحماك، ما هو أنا زي أبوها.

 

حينها إلتوى ثغر ظافر بابتسامة تقطر سخرية وشراسة:
-مستحيل، دا لما تشوف حلمة ودنك يا مريض.
هز هاشم رأسه، ثم تحرك فجأة نحو الشرفة وهو يصرخ بصوتٍ عالٍ منفذًا تهديده:
-يا نااااس يا خلج، تعالوا شوفوا الشريفة العفيفة ال…….

ثم انقطعت حروفه المشبعة بالحقارة حين جذبه ظافر من ملابسه بعنفٍ شديد ثم دفعه للخلف بقوة زائدة جعلته يصطدم بالحائط من خلفه بشدة حتى شعر بألم ساحق في رأسه التي بدأت تنزف قليلًا.
استرسل ظافر بخشونة شرسة مكشرًا عن أنيابه القاسية:

 

-دا أنا اجتلك جبل ما تعملها، وماخدش فيك يوم واحد حبس!
ظل هاشم يتأوه بألم ثم إتسعت عيناه بذعر وهو يرى الدماء التي تقطر من رأسه، فصاح في ظافر باهتياج:
-كمان! وديني لأروح أعمل تجرير في المستشفى وأجول إنك ضربتني وكنت عايز تموتني عشان ماتتفضحش أنت والزبالة التانية.

 

تدخلت ليلى صارخة فيه بجنون:
-كفاية بجا حرام حرام عليك أنت إيه يا شيخ شيطان!
جاء “سائق السيارة” حين سمع لصوت هاشم العالي، والذي يبدو أنه على معرفة وطيدة بذلك الحقير حيث اقترب منه مسرعًا بتوجس يسأله:
-إيه اللي حصل يا هاشم مالك؟
راح هاشم يتلفظ مفتعلًا الغضب والقوة:
-اشهد يا حسن اشهد على الاتنين اللي جفشتهم في الشجة لوحديهم، مش هاسيبكم تفلتوا بعملتكم.
ا

 

ومأ الاخر مؤكدًا برأسه:
-ايوه اهدى بس يا هاشم وتعالى نطلع على المستشفى راسك شكلها عايزة تتخيط.
أضاف بعزم خبيث وهو يرمق ليلى الشاحبة بنظرة ذات مغزى:
-هنروح، هنروح وهنطلع بالتجرير “التقرير” على البوليس بعدها.

 

لم يهتم ظافر بأيًا مما يقول، بل سحب ليلى من ذراعها مغادرًا بها المكان، جعلها تركب سيارته بينما هي كالعروس الماريونت، تشعر بعقلها تجمد حتى فقد القدرة على التفكير او الاستيعاب.
بدأت تضرب خديها بفزع وهي تصيح حين سقطت قطرات الادراك على عقلها الجاف:
-يا نهار اسود، أنا هتفضح! ومش هلاجي حد يشغلني حتى، ياربي أنا عملت إيه لكل دا، كل ما أهرب من الفضايح تيچي ورايا.

غمغم ظافر بصوتٍ أجش:
-اهدي.
كان يحاول التفكير، يحاول الوصول لحل لتلك المعضلة التي وُضعا فيها سويًا، فهو الاخر أخر شيء يريده هو الفضائح، ليس بعدما بنى اسمه بمجهودٍ شاق،

 

وجده.. جده لن يحتمل تلك الفضيحة أبدًا، بالإضافة لتأنيب ضمير قارع نحو ليلى يدق داخله بقوة ويتردد صداه في كافة خلاياه، فهو المتسبب فيما جرى، ربما لو لم يذهب خلفها بشكٍ قاتل لما كان حدث كل ما حدث.
بعد قليل…
وصلا إلى منطقة هادئة بعيدة نوعًا ما، ترجل ظافر من السيارة وبدأ يتحدث في الهاتف مع احدهم والانفعال جلي على ملامحه الرجولية السمراء..
إلى أن عاد نحو “ليلى” وركب السيارة، ناظرًا نحوها بنظراتٍ ثاقبة، وخرج صوته الرجولي جاد وصلب:
-أحنا لازم نروح نكتب كتابنا دلوجتي.
****
يتبع ……..

 

 

في مكانٍ خالٍ بعيد عن الازدحام البشري، يمتلكه “ظافر”، كان “هاشم” مربوط على كرسي، ووجهه متورم بكدماتٍ حمراء سببتها ضربات ظافر العنيفة له، فبعد أن خرج من المستشفى مباشرةً وقبل أن يتجه لقسم الشرطة كما كان ينوي، كان بضع رجال يُقيدوه في شارع خالٍ من البشر ويحملوه معهم في سيارة لهذا

 

المكان، حيث ظافر بانتظاره بكمد مكبوت يغلي كبركان ثائر على وشك الانفجار..
صرخ هاشم بهيستيرية متأوهًا بألم :
-والله ما هاسيبك، هابلغ عنك وهتشوف هتروح في داهية.
إرتسمت ابتسامة مستهزئة على ثغر ظافر وهو يهتف:

 

-المفروض كدا أخاف صح؟ إلحجوني خوفت خوفت چدًا وركبي بيخبطوا في بعض.
ثم تهدلت تلك الابتسامة لتتجهم قسماته بتعبير مُخيف قاسٍ كأنها قاع الجحيم، بينما يردف بخشونة باردة:
-أقصى ما في خيلك اركبه، مش ظافر العبادي اللي يسيب كلب ولا يسوى زيك يخوض في عرضه ويجف يتفرچ.

 

كان الغضب يقتات على خلايا هاشم ولكنه آثر كتمانه وهو يواصل بسماجة:
-هي السنيورة لحجت توجعك بالسرعة دي؟ أنا كنت عارفها مش سهلة بت صباح.

 

لكمه ظافر من جديد بغلٍ أكبر كلما تذكر أنه المتسبب الرئيسي في خلق ظنون وهمية في عقله نحو “ليلى”، وهدر فيه بشراسة:
-اسمها مايچيش على لسانك ال***.
ظل هاشم يتنفس بصوتٍ عالٍ والألم يُفقده الاحساس بوجهه شيئًا فشيء، مد ظافر يده لجيب جلبابه وأخرج منه هاتفه، ثم سأله بصوتٍ غليظ:
-كلمة السر بتاعت التليفون إيه؟
هز الآخر رأسه نافيًا بعناد ممزوج بالسخرية:

 

-مش هجولك، أنت مفكرني عبيط عشان أجولك ولا إيه؟
لم يثور ظافر في لحظة كما توقع، بل إلتحمت ابتسامة… لا ليست ابتسامة هي أبعد ما يكون عن الابتسامة المعهودة، فقط إلتواء مصحوب بتعبير شرس وعينيه يزداد ظلامها وهو يقول بجمود:
-هتجول، غصب عنك مش بمزاچك، لإن لو ماجولتش قسمًا بالله لأكسرلك صوابع يدك صابع صابع أنا مش ورايا أي حاچة، وبرضو مش هتجدر تثبت حاچة عليا.
اهتزت نظرات “هاشم” بشكٍ سرعان ما صار يقين حقيقي حين أمسك ظافر إصبعه ولواه بعنف يوشك على كسره فعليًا، مما جعله يصرخ بصوتٍ عالٍ وهو يشعر بألم ساحق في يده المربوطة بالكرسي، ثم غمغم مستسلمًا:
-هجولك هجولك سيبني.

 

تركه ظافر على مضض وهو يردد بابتسامة ظافرة:
-سامعك.
أملاه هاشم كلمة السر بالفعل، فمسح ظافر الصور التي إلتقطها لهما، وألقى الهاتف أرضًا، ثم أخرج من جيب جلبابه “وصولات أمانة” ووضعها أمامه آمرًا:
-امضي، عشان لو فكرت تلعب بديلك اوديك ورا الشمس.
نفى هاشم مسرعًا بصدمة:

 

-لا مستحيل لا، وأنا إيه اللي يضمني إنك ماتستغلهمش؟!
لم يكلف ظافر نفسه عناء الرد عليه بل أشار لأحد رجاله بإصبعه، فاقترب الآخر ليضرب هاشم بعنف جعله يتأوه ويصرخ متألمًا، وبعد بضع لكمات جعلت الدماء تسيل من فمه وأنفه، خر مستسلمًا بصوت يكاد يسمع:
-همضي، همضي.

وبالفعل بعد أن وقع عليهم، انحنى في مستوى هاشم قائلًا بوعيد ضاري:

 

-اقسم بالله لو شوفتك چمبها ما هيچرالك طيب، المرة دي كانت جرصة ودن صغيرة، المرة الچايه مش هاسيب فيك حتة سليمة، ولو فكرت تجول أي حاچة لأي حد من اللي ألفتها او اللي حصلت هنا هتلاجي البوليس مستنيك، ومش هسيبك برضو، ليلى مرتي.. مرتي على سنة الله ورسوله.
رغم الشعور الرهيب بالألم، إتسعت حدقتا الآخر والذهول ينبثق منهما لا يصدق ما سمعه، بينما ظافر عدل من هندامه بهدوء قبل أن يغادر ذلك المكان، نعم ليلى لم تصبح زوجته بعد، ولكنها ستصبح، وكان عليه أن يُعلم هاشم بذلك ليضع حدًا لِمَ ينويه.
****

بعد ثلاث أيام…
دخل “ظافر” لمكان “الحلاق”، فرأى هناك “أيوب العماري” صديقه المقرب منذ أن كانا صبية في المدرسة، نعم علاقتهما مؤخرًا كانت مذبذبة، ولكنهما اعتادا هذا.. مهما بلغ التذبذب بينهما ما أن يتقابلا حتى يعودا وكأن شيء لم يكن.

 

تجاهل “أيوب” رؤيته، فهو غاضب منه بسبب تجاهل ظافر لمكالمته مؤخرًا، ليقترب ظافر منه ويربت على كتفه هاتفًا بنبرة مشاكسة:
-على أساس إنك ماواخدش بالك مني؟
رد أيوب بفظاظة معتادة منه:
-لأ.
ضحك ظافر قبل أن يقول بكلماتٍ هادئة مغلفة بالصدق:
-أنا عارف إنك زعلان مني بس والله غصب عني، الفترة اللي فاتت حياتي كانت ملخبطة بطريجة ماتتصدجش.

 

 

لوى أيوب فمه متهكمًا:
-لا زعلان منك إيه يا راچل، هو عشان تچاهلتني كام يوم ومارديتش عليا وتجريبًا جطعت علاجتك بيا هزعل! لا عادي يا راچل هات سكينة ودبها في جلبي.
تعالت ضحكات ظافر الرجولية، فأضاف أيوب بجدية:
-وعلى فكره أنا كمان كان عندي بلاوي وكنت محتاچك معايا في يوم مهم.
كان يقصد “عقد قرانه” على غرام، فاقترب منه ظافر أكثر محتضنًا إياه بذراعه بود، وهو يشير له مستطردًا بمرح من بين ضحكاته:
-حجك عليا يا عم أيوب، طب هنحلج ونتكلم بعدين ولا ننشر غسيلنا أكتر جدام الحلاج؟
بعد قليل…

 

غادرا سويًا متجهان نحو متجر “أيوب” ليجلسا به في تجمع افتقداه كثيرًا مؤخرًا، وبالفعل أخذا يتسامرا لساعاتٍ أفرغ فيها كلًا منهما ما بجبعته، وبعد أن قص “ظافر” ما حدث معه مؤخرًا قبل ثلاث أيام على مسامع أيوب، حتى تنهد وهو يردف بصوت مشحون بمشاعره المتشابكة:
-مش عارف اللي عملته دا صح ولا غلط.
هز أيوب رأسه باستخفاف:
-لا عادي يا راچل.
ثم ضربه في كتفه بقوة جعلت ظافر يتأوه فراح أيوب يوبخه بصوتٍ أجش:

 

-غلط طبعًا، ليه تكدب على البنية وتقنعها إنها لازم تتچوزك مع إنك حليت الموضوع جبلها !!
ابتلع ريقه وهو يشعر بمرارة الذنب كالعلقم في جوفه، قبل أن يعلن بصراحة:
-خوفت أخسرها، الفرصة دي ماكانتش هتيچي تاني، وهي لو ماتچوزتنيش بالطريجة دي ماكنتش هترضى تتچوزني بعد المعاملة اللي شافتها مني الفترة

 

اللي فاتت.
عنفه أيوب بغلاظة:
-تجوم تچبرها يا لطخ؟ وتتچوزها كدا سُكيتي.

-أنا ما أچبرتهاش أنا أقنعتها، ولا مش سُكيتي، أنا هعملها أحلى فرح بس بعد ما تتجبلني في حياتها.
برر ظافر مسرعًا مدافعًا عن نفسه، فأصدر أيوب ضحكة قصيرة ساخرة وهو يتشدق بـ:
-أچبرتها بطريجة غير مباشرة، ماتحاولش تريح ضميرك بالكلمتين دول.

 

ضيق الآخر عينيه وهو يسأله بشك مرح:
-أنت بتبكتني عشان أنت مضايج مني ولا عشان فعلًا الموضوع غلط؟؟
ابتسم أيوب مجيبًا بسماجة مقصودة:
-الاتنين.
زفر بصوتٍ مسموع عله ينفث ذلك الحريق العاطفي القابـع بين ضلوعه، وخرجت كلماته ملتهبة بالمشاعر بفعل ذلك الحريق:
-خوفت تضيع مني تاني بعد ما لجيتها لأي سبب، ومش تضيع مني يعني تبعد عني، لأ.. هي كانت جدام عيني الفترة اللي فاتت بس بيني وبينها سد مانعني عنها

 

ومش جادر أتخطاه، دي الوحيدة اللي جدرت تخلي جلبي يتعلج بيها.
-شكلها عملتلك عمل ياض، أصل مش معجول من ساعة ما شوفتها في يوم ازرج زمان وأنت هتتچن عليها كدا.
عقب أيوب بسخرية، فيما تابع ظافر:
-ويمكن مشاعري دي هي السبب إني أحس بالغضب الشديد دا ناحيتها، حسيت إنها غدرت بيا لما فكرتها نصابة، وشوهت الصورة البريئة اللي رسمتهالها في

 

خيالي لما شوفتها أول مرة.
هكذا استمر التسامر بينهما وسط سخرية من أيوب، وتارة اخرى اعترافات مدوية من ظافر الذي يود اراحة ضميره بأي شيء.
****
بعد فترة، في منزل “أيوب العماري”…
وقفت “غرام” في المطبخ تعد الطعام بنفس نالت مخزون أكبر من الراحة فتوهجت، كلما مر الوقت دون أن يسقط فوق رأسها البلاء الذي توقعته، كان حجر ذلك

 

البلاء يبتعد عن صدرها أكثر، وربما أخر ما حدث بينها وبين “أيوب” زج بين جدران عقلها شعور غير مُفسر أنه لن يتركها كلقمة سائغة في فم والده ابدًا.
كاد الملل يقتلها وهي تجلس أمام التلفاز بلا هدف، حتى قررت أن تنهض وتعد الطعام على الأقل، لم تعرف في البداية ماذا تحضر بالتحديد، ثم تذكرت حين كان

 

أيوب يتحدث مع أحدهم على الهاتف وذكر وسط حديثه أنه يحب “الكُشري” فقررت أن تقوم بتحضيره، ربما تعبيرًا عن امتنانها !
دخل أيوب المنزل، فسمع صوتها يأتي من المطبخ، تحرك نحوه بفضول ليرى ماذا تفعل، ليراها تُحضر طعام ويبدو أنها لم تشعر بوجوده، وقف لبرهة رغمًا عنه مسلوب الارادة وعيناه الرجولية تُمشطها بنظرة بطيئة متفحصة بدءًا من خصلات شعرها الناعمة الطويلة التي تركتها متحررة بعدم اهتمام، وملامحها الانثوية البيضاء المغمورة بشيء من السكينة التي جعلتها رائقة، ثم جسدها الانثوي الممشوق… كل شيء فيها جميل، جميل بشكل يجعل حرارة عاطفية غريبة تنبعث

 

في صدره وبين شرايينه، مُسربلة بالنظر لها، وكم يود أن يظل يشاهدها هكذا !

تنحنح وهو يتراجع خارجًا من المطبخ، ماذا يحدث له، بالتأكيد هذا تأثير الحديث العاطفي اللعين مع ظافر.
تنهد وهو يتجه لغرفته ليغير ملابسه، بعد قليل وبعد أن شعرت غرام بوجوده، لم تستغرب كثيرًا كونه لم يلقِ التحية عليها، فهي قد بدأت تعتاد حبه للوحدة، بدأت تضع الطعام على “السُفرة”..

 

ثم تحركت نحو غرفته وترددت تطرق الباب لتخبره ام لا ؟!
ولكنه قطع حبل حيرتها حين فتح الباب فجأة فتراجعت للخلف خطوتان بتلقائية، ليرمقها هو بنظرات مستفهمة لم ينطقها لسانه، فقالت بعد أن ابتلعت ريقها بتوتر:
-أنا آآ… حضرت الأكل.

 

ثم واصلت بحماس نابت وكأنها تنتظر أن ترى الفرحة تشع من حدقتيه:
-عملت كشري بما إنك بتحبه.
لم يستطع تفسير ذلك الشعور الغريب بالدفء ومشاعر شتى كالطلسم، تتفرع من وسط ظلام روحه لتتسرب لباقي خلاياه ببطء .. ولكنها مُخيفة! تُخيف قلبه

 

الذي لم يندمل جروحه بعد.
وقبل أن تتشرب خلاياه ذلك الشعور كان ينفضه عنه معيدًا تغطية ظلامه وروحه المشوهه بجلد الجمود والقسوة وهو ينهرها بنبرة خشنة غليظة:
-مين طلب منك تعمليلي حاچة ؟ وعرفتي منين أصلًا إني بحبه؟
شعرت بالارتباك يضربها كزلزال مفتتًا هدوئها وثباتها، فبللت شفتاها وهي تخبره بتردد:
-أنا سمعتك جبل كدا وأنت بتتكلم في التليفون.

 

وكأنه وجد الحجة ليدفعها بعيدًا عنه خارج حدوده المظلمة التي تهددها بتواجدها وأفعالها، فراح يضيف بصوتٍ أجش موبخًا:
-هو أنا مش جولتلك ماتتعديش على خصوصيتي؟
دافعت عن نفسها:
-أنا ماتعديتهاش.
زمجر فيها بصوت مكتوم غاضب:

 

-ماتعديتيهاش؟ دا أنتي بجيتي بتتصنتي عليا وأنا بتكلم في التليفون كمان.
سارعت تهز رأسها نافية:
-والله أبدًا، أنا سمعتك بالصدفة وأنا داخلة الحمام.
تأفف بنفاذ صبر قبل أن يردف بنفس النبرة الجامدة التي شابها سخرية:

 

شعور ساحق بالندم لفعلتها دغدغ كل مشاعر الامتنان التي دفعتها لتحضير ما يحبه، وبدأت الدموع تتجمع في عينيها دون سيطرة منها، ونظراتها تلومه بصمت، تجاهله هو حين أشار بيده للطعام متابعًا:
-ومش عايز منك حاچة، مش هاكله، أنا بعرف أچيب وأعمل أكل لنفسي.
تحركت مغادرة نحو غرفتها دون أن تنطق بحرف وأخذت تلوم نفسها على سذاجة تفكيرها العاطفي مع شخص جاف وقاسي كهذا !

 

 

فيما جلس أيوب على الأريكة وهو يتنهد، وعيناه على ذلك الطعام… لم يكن مجرد طعام حُضر لأجله، بل كان شيء أكبر من هذا، شيء ذكره بوالدته الراحلة، وشوش مذاق مرارة اليُتم التي كانت تلازم حلقه، فهو بعد وفاة والدته لم يسأله احدهم عما يريد او يحتاج، لم يهتم به احدهم اصلًا او يغدقه بحنان حُرم منه مبكرًا !
رغم أنه لم يكن جائع إلا أنه وجد نفسه ينهض، ودون تبرير لعقله وقلبه التائهان في فلك المشاعر الغريبة، كان يأكل من ذلك الطعام بنهم ولذة.
بعد أن انتهى من تناوله نهض، وقادته قدماه نحو باب غرفتها، طرقه طرقة وحيدة صغيرة، قبل أن يتمتم بخفوت وصلها بوضوح:
-شكرًا.
****
في بيت “سالم العبادي”…
تحديدًا في غرفة الجد “سالم”، جلست “ليلى” شاردة وعيناها مُسلطة على الفراغ… لا تستوعب حتى اللحظة أنها صارت زوجة ظافر العبادي، راحت تتذكر كيف

 

أقنعها ذلك اليوم بضرورة عقد قرانهم…
ما أن سمعت جملته بضرورة عقد قرانهم اليوم حتى أجفلت ملامحها وهي تردد دون استيعاب:
-نعم !! نكتب كتابنا.
أكد ظافر دون تردد وكأنه كان يجهز كلماته مسبقًا:
-ايوه، ونجول إننا ناويين نتچوز بعد فترة، دي الحاچة الوحيدة اللي هتخلي الناس تبررلك لو چوز أمك نفذ اللي جاله، بس مش هنجول لچدي دلوجتي وهنمهدله.

 

غمغمت مسرعة بتوهان وعقلها ممزق في التفكير في نواحي شتى:
-لا أكيد في حل، أنا وأنت وسمية هنجول إنه كداب وإن دا ماحصلش.
هز رأسه موافقًا وهو يتابع بجدية يسايرها:
-ماشي، اعتبرينا جولنا، واعتبريني كمان ياستي مسحت الصور من تليفونه مع إنه صعب، هجطع لسانه كمان عشان مايتكلمش؟
أردفت مستنكرة بشدة:

 

-والناس ليه هتصدجه ومش هتصدجنا ؟ كلامنا جصاد كلامه.
هز كتفاه معًا وراح يسرد لها بجدية:
-مش كل الناس هتصدجه هو واللي معاه، ومش كلهم هيصدجونا، في ناس هتصدج وناس لا، وناس هتشك، دي طبيعة البشر، ومچرد ترديدهم اصلًا لكلامه دا مش في صالحي ولا في صالحك.
صمت برهة ثم أضاف حين لوح له عدم الاقتناع من بقاع ملامحها:

-وكمان لو حد شافك أصلًا وأنتي طالعة وشافني، هيأكدوا على كلامه، وأحنا في غنى عن كل دا.

انبلجت السخرية من عمق ملامحها الشريدة:

 

-اه فنجوم نتچوز ؟ بالبساطة دي ؟!
لامس الضيق مكمن جوارحه، فكم يمقت أن يشعر أنه يفرض نفسه على أحدهم ويقنعه بالقرب منه!
ولكنه كبحه بمهارة واستطرد بجفاف:
-دا مچرد كتب كتاب يا ليلى، وبعد فترة لما الموضوع دا يموت لو عايزة نتطلج هنتطلج.
تمزعت نبرتها بالحسرة وهي تردد:
-أنت الموضوع بالنسبالك عادي إيه يعني تتجوز وتطلج، لكن أنا لا، أنا هاتتحسب عليا چوازة.

 

-وأنتي ليه اعتبرتي إننا خلاص أكيد هنتطلج؟ مش يمكن يچد چديد.
رفعت حاجبها الأيسر مستنكرة، فلم يصعب عليه قراءة ذلك الاستنكار بين سطور عينيها، فإلتقطت زفيرًا قويًا قبل أن يتفوه بنبرة رجولية رخيمة:
-أنا عارف إن كان في سوء تفاهم بينا والتعامل بيني وبينك ماكنش أحسن حاچة، لكن أنتي لازم تعذريني أنا ماكنتش أعرف إن چوز أمك هو اللي ورطك.
ابتسم ابتسامة صغيرة جذابة وأكمل بنبرة ذات مغزى:
-أنا مش وحش على فكره وأتحب.
أدارت وجهها عنه بحرج، ثم تمتمت بضياع:
-صعب صدجني صعب.

 

قرر ترك خيط وهمي من الحرية لها حيث قال بلا مبالاة مدروسة:
-روحي اتكلمي مع والدتك وشوفوا الأنسب ليكي، بس صدجيني دا أنسب حل، أنا لو عليا في الأول وفي الأخر راچل، أنتي هتتأثري بكلام الناس أكتر مني وأنتي عارفة مچتمعنا مابيرحمش.
عادت من ذكرياتها متنهدة، بالفعل توصلت هي ووالدتها إلى أن عقد القران ذلك هو الحل الأنسب للأسف!
فأحيانًا يُقرر القدر نيابةً عنك ويترك لك صورة مشوهة من الحرية لتلتمسها ثم تمثل لها.
كانت تنتظر “سالم” الذي اتجه لدورة المياه، رغمًا عنها غلبها النعاس فأغمضت عينيها وغطت في غفوة قصيرة وهي تستند على المكتب الخشبي المجاور.

 

بعد دقيقتين تقريبًا دخل ظافر يبحث بعينيه عن جده فوقعت عيناه عليها وهي غافية، وهل هناك صورة أجمل من هذه ؟!
تحرك دون تفكير نحوها، وهو يشعر بهدير نبضات قلبه العنيف، والعاطفة المكتومة تتفجر من فوهة الكتمان وتغلي في شرايينه مطالبة بالاقتراب منها أكثر، بالتأكد من كونها أصبحت له.. ملكه!

رباااه كيف أحبها بهذا القدر ولم يتعامل معها كثيرًا ؟ مَن قال أصلًا أن الحب مواقف، لا ليس مواقف.. بل هي تلك اللحظة التي امتد فيها خيط شعوري سميك بين قلبيهما، فأصبح أسيرها.

 

امتدت أصابعه ملبيًا ذلك النداء داخله، وأزاح خصلة تمردت وظهرت من أسفل حجابها، لتتسنى لعينيه تشرب قسماتها السمراء الناعمة الجميلة.. ليست جميلة فقط بل فاتنة، فاتنة أغوته وأسرته وهو الذي لم تغوه الفتنة يومًا !
تهافت شفتاه شوقًا، لمذاق شفتيها… قبلة واحدة وسيبتعد، هز رأسه كأنه يؤكد لنفسه، فهذه الفرصة لن تأتي له مرتين.

 

اقترب منها بالفعل، وأخيرًا لامست شفتاه المتلهفة شفتاها المكتنزة متذوقًا رحيقها، شعر بقلبه المحترق عشقًا يحيا من جديد، والشوق اللاهب يتضاعف ولا يخفت…
قطع قبلته التي لم تطول حين شعر بتململها، فتحت عيناها ببطء لتحدق فيه دون استيعاب مرددة اسمه بعفوية بخفوت مستنكر تواجده أمامها… بل بالقرب

 

منها:
-ظافر ؟!
****
جلس كامل في البهو الواسع بصالة منزلة ينظر برتابة حوله بداية من الاثاث المليء بالاتربة وعدم النظافة التي تحوم بكل شبر بالمنزل ثم انتقل ببصره نحو الطاولة التي أمامه يلقي نظرة بؤس نحو خلو علبته الفضية من المواد المخدرة، ومن بعدها القى نظرة غاضبة نحو هاتفه الذي لم يهدأ منذ الصباح من رنينه المتواصل بسبب أصدقائه.
زفر زفرة قوية ثم تمتم بحقد من بين شفتيه الغليظة:

 

-مش معايا فلوس يا ولاد المركوب بطلوا زن.
اطبق فمه بشدة والغيظ يأكله بعد أن أجاب على أحد أصدقائه في الصباح وسرد له الأخر عن أهمية الليلة في المأوى الخاص بهم للعب ” القمار” لمعت عيناه بوميض الطمع متخيلاً نفسه يجني المال الوفير ليعوض خسارته الفادحة في الليالي السابقة!

ما العمل؟! ظل يكرر لنفسه مرارًا وتكرارًا وعقله يجوب في محيط معارفه كي يستغل أحدهم ويجني منه المال الكافي للدخول في مسابقة الليلة، ولكنه للأسف لم يجد أحد فالجميع بدأ ينفر منه بعدما علمه بأسوأ صفاته، شخص استغلالي بدرجة كبيرة حتى أنه ذات مرة وصفه أحد أقاربه في نبرة يملأها الغل:
” أنت يا أخي لو تطول تاخد هدومنا، وتستغلنا هتعملها يا كامل اعوذ بالله منك، شيطان في الأرض”
وما أن تذكر كلماته حتى سب بأقذر الشتائم وقام بلعنة كلاً من حوله وأولهم ابنه ” أيوب” الذي لم يستطع حتى الآن استغلاله أبدًا….حتى تلك الساذجة لم يستطع

 

لوي ذراعه بسببها!
ولكن…فكرة شيطانية تسربت لعقله وبدأ في التخطيط لها، فلمعت عيناه من جديد بوميض الطمع والكره، البداية ستكون من خلالها..الطريق ممهدًا وسينحر ولده الجامح عن طريقها، الآن فتحت له أبواب السعادة وسينعم بالمال الوفير من خلال تلك الحمقاء البائسة والتي من السهل جدًا إرباكها واستغلالها فهمس بحقد:
-كنتي تايهة عني فين يا بنت الـ*** أنتي اللي هجدر ادخل منك باب جنة أيوب العماري.
****
يتبع ……….

اعتدلت “ليلى” في جلستها والتعجب يفترش قسماتها من تواجد “ظافر” أمامها تحديدًا، فيما تنحنح ظافر بخشونة قبل أن يجلي صوته قائلًا بتوتر أخفاه بمهارة

 

وهو يحاول مداراة سبب تواجده الحقيقي:
-امال فين چدي ؟
أشارت ليلى وأشباح التوتر تشوش ثباتها:
-راح الحمام.
اومأ برأسه ثم تحرك مغادرًا الغرفة، لم يشعر مسبقًا بهذا الكم الهائل من الزلزال العاطفي الذي عاث فسادًا في كافة خلاياه الجامدة!
اعتقد أنه سيقتل شوقه المستعر وتخيلاته بهذه القبلة اليتيمة، ولكنه لم يكن يعلم أنها كالزيت ستزيد سعير الشوق وتتركه متلهف وجائع للمزيد!
مسح على خصلاته السوداء بقوة وهو يتنهد بصوتٍ مسموع، متذكرًا نقطة البداية… اللقاء الأول… بل اليوم الأول للعنة التي أُلقيت عليه؛ لعنة العشق!

كان قد تشاجر مع أحد أخصامه في ذلك اليوم واُصيب ذراعه بجرح يحتاج إلى “غرز” فاتجه منفردًا للمستشفى التي تعمل بها ليلى، وكانت ليلى في نفس اليوم اجازة من عملها ولكنها جاءت لتنهي بعض الأوراق الخاصة بها.
خرجت ليلى من المستشفى مسرعة وهي تتحدث في الهاتف بينما تسير، فاصطدمت دون قصد بـ “ظافر” الذي كان يسير ببطء ممسكًا بذراعه، تراجعت خطوتان للخلف معتذرة بسرعة وتلقائية:
-أسفة چدًا مش جصدي.
همهم ظافر بخفوت وهو يهز رأسه:

 

-ولا يهمك.
انتبهت للدم الذي يلطخ ملابسه عند ذراعه، فقالت بقلق ونظراتها مُسلطة على جرحه:
-دراعك شكله متعور چامد !
تحامل ظافر على ألمه وهو يخبرها بابتسامة زائفة:
-حاچة بسيطة.
اندرجت ردود أفعالها تحت بند العفوية البحتة بطبيعة عملها كممرضة، فأشارت له متابعة بهدوء:
-بس النزيف دا غلط يستمر كدا.

 

ثم صمتت برهة وكأنها تفكر قبل أن تخلع “الكوفية” التي كانت تلفها حول عنقها، ونظرت له متمتمة برقة فطرية:
-ممكن تفرد دراعك؟
استجاب ظافر بتلقائية وسوداوتاه تتوهج بالإعجاب، مدققًا النظر لوجهها البهي بسماره المميز ورقته… لا يرى أنثى جميلة للمرة الاولى، ولكنها ليست كأي أنثى، هي مميزة بطريقة آسرة، لم يفطن بعد لماهية اختلافها ولكنه يشعر بجوهر ذلك الاختلاف.

 

بعد أن شدت من عقدة الكوفية حول ذراعه، أردفت بصرامة لطيفة:
-المستشفى اهي خلاص جربت روح الاستجبال بسرعة عشان لو دراعك فضل ينزف كدا ممكن ضغط الدم يوطى ويغمى عليك.
ثم سألته بشك:
-تحب أچي معاك أوصلك؟
ولكنه غمغم بهدوء خشن يغلب عليه الامتنان:
-شكرًا أنا كويس ماتجلجيش.

 

 

بادلته ابتسامة حلوة لا تُنسى قبل أن تغادر في طريقها ويكمل هو سيره نحو المستشفى..
مر على ذلك اللقاء ثلاث أسابيع تقريبًا، ثم رآها مرة اخرى في السوق وهي تشتري اشياء مع صديقاتها، دون ارادته استرقت نبضة من قلبه الذي انتعش برؤيتها وتشققت قشرة الجمود المحيطة به.

 

ثم وجد نفسه يسير خلفها، يود معرفة أسمها.. عائلتها.. كل شيء عنها، ظل يسير خلفها حتى يعرف أين تسكن ولكن وسط الازدحام فقدها، ولم يعلم أي شيء، أصاب اليأس قلبه ولكنه لم يقتل نبضة أحيت به عشق لم يجربه سابقًا، بل لم يدرك أنه عشق سوى مؤخرًا… بعد أن ظل شهرين صورتها تداعب خياله، يكاد يجن ليحصد أي معلومة عنها، ثم رآها من جديد مع زوج والدتها في ذلك اليوم، فأخبرته البهجة التي سرت في قلبه وروحه أنه سقط أسير شباك عشقها.
عاد ظافر لواقعه متنهدًا… وكم كان طريق ذلك العشق مُلبد بالأشواك!
****

 

بعد فترة…
بعد أن أعطت “سالم” علاجه وأنهت كل ما يخصه، خصته بابتسامتها المشرقة وهي تسأله بمودة حقيقية:
-محتاچ حاچة تاني مني يا چدي جبل ما أمشي؟
فهز الآخر رأسه نافيًا بابتسامة مماثلة:
-لا تسلمي يا حبيبة چدك.

 

-طب أنت إيه هتعمل دلوجتي؟
استفسرت فهز كتفيه بقلة حيلة:
-إيه هعمل يا بتي اديني جاعد.
سألته باهتمام وهي تفكر كيف تقضي على الملل الذي تعلم جيدًا أنه يستوحش أيامه:
-طب أشغلك التلفزيون تتفرچ شوية؟ ولا تحب ننزل نجعد في الشمس نتهوى؟ أنا كدا كدا مش ورايا حاچة يعني.

هز رأسه نافيًا بنفسٍ تأبى رمي حمولها على الآخرين مهما بلغ تفانيهم في تقبل ذلك:
-لا تسلمي يا غالية، ممكن تچيبيلي شرايط أم كلثوم، تسليني.
رحبت بالفكرة مستعلمة:

 

-عنيا حاضر، هي فين؟
-في اوضة الشغل بتاعت ظافر.
أجاب بنبرة عادية ولكنها بالنسبة لها لم تكن كذلك، بمجرد ذكر اسم “ظافر” شعرت لجزء من الثانية بومضة كهربائية تمس قلبها، ربما لارتباطها باسمه بشكلٍ رسمي حتى لو لم يعلم الجميع بعد!

 

 

ابتلعت ريقها بصعوبة وهي تهز رأسها موافقة على مضض، مطمئنة نفسها أنه غير موجود الآن.
بالفعل توجهت للغرفة التي تخص أعماله، وبدأت تبحث عن تلك الشرائط، مرت بضعة دقائق على وجودها في الغرفة، ووجدت الباب يُفتح وظافر يدخل فتواجه كلاهما، عقد ظافر ما بين حاجبيه متسائلًا بدهشة:
-إيه بتعملي هنا ؟
فسارعت تبرر على الفور وقد اعتادت على هجومه فلم تلحظ اعتيادية السؤال ونبرته:

 

-كنت بدور على شرايط ام كلثوم لچدي سالم والله، ولو مش مصدجني تعالى اسأله.
ابتسم ظافر بخفة وهو يناغشها:
-إيييه كل دا راديو ! أنا بسألك عادي على فكره.
صمتت برهة قبل أن تُصرح بتردد:

 

-بس نظرتك مش بتسأل عادي.
-أنا باصص عادي، أغمي عنيا طيب؟
أخفى عينيه بالفعل بيديه ثم سألها وهو ينظر لها من بين أصابعه بمرح مشاكس:
-كدا حلو؟ أفتح ولا عنيا هتجول حاچة تاني؟
ابتسمت ليلى عفويًا ولأول مرة ترى انحسار قناع القسوة والجمود ليترآى لها الوجه الآخر منه المرح المشاكس، ثم تمتمت بحرج:
-خلاص.
أبعد يديه وهو يردد ضاحكًا:
-فظيعة بچد.
رفعت حاجبيها معًا باستنكار:

 

-أنا ؟
فهز رأسه نافيًا بنبرة شقية:
-لا عنيا طبعًا.
ثم أكمل وبقايا الابتسامة عالقة بفمه:
-استني هاچيبلك الشرايط.

 

 

اقترب منها قبل أن يمهلها فرصة الابتعاد، حتى صار أمامها مباشرةً يفصلهما انشات قليلة مُربكة، تظاهر أنه يبحث عن الشريط بينما هو مستمتع بمناورتها هكذا، وباقترابه منها حتى تغلغلت رائحتها المُهلكة أنفه وشعر بأنفاسها المضطربة الساخنة تضرب عنقه، يودها أن تعتاده وتعتاد قربه، أن تزول هذه الحساسية

 

 

التي يلحظها بينهما، فيما ابتلعت ليلى ريقها بتوتر وهي تشعر وكأن الثواني تتآمر ضدها فتمر ببطء شديد… لأول مرة تقترب منه لتلك الدرجة، هيبته الرجولية وهيمنة وجوده جعلها معدتها تتقلص وأنفاسها تُحشر داخلها في ظل شعور غريب مُربك يداهم انوثتها بعاطفة لحظية وليدة.
وهو قريب منها قال باستمتاع ونبرة صبيانية قاصدًا اقترابه منها لتلك الدرجة:
-الشرايط دي عملت اللي ماعرفتش أعمله في 6 شهور، كد إيه الشرايط دي عظيمة وچميلة و……
ثم دقق النظر لعينيها البنية التي تشبه وجه القهوة الشهي، وتابـع بنبرة تهيم عشقًا مغموسة بالمرح اللذيذ:
-وبحبها جوي.
سألته بعفوية بحتة:

 

-هي مين؟
أكد ببراءة:
-الشرايط طبعًا.
قالت ببلاهة:
-ليه عملت إيه؟
هز كتفاه معًا ضابطًا نغمته على البديهية الماكرة المصطنعة:

 

-عدلت مزاچ چدي، هتكون عملت إيه يعني يا ليلى، دا أنتي بتسألي اسئلة غريبة چدًا.
رغم شعورها أنه يقصد شيء آخر ولكنها فضلت الصمت، وأخيرًا انتهى حصاره، فإلتقطت منه الشريط بأصابع مضطربة كحالها كله وفرت هاربة على الفور تحت أنظاره المستمتعة، ثم همس لنفسه بابتسامة ماكرة:
-مسيرك يا ملوخية تيچي تحت المخرطة.
****

 

بعد أيام….
خرجت “غرام” من المطبخ حاملة بين يديها كوب الشاي الذي أعدته لنفسها قبل أن تعود لغرفتها من جديد، اثناء ذلك مرت على الغرفة التي يقطن بها أيوب، ولم تستطع كبح سؤال حائر من الطفو على سطح عقلها؛ لماذا يخفي أيوب نفسه داخل غرفته اليوم؟ حتى عمله لم يذهب له!
طيلة الأيام السابقة كانت تُسلح نفسها من قسوته الخادشة بتجاهله واللامبالاة، ولكن فطرتها الحانية تغلبت عليها اليوم، فوجدت نفسها تقترب من الباب باذنها حتى تسمع أي صوت يصدر عنه فتعلم أي شيء.

 

 

ولكن لم يصدر عنه صوت فـ ثار الشك داخلها أكثر، استسلمت لفضولٍ قلق داخلها وفتحت الباب ببطء وصوت داخلها يردد أنها ستندم وأنه حتمًا سيوبخها بسبب تطفلها !
تفاجأت برؤيته ينام في فراشه، ولكن ليس نوم عادي بل كان مجعد الجبين، يئن بصوتٍ مكتوم كأنه يتألم!
تحركت نحوه بتردد إلى أن وقفت أمام الفراش، نادته بخفوت متوجس:
-أيوب، أيوب؟

 

ولكن لم تجد رد، بدا غارقًا في نومه بطريقة مُقلقة، فمدت يدها تتحسس جبينه لتجد حرارته مرتفعة، عضت على إصبعها بحيرة وقلق وهي تفكر، ولكن تفكيرها لم يدم طويلًا إذ تحركت نحو المطبخ على عجالة لتحضر قطعة قماش وماء بارد، ثم عادت وجلست جواره على الفراش وبدأ تقوم بعمل “كمادات” له..
بينما أنينه المتألم لم يخفت، آناته أثارت الشفقة داخلها ومست شغاف قلبها، تُرى كم مرة مرض هكذا ولم يجد مَن يعطيه العلاج او يساعده ؟
مر بعض الوقت ولا زالت كما هي، وقررت بقلب مفعم بالحنان الفطري ألا تتركه بمفرده هذه الليلة مهما كانت العواقب.
انتبهت له حين تحرك ولا زال يغط في نومٍ عميق، ودون وعي كان يضع رأسه على قدميها، ويده تحاوط خصرها بينما يده الاخرى أمسكت بكفها قابضًا عليه بكفه العريض الخشن، ثم غمغم بصوت متحشرج:

 

-وحشتيني جوي.
تجمدت لثوانٍ وحركته سقطت عليها كالصاعقة، مُخلفة بعدها انتفاضة مشاعر؛ أولها شعورها الفطري بالأمومة، والحنو تجاهه، الرغبة في احتواءه بهذه الصورة الضعيفة الطفولية منه.
ولكن جملته التالية كانت كلوح خشبي عزلها عن تلك المشاعر الماسية، وأخذت تفكر دون ارادتها.. تُرى مَن التي يقصدها ويناجيها بهذا الشوق والألم؟
أ هي واحدة أحبها وتركته؟ أ لهذا يعاملها بهذا الجفاء والقسوة ؟ لِمَ تزوجها اذن ؟!
أحست بالغيظ يتدفق من كل إنش فيها مما توصلت له أفكارها، ثم زفرت أنفاسها بصوتٍ مسموع وهي تحدق في ملامحه المستكينة بين أحضانها وكأنه ينشد

 

الدفء منها… ملامحه الرجولية السمراء التي خطها الحزن بأثاره الضارية، و التي ترى لأول مرة فيها صورة مشوهة لطفلٍ وحيد ضعيف مسكين.
دون شعور كانت يدها تداعب خصلات شعره الفحمية الطويلة، مستسلمة لوضعه هكذا.
بينما هو في عالمٍ آخر كان يحلم بوالدته، والدته التي أضناه الشوق لها حتى نحره من الوريد للوريد، اختلط الحلم بالواقع فاحتضن غرام دون وعي متلمسًا منها دفء والدته الحبيبة، والدته التي كانت تقف أمامه في الحلم صامتة مبتسمة، ثم نظرت في اتجاهٍ ما وهي تشير له نحوه، تحرك بصره في ذلك الاتجاه ليجد غرام… تقف هناك بابتسامة توازي في حنانها حنان والدته، ثم اختفت والدته.

 

 

فانتفض في الواقع منزعجًا من اختفائها في الحلم، لتنتفض معه غرام بقلق وهي تربت على رأسه بحنان هامسة:
-اسم الله عليك، اعوذ بالله من الشيطان الرچيم، مالك!
بدأ يستكين شيئًا فشيء ويعود لهمهمته وأنينه المتقطع، ومر الوقت هكذا حتى شروق شمس اليوم التالي.
فتح “أيوب” عيناه ببطء ولا زال جسده يؤلمه، وقعت عيناه على “غرام” التي كانت مستندة برأسها على الفراش جواره وتغط في النوم العميق، أجفلت ملامحه

 

صدمةً من تواجدها، ها هي تعود من جديد لتسير بخطى بطيئة نحو احدى صور ماضيه السوداء المشوهة وتلونها بطريقتها الخاصة مانحة قلبه القاحل مشاعر دافئة افتقدها طويلًا..
فهو اعتاد في كل مرض يمرض بها أن يظل يتألم في فراشه وحيدًا، ثم يستيقظ بمفرده أيضًا حين يعتقه المرض فيخف عنه قليلًا، هذه المرة الأولى منذ وفاة

 

والدته يهتم به أحدهم ويرعاه أثناء مرضه.
امتدت يده دون تفكير ليتحسس بإصبعه ببطء قسمات وجهها البيضاء الناعمة، ناعمة مخضبة بالشغف والحنان الذي يستطع لمسه فيها.
همهم باسمها بصوت خشن خافت وكأنه يتذوق الاسم وليس ينطقه فقط:
-غرام.

”رواية نبع الغRام” لتكلمة الجزء التالى من الرواية اضغط هنا?⏬???

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top