تأوه أيوب عاليًا وهو يشعر بألم رهيب بسبب ذلك الحرق، فكمم كامل فمه بيده وهو يسترسل بنفور وحنق:
-اكتم صوتك يابن ال**** أنت عايز يجولوا عليا إيه!
ثم دفعه بعنف بعيدًا عنه قبل أن يغادر الغرفة عائدًا لضيوفه وهو يهندم ملابسه وكأن شيء لم يكن !
عاد أيوب لواقعه بعينين عاصفتين بالكره الخالص مخلوط بتوعد ضاري مستمر حتى الممات برد كل أذى له الضعف، فقد أقسم أن يكون قوي.. ذو نفوذ وأموال
وأن تكون المثالية عنوان مختصر لحياته فيقهر كامل الذي لا يقهر سوى الماديات.
إنتبه لـ “غرام” التي دخلت من باب الغرفة الذي لم يكن مغلقًا بشكل كامل، وهي تناديه بتلقائية قلقة:
-أيـو…..
ولكن قطعت حروفها وشهقت بخجل وهي تستدير مغطية عينيها بكفيها حين وجدته عاري الصدر، فتمتمت بحرج:
-أسفة چدًا ماكنتش أعرف.
لم يخفَ عن عينيها ذلك الحرق في كتفه الأسمر العريض، ارتدى أيوب ملابسه ثم اتجه نحوها مزمجرًا بغضب يهدد بحرق الأخضر واليابس:
-طبيعي چدًا أغير في اوضتي، لكن اللي مش طبيعي إنك تدخلي كدا من غير اذن.
لم ترتعد غرام منه هذه المرة، ربما لأنها تدرك الان سبب غضبه وهو اظهار تشوه جسده الذي يحكي تشوه روحه ايضًا !
فخانتها عيناها وهي تترك العنان للشفقة لتحلق في سماءها، فازداد غضب أيوب اشتعالًا وجنونًا، أكثر ما يكرهه أن تظهر نقاط ضعفه لآخر، فما بالك بأن يرى
الشفقة في عينيها !!
ليهدر فيها بشراسة وهو يقترب منها أكثر:
-أنتي الظاهر ماتعلمتيش يعني إيه خصوصية، انتي مش جاعدة في زريبة، لازم تستأذني قبل ما تدخلي.
غمغمت بصوتٍ متحشرج تود التبرير بأي شيء:
أنا بس….
ولكنه قاطعها حين أصبح أمامها مباشرةً فإلتصقت هي بالحائط بتلقائية متوجسة، ذراعاه تحيط بها من الجانبين وهو يضرب الحائط خلفها بعنف مماثل لعنف كلماته التالية:
-أنتي متطفلة وأنا مش هستحمل كدا كتير، اوعي تنسي نفسك وتتخطي الحدود اللي أنا حددتها لإن وجتها صدجيني رد فعلي مش هيعچبك.
ابتلعت ريقها وهي تومئ برأسها على مضض رغم الرفض الذي مرر حلقها، فيما اقترب أيوب منها أكثر حتى كان شبه ملتصق بها، فاستشعر نبضاتها التي ازدادت في اضطراب، ليقول بصوته الخشن الغليظ:
-ماتعيشيش دور الزوجة جوي.
صمت برهة يتابع بعينيه المظلمتين انفعالات وجهها المرتعدة بسبب قربه منه، قبل أن يواصل بنبرة ذات مغزى:
-ولو عاچبك الدور جوي، في أبعاد تانية للچواز مش بس إنك تتعدي على خصوصياتي، في حجوج ليا..
شعرت بقفصها الصدري يضيق حتى اختنقت أنفاسها خاصةً حين مرر إصبعه الخشن على خصلات شعرها البنية المتحررة أسفل الحجاب الذي يبدو أنها ارتدته على عجالة وعيناه تُفصح عن ضوء اعجاب خافت يأتي من عمق الظلام في عينيه، فلامس إصبعه طرف وجهها الناعم لتلتهب شرارة حسية بينهما في تلك
اللحظات…
أبعدت غرام وجهها على الفور عن مرمى إصبعه، فلوى أيوب شفتاه ساخرًا وهو يضيف بقسوة:
-بس أنا اللي متنازل عن الحجوج دي عشان أنتي مش مناسبة لأيوب العماري بأي شكل من الأشكال.
ثم ابتعد عنها لتلتقط أنفاسها أخيرًا بارتياح رغم الإهانة التي شرخت كرامتها، انتبها على طرقات قوية نوعًا ما على الباب، فتحرك أيوب مغادرًا الغرفة متجهًا نحو الباب على الفور، تتبعه غرام بخطى ثقيلة تائهة قلقة..
فتح أيوب الباب ليجد أمامه عسكري من قسم الشرطة، فسأله بثبات:
-خير يا عبد العظيم؟
رد الاخر بنبرة دبلوماسية:
-البيه المأمور طالب المدام مرتك في القسم عنده.
انتفضت فرائص غرام بفزع وهي تتراجع خطوة للخلف، بينما أيوب يواصل تساؤلاته بنفس الهدوء المثير للإعجاب:
-خير إن شاء الله؟
هز رأسه نافيًا وهو يتلفظ:
-ماعرفش تفاصيل يا أيوب، لكن هو بخصوص جضية جتل مرت أبوك كامل.
هنا سقط قلب غرام أرضًا وهي تدرك أن ما هربت منه كثيرًا قد جاءها ……
****
يتبع ……
في قسم الشرطة…
جلست “غرام” أمام الضابط تفرك يديها بتوتر حاولت كبحه، يعلم الله كم حاولت كبحه ولكنه كان أكبر من قدرتها على كبحه، سمعت صوت الضابط يهتف بنبرة دبلوماسية:
-معلش لو جلجناكم، لكن كان لازم نسمع من أي حد كان يعرف الجتيلة عشان نجدر نوصل لطرف الخيط.
رد أيوب بثبات مُدهش:
-مفيش مشكلة يا فندم، مع حضرتك.
-مدام غرام، في ناس جالت إنك كنتي بتزوري المجني عليها في الفترة الأخيرة كذا مرة ؟
قالها الاخر وهو يُدير وجهه نحو “غرام” التي كانت عيناها تستجدي دعمًا من “أيوب” المستكين، فهز رأسه ونظرته القوية الواثقة تُسرب لها دعمًا كان كالبنزين
القصير الأمد الذي جعلها تفتح فمها مجيبة بخفوت شديد:
-ايوه كنت بروحلها عشان بخيطلها هدوم چديدة.
وما أن سألها بنفس النبرة العادية:
-طب أخر مرة شوفتيها امتى؟
بدأت الدماء تغادر وجهها شيئًا فشيء، ولكن رغم ذلك أنصفها لسانها حين ادعى هدوء غير مملوك:
-مش فاكرة امتى بالظبط، بس هو من كام يوم تجريبًا جبل ما تتوفى بتلات أيام.
هكذا استمرت وصلة الاسئلة القصيرة من الضابط وسط مجهود جبار من “غرام” لتبدو ثابتة بينما هي في الداخل تنهشها مخالب الخوف والقلق.
وأخيرًا غادرت مع أيوب وعادا لمنزلهما، في ظل صمت كئيب مشحون أطبق على الأجواء، جلست غرام على أول أريكة رأتها وشعرت بجسدها ينهار كما حالها كله…
الضغط كان كبير، كبير بشكل لا تتحمله هشاشتها، هي لطالما كانت تسير جوار الحائط لا تدوس حتى على ظل أحدهم، لِمَ كُتب عليها أن يسقط فوقها ذلك الحائط مُهشمًا إياها بضراوة ؟!
جلس “أيوب” جوارها، رصدت عيناه انهيارها المتمثل في ارتعاشة جسدها.. فرأى نفسه فيها، وكأن الزمن أعاده لنقطة سوداء يكرهها، حين كان منهارًا هكذا وهو
يخسر والدته بسبب المرض.. وحيدًا هكذا.. حتى سبب الانهيار لم يختلف؛ والده المصون!
فوجد يده الكبيرة الخشنة الدافئة تمتد تلقائيًا لتحتضن يدها الباردة من فرط التوتر، يطبق عليها بقوة وكأنه يخبرها بصمت.. أنا هنا معك!
وكأنه يُعطي ما فقده، فهو أكثر مَن ذاق مرارة فقدانه.
رفعت عينيها التائهتين نحوه تسأله بشرود قلق:
-هيعرفوا إني كنت هناك يومها؟
هز رأسه نافيًا وهو يردد بصوته الرخيم الواثق:
-لا، ماتجلجيش، مش هيچرى أي حاچة.
ابتلعت ريقها ثم اعترفت ولا تدري لِمَ تعترف له هو تحديدًا، ربما لأنه عين نفسه الحامي لها:
-أنا خايفة.
كم يمقت كامل وينمو الغضب داخله أكثر نحوه كنبتة سوداء في أرض قلبه القاحلة.
اشتدت قبضته عليها أكثر وهو يردف بحزم به لفحات من الغضب:
-اوعي تخافي، أنتي ماعملتيش حاچة تخليكي تخافي.
دفة الحديث لم تكن مُقادة من عقلها، بل من بؤرة مشاعرها المضطربة، فانسابت الكلمات من حافة لسانها بتلقائية شديدة وبنبرة عذبة متوسلة:
-ماتسيبنيش، أنا هروح في داهية لو سيبتني!
كلماتها العفوية… نبرتها.. نظراتها، كلها أشياء دغدغت عمق احاسيسه المُسربل بقِفل القسوة والجمود، وذكرته بنفسه القديمة، تكالبت عليه المشاعر حتى لم يعد يدري كيف يفسرها.. كيف يُترجمها للقابعة أمامه تستجدي دعمه ووجوده!؟
وجد نفسه ينحني نحوها مُحيطًا وجهها بكفيه وشفتاه تلتقي بشفتيها في قبلة مُزلزلة معبقة بالعاطفة؛ علها تتكفل بتفسير مشاعره المتشابكة، فهو لا يستطع ترجمة شعوره سوى بطريقة حسية.. وربما شيء داخله أراد استشكاف مذاق تلك الشفاه التي سبرت أغواره بكلماتها!
قطع قبلته بعد ثوانٍ يُطالع وجهها الذي دب فيه ارتباك من نوعٍ آخر وهي ترمش بعينيها دون استيعاب، ارتباك ما بعد عبث عاطفي لا يشوبه أي نفور.
ثم أضاف بصوت رجولي خشن:
-أيوب العماري ما بيسيبش اللي يخصه، وأنتي بجيتي تخصيني.
السكون كان سيد الموقف لثوانٍ عديدة حاولت غرام فيهم تنظيم شتات نفسها.. مشاعرها وأفكارها، قبل أن تسأله بنفس العفوية المنتشلة من بئر أفكارها:
-أنت ازاي كدا ؟!
وكأن سؤالها أعاده للحاضر، وأسقط فوقه جلد الجمود الزائف، ليهز كتفيه ساخرًا:
-زي الناس، انسان عادي.
راحت توضح له بهدوء:
-ازاي جادر تجمع ما بين ال……
ولكنه قاطعها بكلماتٍ آمرة جافة أقرب للبرود:
-روحي نامي يا غرام أنتي تعبتي النهارده.
لن يسمح لها أن تتخطى أسواره التي بناها لحماية نفسه وتُعري نفسه المضطربة المشوهة، نعم… الوحدة بالنسبة له ملجأ آمن!
****
بعد أيام….
كانت “ليلى” تقف في بهو البيت، والارتياح يغمرها أخيرًا بعد أن صار ظافر يتجاهلها نسبيًا، وكأنه مل شجارها..
تحمد الله أنه فعل وإلا ما كانت لتحتمل أكثر، طاقتها توشك على النفاذ فعليًا، تنهدت وهي تعود بذاكرتها لأيامٍ سابقة، تحديدًا اليوم الذي اعتقد فيه ظافر أنها مجرد “نصابة” كما يقول…
كان زوج والدتها يقنعها بالذهاب معه لتعمل مع “سمسار عقارات” ولكنها أخذت تعرب عن رفضها القطاع لأي شيء يأتي من طرفه:
-لا مش عايزة، ماهو مش بالعافية.
إلتفت هاشم نحو والدتها التي كانت مستكينة تتابع ما يحدث بتوجس وضيق فشجاراتهم كثرت جدًا الفترة الأخيرة:
-ما تجولي لبتك حاچة، الشغلانة دي مش هاتيچي مرتين في العمر، وعمولاتها حلوة چدًا.
قالت ليلى من بين أسنانها بغيظ:
-ما تروح تشتغلها أنت!
واصل مصطنعًا قلة الحيلة:
-صاحب الشغل عايز واحدة مش واحد، ياريت كان ينفع أنا.
حينها تدخلت والدتها قائلة بخفوت محاولة اقناعها بصوتٍ خفيض:
-ما تروحي يا ليلى، مش هيچرى حاچة وبعد كدا لو ماحبتيش يابتي جولي مش هعرف أكمل، بس روحي الله يرضى عنك واتجي شره مش ناجصين مشاكل.
تأففت ليلى بصوتٍ مسموع، تكره سلبية والدتها التي تكون ضدها في معظم الأوقات وتضغط عليها فقط لأجل تلاشي المشاكل، لم تكن تعلم أنها تدفعها بجهالة لوكر المشاكل!
وبالفعل ذهبت ليلى مع هاشم لبناية حيث يفترض أن تقابل صاحب العمل كما أقنعها، لم تكن تعلم أن هاشم يخطط هو وبضع أشخاص للنصب على “ظافر
العبادي”، فـ ظافر في ذلك الوقت كان ينوي شراء شقة في بناية مرموقة ليفتح فرع جديد لشركته، وأقنعوه أن مالكة الشقة هي “ليلى” وكان لا بد من وجودها حتى يبدو الأمر منطقي..
وقفت ليلى جوار هاشم في انتظار أن ينهي صاحب العمل حديثه مع “ظافر”، ولم يكن الشخص الذي تظنه صاحب العمل سوى محامي صديق لهاشم ومشترك
معه في عملية النصب، تأففت ليلى من جديد بنفاذ صبر، ثم خطر على بالها فكرة ماكرة لتجعل الرفض يأتي من صاحب العمل نفسه.
أجلت صوتها حتى يسمعاها وهي تقول بحروف شديدة اللهجة حانقة:
-دا شكله مش هيشتري حاچة، ما تخلصني بجا من الحوار دا !!
لمحها ظافر بطرف عينيه، ولم يعقب على حديثها، وأدرك أنها تعي علام يدور الحديث بينه وبين المحامي، وتعلم أنه سيشتري شقة و…. إلى اخره.
فيما زجرها هاشم بقسوة وهو يضغط على ذراعها :
-وطي صوتك واخرسي، لو عايزة تغوري غوري بس لازم تسلمي عليهم الأول أنا مش عايز أخسر الراچل بجلة ذوج، وجولي إن امك تعبانة ولازم تمشي.
اومأت موافقة على مضض:
-ماشي يلا.
وبالفعل تقدمت منهم، ثم ألقت التحية وهي ترسم ابتسامة زائفة قابلها ظافر بأخرى مماثلة ولكنها ليست مصطنعة، بل كانت ابتسامة مشرقة تحوي داخلها الكثير والكثير !
ثم هتف بلباقة وعيناه تشملها كلها بنظرة سريعة مخضبة بمشاعرٍ لم تستطع تفسير ماهيتها:
-أنتي استاذة ليلى ؟
اومأت مؤكدة ولا زال ثغرها يحتفظ بنفس الابتسامة، ثم أخبرتهما كما أملاها هاشم:
-أنا اسفة چدًا لازم أمشي عشان أمي تعبت چدًا.
اومأ كلاهما برأسيهما مع أمنيات خافتة بالسلامة، وغادرت ليلى بالفعل، فاستدار المحامي لظافر قائلًا بخبث فرح بنجاح خطتهم:
-ماتجلجش يا ظافر بيه، الأنسة ليلى عاملالي توكيل عشان نجدر نخلص الاچراءات.
****
عادت ليلى من ذكرياتها والاستهجان يعلو ملامحها، ليتها لم تذهب.. ليتها لم تستسلم لسلبية والدتها، انتبهت على رنين هاتفها الذي عَلى، فرفعته لأذنها مجيبة الاتصال، أتى ظافر بعد قليل ورآها وهي تتحدث في هاتفها مع شخص وتبدو أعصابها متشنجة والانفعال يخط أثاره فوق ملامحها.
أثارت انتباهه بعدما كان على وشك الخروج من البيت، فوقف لبرهة مستسلمًا لفضوله الذي يقود قدميه ببطء نحوها، حتى صار قريبًا منها بحيث يسمعها ولا تراه.
فوجدها تقول بحروفٍ تضخ غيظ:
-يعني إيه الكلام دا ؟ لأ لازم تبيعيله الشجة بأي طريجة خلينا نخلص بقى.
إتسعت حدقتاه بذهول والذكرى السوداء الموصومة بصورتها في عقله تدفعًا دفعًا لاعتقاد واحد؛ أنها تُوقع أحدهم في عملية نصب جديدة !
انتبه لها حين تابعت متأففة بضيق:
-خلاص أنا هروح مشوار كدا وهاعدي عليكي، ماتجلجيش أنا معايا الفلوس وهنظبط الدنيا.
اومأت برأسها وهي تستمع للطرف الآخر، ثم تهادت ابتسامة صغيرة لثغرها قبل أن تهمهم:
-تمام، يلا مع السلامة.
رفعت أنظارها لتصطدم بـ “ظافر” الواقف أمامها بجمود بينما نظراته ترشقها بغضب اعتادته مؤخرًا، حتى أنها صارت مقتنعة أنه جزءًا لا يتجزء من لوحة عينيه
شديدتي السواد.
فتحركت على عجالة مغادرة البيت وهي تحاول نفض بقايا ارتباك سببه تركيزه ونظراته، بقيَ ظافر مكانه لدقيقة تقريبًا وعقله يعمل بأفكاره كالطاحونة، إلى أن
وجد قدميه تتحركا خلفها مباشرةً، مُصرًا على كشف كل مخابئها ومكائدها !
مرت ليلى على المستشفى التي كانت تعمل بها قبل أن تعمل لديهم، وأحضرت بعض الأشياء بينما ظافر يراقبها من بعيد في سيارته، ثم استقلت سيارة اجرة من جديد وهي تتجه لوجه لا يعرفها ولكنها حتمًا ذاهبة لمَن كانت تحادثها على الهاتف.
بعد قليل…
وصلت ليلى منطقة سكنية عشوائية لا ترتقي للطبقة المتوسطة حتى!
واتجهت نحو احدى البنايات المتهالكة، ثم صعدت قاصدة احد المنازل بها، انتظرها ظافر ثوانٍ ثم صعد خلفها حريصًا ألا تراه، سمعها تطرق احد الأبواب، فُتح لها الباب فشهقت بقلق حين وقعت عيناها على “سُمية” التي كانت منهارة في بكاء مرير بملامح شاحبة كالأموات، سحبتها ليلى من ذراعيها برفق وهي تهتف مهدئة إياها:
-اهدي يا سمية، يا حبيبتي اهدي ماينفعش اللي أنتي عاملاه في نفسك دا، الله يجطعه مطرح ما كان.
كانت ليلى منشغلة بانهيار سمية لدرجة أنها لم تغلق الباب خلفها، وربما لم تهتم لذلك كثيرًا لأنها تعرف أن البناية بأكملها ليس بها ساكنين سوى في ثلاث منازل.
بدأت تربت على كتف “سمية” بينما الاخرى تردد بما شابه الهذيان:
-أنا ماعرفش هو عايز مني إيه، مش راضي يسيبني في حالي، حتى لما جولتله خد الشجة وسيبني في حالي مارضيش! بجي عامل زي اللعنة في حياتي.
كان ظافر بالخارج أمام باب الشقة، يستمع لِمَ يُقال عاقدًا ما بين حاجبيه بعدم فهم وهو يشعر بكل أفكاره تتشابك باضطراب حتى فشل في فصلها ليستطع التوصل للمغزى!
انتبه لـ ليلى التي هدرت بنغمة غاضبة لأول مرة ترن اذنيه منها:
-مش بمزاچه، الشجة اللي كان جارفك بيها بحچة إنها كانت بتاعت أبوه وهو أولى بيها هنبيعهاله ومش عايزين من وشه العِكر ولا قرش.
ضربت على فخذيها بانفعالٍ أهوج وهي تصيح بقهرٍ:
-ماهو مارضيش، مارضيش يا ليلى، وحتى لو رضي أنا هعمل إيه بعد كدا ؟ هنام في الشارع؟
هزت رأسها نافية وهي تردف بحمائية:
-لا طبعًا، دا أنا أشيلك فوج راسي، أنا معايا فلوس دلوجتي هنأچرلك شجة بأوضة واحدة حتى.
عضت على شفتيها وهي تتساءل بصوت مبحوح من كثرة البكاء:
-طب وبعدين؟ الشهور الچايه هعمل فيها إيه يا ليلى؟ أكيد أنتي مش هتعيشي عمرك كله تصرفي عليا وأنتي أصلًا مرتبك يادوب، كفاية جوي وجفتك معايا والفلوس اللي بتبعتيهالي كل شهر.
أكدت ليلى بقوة دون تردد:
-وهفضل چمبك لحد ما ربنا يكرمك وتلاجي شغل مناسب، أنتي أختي يا سمية مش مچرد واحدة صاحبتي، ولو الدنيا ضاجت جوي هتيچي تجعدي معايا أنا وأمي، أنتي عارفة هي بتحبك كد إيه.
لم تملك سمية سوى أن تحتضنها بحب حقيقي جارف، تشعر بالامتنان لها وللقدر الذي جمعها بها معوضًا إياها عن يُتم ضاري.
سمعت “سمية” نداء احد جارتها فنهضت وهي تلبي ندائها ثم اضطرت للمغادرة مؤقتًا لتراها، فاختبأ ظافر مسرعًا قبل خروج “سمية”.
لا يصدق ما سمعه وما استوعبه عقله قطرة قطرة من حديثهما، هل هذا يعني أن ليلى ليست لصة كما كان يظن؟
هل يعني أنها ليست مجرد جشعة طامعة بالأموال، بما أنها تُفضل اخرى على نفسها رغم الضائقة المالية التي تمر بها على حد قول الاخرى، فإن كانت تمتلك
الأموال من عمليات النصب، أين هذه الأموال لتساعد صديقتها التي يبدو أنها تحبها جدًا !؟
لم يعد يدري أي شيء، ولكن ما يعلمه جيدًا، أنه لو اتضح صحة ما وصل لمكامن ادراكه فـ ويلًا له من عذاب ضمير وندم لن يتركاه ابدًا…
أغلقت “سمية” باب الشقة وهي تترك المفتاح في الباب بحكم العادة حتى تفتح مباشرةً حين تعود، وبعد دقيقتين تقريبًا كان شخصًا ما يصعد للشقة، لم يره ظافر ولم يدعه يراه بل انتظر، حتى وجده يفتح الشقة بالمفتاح، فسمع صوت ليلى المرح من الداخل: