هز الآخر رأسه نافيًا بابتسامة مشابهة لخاصة ظافر تفوح بالحب:
-أنت تعمل اللي أنت عايزه، أنت الغالي.
هز ظافر كتفاه معًا متظاهرًا بقلة الحيلة، وقد تعمد أن يأتي بذكر تلك السارقة ليصل لقاع هذا الموضوع :
-غالي إيه بجى ما ليلى أكلت الجو مني، وبجيت بتحبها أكتر.
ضحك سالم مستمتعًا بتلك المناغشة، ثم أردف:
-لسه ماتخلجش اللي يخليني أحبه أكتر منك يا ولدي، الفكرة بس إن ليلى دي حسيتها مننا كدا، حسيت كأني أعرفها من زمان، وحبيتها چدًا، وسبحان ربك لما
بيزرع الجبول في جلب الإنسان، الممرضة الوحيدة اللي ماحسيتش إني تجيل عليها أو إنها بتمِن عليا.
أججت تلك الكلمات سعير الغضب في صدر “ظافر” الذي قال بكلماتٍ مستعرة:
-مين اللي تجدر تحسسك إنها بتمِن عليك يا چدي؟! دي بتاخد مبلغ محترم مقابل خدماتها.
ربت سالم على كتفه برفق مُهدئًا غضبه الذي ظنه دفاعًا عنه:
-عارف يا ظافر، لكن أنت عارف إني ما أحبش أبدًا إن حد بيعملي حاچة مُجبر.
هز ظافر رأسه مؤكدًا، ثم تلفظ بجدية بعد أن تبخترت أفكاره بعقله قليلًا ليُطيح تلك العقرباء بعيدًا عنهم:
-طيب إيه رأيك لو أچيبلك بدالها بت عبد العال چيراننا، واهي متربية جمبنا ونعرفها وتعرفنا يعني مش هتحس بأي حاچة من دول.
نفى سالم برأسه مرددًا والإصرار يلفح حروفه:
-لا مفيش داعي لكدا يا ظافر.
استطرد ممازحًا وهو يزحف بحروفه نحو إقناعه الذي شعره بعيد جدًا في هذه اللحظات:
-ليه؟ دي حتى أشطر ممرضة في بلدنا، وأنا متأكد إنك هتصغر عشر سنين على يدها.
ابتسم سالم وهو يخبره بصدقٍ:
-أنا مرتاح چدًا في التعامل مع ليلى أكتر من أي حد چه او هايچي بعدها.
تنهد ظافر بصوتٍ مسموع مغمغمًا بنبرة منغلقة:
-اللي يريحك يا چدي.
بات يعلم أنها صارت كالعلكة محاوطة قلب جده الطيب بخيوط مكرها الدنيء، والآن إن أخبره أنها مجرد لصة تخطط للنصب، لن يصدق، او ربما يصدق معتقدًا أن الماضي قد إنقضى بكل مساؤوه..
ولكنه يعرف جيدًا كيف يسلخ خيوطها بعيدًا عنهم، ثم يُريها عاقبة مَن يُفكر في التعدي على ما يخص ظافر العبادي !
****
في نفس القرية، في احد المتاجر الخاصة بـ “أيوب العماري”، كان يجلس في المقعد الخاص به في نهاية المتجر، مُريحًا جسده العريض المخبأ اسفل جلبابه للخلف وعيناه ساهمتان في الفراغ أمامه، قطع السكون الذي كان يغلف البقعة الأخيرة من المتجر والتي يجلس فيها؛ دخول والده “كامل” الذي ما أن رآه حتى إنتصب في جلسته، وتجهمت ملامحه الرجولية السمراء حتى بزغت القسوة الدفينة في سوادوتيه متمازجة بالنفور.
ارتسمت ابتسامة صفراء على ثغر “كامل” وهو يهتف بود زائف:
-ازيك يا أيوب؟ عاش من شافك يا راجل.
لم يحرك ساكنًا وقد كانت ملامحه صخرية، منحوتة بالكره نحتًا، تحكي جرحًا لا زال حيًا في باطنها ينزف ويضخ كرهًا وقسوة في كافة خلاياه.
-إيه مش هترد السلام على أبوك؟!
لان ثغره الصلب بابتسامة ساخرة وعيناه تزداد سوادًا وقسوة:
-إيه عايز ؟ إيه اللي رماك عليا ؟!
رفع “كامل ” حاجبيه باستنكار وأنفاسه تشتعل بـ لهيب الكره رغم أن مَن يجلس أمامه بكامل عنفوانه وهيبته هو ولده الوحيد ولكن جسور الكره الممدودة
بينهما ستظل موجودة حتى أخر العمر:
-رغم إن طريجتك معايا زي الزفت، ورغم إنك مش عامل حساب إني أبوك وليا احترامي ده غير رضايا ولا أنت…
قاطعه “أيوب” بنبرة بها شيء من القسوة والشراسة:
-ادخل في الموضوع على طول، بلاش حواراتك دي ماتنفعش معايا أنا بالذات.
قبض “كامل” يده من أسفل الطاولة بقوة، مانعًا نفسه من إغراقه بوابلٍ من الشتائم القذرة، مقنعًا ذاته أن أموال ابنه تستحق العناء ولا بأس من دهس كرامته قليلاً الأهم هو الاستيلاء على حجم ثورته بالدخول البطيء لعقر داره، قرر تلوين نبرته بقليلٍ من الحزن واليأس تزامنًا مع معالمه البائسة:
-يا بني مفيش حد هيحبك زيي، ده حتى في حتة أرض كبيرة جوي.
ثم صمت قليلاً وإلتفت حوله يتأكد من خلو المكان من حولهما وأخفض نبرته عمدًا:
-مش أي أرض دي تحتها آثار كتير هاتنجلك نجلة تانية.
ضحك ” أيوب” ضحكة مستنكرة خبيثة:
-انت فاكرني كده هتبسط وافرح بالشغل المشبوه صح؟!
-مشبوه؟!
سأل “كامل” في استهجان لاذع، فأجاب “أيوب” بنبرة قاتمة غليظة:
–
أيوه وشوية شوية هاتجولي يلا ننصب على الناس، فاكرني نسخة منك، لا أنا هفضل طول عمري نضيف وشغلي بما يرضي الله، لكن ده…
سكت برهة وأشار نحو موضع قلبه يردف بنبرة صلدة باردة:
-هيفضل من ناحيتك أسود، وهتفضل أنت الحاچة السودة اللي منغصة عليا عيشتي، هفضل طول عمري بكرهك وهكرهك ومش هسيبك إلا لما أشوفك مذلول زي ما ذليتنا.
هب “كامل” واقفًا بغضب وهو ينثر كلماته الهجومية:
-هو أنت كل ما تشوف وشي يا ابن زينب هاترمي لي الكلمتين دول، إيه ما بتزهجش.
-لا وعندي استعداد أسمعك اللي أمر منهم رغم إني متأكد إنه مش هيفرق معاك، وأنت مش هتشوفني غير ابنك الغني اللي هتموت وتكوش على فلوسه بس ده في أحلامك.
احتدت عيني “كامل” وهو يلقي بكلماته الخبيثة عن قصد قبل أن يغادر ويترك أيوب يغلي غضبًا:
-فلوسك مسيرها ليا، وأنت هتفضل كده محلك سر، أنت لا ليك ولد يشيل اسمك ولا واحدة تورث فلوسك، ماتجلجش يا حبيبي كل أملاكك ليا.
أنهى كلامه وغادر المتجر يتهادى في مشيته عن قصد، أما أيوب فهمس بحقد ممزوج بالوعيد:
-أهون عليا الكلاب تجطعها ولا إنك تطول مليم منهم.
****
بعد فترة..
كانت “غرام” تجلس في منزل “كامل العماري” منتظرة مجيء زوجته حتى تأخذ مقاساتها لتقوم بتفصيل بعض الملابس لها حسب طلبها؛ فهذا هو عملها “خياطة” ومصدر رزقها الذي تقوم به للنسوة في قريتهم، متجاهلة المضايقات التي قد تحدث لها أحيانًا بسبب تنقلها من منزلٍ لآخر؛ فقط بسبب جمالها الذي
أوشكت أن تمقته!
فهي بيضاء البشرة على عكس معظم بنات بلدتهم، ذات عينان بُندقيتان تجذبان نظر كل مَن تقع عيناه عليهما، وملامح انثوية رقيقة، وجسد ممشوق لتكتمل اللوحة الانثوية المرسومة بدقة.
جاءت بعد قليل “هويدا” تتهادى في مشيتها ببرود غير آبهه بالاخرى التي طال انتظارها لها، فتنفست غرام بصوتٍ مسموع، قبل أن تحثها بنبرة أجشة:
-ياريت ناخد المجاسات عشان ماتأخرش.
-جال يعني سايبة شركات ومصانع وراكي، ما تستني ياختي.
سخرت هويدا وهي تلوح لها بيدها، ثم جلست أمام غرام التي كظمت غيظها و بدأت بالفعل تأخذ مقاساتها وتدونها لديها، حتى قاطع عملهم قدوم “كامل” الذي كانت عيناه زائغتان، وعضلات جسده مرتخية وكأنه ليس بوعيه وقد تعاطى شيءٍ ما كعادته!
انتفضت “هويدا” واقفة وهي تلقي نظرة سريعة نحو غرام متمتمة:
-استني يا غرام دجيجة وچايه.
ثم تحركت نحو غرفتهما وتحرك كامل خلفها، وقد علمت أن شجار عنيف سيدب بينهما الآن، وأخر شيء تريده أن يكون تحت أنظار احداهن فتعلم البلدة بأكملها بذلك الشجار!
وقفت في غرفتهما متخصرة تسأله بانفعالٍ طرق أبوابها بقوة:
-إيه عايز يا كامل؟ جولتلك مليون مرة ماتچيش البيت بالمنظر دا ؟ أنت عايز تفضحنا؟!
أشار لها بيده آمرًا دون اهتمام لكل ما قالته:
-هاتي ٥٠٠ چنية.
عقدت ما بين حاجبيها والاستنكار يتعاظم انتشاره في حدقتيها:
-نعم؟ ٥٠٠ چنية؟ ليه حد جالك إني جاعدة على بنك ولا إيه؟!
أضاف بحروف شديدة اللهجة:
-أنا عارف كويس إنك معاكي، اجصري الشر وهاتي يا هويدا.
ولكنها هزت رأسها نافية بإصرار:
-لا مش معايا، ولو معايا مش هاديك جرش واحد تصرفه على الهباب اللي بتشربه دا، روح لأبنك أيوب على قلبه كتير، يمكن يرضى يرميلك نجطة من بحر الفلوس اللي معاه.
قالت أخر كلماتها بسخرية كانت كالزيت الذي سُكب على نيرانه التي أشعلها أيوب مسبقًا، حتى صار كـ بركان بدأت حممه اللاهبة تفور منه، حيث إنقض عليها جاذبًا إياها من ذراعها بعنفٍ وهو يزمجر فيها:
-بجولك هاتي الفلوس وإلا قسمًا بالله هكسر عضمك.
دفعته بعيدًا عنها وهي تصيح فيه بشراسة:
-مش هاديك حاچة وماتجدرش تعملها.
حينها دون وعي دفعها بعنف وقوة زائدان عن الحد، مما جعلها ترتد للخلف بقوة وتسقط مصطدمة رأسها بحافة “الكومودينو” الحادة، ففقدت الوعي على الفور وبدأت الدماء تسيل من رأسها بغزارة.
إتسعت عيناه وانتشر الذعر داخله كالسم الذي جعله يفقد القدرة على الحركة لثوانٍ طويلة، والادراك يحبو ببطء لمراكز عقله ليستوعب أنه تقريبًا… قتلها !
شهق بقوة وهو يلتقط أنفاسه المسلوبة من هول المنظر، ثم تراجعت أقدامه للخلف بتلقائية استعدادًا للهروب، وبالفعل بخطى شبه راكضة كان يغادر البيت من الباب الخلفي، فيما تعجبت غرام من تأخر خروج هويدا بعد شجارهم الذي سمعت جزء منه بسبب صوتهم العالي، فوقفت تنادي على “هويدا” بهدوء لتخبرها أنها ستغادر:
-ست هويدا، يا ست هويدا، هويدا ؟
تحركت بتردد نحو الغرفة ونداءها غير المُجاب مستمر، إلى أن وقعت عيناها على “هويدا” الساقطة أرضًا غارقة وسط دمائها، صرخت غرام بفزع وهي تتراجع للخلف بخوفٍ حقيقي، وبعد ثوانٍ أجبرت قدميها على التحرك نحوها لتتفحصها وتتأكد من موتها او عيشها.
وبالفعل جلست جوارها أرضًا، ثم بدأت تتفحصها لتجد أنها مقطوعة الأنفاس !
فضربت خديها بهلع وهي تصيح بصوت مكتوم:
-يالهوي يالهوي، يا مرارك يا غرام.
ظل عقلها يتخبط حول السؤال المُلح داخلها، ماذا ستفعل ؟ وإلى أين ستذهب ؟
وبغريزة آدمية مرتعبة كانت تستجيب للنداء الذي يحثها على الهرب، فأطلقت قدميها لتسابق الريح……
****
على الجانب الآخر…
كانت ليلى قد أنهت عملها اليوم في بيت “سالم العبادي” وتتحرك لمغادرة البيت عاقدة النية ألا تأتي له مرة اخرى ابدًا، وربما تغادر البلدة بأكملها متخفية عن ظافر العبادي الذي لن يتوانَ عن الفتك بها.
وصلت أمام بوابة المنزل بخطى مسرعة أقرب للركض، لا تصدق متى ستصبح خارج هذا البيت الذي شعرته خلال ساعات قليلة كالسجن الضاري.
ولكن فجأة وجدت يد قوية غليظة تجذبها من ذراعها لتوقفها عن ركضها، فتشنج جسدها خاصةً حين رأت أن تلك اليد لم تكن سوى لــ “ظافر” الذي إلتوت شفتاه في بسمة ساخرة مُخيفة تزامنت مع نبرته الخشنة الجامدة وهو يقول:
-كنتي مفكرة إنك هتهربي مني تاني؟ إنسي المرادي مالكيش مهرب مني.
****
يتبع…
كانت “غرام” جالسة في منزلها الصغير، تحديدًا على الأريكة محتضنة جسدها الذي يرتجف بذراعيها تحاول بث نفسها السكينة التي فرت منها كالسراب، و لا زال الهلع يطفو فوق قسماتها، نعم هي لم تفعل شيء ولكنها للمرة الأولى تتعرض لشيء بشع كهذا، دقائق معدودة هي مَن فصلت بين حديثها مع “هويدا” وبين حتفها !
لأول مرة تشاهد ما كانت تراه في الأفلام فقط، فالمصائب حين تتشابك خيوطها بأرض الواقع تصبح درب من الجحيم يجعل الأبدان تنصهر رعبًا.
والآن عليها أن تواجه كارثة أنها مُشتبه في القضية، وربما تأتي الشرطة لتأخذها للتحقيق معها ؟!
انتفضت كمَن لدغها عقرب حين سمعت طرقات عنيفة على الباب، بهذه السرعة تجسدت أفكارها في الواقع؟!
تحركت بأقدامٍ مرتعشة كالهلام، وفتحت الباب لتجد أن الطارق “كامل” والذي إندفع نحوها بمجرد أن فتحت له ليهدر في وجهها:
-عملتي فيها إيه! عملتي فيها إيه يا مجرمة؟!
أجفلت ملامحها من هجومه غير المتوقع على الإطلاق، وتراجعت عدة خطوات للخلف، فتابع هو مستغلًا صدمتها التي أفسحت الطريق لأداؤه الزائف ليؤديه على أكمل وجه:
-حرام عليكي دا أنتي كنتي بتاكلي عيش من وراها.
ثم صرخ فيها باستنكار وغضب رسمهما بإتقان:
-جتلتيها ليه؟!
حين ترجم عقلها أخيرًا الهجوم وحرر رد فعلها المُقيد بالصدمة لتهز رأسها نافية عدة مرات بهلع وهي تردد:
-لأ ماجتلتهاش، والله ما جتلتها.
زمجر في وجهها متشبثًا بقناع الغضب وببجاحة لا تُصدق:
-كدابة، أنتي أخر واحدة كنتي معاها، أنتي اللي جتلتيها.
جملته أنعشت ذاكرتها التي تعطلت قليلًا كما كل شيء فيها، فقالت بنبرة واهية وادراك متأخر:
-أنت! أنت اللي كنت معاها لما كنتوا بتتخانجوا.
ثم تراجعت أكثر وكأن الادراك زادها خوفًا منه، وتابعت بذهول:
-أيوه أنت اللي جتلتها، بعد خناجتكم دخلت لجيتها ميتة، أنا هجول للبوليس إنك أنت.
إلتوت شفتاه بابتسامة سوداء ساخرة كانت من أبشع ما رأت عيناها، وأضاف بإصرار وكأنه يحاول زج كلماته زجًا في عقلها لتُصدقها عنوة:
-ومين هيصدجك يا بت أنتي؟ أنتي مين أصلًا عشان حد يصدجك؟ أنا مفيش أي دليل عليا، وعندي بدل الشاهد عشرة يجولوا إني كنت معاهم على الجهوة، لكن أنتي كنتي أخر واحدة معاها، ومش هتجدري تفلتي منها.
الصخب شمل خلاياها كلها، وتعالى هدير قلبها المرتعد، أ حقًا ما يقول؟ لن يجدوا متهم غيرها لتُعاقب على جريمة لم ترتكبها ؟!
هزت رأسها نافية والدموع تتجمع في عينيها شاعرة بمرارة الظلم في حلقها:
-حرام عليك إيه عملتلك عشان تدمر مستجبلي وأنت اللي جاتلها أصلاً ؟! حرام عليك خاف ربنا يا شيخ.
عنفها بشراسة وقسوة وهو يندفع خطوة نحوها وكأنه سيضربها:
-اخرسي يا بت ال**** أنتي هتكدبي الكدبة وتصدجيها؟ بت جليلة الرباية، بس السجن هيربيكي كويس.
ثم خرج من المنزل بعدما نفذ ما أراد بنفس دنيئة راضية، فقد شتت أفكارها وستفكر مرتين قبل أن تجرؤ على إتهامه بأي شيء أمام الشرطة، وذكرى ما فعل تحوم عقله في تلك اللحظات…
بمجرد أن حدث ما حدث كان اتجاهه الأول “مأمور القسم”، الذي ما أن سمع ما قصه عليه “كامل” حتى انتفض واقفًا يقول بصدمة:
-جريمة جتل ! أنت چاي عايزني أساعدك واتستر على جريمة جتل ؟
تنفس كامل بصوتٍ مسموع قبل أن يردف بصوت شبه آمر:
-اجعد مكانك يا رضوان، أيوه هتساعدني زي ما أنا ساعدتك زمان واتسترت على جريمتك.
لم ينبت “رضوان” ببنت شفة واشتدت شفتيه بكمدٍ مكتوم حين ذكر كامل تستره السابق على جريمة سرقة آثار سابقة له يندم عليها الآن أشد الندم فهي يده
أسفل فك “كامل” الذي لن يتوانَ عن الفتك به إن فعل أي شيء ضده!
ثم انتبه لكامل حين تابع بكلماتٍ تحمل تهديد مبطن:
-كان ممكن وجتها أروح أبلغ البوليس واديهم الڤيديوهات اللي عندي ليك، وتتفصل من شغلك وتتحبس كمان، لكن أنا جولت لا وعملت بأصلي، ودلوجتي چه
دورك تردلي معروفي.
هز الآخر كتفيه بقلة حيلة:
-وأنا هاعمل إيه يعني؟
قال كامل آمرًا بنبرة سليطة:
-تشيلي من البيت أي بصمات او أثر ليا، مش عايز أي حاچة تثبت إني كنت موچود.
وبالفعل كان له ما أراد، فهذا العمل لم يكن بالمجهول او الصعب على المأمور.
****
على الطرف الآخر كانت “غرام” تعاني الأمرين، لا تدري ماذا ستفعل، كيف ستنجو من هذا الأمر، ولمَن تذهب ؟!
هل تذهب لظافر العبادي؟ هو من كبار البلدة وأهمهم، وحتمًا يستطيع مساعدتها، ولكن كيف ستجعله يصدقها ؟
نهضت وهي تمسح دموعها عازمة على الذهاب له، فليس أمامها خيار آخر، ستقنعه بكل الطرق ببراءتها، بل وستتوسل له إن اُضطرت!
وبالفعل غادرت منزلها بسرعة في طريقها لمنزل “ظافر العبادي”، واثناء سيرها وقعت عيناها على المتجر الخاص بـ “أيوب العماري” فتلكأت أقدامها وأفكارها تتبلور في سؤال واحد، هل تذهب لأيوب بدلًا من ظافر ؟
فالجميع يعلم علاقته المُدمرة بوالده وكما يبدو أنه أول مَن ذاق مرارة ظلمه، فربما يكون تصديقه لها أسهل من تصديق ظافر لها، فهو قد كان مكانها يومًا ما !
تحركت فعليًا نحو المتجر ودخلت لتجد أيوب يجلس على مكتبه بمفرده، ويبدو أنه يُنهي بعض أعماله، رفع عيناه عن الورق أمامه ليُدقق النظر لها للحظاتٍ معدودة قبل أن يُنزل بصره من جديد وهو يهتف بلا مبالاة:
-خلاص جفلنا.
ابتلعت ريقها قبل أن تخبره بصوتٍ مبحوح:
-أنا مش عايزة أشتري.
رفع عيناه لها من جديد وهو يسألها بتلقائية كانت غليظة على قلبها المسكين:
-إيه عايزة؟ عايزة فلوس؟
شعرت وكأنه صفعها للتو، وكأنه بسبب والده صار اقتراب أحدهم منه يُترجمه عقله المرجوم بغدر والده الدنيء “كرغبة في الأموال ” فقط!
اشتدت يدا غرام على ردائها الأسود بقوة، قبل أن تستجمع جرأتها وتقطع المسافة بينهما قائلة بنبرة مهترئة متوسلة في باطنها، على وشك الانهيار:
-أنا محتاجة مساعدتك، أبوك هيوجعني في مصيبة.
من جديد كانت تلقائيته القاسية كالسكين البارد الذي ذبح وريدها ببطء:
-إيه اتچوزك عرفي؟
هزت رأسها نافية بسرعة مصعوقة من انحدار أفكاره:
-لا طبعًا.
فهز رأسه وهو ينظر لها بتركيز كعلامة على إنصاته، أخذت نفسًا عميقًا قبل أن تبدأ بقص كل ما حدث على مسامعه.
كان صامتًا في الدقائق الأولى بعد استماعه لها وكأنه يقيس كل ما سمعه منها بمقياسه الخاص الذي تدلت كفته نحو التصديق دون دليل ملموس من “غرام”.
ربما لأن ماضيه كله مع والده دليل حي على جحود وقسوة هذا الرجل الذي يُدعى والده بينما هو لا يعرف عن الابوة شيء، فلم يُصدم كثيرًا بما أخبرته به، خاصةً
أنه يعرف “غرام” بحكم أنهم في قرية صغيرة يعرف الجميع فيها بعضهم، وهذه الفتاة لا تشوب سُمعتها شائبة.
رفع عيناه السوداء العميقة نحوها، وتلكأت نظراته عليها من أعلاها لأسفلها بطريقة أربكتها وجعلت قلبها يختض بين ضلوعها، لمعت عيناه متفحصة جمالها الناعم المغوي، وتوهج الإعجاب فيهما، لا يُنكر أنها تُعجبه كرجل منذ رآها سابقًا، ولكنه لم يُعطِ هذا الإعجاب أهمية..
فأخر شيء قد يهتم به أيوب العماري هي مشاعر حمقاء لا تجدي نفعًا لصاحبها في دنيا كثر بها الإهتمام بالمنافع فضلًا عن أي شيء آخر، هذا درسه الذي تعلمه
بأشد الطرق قساوة على يد والده.
نهض من كرسيه وتحرك نحوها ببطء جعل التوتر يزداد فتكًا بها وتتراجع للخلف بتلقائية، حتى صار أيوب أمامها مباشرةً يفصلهما سنتيمرات قليلة، ثم همس اسمها بنبرته الخشنة وعيناه تغوص في بُندقيتيها الشهيتين:
-غرام، أسمك غرام مش كدا ؟
اومأت برأسها دون كلام كمَن فقدت النطق، ليتابع هو بصوته الرجولي الواثق:
-اتچوزيني يا غرام ومحدش هيجدر يمس شعرة منك.
تراجعت مذهولة لا تستوعب ما قاله، مُرددة كالبلهاء باستنكار:
-أتچوزك !!
استنكارها لم يعجبه، هو من الأساس يراها ليست مناسبة له، ولكن أي شيء يؤذي كامل سيفعله، وإن كان زواجه منها وحمايته لها ستضع كامل في ورطة فسيفعل..
لوى شفتيه باستهزاءٍ قاسٍ:
-امال چايالي أساعدك ازاي؟ أجول للناس دي صاحبتي؟! لا معلش مليش في الحرام.
أغمضت غرام عينيها بقوة وكلماته تطعنها في الصميم، لِمَ عليه أن يكون بهذه القسوة ؟
-دي الطريجة الوحيدة، لو مش موافجة روحي شوفي هتتصرفي ازاي لحالك.
فتحت عينيها على جملته الجافة اللا مُبالية، فبللت شفتيها الجافتين لتتعلق عيناه بحركتها بتلقائية نبعت من غريزته الذكورية، ثم سألته بصوت مبحوح يكاد يُسمع:
-طب لو وافجت أنت ازاي هتطلعني منها ؟
لم يتردد وهو يستطرد بسيطرة مُحكمة وثقة:
-دي حاچة بتاعتي أنا، لكن كفاية إنك تكوني شايلة اسم أيوب العماري عشان أي حد يفكر ألف مرة قبل ما يئذيكي، وأولهم كامل.
أخذت نفسًا بصعوبة ثم غمغمت بحروف تائهة كحالها: