-أنا اللي جولت مش هتاخديها، وطالما أنا جولت كدا يبجى دا اللي هايحصل، لو متمسكة بحياتك كدا، ماكنتيش چيتي ليا ولا دخلتي حياتي بإرادتك، طالما وافجتي وبجيتي مرتي يبجى هتمشي زي ما أنا أحدد!
ثم خفف قبضته الفظة عليها لترفع عيناها اللامعتان الدامعتان المجروحتان بكلماته القاسية كالمبرد، وباحت عيناها بسؤال لم يبُح به لسانها… لِمَ يتخذ القسوة
منهجًا في تعامله معها ؟ او في تعامله بشكلٍ عام !؟
ولكنه تجاهله عن عمد وهو ينتشل منها الماكينة بحركة غليظة كسابقتها، ثم وضعها على كرسي كان موجود، وأمسك بحقيبتها في يد، واليد الاخرى كانت تسحبها من معصمها خلفه دون أن يضيف أكثر ودون أن تملك هي حق الاعتراض.
****
في سيارة “ظافر العبادي”…
كانت ليلى تتخبط كالقط المذعور، تنظر يمينًا ويسارًا علها تستطع تخمين وجهته، وتردد بلا توقف بهلع:
-وجف العربية، نزلني، أنت واخدني على فين؟
ولكنه اعتكف داخل صومعة الصمت فلم يجيب على أيًا من اسئلتها الفزعة وكأنه يستمتع بغزو الهلع لملامحها الانثوية الخبيثة!
ظلت تضرب على زجاج السيارة بعنف وهي تصيح:
-إلحجوني، إلحجوني.
ثم نظرت نحوه مرة اخرى صارخة بأعصاب منفلتة:
-بجولك وجف العربية ونزلني.
لم يهتز له جفن بصراخها الأهوج، وفي لحظة تهور بحتة كانت تنحني نحوه وتحرك مقود السيارة بحركات عشوائية خرقاء جعلت السيارة تتحرك يمينًا ويسارًا
ولحسن الحظن لم تكن هنالك سيارة تسير جوارهما مباشرةً وإلا لكانت النتيجة مُريعة!
أوقف ظافر السيارة بصعوبة مسيطرًا على يديها اللتين أصرتا على جعله يفقد زمام السيطرة على السيارة، كبل يديها بيديه وهو ينحني مقتربًا منها بجسده فتراجعت تلقائيًا للخلف ملتصقة بالكرسي من خلفها، ولكنه دون شعور وبتلقائية كان يقترب أكثر حتى صار وجهه على أعتاب وجهها، فهدر فيها بغضب ناري:
-قسمًا بالله لو ما هديتي لأهديكي أنا بطريجتي ومحدش هيندم غيرك.
اهتزت عيناها البُنية باضطراب ملحوظ لقربه منها ورمشت بعينيها اللتان بدت بريئتان للغاية هذه اللحظات، لأول مرة يكون وجهه بهذا القرب من وجهها، فتتضح لها للمرة الاولى ملامحه الرجولية الوسيمة رغم الغضب الذي يلطخ رونقها معظم الوقت ويجعلها اخرى مُخيفة..
بينما هو لبرهة قصيرة من الزمن، استرقت عيناه النظر لقسماتها السمراء المميزة، وكأن رجولته تعي للتو أن الماثلة أمامها انثى جميلة !
إنتفض مبتعدًا عنها وكأن الادراك ثعبان لدغه في غفلة منه، فعاد هسيس شيطانه يتردد بعقله… انثى بوجه جميل وعقل شيطاني خبيث.
كز على أسنانه وهو يهز رأسه مؤكدًا سامحًا للغضب الذي تراجع بضع إنشات أن يعود لاحتلال كيانه من جديد.
فيما غمغمت هي بحروف متقطعة خافتة:
-أنت خاطفني وعايزني اهدى وماتكلمش؟
إلتفت رأسه نحوها فجأة وهو يشدد على حروف كلمتها:
-خاطفك؟
ثم إلتوت شفتاه بسخرية جارحة متعمدة وهو يردد:
-ماتديش نفسك حجم أكبر من حجمك، أنتي مين أصلًا عشان أخطفك؟
عَلى صكيك أسنانها الذي يروي انفعالها المكتوم، ثم سألته من بين أسنانها:
-امال واخدني على فين؟
استرسل ببرود كأنه صار أمر واقع:
–
على البيت عشان هاتكملي شغلك مع چدي.
إتسعت حدقتاها ذهولًا من تباسطه من فرض الأمر عليها، ثم زمجرت بغيظ دفين:
-بس أنا مش عايزة أكمل.
ضرب على المقود بعنفٍ وهو يهدر بوجهها بشراسة:
-جولتلك مش بمزاچك، أنتي اللي چيتي للبيت دا بمزاچك، لكن إنك تمشي منه دي بمزاچي أنا.
صدح صوت ساخر داخله يخبره أنه كاذب، فلولا الشجار الحاد الذي صار بينه وبين جده لأول مرة منذ فترة طويلة… بسببها !
لما كان جعلها تعود لبيتهم مرة اخرى أبدًا، وربما حجته الركيكة أنه رغم أنها تحرى عنها إلا أنه لم يجد ما يثير قلقه وشكوكه، لم يجد أي شبهه تخصها.
رفعت ليلى حاجبها الأيسر وهي تواصل بتحدي سافر:
-ولو ماكملتش، هتحبسني بالعافية؟ أنت مفكر البلد مافيهاش قانون؟
اقترب بوجهه قليلًا منها ثم رسم ابتسامة كريهة خبيثة على شفتيه قبل أن يتفوه بنبرة ذات مغزى تحمل تهديد مبطن:
-لأ طبعًا فيها، والقانون دا اللي هايچبلي حجي منك اللي أنا اتنازلت عنه في المرة الأولى يا نصابة!
****
بعد فترة….
كانت “غرام” ملتزمة الغرفة التي أخبرها أيوب أنها ستمكث فيها منذ مجيئهم، كانت في حاجة ماسة لترتيب أفكارها المشوشة للغاية، فهي لا تدري ماذا سيحدث بعد؟
هل انتهى التهديد المتمثل في والده ؟ لا تظن.
الالغاز تحيط بحواف حياتها بأكملها، فحتى “أيوب العماري” بالنسبة لها لغز، فمن جهة ترى وتشعر أنه لا يطيقها ولا يطيق عقد الزواج الذي جمعهما، ومن جهة لا تدري لِمَ قرر مساعدتها بل هو الذي عرض عليها الزواج أيضًا ؟
هزت رأسها وهي تزفر أنفاسها، لا تدري أي شيء، ولكن حدسها يُنبئها أن القادم يحمل لها المتاعب.
على ذكر المتاعب، فتح مُترأسهم “أيوب” الباب فجأة دون استئذان وكأنه اعتاد على ذلك.
ثم ألقى على الفراش كيس بلاستيكي به ملابس وهو يقول لها بصوت خاوٍ:
-الهدوم دي ليكي، ابجي إلبسيها عشان هانعمل عزومة في البيت بمناسبة چوازنا.
هزت رأسها نافية في اعتراض لم تتردد في إخراجه للنور هذه المرة:
-بس أنا مش محتاچة هدوم معايا هدومي.
تأفف أيوب بصوتٍ مسموع، ومن ثم تابـع بنفاذ صبر:
-ليه مابتفهميش الكلام من أول مرة لازم أعيد مرة واتنين وعشرة؟ جولتلك أنتي بجيتي مرتي يعني بتمثليني يعني لازم تبجي زيي.
ها هو يعيد من جديد كلماته المسمومة التي تغتال كرامتها، فانتفضت وهي تزئر في وجهه بحدة:
-مش هلبسها، أنت اتچوزتني وأنا كدا، وهفضل كدا.
تنفس بصوتٍ عالٍ وأشهرت عيناه تهديد صريح لأول مرة يلتمع فيهما وهو يزجرها بخشونة:
-إلبسيهم أحسنلك يا غرام واتجي شر الحليم إذا غضب.
فهو لن يسمح لكامل أن يشمت به ولو للحظة واحدة لزواجه ممَن هي أقل منهم في المستوى، لن يسمح أن يرى انتقاص او ثغرة واحدة في أي ركن من أركان
حياته، عليه أن يبدو أمامه تحديدًا في غاية المثالية!
بينما غرام هذه المرة لم تستطع منع لسانها الأحمق الذي تمتم بعفوية هوجاء:
-من شابه أباه فما ظلم، برضو مش هلبسهم مهما تجول.
أردكت متأخرة أنها بجملتها التي شبهته فيها بوالده حررت المارد الشيطاني داخله ليعلو ظلامه الحالك المُخيف قمم عيناه التي تسلحت بقسوة ضارية وبزغ العنف فيهما، واشتدت عضلاته بالكامل، قبل أن يتحرك نحوها فانحسرت أنفاسها هلعًا وهي تتراجع خطوة للخلف، ولكنها كانت خطوة بطيئة للغاية فلم تلحق
الهرب منه…
اذ باغتها وبحركة غير متوقعة كان يشق عباءتها لنصفين بيديه حتى تمزقت تمامًا كاشفة عن لحمها الأبيض الغض لعينيه المحترقتين بجحيم لم تدرك ماهيته!
فشهقت بفزع أكبر وهي تغطي جسدها بيديها، فيما قال هو بجمود بارد قاسٍ:
-كدا هتلبسيهم غصب عنك، ولو لاجيتك لابسة أي حاچة تاني غيرهم هجطعها برضو!
ثم استدار مغادرًا الغرفة صافعًا الباب خلفه بينما هي تلتقط أنفاسها المسلوبة… رباااه مع مَن تورطت هي؟ هل هربت من شيطان لتقع في إبليس ؟!
****
يتبع ……
عاد “ظافر” من عمله واتجه للداخل مباشرةً للمرور على جده اولًا كعادته، ولكن هذه المرة بدافع مختلف، فهذه المرة جده مستاء منه بعد شجارهما الأخير، وكله بسبب تلك الحرباء المُسماه “ليلى”، راح يتذكر حين استدعاه جده لغرفته ذلك اليوم قبل أن يحضر ليلى…
اقترب من فراشه راسمًا على وجهه ابتسامته المعتادة المغموسة بالود:
-ايوه يا چدي.
سأله الجد بصوتٍ أجش:
-ليلى فين يا ظافر ؟
أجاب ظافر بثباتٍ بارد:
-مشيت.
سؤاله التالي كان في قالب الإقرار وليس التساؤل:
-مشيت ليه؟ أنت اللي مشيتها صح؟
فنفى ظافر برأسه وهو يتلفظ بنفس الثبات:
-لأ مش أنا هي اللي مشيت لوحدها.
إنقشعت قشور الجمود عن كلمات جده وهو يزمجر فيه بغضب نحو ظافر يرسى على شواطئه لأول مرة منذ فترة طويلة:
-وهي هتمشي لوحدها فچأة ليه هي مچنونة؟ أنت أكيد عملتلها حاچة عشان تمشي، أنا ماعرفش أنت حاططها في دماغك ليه من ساعة ما شوفتها مع إنها بت غلبانة وفي حالها، ورغم إني جولتلك أنا مرتاح لها لكن ازاي، طالما ظافر باشا مش مرتاح لها مش مهم أي حاچة تاني، ولا مهم حتى تعمل اعتبار لچدك ماهو خلاص كبر وخرف ومابجاش له لازمة.
أسرع ظافر ينفي وهو يسترضيه بعذوبة واحترام:
-لا طبعًا ما عاش ولا كان اللي يجول عنك كدا يا چدي، وأنا فعلًا ماعملتلهاش حاچة واحترمت رغبتك.
ولكن غضبه لم يخفت، وكأن الزيت المسكوب عليه كان شديد الفاعلية فلا يسنح لأي محاولات بإطفائه:
-هو “العمل” بالنسبالك يعني إيه؟ هو لازم تطردها عشان تبجى عملت؟ ما أنت اهانتها واتعاملت معاها بغشومية وأخرهم على يدي كنت عايز تمضيها على وصولات أمانة.
تنهد ظافر تنهيدة طويلة تحمل انفعال أهوج في باطنها نحو “ليلى”، قبل أن يترك الخبر لينساب من لسانه المنقبض:
-يا چدي البت دي كانت بتشتغل مع ناس مش مظبوطين.
استكانت نظرات “سالم” الغاضبة للحظاتٍ، وتريث لسانه قبل أن يفصح عن الرد المتوقع:
-اديك جولت كانت… أنا طول الشهرين ماشوفتش منها أي حاچة تشككني فيها، وبعدين ما يمكن أنت ظالمها عندك دليل حجيجي عليها ؟ لو عندك روح سلمه للشرطة خليها تجبض عليها.
لم ينبس ظافر ببنت شفة بل كانت ملامحه متجهمة ساخطة على ما يحاول جده توجهيه له، فهز سالم رأسه مؤكدة:
-ماعندكش، فهمت إن اللي أنت عرفته عنها مش شرط يكون حجيجي.
صمت برهة ثم أردف آمرًا بنبرة صلبة:
-أنت مش هاتمشي اللي في دماغك عليا يابن رضا، تروح تسترضى البنية وترچعها.
أدرك حينها ظافر أن هذا الشجار ليس عادي، وإنما هو تحدي من نوع آخر بينه وبين جده الذي تلاعبت الشيخوخة بحكمته، بالإضافة لتلاعبٍ آخر يعرف أن مكمنه ليس سوى “زوجة عمه” التي يشعر بكرهها المنبثق من عينيها نحوه وإصرارها على إثبات خطاؤه في أي شيء!
عاد من ذكرياته القريبة على صورة شيطانة الأنس “ليلى” وهي تجالس “زوجة عمه” في البهو الخارجي للبيت، وكم لاق بهما الجلوس سويًا !
إلتوت شفتاه بابتسامة ساخرة ملغمة بالنفور، قبل أن يتحرك نحوهما بخطى ثابتة تنشد إفساد وتعكير صفوهم، فهي لن تهنأ في بيتهم بينما هو يحاول إصلاح
علاقته مع جده والتي أفسدها وجودها المشؤوم!
ما أن صار أمامهما حتى صمتتا، فنظر ظافر نحو “ليلى” هاتفًا بخشونة جامدة:
-أنتي جاعدة هنا بتعملي إيه؟
وقبل أن تنطق ليلى بأي حرف، كانت زوجة عمه تتدخل مجيبة ببرود:
-جاعدة معايا بتشرب جهوة يا ظافر، تحب نعملك كوباية؟
هز رأسه نافيًا بسخرية ضمنية:
-لا شكرًا.
ثم عاد يوجه بصره صوب ليلى من جديد مضيفًا بقسوة:
-بس أظن إن هنا مش كافية، هنا البيت اللي حضرتك چاية تأدي فيه دورك كممرضة بس.
تدخلت زوجة عمه قائلة بحنق مُعلن:
-أنا اللي جولتلها تجعد تشرب الجهوة معايا، إيه في يا ظافر !!
فجاءت نبرته قوية وحادة كسيف باتر:
-في إنك يا مرت عمي بتخلي ناس مش من مجامنا تاخد علينا وبتفتحي باب لحاچات كتير احنا في غنى عنها.
وقبل أن ترد أتى صوت العاملة بالمنزل مقاطعًا سيل جارف من الشجار العنيف كان على وشك البدء:
-ست راوية في واحدة عايزاكي على التليفون الارضي.
كم تمنت ليلى ألا تغادر “راوية” فهي التي تحول بينها وبين ذلك الوحش الذي يود الانقضاض عليها، ولكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه.
إلتصقت ليلى يظهرها للكرسي وكأنها تحتمي به، فيما اقترب ظافر خطوتين منها فابتلعت ريقها بينما ظاهريًا حاولت أن تضفي غطاء حجري سميك على ملامحها، ثم خرج صوتها أخيرًا مكتوم بسبب التوتر ولكنه جاد:
-لو حضرتك مش طايج وچودي للدرچادي خليني أمشي أحسن ليا وليك، لكن كدا آآ…..
هدر فيها منفعلًا بعروق بارزة:
-كدا إيه؟ اه مش طايج وچودك عشان أنتي واحدة خبيثة، وچدي هو اللي عايزك تكملي علاچه.
وضعت يدها أخيرًا على مكمن غيظه وإنفعاله… اذن هو يشعر أن الأمور تخرج عن سيطرته، ولكنها لم تستطع أن تنثر تخمينها في وجهه المفعم بانفعالاتٍ شتى.
ثم رفع إصبعه يشير لها بتحذير قارص:
-وچودك هنا لسبب معين، أي حاچة هتعمليها في البيت دا خارچ إطار السبب دا مش مسموح بيها، فاهمة الكلام ؟
كزت على أسنانها بغيظٍ عنيف تفجر داخلها مسببًا اهتياج عارم لخلاياها، ولكنها آثرت لجم زمامه فأومأت برأسها على مضض:
-ماشي يا استاذ ظافر.
استدار ظافر وتحرك بضع خطوات ينوي المغادرة، ولكنه تراجع ليعود من جديد نحوها ثم بحركة مباغتة جعلتها تشهق كان يدفع الكرسي الذي يحمل فوقه أكواب القهوة لتسقط متهشمة وتنسكب القهوة ارضًا، ثم انحنى ليمسك الكوب المكسور، ووضعه بين يديها وهو يواصل بحروفٍ شديدة اللهجة:
-ثقتي العادية فيكي كإنسانة بجت زي الكوباية المكسورة دي، وأنتي عارفة كويس إنك السبب في كدا، فـ اوعي تعيشي دور المظلومة.
ثم ضغط على كفيها اللذين يحتويا شظايا الكوب المكسور لتأن بألم طفيف لم يعيره اهتمام بسبب جرح تلك الشظايا لها بينما هو يتابع بتشفٍ:
-استمتعي بالجعدة مع راوية.
ثم ترك يديها لترى بضع قطرات من دماءها على الشظايا، فتحرق قلبها حرقًا بالكمد، تود لو تصرخ بوجهه بكل الغضب الذي تشعره وتطلق العنان لجنوده التي
تسلسلها هي بكتمانها، فهي مجبرة على البقاء داخل دائرته الملغمة بمشاعر النفور والغضب داخله، أهون من الخروج خارجها وسقوطها في خندق البلاء المتمثل في “زوج والدتها”…
انتبهت له حين تشدق لمرة أخيرة بخشونة فظة آمرة:
-إياكي تفكري تروحي تجولي الكلام دا لچدي، ساعتها هتشوفي مني وش تاني مش هيعچبك.
ثم غادر دون اضافة المزيد مكتفيًا بما فعله، بينما ليلى كانت ذاكرتها تستحضر سبب امتثالها للبقاء في هذا البيت…
فبعد أن أحضرها ظافر لبيتهم، عادت بعد ساعات قليلة للمستشفى تأبى الاستسلام والاستمرار في ذلك البيت، ولكن ما أن أخبرت الطبيب المشرف برغبتها تلك،
كان ينهرها بصلافة:
-جولتلك دي مش لعبة يا ليلى، دا شغل ومسؤولية وطالما بدأتيه أنتي اللي لازم تكمليه.
فهزت رأسها نافية بإصرار:
-اسفة مش هجدر، أنا ماچيتش واتكلمت مع حضرتك إلا لما اتأكدت إني فعلًا مستحيل أجدر أكمل عنديهم.
لم يجد مفر من اشهار السلاح الأخير في يده الذي يمكنه تهديدها به لتخضع له في معركةٍ ليست على دراية بها، فأردف بنبرة متشحة بالغضب مُلطخة بسواد شيطاني:
-أنا كنت عمال أتكلم معاكي بالحُسنى عشان عامل حساب العشرة والود، لكن الظاهر إنك مش هتيچي غير بالرسمي، اسمعي.. أي مخالفة منك للكلام اللي جولته يا استاذة هتلاجيني كتبت فيكي تقرير يجعدك في بيتكم.
هكذا بكلمتين غليظتين منه أطفأ أي شمعة خافتة داخلها للهرب من ظلام يتشعب في حياتها شيئًا فشيء !
****
في منزل “أيوب العماري” …
كان “أيوب” في غرفته أمام المرآة يُبدل ملابسه قبل خروجه لعمله، وقعت عيناه على أثر لحرق قديم على كتفه، حرق ظاهري وحيد ولكنه مثال لحروق عديدة
ولكنها في عمق روحه المُخضبة بالوجع!
انبطحت ضوضاء المشاعر الزائفة في عينيه؛ القوة والقسوة والجمود، ولم يتبق سوى الألم، فقط الألم الذي ينخر روحه نخرًا على الدوام ويأبى تركه، وبعقلٍ لم ينسى وقلب لم يغفر كان يستعيد سبب ذلك الحرق، واحدى أسباب الشرخ الكبير بينه وبين والده …
كان في الخامسة عشر من عمره، لا زالت والدته على قيد الحياة في ذلك الوقت، ووالده المزواج منفصل عنهما، منشغل بحياته المليئة بالمظاهر… النساء.. الأموال والاهتمام بمطامعه فقط!
كانت والدته مريضة جدًا حينها، فاضطر للمرة التي لا يذكر عددها أن يذهب لوالده ليطلب منه الأموال لأجل علاج والدته المريضة، وصل البيت الذي كان والده
يقطن به، وكان معه رجلان يبدو أنه يسعى معهما لأعمالٍ ومطامع جديدة، وما أن رآه والده حتى أشار له من بعيد متأففًا وهو يبعد السيجارة لثوانٍ عن فمه:
-امشي دلوجتي مش فاضي.
هكذا وكأنه مُصاب بمرض مُعدي، او عار يخشى اكتشافه لأي شخص!
ولكن هذه المرة لم يخضع أيوب لأمره كالعادة، فوالدته كان التعب ينال منها فعليًا هذه الساعات، وكانت في حاجة ماسة للعلاج الذي فرغ!
فاقترب منه مرددًا بعزم:
-مش هينفع، أنا عايز أتكلم معاك ضروري.
فزمجر فيه غاضبًا:
-جولت مش فاضي دلوجتي.
-أمي تعبانة والمرادي لازم تديني فلوس، أحنا مسؤولين منك، أمي هتموت وهتبجى أنت السبب!
إنطلقت الكلمات من فمه دون فلترة من عقله الحذر دومًا في تعامله مع والده، بعد أن أربك مرض والدته دواخله وجعله في حالة فوضى عارمة لا يبغى فيها سوى الاطمئنان عليها.
فاشتعلت نيران سوداء غاضبة في عيني والده الذي نهض من مكانه متجهًا نحوه وهو يستأذن الجالسان أمامه:
-ثواني وراچعلكم.
ثم سحب أيوب من ذراعه واتجه به صوب احد الغرف مغلقًا الباب خلفه، ودفعه بعنف وهو يصيح فيه بصوت حرص ألا يصل للجالسين في الخارج:
-أنت بتكلمني أنا كدا يابن ال**** ؟
عاد أيوب يعلن غيته من جديد بقلب نابض بالهلع على والدته:
-أمي تعبانة جوي وعلاچها خلص، والفلوس اللي معايا خلصت، اديني فلوس او حتى شوفلي شغل تاني يديني مرتب أعلى.
وعمله في ذلك الوقت كان “عامل بناء”، يعتمد على قوته البدنية ويعمل لساعاتٍ طويلة بشقاء من أجل بضعة أموال سرعان ما تنتهي كأنها لم تأتِ بسبب علاج
والدته ومصاريفهما !
هدر فيه كامل بقلب متحجر:
-ياكش تغور في داهية تاخدك أنت وهي، وأنا مالي خلص ولا ماخلصش!؟ أنا تفضحني جدامهم وتكلمني كدا ؟
اقترب منه عازمًا ألا يمر ذلك الموقف مرور الكرام، فأمسك بالسيجارة في يد واليد الاخرى كانت تثبت أيوب الذي كان مبهوتًا متخبط يحاول استيعاب خطوته التالية، فأحرق كتفه بالسيجارة بقسوة وهو يتمتم بهسيس شيطاني:
-دي عشان كل ما تجل أدبك تفتكر وتمسك لسانك، وحظك إني مش فاضيلك دلوجتي وإلا كنت ربيتك من أول وچديد.